عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات طويلة

روايات طويلة روايات عالمية طويلة, روايات محلية طويلة, روايات عربية طويلة, روايات رومانسية طويلة.

Like Tree10Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #31  
قديم 07-13-2016, 12:29 PM
 
كمن يتململ داخل قفص الجسد، انتفض واقفًا. كان يريد أن يغادر ذاته ويتّحد بي.
أسأله:
-ماذا أنت فاعل بي؟
يجيب:
"لا تملك الأشجار إلا
أن تمارس الحبّ واقفة
تعالي للوقوف معي
أريد أن أشيع فيك صديقي
إلى مثواه الأخير"
أسأله مستغربة:
-ماذا تقول؟
يجيب وهو يحاول الإمساك بي.
-إنّي أضمر لك قصيدة.
فجأة تصبح كلماته كأطراف أصابعه، أعواد كبريت تشعل كلّ شيء يمرّ به. ولا أفهم ماذا يعني. ولا.. لماذا يريد لنا حريقًا كبيرًا ومخيفًا إلى هذا الحدّ؟
رجولته تباغتني، فأنتفض بين ذراعيه كسمكة. ثمّ أدخل طقوس الاستسلام التدريجيّ.
فجأة يستوقفني:
-هل تحبينني؟
كانت ذراعه الوحيدة تنقل إليّ عدوى شراسته العشقيّة، في محاكاة جسديّة ملتبسة، فأجبته مذعورة:
-طبعاً أحبك.. لم يحدث للحبّ أن أوصلني إلى الخطيئة قبلك.
ولكنّه أجاب بحسرة ساخرة:
"حتّى متى سأبقى خطيئتك الأولى
لك متسع لأكثر من بداية
وقصيرة كلّ النهايات
إنني أنتهي الآن فيك..
فمن يعطي للعمر عمرًا
يصلح لأكثر من بداية؟"
كان لصوته مذاق متأخر للبكاء.
كدت أسأله "أيحدث للبحر أن يبكي؟". ولكنه اختفى.

تنتهي العاصفة.
يتركني البحر جثة حبّ على شاطئ الذهول. يلقي على جسدي نظرة خاطفة.
قبلة.. قبلتان
موجة.. موجتان
وينسحب البحر سرًا.. مع الدمعة القادمة.
البحر أيضًا يرحل على رؤوس الأصابع. بعدما يكون قد أتى صاخبًا.. هائجًا، على عجل. أيحدث له أيضًا، أن يمارس الحبّ عن ألم؟
انسحب البحر إذن. غادر جسدي بين قصيدتين ودمعتين. وبقي الملح.
وبقيت هنا إسفنجة بحرية.
لحظتها كان زوربا، بوعي الخذلان المبكر، يواصل الرقص حافيًا على شاطئ الفاجعة، فاردًا ذراعيه إلى أقصاهما كنبيّ مصلوب، يقفز على مقربة منّي، على وقع الطعنات المتلاحقة، بشراسة وجع يجعلك مازوشيًا حدّ النشوة. فرُحتُ أواصل الرقص معه، منتفضةً كسمكة خارجة توًا من سطوة البحر.
عندما تنتهي العاصفة.. يشعل البحر سيجارة. يدخن متكئًا على الأسئلة.
ثمّ عندما يعثر على الأجوبة، يكون قد أصبح رجلاً من جديد.
دومًا، بعد الحبّ، تعود أسئلة ذكورية أبديّة، يصوغها الرجال حسب ذكائهم، ليطمئنّوا إلى دوام رجولتهم:
-لقد خفت عليك دائمًا من لحظة كهذه؛ على سرير الواقع تصبح المشاعر اقلّ جمالا!
أطمئنه:
-جميل ما حدث بيننا. ولا أريد أن أعرف، إذا كان كذلك حقًا، أم أنّ الحبّ جعله يبدو أجمل ممّا هو.
أحاول أن أتحاشى الانتباه لذراعه وأنا أحدثه. ولكن كنت في انشغالي عنها أتأمله.
في الواقع، مشكلة الروائيّ أنّه لا يستطيع إلا أن يراقب كلّ شيء، حتّى أولئك الذين يقاسمونه سريره.
سألني وهو يصلح من جلسته:
-ما الذي تريدين رؤيته؟
فاجأتني نبرته الساخرة. قلت وكأنني أبررّ ذنبًاً:
-أريد أن أطالع التاريخ السريّ لجسدك، كي أعرف إن كنت حقًا خالد بن طوبال. أنت تتصّرف مثله في كلّ شيء. عجيب كم تشبهه!
أرحني.. قل لي من تكون.
أجاب ساخرًا:
-رجالك جميعًا يتشابهون.
ثمّ أضاف بعد شيء من الصمت..
-ولكنني لست هو.
لفظ هذه الكلمات الأخيرة بهدوء. بالوقع نفسه الذي يقول به بقيّة الكلام، وكأنّه لم يلفظ شيئًا يغيّر مجرى قصتنا.
قلت:
-ولماذا أخفيت عنّي الحقيقة كلّ هذا الوقت؟
أجاب:
-ليس هناك من حقيقة واحدة. الحقيقة ليست نقطة ثابتة. إنّها تتغيّر فينا.. وتتغيّر معنا. ولذا لم يكن ممكنًا لي أن أدلك إلا على ما ليس الحقيقة.
وأضاف:
أتذكرين.. كنت تقولين "أحبّ جسدك" وكنت أجيب "إنّ جسدًا قد يخفي جسدًا آخر" ولا تصدّقين. وكنت تقولين "أحبّ الرجال في الأربعين" وأصحّح؛ أقول "لست الرجل الذي تتوهمين" ولا تصدقين.
بل تماديًا في الخطأ، وقعت في حبّ يديّ. وكنت تطاردينني عنهما بالأسئلة. تقولين "أحبّ يديك.. ما عمرهما؟" وأجيب " لقد أحببت دائمًا عُقدي.." ولا تفهمين. ولا أملك الآن سوى هذا الجسد. لأردّ به على كلّ أسئلتك.
أجيب:
-ولكن لم يكن من داعٍ للمراوغة. فأنا أحبه كما هو..
يبتسم.. يقول:
-أنت تتوهمين
ثمّ يواصل:
-الحقيقة الوحيدة هي أنّك كنت جاهزة للحبّ. وكان يمكن أن آتيك متنكرًا في أيّ شخص، وفي أيّ زيّ، أن أقول كلامًا كنت تنتظرينه، أو لا أقول شيئًا. كنت ستحبينني.
تابع قائلاً:
ذلك أن الحبّ يتأقلم مع كلّ الحالات. وله هذه القدرة الخارقة على إضفاء جمالية حتّى على الأشخاص العاديّين. والدليل أنّك عندما ستكتشفين من أكون، ستجدين أيضًا في تفاصيل قصتنا ما يذهلك، ويقنعك بأنّك تحبينني أنا.. وليس ذاك الذي كنت تتوقعين!
-ولكنك أريتني جريدة عليها اسم خالد بن طوبال.
-تلك حقيقة أخرى. إنه اسمي. أو إذا شئت إنه الاسم الذي اخترته لأنه يشبهني. ولأنه مذ وصلتني تهديدات بالقتل. كان لا بدّ أن اختار اسمًا جديدًا أوقع به مقالاتي. ولا أشعر أنني سرقت هذا الاسم من احد. كل كلمة وقّعتها في تلك الجريدة، كنت أشعر أنه كان بإمكان ذلك الرجل الخارج من كتاب أن يقولها.. لو أنه نطق.
يذهلني كلامه. ألأننا كنّا نعيش وضعًا روائيًا، كلّ ما ينتج عنه أصبح روائيًا أيضًا؟
سألته:
-ما عدا هذا.. من أنت؟
ضحك.. أجاب:
-أنا قارئ جيّد..
-لا أفهم.
-لنقل أنني قرأتك جيدًا، قرأتك دائمًا، وإنّني أعرف عنك ما يكفي لإدهاشك. أنا ذاكرة أخرى لك.. أعرف عنك ما نسيت..
-ولكن في الحياة.. من أنت؟
-في الحياة.. اعمل صحافيّاً. ولن تصدّقيني لو قلت لك إنني منذ ثلاث سنوات كان هاجسي أن أتعرف إليك، بحجّة إجراء حوار للجريدة.
أضاف قائلا بعد شيء من الصمت:
في الواقع، كنت أريد أن اطرح عليك أسئلة، لم تكن تعني غيري. فقد صادف صدور كتابك مع تلك الحادثة التي شلّت فيها ذراعي.
وهو ما جعلني أقضي فترة النقاهة في قراءتك. أذكر أن صديقي عبد الحقّ جاءني بكتابك إلى المستشفى. وقال لي وهو يمدّني به: "جئتك بكتاب سيعجبك.." تصوّري: خفتُه قبل أن أقرأه.. ثمّ خفته لفرط ما قرأته. أذهلني أن أعثر على بطل يشبهني إلى هذا الحدّ. كان بيني وبينه مدينة مشتركة، واهتمامات وخيبات مشتركة، وعاهة وذوق مشتركان. ووحدك كنت الشيء الذي لم يكن مشتركًا بيننا. فقد كنت حبيبته وحده.
وتابع:
يوم التقيت بك، أصبح عندي يقين بأنّ حياتي ستطابق بطريقة أو بأخرى قصتك معه. حتّى إنني خفتك. وكثيرًا ما راودتني رغبة في عدم الاتصال بك. لو تدرين كم أحببتك.. وكم حقدت عليك بسبب كتاب!
-ثمّ؟
-ثمّ لا شيء.. أعتقد أنّك كنت تكتبين لقلب الأشياء، عندما اخترت بطلاً فاقد الذراع. ولكن تظلّ الحياة أكثر غرائبية من القصص التي نبتكرها. أيّ فخّ كبير هي الحياة!
تصوّري.. كنت أريد منك أجوبة لا أكثر. ولكنّ الحياة كانت تعدّ لي دورًا معاكسًا. لقد جئتك في زمن الأسئلة. انقضى هذا الكتاب، وأنا أردّ على أسئلتك. أعرف أنه دور أجمل ممّا توقعت. ولكنني لم أسع إليه. اكتفيت بمجاراة قدري، ومجموعة المصادفات التي واكبته.
-وأثناء ذلك، كنت تقودني إلى تيه النصّ، والمتاهات السريّة للعواطف.. وكمائن المواعيد.
-بل كنت أقودك إلى العشق. إنّ أجمل حبّ هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر. أدري.. كنت تبحثين عن رجل، خارج من كتبك. خلقته أنت، على قياسك. ولكن أليس أجمل أن أكون أنا الرجل الداخل إلى هذا الكتاب.. ولست الخارج منه؟
-ألهذا جئت اليوم؟ ألكي يمكنك أن تدّعي بعد الآن، أنّك كسرت ذلك الوهم الجميل، وحصلت على تلك المرأة التي لم تمتلك منها سوى كتب.. وأسئلة لا جواب لها.
-طبعًا لا. وأنت تعرفين تمامًا أنّ هذا ليس صحيحًا. فأنا أملك من الكلام ما يمكّنني من إقناعك بما أشاء، ولكنّني كنت احرص على ألا أكسر أي شيء فيك. ولا أي شيء بيننا. لقد اعتقدت دائمًا أنّ الاشتهاء هو وحده حالة الامتلاك، أما المتعة فهي بداية الفقدان.
-وما الذي أوصلنا إلى هذا السرير إذن؟
-أوصلنا إليه الموت.
-ألا ترى في قولك إهانة للحبّ؟
-بل ردّ اعتبار له. لا تظنّي انه من السهل أن نأتي بالمتعة عن ألم، أو نأتي الجنس بذريعة موت الرفاق. يلزمنا كثير من الحبّ لنثأر به من الموت.
-ولكن.. منْ مات من معارفك كي يداهمك كلّ هذا الحزن؟
يستنجد بسيجارة ثمّ يجيب:
-مات سعيد مقبل.. ألم تسمعي بموته البارحة؟
قلت كمن يعتذر:
-أنا لم أشاهد التلفزيون منذ أيّام.. ولا قرأت الجرائد.
ثمّ واصلت:
-هل كان صديقًا مقربًا إليك؟
أجاب:
-لا. أنا لم ألتق به أبدًا. أصبح صديقي البارحة. فقد رفعه القتلة برصاصتين إلى مرتبة صديق. تصوّري.. لي تسعة وعشرون صديقًا، لم ألتق بمعظمهم، إلا على الصفحات الأولى للجرائد بمناسبة نعيهم. ولكنّه كان صديقًا مقربًا من عبد الحقّ، فقد كان يعمل معه في الجريدة قبل أن يتركها عبد الحق ويسافر إلى قسنطينة. ولقد اتصلت به منذ مدّة، لأعرض عليه الكتابة في الجريدة نفسها.. وكان مفترضًا أن نلتقي هذه الأيام..
أسأله:
-وكيف قتلوه؟
يجيب:
-كان يتناول غداءه. رفقة زميلة له في مطعم صغير جوار الجريدة. عندما اقترب منه شخص، توّهم منه أنّه يريد محادثته. ولكنّه أخرج مسدسًا، وأطلق النار عليه ومضى بهدوء. تصوّري.. كان اسم المطعم "الرحمة"ّ
رد مع اقتباس
  #32  
قديم 07-13-2016, 12:29 PM
 
