عرض مشاركة واحدة
  #32  
قديم 07-13-2016, 12:29 PM
 
-ولكن.. كيف لم يأخذ حذره؟
-طبعًا كان على حذر. مذ حاولوا اغتياله منذ شهرين وفشلوا، وهو يغيّر عناوين نومه، ومواعيد قدومه إلى المكتب، والطرق التي يسلكها في العودة، والأماكن التي يرتادها. ولم يغيّر كلّ هذا شيئًا من قدره. لقد وصف كلّ هذا الرعب اليومي الذي يعيشه الصحافيّ في الجزائر هذه الأيام في نصّ جميل ومؤثر قبل أسبوعين من اغتياله. وأعادت الجرائد نشره اليوم في صفحاتها الأولى وهي تنعاه. ألم تقرأيه؟ لقد تناقلته معظم وكالات الأنباء.
قلت بنبرة خافتة:
-لا
فمضى. ثمّ عاد بجريدة أعطاني إيّاها قائلاً:
-إقرإيه إذن.. وستبكين صديقًا.
وما كدت أتوقف عند عنوان المقال "هذا السارق الذي.." حتّى أخذ مني الجريدة وراح يقرأ:
"هذا السارق الذي يتسللّ في الليل بمحاذاة الجدران، عائدًا إلى بيته. إنّه هو.
هذا الأب الذي يوصي أولاده، بأن لا يفضحوا في الخارج المهنة التي يتعاطاها. إنه هو.
هذا المواطن السيئ الذي يجرّ أذياله في قاعات المحاكم، منتظرًا دوره للمثول أمام القاضي. إنه هو.
هذا الفرد الذي يساق خلال مداهمة لحيّ، والذي يدفع به كعب بندقية إلى قاع شاحنة. إنه هو.
هو الذي يغادر منزله كلّ صباح، غير واثق بأنّه سيصل إلى مقرّ عمله.
وهو الذي يغادر عمله مساءً، غير متأكد من أنه سيصل إلى بيته.
هذا المشرد الذي لم يعد يعرف عند من يقضي ليلته. إنه هو.
إنه هو الذي، يتعرض للتهديد في سرّيّة إدارة رسمية.
الشاهد الذي ينبغي عليه أن يبتلع كلّ ما يعرف.
هذا المواطن الأعزل.
هذا الرجل الذي أمنيته أن لا يموت مذبوحًا. إنه هو.
هذه الجثة التي يخيطون عليها رأسًا مقطوعًا. إنه هو.
هو الذي لا يعرف ماذا يفعل بيديه، سوى كتاباته الصغيرة.
هو الذي يتمسك بالأمل، ضدّ كلّ شيء؛ ألا تنبت الورود فوق أكوام القاذورات؟
هو الذي كلّ هذا. وليس سوى صحفيّ".