-ولكن.. كيف لم يأخذ حذره؟
-طبعًا كان على حذر. مذ حاولوا اغتياله منذ شهرين وفشلوا، وهو يغيّر عناوين نومه، ومواعيد قدومه إلى المكتب، والطرق التي يسلكها في العودة، والأماكن التي يرتادها. ولم يغيّر كلّ هذا شيئًا من قدره. لقد وصف كلّ هذا الرعب اليومي الذي يعيشه الصحافيّ في الجزائر هذه الأيام في نصّ جميل ومؤثر قبل أسبوعين من اغتياله. وأعادت الجرائد نشره اليوم في صفحاتها الأولى وهي تنعاه. ألم تقرأيه؟ لقد تناقلته معظم وكالات الأنباء.
قلت بنبرة خافتة:
-لا
فمضى. ثمّ عاد بجريدة أعطاني إيّاها قائلاً:
-إقرإيه إذن.. وستبكين صديقًا.
وما كدت أتوقف عند عنوان المقال "هذا السارق الذي.." حتّى أخذ مني الجريدة وراح يقرأ:
"هذا السارق الذي يتسللّ في الليل بمحاذاة الجدران، عائدًا إلى بيته. إنّه هو.
هذا الأب الذي يوصي أولاده، بأن لا يفضحوا في الخارج المهنة التي يتعاطاها. إنه هو.
هذا المواطن السيئ الذي يجرّ أذياله في قاعات المحاكم، منتظرًا دوره للمثول أمام القاضي. إنه هو.
هذا الفرد الذي يساق خلال مداهمة لحيّ، والذي يدفع به كعب بندقية إلى قاع شاحنة. إنه هو.
هو الذي يغادر منزله كلّ صباح، غير واثق بأنّه سيصل إلى مقرّ عمله.
وهو الذي يغادر عمله مساءً، غير متأكد من أنه سيصل إلى بيته.
هذا المشرد الذي لم يعد يعرف عند من يقضي ليلته. إنه هو.
إنه هو الذي، يتعرض للتهديد في سرّيّة إدارة رسمية.
الشاهد الذي ينبغي عليه أن يبتلع كلّ ما يعرف.
هذا المواطن الأعزل.
هذا الرجل الذي أمنيته أن لا يموت مذبوحًا. إنه هو.
هذه الجثة التي يخيطون عليها رأسًا مقطوعًا. إنه هو.
هو الذي لا يعرف ماذا يفعل بيديه، سوى كتاباته الصغيرة.
هو الذي يتمسك بالأمل، ضدّ كلّ شيء؛ ألا تنبت الورود فوق أكوام القاذورات؟
هو الذي كلّ هذا. وليس سوى صحفيّ".



ألقى بالجريدة على الطاولة المجاورة، ثمّ واصل:
-كيف أحمل حداد رجل كان في السابعة والخمسين من عمره، يواجه الموت بكلّ هذا العناد، ويصدر الجريدة الواحدة بعد الأخرى، في زمن لم يبق فيه أحد ليغامر بوضع توقيعه أسفل مقال؟ ويسمّي زاويته "مسمار جحا"، معلنًا أنّه باق هنا بنية إزعاج الجميع، ساخرًا من السلطة والإرهابيين على حدّ سواء.
سحب نفسًا من سيجارته، وواصل بنبرة محبطة:
لا أفهم، كيف يمكن لوطن أن يغتال واحدًا من أبنائه، على هذا القدر من الشجاعة؟ إنّ في الوطن عادة شيئًا من الأمومة التي تجعلها تخاصمك، دون أن تعاديك، إلا عندنا، فبإمكان الوطن أن يغتالك دون أن يكون قد خاصمك! حتى أصبحنا حسب قول عبد الحق.. نمارس كلّ شيء في حياتنا اليومية.. وكأننا نمارسه كلّ مرّة للمرة الأخيرة. فلا أحد يدري متى وبأية تهمة سينزل عليه سخط الوطن.
سألني فجأة:
-أتدرين لماذا طلبت منك الحضور اليوم؟
وقبل أن أجيب واصل:
-لأنني خفت أن أموت قبل أن أعيش هذه اللحظة!
قاطعته بشيء من العتاب:
-ما هذا الذي تقوله؟ نحن لسنا هنا لنتحدث عن الموت
ردّ بسخرية:
-طبعًا، نحن هنا لنلعب معه، لنتحايل عليه. ولكنه موجود في جدول تفكيرنا الباطنيّ. المتعة أيضًا.. كما عشناها منذ قليل، بتلك الشراسة وبذلك العنف، وكأننا على أهبة افتراس جسديّ متبادل، ليست سوى حالة تطبيع مع الموت لا أكثر. في زمن النهايات المباغتة، والموت الاستعجاليّ، والحروب البشعة الصغيرة التي لا اسم لها، والتي قد تموت فيها دون أن تكون معنيًا بها، الجنس هو كلّ ما نملك لننسي أنفسنا.
-والكتابة؟
-الكتابة؟ إنها وهمنا الكبير بأن الآخرين لن ينسونا!
-أتقول هذا لتجعلني أعدل عنها؟
-بل لأجعلك تعدلين عن الحلم، والأوهام الكبيرة. هذا الذي مات، صديقي الذي يوارونه في هذه اللحظة تحت التراب، الآن بتوقيت صلاة العصر، يسلّمونه للديدان، كان يؤمن أيضًا بجدوى الكتابة، وبأنّ عموده اليومي ضروري لتغيير المجتمع، وأنّ القارئ لا يمكن أن يبدأ صباحه دون تعليقاته الساخرة، ونكاته اللاّذعة. الآن، لم يعد بإمكانه أن يُضحك أو يتحدّى أحدًا. لقد ضحك عليه الموت وتحدّاه. هو الذي كان يتوهم أنه يغيّر العالم كلّ يوم ببضعة أسطر. ها هي الحياة تستمرّ بعده، والجريدة تواصل الصدور دونه، والناس الذين مات من أجلهم، سينسون مكانه في تلك الصفحة، حيث أقام لعدّة سنوات، ففي الصحافة كثير من نكران الجميل.
كلامه وضعني في حالة من الإحباط المفاجئ. أفقدني رغبتي في الجدل، أو حتّى في الحبّ.
"أكلّ هذا.. من أجل هذا؟"
كل هذه المجازفة، وهذه المخاطر، وهذا الترقب، وهذا التحايل، كي أخلو برجل يحدّثني عن الموت؟
قلت:
-كان من الأفضل لو كنت كائنًا حبريًا، وبطلاً وهميًا في قصة؛ هؤلاء على الأقلّ لا يغتالون، ولا يموتون، ولا نخاف عليهم من شيء. لماذا جئت إذا كنت رجلاً حقيقيًا؟
ردّ وهو يسحبني نحوه:
-جئت لأسرّب إليك الرغبة. جئت لإمتاعك، وإمتاع نفسي بك. هؤلاء لا يمكنهم أن يفعلوا هذا.. أليس كذلك؟
وراحت شفتاه في تقبيلي من جديد، باللّهفة نفسها، وكأننا التقينا توًا، أو كأنه انتبه فجأة لوجودي معه. برغم تلك الجثة الموجودة بيننا.
كان يحلو لي أن أتابع تقلّبات مزاجه العشقيّ.
أحاول أن أفهم ما الذي أثاره فجأة من جديد، ليجتاحني بكلّ هذا النّهم الجسديّ.
أتأمله في انشغاله بي، لم يكن جسده هو ما كنت أحبّ. بقدر ما أحبّ كرم رجولته، وأخلاق جسده.
كان لجسده ذلك الحضور السخيّ، الذي يعطي ويعطي كما هو الحبّ. كأنه يعوّض عن نقصانه بالعطاء. ثمّ يأخذ ويأخذ كما هي اللّهفة.
وكانت له تلك الرجولة التي تحسن التواضع أمام الأنوثة، وكأنّها مدينة لها بكلّ شيء.
فجأة ضمّني إليه وقال:
-سأعترف لك بشيء.. لا تضحكي منه!
وقبل أن أجيب واصل:
-حدث أن غرت من زياد. تصوّري لم أغر من زوجك يومًا.. وغرت من كائن حبريّ. تقاسم معي بطولة ذلك الكتاب. ما زلت أشعر أنّه وجد حقّا في حياتك. وأنّه سبقني إلى جسدك.
أضحك.. أقول:
-أيّها المجنون.. هذا الرجل لم يعد يوجد أبدًا. لقد أوجدته، لأنني أحبّ قصص الحبّ الثلاثية الأطراف. وأجد في قصص الحبّ الثنائية، كثيرًا من البساطة والسذاجة التي لا تليق برواية. ولذا كان يلزمني رجل يعيش بمحاذاة تلك القصة، قبل أن يصبح هو بطلها. لأنّ هذا هو منطق الحبّ في الحياة، نحن نخطئ دائمًا برقم.
-وبرغم هذا أحسده. كنت أريد لي قدرًا مطابقًا لقدره. حتّى إنني أحفظ أشعاره. ما زلت أحلم بحبّ كبير.. بقضية كبرى، وبموت جميل.
-ولكن انتهى زمن الموت الجميل. لم يعد بإمكان أحد الآن حتّى في رواية، أن يموت في معركة كبيرة. لقد أفلست جميع قضايانا، ولذا أحببت أن يموت زياد أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. تصوّر، هو الذي كان يحلم بالعودة إلى غزّة. لو عاش، لدخل اليوم مباشرة إلى سجونها. أو انتهى به الأمر شرطيًا فيها، يقوم بسجن وتعذيب فلسطينيين آخرين بتهمة المسّ بأمن إسرائيل. كم من الأوهام ماتت معه. فبعده، لم يعد ثمة شيء اسمه فلسطين.. سعيدة أنا من أجل الذين سيأتون بعدنا: لقد وفرنا عليهم أعمارًا لن ينفقوها في أوهامنا.
يصلح من جلسته. يترك رأسي على كتفه، ويشعل سيجارة.
يباشر بتدخينها في بطء قائلاً:
-دعينا من فلسطين.. أجيبيني: هل أنت سعيدة معي ؟
يفاجئني سؤاله. لا أدري كيف أردّ عليه أقول:
-حين نكون تعساء ندرك تعاستنا. ولكن عندما نكون سعداء، لا نعي ذلك إلا في ما بعد. إنّ السعادة اكتشاف متأخر.
يردّ ساخرًا:
-أيجب أن أنتظر الكتاب القادم، كي أعرف إن كنت سعيدة معي؟
أردّ ضاحكة:
-طبعًا لا.. بإمكاني أن أجيبك الآن. ولكن في الواقع تعلّمت أن أخاف السعادة. ما اكتشفتها مرّة إلاّ وفقدتها.
يجيب:
-ولذا عليك أن تعيشيها كلحظة مهدّدة. أن تعي أنّ اللّذة نهب، والفرح نهب، والحبّ.. وكلّ الأشياء
الجميلة، لا يمكن إلا أن تكون مسروقة من الحياة، أو من الآخرين. فالمرء لا يبلغ المتعة إلا سارقًا. في انتظار أن يأتي الموت، ويجرّده من كلّ ما سطا عليه.
أقول:
-أنت تذكّرني بفيلم "حلقة الشعراء الذين اختفوا". أتذكر ذلك المشهد الأول، عندما تحلّق الطلبة حول الأستاذ، ليتأملوا الصور المعلّقة على جدران الصفّ، لطلبة سبقوهم منذ أجيال إلى ذلك المعهد. عندما كان الأستاذ يردد "تأملوا هيأتهم وشبابهم الذي يشبه شبابكم اليوم. إنهم يقولون لكم.. استفيدوا من اليوم الحاضر.. لتكن حياتكم مذهلة.. خارقة للعادة.. فذات يوم لن تكونوا شيئًا.."
يعلّق دون اهتمام:
-أنا لم أشاهد هذا الفيلم.. ولكن أتوّقع أن يكون المشهد جميلاً..
أسأله دهشة:
-أحقًا.. أنت لم تشاهد هذا الفيلم؟
يجيب متعجبًا من نبرتي:
-أكان يجب أن أراه؟
ولا أجد شيئًا أبرر به اندهاشي أمام هذا الاكتشاف سوى كلمات مرتبكة:
-توقّعت أن تكون شاهدته.. فقد حصل على عدّة جوائز..
وأعود إلى صمتي. أستعيد قصتنا منذ البدء. أحاول أن أفهم: إن لم نكن قد التقينا في ذلك العرض، فمنذا الرجل الذي يا ترى جلس إلى جواري في ذلك اليوم.. بالعطر نفسه.. والصمت نفسه؟

كانت الأسئلة تذهب بي في كلّ صوب. عندما قطع تفكيري قائلاً كمن يعتذر:
-حدّثني عبد الحقّ عن هذا الفيلم. وعرض عليّ أثناء زيارتي إلى قسنطينة أن أرافقه إلى مشاهدته. كان يريد أن يكتب عنه مقالاً للجريدة. ولكنّني شغلت ذلك اليوم بأمور أخرى. فذهب لمشاهدته بمفرده. من المؤكّد أنّه لا يزال يعرض في قاعات بالعاصمة. سأحاول أن أحضره هنا، حتّى يصبح بإمكاني أن أتحدث معكما عنه، بدل الاستماع إلى كلّ واحد منكما وهو يروي مشهدًا من الفيلم.
ثمّ يواصل وهو يمرر يده على شعري:
-أيسعدك أن أراه؟
أجبته وأنا أضع قبلة على خدّه:
-حتمًا.
بدا لي فجأة أنني أستعمل معه لغة "عبد الحقّ". فلم أضف شيئًا إلى ما قلته.
بعد قليل، كنت أغادره. كان هو يعود إلى حداده. وأنا أعود –حتمًا- إلى أسئلتي!