ألقى بالجريدة على الطاولة المجاورة، ثمّ واصل:
-كيف أحمل حداد رجل كان في السابعة والخمسين من عمره، يواجه الموت بكلّ هذا العناد، ويصدر الجريدة الواحدة بعد الأخرى، في زمن لم يبق فيه أحد ليغامر بوضع توقيعه أسفل مقال؟ ويسمّي زاويته "مسمار جحا"، معلنًا أنّه باق هنا بنية إزعاج الجميع، ساخرًا من السلطة والإرهابيين على حدّ سواء.
سحب نفسًا من سيجارته، وواصل بنبرة محبطة:
لا أفهم، كيف يمكن لوطن أن يغتال واحدًا من أبنائه، على هذا القدر من الشجاعة؟ إنّ في الوطن عادة شيئًا من الأمومة التي تجعلها تخاصمك، دون أن تعاديك، إلا عندنا، فبإمكان الوطن أن يغتالك دون أن يكون قد خاصمك! حتى أصبحنا حسب قول عبد الحق.. نمارس كلّ شيء في حياتنا اليومية.. وكأننا نمارسه كلّ مرّة للمرة الأخيرة. فلا أحد يدري متى وبأية تهمة سينزل عليه سخط الوطن.
سألني فجأة:
-أتدرين لماذا طلبت منك الحضور اليوم؟
وقبل أن أجيب واصل:
-لأنني خفت أن أموت قبل أن أعيش هذه اللحظة!
قاطعته بشيء من العتاب:
-ما هذا الذي تقوله؟ نحن لسنا هنا لنتحدث عن الموت
ردّ بسخرية:
-طبعًا، نحن هنا لنلعب معه، لنتحايل عليه. ولكنه موجود في جدول تفكيرنا الباطنيّ. المتعة أيضًا.. كما عشناها منذ قليل، بتلك الشراسة وبذلك العنف، وكأننا على أهبة افتراس جسديّ متبادل، ليست سوى حالة تطبيع مع الموت لا أكثر. في زمن النهايات المباغتة، والموت الاستعجاليّ، والحروب البشعة الصغيرة التي لا اسم لها، والتي قد تموت فيها دون أن تكون معنيًا بها، الجنس هو كلّ ما نملك لننسي أنفسنا.
-والكتابة؟
-الكتابة؟ إنها وهمنا الكبير بأن الآخرين لن ينسونا!
-أتقول هذا لتجعلني أعدل عنها؟
-بل لأجعلك تعدلين عن الحلم، والأوهام الكبيرة. هذا الذي مات، صديقي الذي يوارونه في هذه اللحظة تحت التراب، الآن بتوقيت صلاة العصر، يسلّمونه للديدان، كان يؤمن أيضًا بجدوى الكتابة، وبأنّ عموده اليومي ضروري لتغيير المجتمع، وأنّ القارئ لا يمكن أن يبدأ صباحه دون تعليقاته الساخرة، ونكاته اللاّذعة. الآن، لم يعد بإمكانه أن يُضحك أو يتحدّى أحدًا. لقد ضحك عليه الموت وتحدّاه. هو الذي كان يتوهم أنه يغيّر العالم كلّ يوم ببضعة أسطر. ها هي الحياة تستمرّ بعده، والجريدة تواصل الصدور دونه، والناس الذين مات من أجلهم، سينسون مكانه في تلك الصفحة، حيث أقام لعدّة سنوات، ففي الصحافة كثير من نكران الجميل.
كلامه وضعني في حالة من الإحباط المفاجئ. أفقدني رغبتي في الجدل، أو حتّى في الحبّ.
"أكلّ هذا.. من أجل هذا؟"
كل هذه المجازفة، وهذه المخاطر، وهذا الترقب، وهذا التحايل، كي أخلو برجل يحدّثني عن الموت؟
قلت:
-كان من الأفضل لو كنت كائنًا حبريًا، وبطلاً وهميًا في قصة؛ هؤلاء على الأقلّ لا يغتالون، ولا يموتون، ولا نخاف عليهم من شيء. لماذا جئت إذا كنت رجلاً حقيقيًا؟
ردّ وهو يسحبني نحوه:
-جئت لأسرّب إليك الرغبة. جئت لإمتاعك، وإمتاع نفسي بك. هؤلاء لا يمكنهم أن يفعلوا هذا.. أليس كذلك؟
وراحت شفتاه في تقبيلي من جديد، باللّهفة نفسها، وكأننا التقينا توًا، أو كأنه انتبه فجأة لوجودي معه. برغم تلك الجثة الموجودة بيننا.
كان يحلو لي أن أتابع تقلّبات مزاجه العشقيّ.
أحاول أن أفهم ما الذي أثاره فجأة من جديد، ليجتاحني بكلّ هذا النّهم الجسديّ.
أتأمله في انشغاله بي، لم يكن جسده هو ما كنت أحبّ. بقدر ما أحبّ كرم رجولته، وأخلاق جسده.
كان لجسده ذلك الحضور السخيّ، الذي يعطي ويعطي كما هو الحبّ. كأنه يعوّض عن نقصانه بالعطاء. ثمّ يأخذ ويأخذ كما هي اللّهفة.
وكانت له تلك الرجولة التي تحسن التواضع أمام الأنوثة، وكأنّها مدينة لها بكلّ شيء.
فجأة ضمّني إليه وقال:
-سأعترف لك بشيء.. لا تضحكي منه!
وقبل أن أجيب واصل:
-حدث أن غرت من زياد. تصوّري لم أغر من زوجك يومًا.. وغرت من كائن حبريّ. تقاسم معي بطولة ذلك الكتاب. ما زلت أشعر أنّه وجد حقّا في حياتك. وأنّه سبقني إلى جسدك.
أضحك.. أقول:
-أيّها المجنون.. هذا الرجل لم يعد يوجد أبدًا. لقد أوجدته، لأنني أحبّ قصص الحبّ الثلاثية الأطراف. وأجد في قصص الحبّ الثنائية، كثيرًا من البساطة والسذاجة التي لا تليق برواية. ولذا كان يلزمني رجل يعيش بمحاذاة تلك القصة، قبل أن يصبح هو بطلها. لأنّ هذا هو منطق الحبّ في الحياة، نحن نخطئ دائمًا برقم.
-وبرغم هذا أحسده. كنت أريد لي قدرًا مطابقًا لقدره. حتّى إنني أحفظ أشعاره. ما زلت أحلم بحبّ كبير.. بقضية كبرى، وبموت جميل.
-ولكن انتهى زمن الموت الجميل. لم يعد بإمكان أحد الآن حتّى في رواية، أن يموت في معركة كبيرة. لقد أفلست جميع قضايانا، ولذا أحببت أن يموت زياد أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. تصوّر، هو الذي كان يحلم بالعودة إلى غزّة. لو عاش، لدخل اليوم مباشرة إلى سجونها. أو انتهى به الأمر شرطيًا فيها، يقوم بسجن وتعذيب فلسطينيين آخرين بتهمة المسّ بأمن إسرائيل. كم من الأوهام ماتت معه. فبعده، لم يعد ثمة شيء اسمه فلسطين.. سعيدة أنا من أجل الذين سيأتون بعدنا: لقد وفرنا عليهم أعمارًا لن ينفقوها في أوهامنا.
يصلح من جلسته. يترك رأسي على كتفه، ويشعل سيجارة.
يباشر بتدخينها في بطء قائلاً:
-دعينا من فلسطين.. أجيبيني: هل أنت سعيدة معي ؟
يفاجئني سؤاله. لا أدري كيف أردّ عليه أقول:
-حين نكون تعساء ندرك تعاستنا. ولكن عندما نكون سعداء، لا نعي ذلك إلا في ما بعد. إنّ السعادة اكتشاف متأخر.
يردّ ساخرًا:
-أيجب أن أنتظر الكتاب القادم، كي أعرف إن كنت سعيدة معي؟
أردّ ضاحكة:
-طبعًا لا.. بإمكاني أن أجيبك الآن. ولكن في الواقع تعلّمت أن أخاف السعادة. ما اكتشفتها مرّة إلاّ وفقدتها.
يجيب:
-ولذا عليك أن تعيشيها كلحظة مهدّدة. أن تعي أنّ اللّذة نهب، والفرح نهب، والحبّ.. وكلّ الأشياء
الجميلة، لا يمكن إلا أن تكون مسروقة من الحياة، أو من الآخرين. فالمرء لا يبلغ المتعة إلا سارقًا. في انتظار أن يأتي الموت، ويجرّده من كلّ ما سطا عليه.
أقول:
-أنت تذكّرني بفيلم "حلقة الشعراء الذين اختفوا". أتذكر ذلك المشهد الأول، عندما تحلّق الطلبة حول الأستاذ، ليتأملوا الصور المعلّقة على جدران الصفّ، لطلبة سبقوهم منذ أجيال إلى ذلك المعهد. عندما كان الأستاذ يردد "تأملوا هيأتهم وشبابهم الذي يشبه شبابكم اليوم. إنهم يقولون لكم.. استفيدوا من اليوم الحاضر.. لتكن حياتكم مذهلة.. خارقة للعادة.. فذات يوم لن تكونوا شيئًا.."
يعلّق دون اهتمام:
-أنا لم أشاهد هذا الفيلم.. ولكن أتوّقع أن يكون المشهد جميلاً..
أسأله دهشة:
-أحقًا.. أنت لم تشاهد هذا الفيلم؟
يجيب متعجبًا من نبرتي:
-أكان يجب أن أراه؟
ولا أجد شيئًا أبرر به اندهاشي أمام هذا الاكتشاف سوى كلمات مرتبكة:
-توقّعت أن تكون شاهدته.. فقد حصل على عدّة جوائز..
وأعود إلى صمتي. أستعيد قصتنا منذ البدء. أحاول أن أفهم: إن لم نكن قد التقينا في ذلك العرض، فمنذا الرجل الذي يا ترى جلس إلى جواري في ذلك اليوم.. بالعطر نفسه.. والصمت نفسه؟