* * *


ما كدت أخلو بنفسي ذلك المساء، حتّى فتحت الدفتر الأسود. متصفحة قصتي مع ذلك الرجل، كما كتبتها يومًا بعد آخر، على ذلك الدفتر.
رحت أستعيد بداياتها، أتوقف عند منعطفاتها، عساني أفهم، كيف ولدت هذه القصة. ومن أين جاءني هذا الرجل؟
كيف تمّكن خلال ثمانية أشهر أن يتهرب من كلّ أسئلتي، وينجو من كلّ مقالبي، ويعيش داخل هذا الدفتر، متنكرًا في رجل آخر، ثمّ يفاجئني بالحقيقة عندما يشاء هو.
ولكن أيّة حقيقة؟ أتلك التي باح لي بها؟ أم الأخرى التي لا يعرفها هو نفسه، والتي أوصلني إليها دون أن يدري، مؤكدًا كلامًا سابقًا له: "ليس ثمة من حقيقة واحدة. الحقيقة ليست نقطة ثابتة. إنها تتغير فينا وتتغير معنا. ولذا لم يكن ممكنًا لي أن أدلك إلا على ما ليس الحقيقة".
حبه أيضًا أصبح وسط التساؤلات، حقيقة متحركة. في الواقع، كان لنا زمن سريّ وذاكرة مشتركة، لشيء شبيه بالحبّ، عشناه معًا، حتّى قبل أن نلتقي.
هو قال "أجمل حبّ هو الذي يأتيك أثناء بحثك عن شيء آخر" وأنا صدّقته، ونسيت من انبهاري به عن أي شيء بالتحديد كنت أبحث يوم صادفته.
ها هوذا اليوم، في دوره الأخير، يصبح قارئي.
فكيف يمكن لقارئ أن يفعل بكاتبٍ كلّ هذا!؟
رد مع اقتباس
  #33  
قديم 07-13-2016, 12:29 PM
 
دفتي كتاب. في تلك المساحة المخصصة للحلم والوجاهة، والتي اسمها "الأدب".
وإذا كان من المعقول أن تحبّ كاتبًا، حتى تتوهم أنك بطل من أبطاله، فأين العجب في أن يحب كاتب بطل من أبطاله، حتى يتوهم بدوره، أنه موجود في الحياة، وأنه حتمًا سيلتقي به يومًا في مقهى.. ويتبادلان كثيرًا من الأخبار، والذكريات!


* * *


عودة أمي، أعادت إلى الحياة وجهها الطبيعي، وأخرجتني لوقت من أسئلتي الدائمة. فقد جاءت ومعها أخبار عن عرس أتوقع أن تحدثني عنه كثيرا في المستقبل فهي تؤكد أن شروط الانفجار جاهزة بين الزوجتين الأولى والجديدة.
أتسلى بالاستماع إليها وأنا أعرف مسبقا المنحى الذي سيأخذه حديثها. فهي على يقين ثابت من أن ضرتي هي سبب عقمي، وبعض ما حل بي وهو ما لا أصدقه.
طبعا،لم يكن سهلا أن أتقبل فكرة مقاسمة رجل مع امرأة أخرى بل كان بإمكاني أن أشترط طلاقه منها. فقد كان يريدني وقتها إلى درجة الرضوخ لكل مطالبي. ولكنني كنت أشفق على تلك المرأة التي تكبرني بخمس عشرة سنة والتي شاركت زوجي عشرين سنة من حياته وأعطته ثلاثة أولاد قبل أن يصبح ضابطاً، على قدر من الأهمية بحيث كان لابد له ككل المسؤولين من حوله أن يعيد النظر في حياته الزوجية .
أعتقد أن استسلامها منذ البدء للأمر الواقع هو الذي جردني من أسلحتي. لا أعتقد أنها كانت من الطيبة لدرجة التحمس لهذا الزواج. ولكنها لم تكن شريرة ولا حاولت يوما أن تكيد لي.
ثمّ مع الوقت ولد بيننا شيء من التواطؤ النسائي الصامت، بعد أن أدركت كل واحدة منا، أنها لا يمكن أن تلغي الأخرى، أو تنفرد بامتلاك ذلك الرجل.
كثيرًا ما سألت نفسي إن كنت أغار من هذه المرأة، التي من الأرجح أن يكون زوجي الآن في بيتها، يقاسمها سريرا لا يشغله إلا نادرا، وغالبا أثناء غيابي.
والمدهش أن الجواب يأتي دائما بالنفي. وبرغم ذلك لم يتقبل جسدي تماما فكرة وجودها. بل انه لم يتقبل هذا، منذ الليلة الأولى.
وأذكر أنه طوال ليلة زفافي، لم تفارقني فكرة وجودها، ولا مشهد حضورها الصامت، في تلك السهرة مراعاة لزوجي الذي كان يريد أن يثبت للحضور مباركتها لهذا الزواج.
ربما لذلك السبب، صنع جسدي يومها، حاجزا لم يستطع زوجي تخطيه، رغم ما أوتي من إمكانيات فحولية.
ورغم اشتهائي له، شيء في كان لا يطاوعني ويرفض الاستسلام له. خاصة أن مقاطعة ناصر لكل احتفالات الزواج، قد وضعتني في حالة نفسية سيئة.
تراودني كل هذه الأفكار، وأمّي تنقل لي "وقائع"هذا الزفاف الذي لم تسفر ليلته عن نتائج ترضي كبرياء العريس الممتلئ فحولة ذكورية، وهو ما جعل النساء كعادتهن يجتهدن في تفسير الأمر.
أما الخبر الأهمّ، فكان بالنسبة إلي شعور أمي المفاجئ بالضجر ورغبتها في العودة إلى قسنطينة في أقرب وقت.
خبر تلقيته بمذاق سابق للحزن، أسرعت بإخفائه عنها.
فقد تعلمت أن أخفي عنها حزني وفرحي، حتى لا أجد نفسي مجبرة على شرح الأول، أو على تبرير الأخير. فلم تكن لنا يوما المقاييس نفسها للسعادة.
السعادة، ذلك العصفور المعلق دوما على شجرة الترقب، أو على شجرة الذكرى. هاهو على وشك أن يفلت مني الآن أيضا. ولأنني أدركت ذلك بدأت أعيش ذلك الحب، بشراسة الفقدان.
كالذين يعيشون عمرًا مهددًا، علمني الموت من حولي أن أعيش خوف اللحظة الهاربة، أن أحبَّ هذا الرجل كل لحظة.. وكأنني سأفقده في أية لحظة، أن أشتهيه، وكأنّه سيكون لغيري، أن أنتظره.. دون أن أصدق أنه سيأتي. ثم يأتي.. وكأنه لن يعود، أبحث لنا عن فرحة أكثر شساعة من موعد، عن فراق، أجمل من أن يكون وداعًا.
غير أنه كان يبدو فجأة غير مبال بمداهمة الحياة لنا، بل إنه كان يملك من ترف الوقت، ما جعله يصرّ على أن لا يكون موعدنا الأخير في بيته، وإنما في مطعم بحريّ على بعد نصف ساعة سيرًا على الأقدام من بيتي.
وعبثاً حاولت إقناعه بأننا قد لا نلتقي قبل زمن طويل، وأنّ هذا المكان لا يصلح لوداعٍ، ولا لموعد أخير. ولكنه كان يجيب:"سيكون لنا هناك موعد أجمل".


* * *

التقينا.
في مقهى ارتجله الحب لنا، كان هنا. هو والبحر.. وطاولة صيف مسائية..
هو وأنا وتنهّدات الأمواج بيننا.

قلت عاتبة:
-كان بإمكاننا أن نلتقي عندك. لماذا أصررت على تبذير ثروة الحلم أمامي ؟
أجاب دون أن يتوقف عن التدخين :
-تبذير الحياة.. هو أيضا جزء من الحياة.
-ولكنني أريدك.. وقد لا نلتقي قبل زمن طويل.
وضع بيننا كعادته منفضة الصمت. وأعقاب جمل لم تكتمل ثم قال:
-لفرط ما أردتك أفهم معنى أن تريديني. ولكن لا بد أن نتعود الحرمان، حتى عندما نكون معا.
-ولكن لماذا؟
-لأن قدرنا أن لا نكون معا دائماً.
-لماذا أهديت إليّ إذن كل تلك المتعة.. إذا كنت تعدّني لكل هذا الألم ؟
-أنا أعدّك لمتعة أجمل. قبلك لم يكن الحرمان جميلا. لأنه لكي يكون كذلك، لابدّ أن نريده، أن يكون تواطؤا سرّياً بين اثنين. وقتها فقط يغير اسمه، تصبح له تسمية أجمل.
يسألني بعد شيء من الصمت :
-أتعرفين ما اسمه؟
أقول دون تفكير :
-لا
يجيب:
-يصبح اسمه الوفاء!
تترك الحروف خلفها ذيلا من الدخان الذي ينفثه بكسل نحوي .
أجيب:
-أنا أفهم تماما ما تقول. ولكن، ألا تعتقد أنك تزايد على القدر، وتعاقبنا أكثر مما عاقبتنا الحياة؟
يرد:
-ما أعتقده هو أنك كنت دائما الطفلة المدللة للحب. أتوقع أن يكون قد منحك دائما ما أردته دون جهد. ثمة أناس لهم تلك القدرة الخرافية على المشي فوق قلوب الآخرين، دون شعور بالذنب.
أتمتم:
-ألهذا..؟
يقاطعني:
-لا..ليس لهذا أعاقبك اليوم بالحرمان. وإلا أكون أعاقب نفسي بك.ولكن جميل أن يروضك رجل،لم يفهم قبلك في الخيول..
وقبل أن أنطق يقول:
-أتدرين.. مع الخيول الوحشية، الأصعب دائما هو لحظة الاقتراب منها. أما ترويضها بعد ذلك فهو قضية وقت. ولهذا أوجد رعاة البقر لعبة الروديو، التي يتنافسون فيها على عدد الدقائق التي يبقون فيها على ظهر حصان وحشي، قبل أن يرمي بهم أرضا، لتتهشم عظامهم عند أقدامه. ففي دقائق قد يربحون حصانا، كما أنهم قد يخسرون حياتهم في دقائق!
ثم واصل وهو ينفض دخانه ببطء في المنفضة، دون أن تغادرني نظراته:
ولذا عكس ما تتوقعين، لم أربحك في موعدنا الأخير، وإنما في موعدنا الأول. في تلك الدقائق القليلة التي سألتك فيها في مقهى "الموعد"، إذا كنت تسمحين لي بالجلوس. وكنت على وشك أن تقولي "لا". ولكنك قلت "طبعا". ولم أكن أملك بعد ذلك سوى حبل الكلمات لأطوقك به، وأوقف جموحك الفطريّ. يومها فقط.. جرّبت رعب الاقتراب من فرس.
-ثم..؟
-ثم ها نحن معا أمام امتحاننا الأصعب. عكس موعدنا الأول، لسنا نحن الذين نختبر بعضنا بعضًا اليوم، أو نقيس استعدادنا للصمود في وجه الحب، أو قدرتنا على الإيقاع بغيرنا. إنما الحياة هي التي تختبرنا معاً، وتختبر الحب بنا. ولكي ننجح علينا أحيانا أن نتساوى بالعشاق المفلسين، أن نتخلى عن ترف تملكنا لمفاتيح شقة. ونعيد للحب جماليته.. واستحالته الأولى.
-جميل ما تقوله.. لولا أنك تجرب فينا نظريات في الحب، لا يمكن أن تنطبق على واقعنا. أنت تنسى وضعي الاجتماعي.. وتنسى أنني موجودة معك هنا خلسة.. ومجازفة.
-لم أنس هذا. ولكن أنت نفسك قلت إنك لا تعيشين حبنا بخجل، وإنك تكرهين العلاقات المستترة التي تعيش في ظلّ الشوارع الخلفية. فامنحي حبنا شرعية الضوء، وشيئا من الكرامة التي تخرجنا من صنف السرّاقين.
-وماذا لو رآنا أحد معا؟ كيف أدافع عن تهمة معرفتي بك.. أو وجودي معك هنا؟
يقاطعني:
-تدافعين عن هذه التهمة! أي تهمة؟ وأمام من؟ أمام زوجك؟ وهو أحد المتهمين في هذا البلد! الذي أعجب له الأكثر، أن يكون الحب هو الفعل الذي يحرص الناس على إخفائه الأكثر، والتهمة التي يتبرأون منها بإصرار. ما عدا هذا.. فبإمكانك أن تكون مجرما أو سارقا وكاذبا وخائنا وناهبا لأموال الوطن.. وتفرد ما سطوت عليه أمام الناس دون خجل، وتواصل حياتك بينهم محترما. أليس الأمر مدهشا؟
يضيف متذمرا:
-بين الذين أهدروا ماضينا، والذين يصرون على إهدار مستقبلنا، بين الذين أفرغوا أرصدتنا، وأولئك الذين سطوا على أحلامنا، نظل نحن أثرياء الحب أشرف من غيرنا.
يواصل وهو ينفض سيجارته بشيء من العصبية:
-مذ شلّت ذراعي، تعلمت شيئا: الأجدر أن يُعرّف الإنسان بما فقد وليس بما يملك. فنحن دائما نتيجة ما فقدناه. ولكن لا أحد يسألك عن الذي فقدته؛ هم يسألونك فقط عما تملك وأنتِ نفسك، لم تسأليني يوما كيف فقدت ذراعي، ومتى شلّت.. وكيف ؟ ألا يعنيك أن تعرفي هذا ؟
أقول معتذرة وقد باغتني بسؤال لم أجرؤ على طرحه:
-توقعت أن يكون في الأمر إزعاج لك.

رد مع اقتباس
  #34  
قديم 07-13-2016, 12:43 PM
 
يقول بسخرية المرارة:
-ولم يخجلني أمر لست فاعله؟ أتعرفين قصة بيكاسو، عندما رسم لوحته الشهيرة "غرنيكا" مصورا فيها خراب تلك المدينة على أيدي الفاشيين. فجاء منهم من يسأله "أنت الذي فعلت هذا؟" فرد عليهم بجوابه الشهير "لا.. بل أنتم ". لو سألتني لأجبتك مثله: "لست أنا ..بل هم".
لم أفهم من كان يقصد بالتحديد.سألته:
-ومتى كان هذا..؟
أجاب وهو يسحب سيجارة جديدة، ويشعلها ببطء من يشعل فتيلة الذكريات:
-حدث هذا أثناء أحداث أكتوبر 1988.كنت وقتها أعمل مصورا صحافيا. فذهبت لألتقط صورا لتلك التظاهرات التي اجتاحت فيها الحشود الشوارع دون سابق قرار. وكان شيئا مذهلا ذلك الذي شاهدته: سيارات مسرعة.. وجوه مرعبة وأخرى مرعوبة، رصاص طائش وصدور تتلقى قدرها بغتة. مدينة تحكمها الدبابات. كل شيء قائم فيها قد أصبح أرضا، حتى أعمدة الكهرباء .
كان العسكر يضعون حاجزا بشريًا أمام الآف الشبان الذين راحوا يكسرون في طريقهم كل شيء يرمز إلى الدولة، ويوجهون رصاصهم تارة في الهواء وتارة وسط الناس لإخافتهم دون جدوى. بينما احتل جنود سطوح المباني الرسمية. أذكر أني حاولت أن ألتقط صورة لعسكري وهو يقف على مبنى مقر الحزب، موجها رشاشه نحو الشارع، وخلفه علم الجزائر. عندما انطلق رصاص من ذلك المبنى، واخترق ذراعي اليسرى. ولم أدر إن كان العسكري قد اشتبه في أمري عندما رفعت آلة تصويري وتوقع أنني أرفع سلاحا أم أنني تلقيت رصاصا طائشا كان موجها إلى أي شخص.
ثم واصل بنبرة غائبة:
-تصوّري تلك اللحظة التي نزلت كي أصورها، وتختزنها آلة تصويري اختزنها جسدي إلى الأبد. وأصبحت ذاكرة جسد، أتقاسمها مع مئات الجرحى والقتلى الذين سقطوا في تلك الأحداث.

مرة أخرى فاجأني هذا الرجل بقصة لم يكن مقررا أن يقصها علي اليوم بالذات في هذا المكان وهذا الظرف بالذات.
وكعادته أجابني عن السؤال الذي عدلت عن طرحه لفرط ما طاردتني علامات استفهامه.
تأملته وهو يفك آخر زر في هذا المعطف الكثير الأزرار ويحل آخر لغز في تلك الفوازير التي شغلتني عدة أشهر وكأنه بلغ حالة تعب من المراوغة وقرر أن يهدي إلي أخيرا الحقيقة

بدا لي في عنفوانه أجمل من وهمي به.
قلت:
-أتدري أن الحقيقة تزيدك إغراء.
أجاب:
-تمنيت أن تزيدني احتراما فلا أعتقد أن بإمكاننا أن نحب أو نشتهي شخصا فقد احترامنا ولذا حرصت أن لا أصغر في عينيك بسبب عاهتي.. والأجمل أن أكبر في عينيك بها.
قلت:
-لم ألتق قبلك برجل ثمل كبرياء إلى هذا الحد..
أجاب:
-هل أفهم أنك تحبينني؟
كدت أقول "طبعا"ولكنني قلت:
-حتما..
واصل:
-أتأذنين لي أن أسألك إن كنت تحبين زوجك؟
أجبت:
-حدث أن أحببته.
-وهل أنت سعيدة معه؟
-لا أدري ..أحيانا اكتشف تعاستي ..ثم أعود فأنسى .
-ولماذا بقيت معه إذن؟
-لأنه زوجي.. لأنني وحيدة.. ولأنني متعبة ولا قدرة لي على اتخاذ أي قرار.
-ولكنك حرة في تغيير مجرى حياتك والانفصال عنه.
-أظنه أندريه جيد الذي قال"من السهل أن تعرف كيف تتحرر ولكن من الصعب أن تكون حرا".قد أنجح في أن أتحرر من هذا الرجل رغم أني لا أتوقع أن يكون هذا أمرا سهلا ولكن الأصعب أن تكون حريتي بعده فحياة امرأة مطلقة في بلد كهذا هي عبودية أكبر إنها تتحرر من رجل كي يصبح كل الناس أوصياء عليها.
أصمت فجأة ثم أسأله:
-لو انفصلت عنه..فهل تتزوجني؟
يجيب بنبرة المفاجأة :
-أتزوجك؟ أنت تمزحين؟
-ألا يسعدك أن أكون امرأتك؟
-طبعا..لكن..
-ولكن ماذا؟
-أنا لا أملك شيئا يا سيدتي لا شيء مما تعودته في نمط حياتك كل ثروتي في بيت للإمام الشافعي:
"غني بلا مال عن الناس كلهم وليس الغنى إلا عن الشيء لا به"
-كل هذا لا يعنيني.. تلك الشقة التي تسكنها تكفينا لنكون سعيدين معا.. أنا أحبها.
-ولكن حتى تلك الشقة ليست لي أنا أقيم فيها مؤقتا فقط.
-ولمن هي إذن ؟
-إنها لعبد الحق.. ذلك الصديق الذي حدثتك عنه تركها بعد أن وصلته تهديدات بالقتل فذهب ليعيش لمدة في قسنطينة حيث مازال أهله يقيمون وقد يعود إليها عندما تتحسن الأوضاع.
-وكل ما في البيت له؟
-طبعا.
-وتلك المكتبة أيضا؟
-أيضا.
-وكتاب هنري ميشو الذي استعرته منك..هل هو له؟
-هو أيضا له..
تفاجئه أسئلتي التي تبدو لع غريبة بينما أصاب أنا بصاعقة الذهول وأدخل في حالة صمت لا يجد لها تفسيرا.
سألني مازحا:
-مالذي يزعجك أكثر أن يكون ذلك البيت له؟ أم أن يكون ذلك الكتاب له؟
أجبته بابتسامة غائبة:
-لا شيء يزعجني من كل هذا.. ولكن فاجأني..
-وأنت أيضا فاجأتني. هذه أول مرة تطلب فيها امرأة يدي. قبلك طلب العسكر يدي اليسرى وأخذوها في أحداث 88 مع آلة التصوير. أما اليمنى فما كدت أتحول إلى الصحافة المكتوبة حتى أصبح الإسلاميون يطالبون بها! تصوري: أنا رجل مزعج، اتفق الفريقان على قطع يديه. وعليك أن تقرري بسرعة إن كنت تريدينني حقا. قد يأتي زمن لن يتمكن فيه أحد في هذا البلد من طلب يد صحافي للزواج!

أضحك لهذه "النكتة" ولهذه الروح الساخرة التي يخفي بها دائما حزنه. ولكنه لا يشاركني الضحك.
أسأله:
-أنت قلمّا تضحك.. لماذا؟
-علمتني الحياة أن أبتسم عشر مرات قبل أن أضحك.. وأن أعيد صياغة كلماتي عشر مرات قبل أن أنطق بها، ولهذا اخترت في الماضي مهنة التصوير. الصورة لحظة صمت طويل.. إنها كالرسم، تجربة في الصمت.
-وماذا علمتك الحياة أيضا؟
-علمتني الصبر. أنا رجل من برج الصبر. وهذا آخر ما أريد أن أعلمك إياه.
يضع يده في جيبه ويخرج حاملة مفاتيح جلدية يضعها على الطاولة ويواصل:
-بيننا وبين المتعة مفتاح لا أكثر. ولكنني أرفض أن يتحكم هذا المفتاح فينا. وإلا فسيكون في هذا إهانة للحب. أنا لا أقل عنك اللحظة رغبة ولا إشتهاءً بل إنني أحوج منك إلى الحب، من حاجتك أنت إلى هذا الحبّ، وهذه المتعة ذاتها. ولكن عندما نبلغ ذلك القدر المخيف من اللذة، كل متعة لا تزيدنا إلا جوعا. وعلينا الآن أن نجرب لذة الامتناع، لنتصالح مع أجسادنا، لنعرف كيف نعيش داخلها عندما لا نكون معا.. ولنكتشف جمالية الوفاء عن حرمان.
أقاطعه:
- لا أفهم، لماذا أغريتني بالخيانة، إذا كنت ستطالبني بالوفاء.. عن جوع!
يردّ ساخرًا:
-أنت تسيئين فهمي مرة أخرى. أنا لم أطالبك بشيء. أعددتك للإخلاص، دون أن أطالبك بأن تكوني مخلصة لي..

-تمنيت أن تقول غير هذا. كان يسعدني أن تطلب مني ذلك..
-ولكن الإخلاص لا يُطلب؛ إن في طلبه استجداءً ومهانة للحب. فإن لم يكن حالة عفوية، فهو ليس أكثر من تحايل دائم على شهوة الخيانة، وقمع لها. أي أنّه خيانة من نوع آخر. ولذا أجد في تسمية الخيانة بالمغامرة قلبا للحقيقة. إنّ المغامرة الحقيقية هي الوفاء.. لأنها الأصعب حتما.
-لماذا الأشياء معك معقدة دائما إلى هذا الحد؟ أريد منك كلمات بسيطة. كتلك التي يقولها العشاق وهم على وشك غياب. كلمات جميلة في بساطتها. موجزة، مربكة، ممتعة، موجعة. كلمات تذهلنا، تخترقنا ولا تغادرنا، لكنك لا تقول شيئا من كلّ هذا.
-لا أريد لنا حبا يقتات بالكلمات، حتى لا يقتله عند البعد صمتنا. تريدين كلمات قرأتها في الكتب، وشاهدتها في الأفلام، ولكن أجمل مما قرأته وما شاهدته قصتنا.
توقف لحظة، ثم أضاف:
-عندما قرأت كتابك منذ ثلاث سنوات، تساءلت كيف يمكن لقصتي أن تبدأ حين انتهت قصة خالد، في السنة والأحداث نفسها؟ تراني فقدت ذراعي فقط لأمنح الحياة ترف مطابقتها لرواية، أم لأمنح الأدب زهو مواصلة قصة في الحياة ؟ أدركت الجواب عندما التقينا. لقد تواطأ الأدب والحياة، ليهديا إلينا قصة الحب التي هي من الجمال بحيث لم يحلم بها قارئ وكاتبة قبل اليوم. أنت نفسك كروائية تجاوزتك قصتنا لأنها أغرب من أن تجرؤي على تصورها في كتاب.
أجيب:
-أعترف بأنني ما كنت تصورت أمرا كهذا. برغم كوني حلمت دائما بقارئ يأتي ليقاصصني بكتاباتي. جميل كل ما يمكن أن يحدث لنا بسبب كتاب. ممكن أن نكرّم، يمكن أن نسجن، يمكن أن نغتال، ممكن أن نُحَبّ، يمكن أن نُكرَهَ.. يمكن أن نُقدَّس، يمكن أن نُنفى. فلا يمكن أن نخرج بحكم البراءة من كتاب. البراءة في هذه الحالات، ليست سوى شبهة أن لا نكون في الواقع كتّابًا. العجيب في قصتنا أن الحياة هي التي قرأتني وعاقبتني بتحويل ما كتبته إلى حياة. ربما لأنني كنت كاتبة بنزعات إجرامية، تجلس كل مساء إلى مكتبها، ودون شعور بالذنب، تقتل رجالاً لا وقت لها لحبهم، وآخرين خطأً أحبتهم، تصنع لهم أضرحة فاخرة في كتاب، وتذهب للنوم.
أصمت. ثم أواصل بنبرة غائبة:
كيف كان لي أن أعرف أننا في كل ما نكتبه نكتب قدرنا؟ لشدّة ما تأتي الحياة متنكرة في بساطة كتاب. في أي يوم، أمام أي نص، قد يكتشف أحدنا أن صفحة من كتاباته قد وقعت في قبضة الحياة.. وأصبحت هي حياته.
يتوقف فجأة عن التدخين ويسألني متهكما لفرط حزنه:
-هل لي أن أعرف إن كنت تنوين قتلي؟
أرد مازحة:
-طبعا لا. أنت بالذّات سأستميت في الإبقاء عليك حياً.
وأواصل كما لتأكيد قولي:
-ثمّ إنّ خالد لا يموت في تلك الرواية.
يقاطعني:
-أدري.. يموت زياد. ولكن لا أرى حولي أحدا. أصدقائي جميعهم قتلوا.. لقد حان دوري، أليس كذلك؟ أي رقم سيكون رقمي في قائمة الاغتيالات حسب رأيك؟
لا أدري إن كان يحدثني حقاً عن لعبة الكتابة، أم أنّ هاجسه الحقيقيّ كان الحياة، أو على الأصحّ الموت الفعليّ فيها مغتالاً ككلّ رفاقه.

وقبل أن أجيبه يضيف:
-حياة.. أجّلي موتي قليلا. ولكن أحبّيني وكأنني سأموت. لقد وقعت على اكتشاف عشقيّ مخيف. لا يمكنك أن تحبّي أيّ شخص حقاً، حتى يسكنك شعور عميق بأنّ الموت سيباغتك، ويسرقه منك. كلّ الذين تلتقين بهم كلّ يوم، ستغفرين لهم أشياء كثيرة. لو تذكّرت أنهم لن يكونوا هنا يوماً، حتى للقيام بتلك الأشياء الصغيرة التي تزعجك الآن وتغضبك. ستحتفين بهم أكثر، لو فكّرت كلّ مرة، أنّ تلك الجلسة قد لا تتكرر، وأنّك تودعينهم مع كلّ لقاء. لو فكر الناس جميعا هكذا لأحبوا بعضهم بعضا بطريقة أجمل.
أسأله:
-وهل تفكر فيّ بهذه الطريقة نفسها؟
يردّ ضاحكاً من ذعري:
-معك.. أوجدت فلسفة أجمل. أنا أعمل لدنياي كأنني سأراك غدا. وأعمل لآخرتي وكأننا سنموت معا! ولذا أنا أستعد كل يوم للقائك هنا.. أو هناك، بالتألقّ والشوق نفسه.
رد مع اقتباس
  #35  
قديم 07-13-2016, 12:43 PM
 
أتمتم:
-أخاف إحساسك هذا. أشعر وأنا أستمع إليك بأن حبنا استغفال للحياة، وأنه لم يبق لنا من الوقت سوى قبلتين وضمة.
-بل لنا متسع من العمر. وسأنتظرك في الحياة.. وفي الكتب. إن لحظة حب تبرر عمرا كاملا من الانتظار.. هل تعين هذا؟
-أحاول ذلك.. ولكن كل شيء ضدنا.
- الحب ككل القضايا الكبرى في الحياة، يجب أن تؤمني به بعمق، بصدق، بإصرار، وعندها فقط تحدث المعجزة. انظري مثلا بوضياف: رجل في الثانية والسبعين من عمره. قضى نصف حياته في مكافحة الاستعمار، والنصف الآخر منفيا من وطنه. رجل نُفِيَ حتى من الذاكرة الوطنية، أُلغي حتى من الكتب المدرسية. ثم جاء به التاريخ، رئيسا بعد ثمانية وعشرين عاما من المنفى. أليس هذا أمرا مذهلا.. ورائعا؟ صدقيني إنها قضية وقت فقط..
-ولكنني أخاف الوقت.. إنه عدو العشاق
-بل هو عدو الثورات، الكبيرة منها.. وتلك الصغيرة المرتجلة. جميعها يقتلها الوقت. وسننتظر موت الأوهام الثورية.


* * *


طبعا.. الوقت عدو العشاق.
ها هوذا يفرقنا. خطوات.. ويتوارى خيال رجل يعود إلى عتمته الأولى، مرتديًا سواده.
فأعود رفقة البحر مشيا على الأقدام. أمشي وتمشي الأسئلة معي. وكأنني انتعل علامات الاستفهام.
نيتشه كان يقول "إن أعظم الأفكار، هي تلك التي تأتينا ونحن نمشي" فأمشي.
ولكن كل فكرة يأتيك بها البحر، تذهب بها الموجة القادمة.
كنت أعتقد أن الرواية هي فن التحايل، تمامًا كما أنّ الشعر هو فنّ الدهشة. ولم أفهم كيف أنّ هذا الرجل الذي لم يكن مهيّأً لدور الشاعر، ولا لدور الروائي، تمكّن من إدهاشي، والتحايل على كلّ حواسي إلى حد جعلي أمّية أمام الرجولة.
كيف دون أن يدري، كتب هذه القصة على قياسي، في هذا الكتاب الذي غيّرنا فيه أكثر من مرّة، أماكننا وأدوارنا، كيف أصبح ذلك الصديق الغائب فجأة، هو البطل الرئيسي.
فقد بدا واضحًا الآن أنه الرجل الذي جلس إلى جواري عند مشاهدتي لذلك الفيلم، وأننّي ما فتئت أعيش بمحاذاته منذ ذلك اليوم. أشتمّ عطره.. أطالع كتبه.. أستمع إلى موسيقاه، أجلس على أريكته.. أتحدّث على هاتفه.. وأقع في حب بيته!
لم أفهم، كيف بغباء مثالي وقعت في فخ كل الإشارات المزورة التي وضعها الحب في طريقي.
وإذا بي أثناء وهمي باكتشاف رجل، كنت أكتشف آخر.
لا أدري في أية محطة، أخطأت قطار الحب "الأول"، فأخذت قاطرة أوصلتني إلى حب آخر.
كسائح شارد يأخذ الميترو لأول مرة، كمغامر يكتشف قارة دون قصد. في لحظة شرود عاطفيّ. أخطأت وجهتي. وقبلي أخطأ كولومبس، فاكتشف أمريكا. ومات وهو يعتقد أنه اكتشف الهند.
يا للروائيين، كما البحارة هم يموتون دائما في لحطة جهل!
قطعا..لم تصل.
أنت المسافر في كل قطار صوب الأسئلة. من قال إنّك وصلت؟ من قال إنك تدري أين هي ذاهبة بك الأجوبة؟ ف"الأجوبة عمياء ..وحدها الأسئلة ترى".
الوقت سفر..
مراكب محملة بالأوهام عادت، وأخرى بحمولة الحلم ذاهبة.
ضحك البحر لما رآني أبحر على زورق من ورق، وأرفع الكلمات أشرعة في وجه المنطق. عساني أعرف..كيف كل هذا قد حصل.

الوقت مطر..
غيمة تغادر الهاتف. وتأتي كي تقيم في حقيبتي. وخلف نافذة الخريف، مطر خفيف.. يطرق قلبي على مهل.
الوقت قدر..
يغلق البحر قميصه. يتفقد ليلاً أزرار الذكرى. يغلقها أيضاً بإمعان، حتى لا يتسرب الملح إلى الكلمات.
ثم يرتدي صوته الأجمل. يدير أرقام هاتف.. يسأل:
وتجيب امرأة:
-ألو نعم!
الوقت ألم..
لماذا نحن نقول دائما"نعم" عندما نرد على الهاتف.. حتى عندما يكون الوقت "لا"؟
الوقت "لا"..

في بهو الحزن الفاخر، تعلّمي الاحتفاء ليلاً بالألم.. كضيف مفاجئ.
هو ألم فقط.. فلا تستعدي له كما لو كان دمعك الأول.
متأخّر هذا البكاء، لحزن جاء سابقا لأوانه، كوداع.
فالوقت وداع..
يقول الحب: ألو.. "نعم"
وتجيب الحياة: ألو "لا". والملح يتسرب عبر خط الهاتف يجتاحنا. بين استبداد الذاكرة، وحياء الوعود. تتابع الأشياء رحلتها.. دوننا.


* * *


أغادر سيدي فرج فجرًا، قبل أن يستيقظ البحر، ويستبقيني بدمعة.
له كل ذلك الموج، ولي الملح، وطائرة تنتظر.
عندما جئت إلى هنا منذ أسبوعين، كان بودلير يرافقني بتلك المقولة الجميلة، التي كانت تستبقه إلى كل سفر "الشهوة تناديني.. والحب يتوجني".
الآن، أترك عرش الحب خلفي. فالشرعيّة تناديني.. وقسنطينة تنتظرني. والحياة التي استغفلتها وخرجت على قانونها، تعيدني إلى بيت الطاعة، متوجةً ببريق الذكريات.
أعود إلى قسنطينة، متحاشيةً النظر إلى هذه المدينة.
كنت أتمنى لو أراها بعيون بورخيس عندما يرى بوينوس آيرس بعينين فاقدتي البصر. عساني أحبّها دون ذاكرة بصرية.
أحيانا يجب أن نفقد بصرنا، لنتعرّف مدناً لم نعد لفرط رؤيتها نراها.
هنا شوارع نخاف من عيون عابريها، مطاعم لا نجرؤ على ارتيادها، بيوت لا يمكن أن ندخلها معا.
هنا.. مدينة لا تعترف بالحب، إلا في أغاني "الفرقاني". لا تغادر بيتها إلا لتذهب إلى المسجد، أو إلى مقهى. لا تفتح نافذة إلا لتطل على مئذنة.
وأنا جئتها بأعراض عشقية، وكلمات اسخيليوس في مواجهة أثينا:
"يا سيدتي.. تخلي قليلا عن الآلهة. واعطيني شيئا من شقائك العظيم.."
وهل أكثر شقاءً من عاشق في قسنطينة؟

زوجي قابلني بلطف مثير للشبهات، أو ربما أنا التي كنت أبالغ في تضخيم أخطائه. بل أتربص بها، ليمكنني فيما بعد، المبالغة بعدم الشعور بالذنب تجاهه.
بدا لي سعيدا بعودتي. أو ربما كان سعيدا، لأسباب أخرى. فمذ جاء بوضياف، عاد شيء من الأمان إلى قلوب الناس. وعادت الحياة الطبيعية إلى المدينة. ومعها تلك الحمى التي تسبق الصيف دائما، وتذهب بالعائلات أفواجا إلى مروج عين الباي، وجبل الوحش.
وبدأ الناس يجرؤون أخيرا على القيام بمشاريع قريبة أو بعيدة الأمد، مراهنين على خروج البلاد من النفق.
هذه الطمأنينة المباغتة، جعلتني أتعلّم الاستكانة إلى الوقت والمكان، واثقةً بكلام ذلك الرجل.
تراني تعلمت منه التفاؤل.. أم تعلمت التريث؟ حتى إنني كثيرا ما قاومت تلك الرغبة التي تستيقظ داخلي، وتغريني بالتحري لمعرفة من يكون عبد الحق.

ماكان يربكني هو كوني حيث كنت، أواصل العيش بمحاذاته مادمت حتى هنا، أتقاسم معه المدينة نفسها.
أحياناً.. كانت تذهب بي الأحلام، فأتصور مكاناً قد يجمعنا مصادفة، قد لا يتعرف إلي، برغم أنه قرأني، بل كتبني طوال هذه القصّة مادام هو الذي أهدى تلك الرواية لصديقه وأوصله دون أن يدري.. إليّ.
وحده كتاب هنري ميشو قد يدله عليّ. لو أنا أخذته معي. أما أنا فسأستدل عليه بصمته، أو بتلك الكلمات القليلة التي كانت ميزته، والتي كعطره، سربها لصديقه.
سأسأله:
-هل عرفتني؟
وسيجيب:
-طبعاً.
أو قد يجيب:
-حتمًا.
...الكلمتين الوحيدتين اللتين قالهما يوم جلس إلى جواري في قاعة السينما.
عندها سأعترف له:
-اشتقتك.. أتدري روعة أن نشتاق إلى شخص لم نلتقِ به؟
كنت أحلم، أتصور لنا أكثر من بداية. وأتصور لي أكثر من طريقة للعثور عليه. ثم أعدل عن أفكاري، وأنا أتذكّر أنني أكرّر معه مغامرتي مع صديقه بكلّ حذافيرها.

هذه المرة أيضًا، أنا أمام رجل لا أعرف اسمه. فعبد الحق ليس اسما عائلياً، ولا يكفي للعثور على صحافي، لا أدري في أية جريدة.. ولا بأية لغة يكتب، ولا بأي اسم يوقع مقالاته، في زمن أصبح فيه لكل صحافي اسمان.
في الواقع، كان يسعدني أن يكون هذا الرجل، لا أحد.
رجل لا اسم له بالتحديد. لا أوصاف، لا صفات مميزة، ولا أوراق ثبوتية.
فقد تعلمت من تجربتي السابقة. أنّ في ما نجهله جماليّة تفوق فرحتنا بمعرفة الحقيقة.
ولذا، قرّرت أن أترك موعدي مع عبد الحقّ للحياة، تتدبره كما تشاء. حتى لا أفقد عنصر المفاجأة.. وحتى لا أستعجل الخاتمة.
فعندما نعثر على الشيء الذي بحثنا دائما عنه، تكون بداية النهاية.
أما السبب الأهم لعدولي عن البحث عنه، فهو كوني كنت أجد في انشغالي الدائم واللاشعوري به، شيئًا من الخيانة المستترة، لذلك الرجل الذي قضى موعدنا الأخير، في إقناعي بالإخلاص، وكأنه كان يستبق الأحداث، أو كأنه كان يعرف عني في كتابٍ، ما يكفي ليحذر نزعتي لحبّ صديقين في الوقت نفسه.
ألهذا أعطاني من شراسة الحب وتقلباته، كما لو كان أكثر من رجل. وقال وهو يودعني على الهاتف ذلك الاعتراف الذي ألمني: "لا أملك إلا الحبّ.. لأردّ عنك خطره".
ما كدت أذكره، بذلك القدر من التفاصيل، حتى عاودتني حالة من الاشتهاء له، حاولت أن أهرب منها إلى الكتابة. ولكن..
لليد ذاكرة لا تنفك تطاردك بالسؤال عن جسد الفقدان. وأنا ما زلت لا أفهم، كيف أن جسده الذي لم يكن الأجمل.. أصبح الأشهى إلى حدّ إرباك سكينتي، ومنعي لأيام من الكتابة.


* * *

مر شهران..
كنت خلالهما أكتفي بوجبات الأحلام، ورشفات حبر سريعة، وأترك للآخرين ولائم الضجر.. وقهوة النميمة.
فمنذ الأزل، كانت عقدة النار، كيف التوحّد مع الماء. وأنا لم أتقن يوماً، فنّ هدر الوقت والجلوس إلى النساء. كنت سيدة الحزن، وكنّ خادمات لدى الفرح.
وأذكر الآن، تلك المقولة الجميلة "إن عظمة النار في كونها تحرق..وتحترق".وأفهم لماذا، كنت منذ الأزل، لا أجالس غير الرجال.
فمع النساء لم أكن أحرق سوى أعصابي..!
وبرغم ذلك، قبلت يومها، حضور دعوة لدى إحدى القريبات، احتفالا بنجاح ابنتها في امتحان ما.
كنا في نهاية حزيران. وكانت النساء من حولي يتبادلن أحاديث حول قهوة.. وأصناف من الحلوى. وكنت أهرب من ثرثرتهن، وأسترق النظر أحيانا إلى جهاز التلفزيون الذي كان مفتوحا.. لمزيد من الضجيج.
رحت أتابع بين حين وآخر، خطاب بوضياف الذي كان التلفزيون ينقله مباشرة، من دار الثقافة في عنابة. ولكن،لم يكن يصلني منه الكثير فاكتفيت بتأمّله، لأوّل مرة، دون أن أدري أنني أتأمل ذلك الرجل في حضوره الأخير.
حتى دون صوت، كان بوضياف يخترقك بعينين حزينتين، لهما ذلك الحزن الغامض، الذي يجبرك على أن تثق بما يقوله.
عينان تعرفان تدرّب الوطن على الغدر منذ الأزل. عينان تغفران وتنسيان، مذ داهمهما حزن المنافي، وإحساس عميق بخيانة الرفاق.
فلم يعد يغادرهما حزنهما ولا عادتا تقويان على الضحك.
وكان بو ضياف في وقفته الأخيرة تلك موليا ظهره إلى ستار القدر.. أو "ستار الغدر".
يبدو واثقاً وساذجاً وشجاعاً، وبريئًا.
فكيف لا يحصل له..كل الذي حصل؟
لا أدري عن أي شيء كان يتحدث لحظتها. أذكر أن آخر كلمة قالها كانت "الإسلام..".
وقبل أن ينهي جملته، كان أحدهم، من المسؤولين عن أمنه، يخرج إلى المنصة من وراء الستار الموجود على بعد خطوة من ظهره، ويلقي قنبلة تمويهية.. جعل دويّها الحضور ينبطحون جميعهم أرضًا .
ثم راح يفرغ سلاحه في جسد بوضياف، هكذا مباشرة أمام أعين المشاهدين، ويغادر المنصة من الستار نفسه.
كنا في التاسع والعشرين من حزيران.
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة وسبع وعشرين دقيقة.
وكانت الجزائر.. تتفرج مباشرة على اغتيال أحلامها.
كان الجميع ينتظر سيارة الإسعاف التي لم تأت.
وكان علم الجزائر الموجود على المنبر، قد أصبح مصادفة غطاء لرجل ينام أرضاً. جاء ليرفع رؤوسنا.. فجعلنا أحلامه تنحني في بركة دم.
ذلك كان قدر بوضياف مع حزيران الوطن.
منذ أربعين سنة، في الشهر نفسه، اقتاده رفاقه إلى سجون الصحراء.
ثم جاء به الوطن, كي يحكمه 166 يوما. وها هو يكافئه ذات حزيران.. بكفن!
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فوضى...ابتسامه قارب الغروب نثر و خواطر .. عذب الكلام ... 31 05-20-2017 07:56 PM
فوضى.......بقلمي jehan1970 أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 13 09-29-2011 09:03 AM
فوضى في المحاكم الأمريكية دارين! نكت و ضحك و خنبقة 3 11-29-2010 10:49 PM
###فوضى## ليالي الأنس أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 9 08-14-2009 12:13 AM


الساعة الآن 12:26 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011