كانت الأسئلة تذهب بي في كلّ صوب. عندما قطع تفكيري قائلاً كمن يعتذر:
-حدّثني عبد الحقّ عن هذا الفيلم. وعرض عليّ أثناء زيارتي إلى قسنطينة أن أرافقه إلى مشاهدته. كان يريد أن يكتب عنه مقالاً للجريدة. ولكنّني شغلت ذلك اليوم بأمور أخرى. فذهب لمشاهدته بمفرده. من المؤكّد أنّه لا يزال يعرض في قاعات بالعاصمة. سأحاول أن أحضره هنا، حتّى يصبح بإمكاني أن أتحدث معكما عنه، بدل الاستماع إلى كلّ واحد منكما وهو يروي مشهدًا من الفيلم.
ثمّ يواصل وهو يمرر يده على شعري:
-أيسعدك أن أراه؟
أجبته وأنا أضع قبلة على خدّه:
-حتمًا.
بدا لي فجأة أنني أستعمل معه لغة "عبد الحقّ". فلم أضف شيئًا إلى ما قلته.
بعد قليل، كنت أغادره. كان هو يعود إلى حداده. وأنا أعود –حتمًا- إلى أسئلتي!


* * *


ما كدت أخلو بنفسي ذلك المساء، حتّى فتحت الدفتر الأسود. متصفحة قصتي مع ذلك الرجل، كما كتبتها يومًا بعد آخر، على ذلك الدفتر.
رحت أستعيد بداياتها، أتوقف عند منعطفاتها، عساني أفهم، كيف ولدت هذه القصة. ومن أين جاءني هذا الرجل؟
كيف تمّكن خلال ثمانية أشهر أن يتهرب من كلّ أسئلتي، وينجو من كلّ مقالبي، ويعيش داخل هذا الدفتر، متنكرًا في رجل آخر، ثمّ يفاجئني بالحقيقة عندما يشاء هو.
ولكن أيّة حقيقة؟ أتلك التي باح لي بها؟ أم الأخرى التي لا يعرفها هو نفسه، والتي أوصلني إليها دون أن يدري، مؤكدًا كلامًا سابقًا له: "ليس ثمة من حقيقة واحدة. الحقيقة ليست نقطة ثابتة. إنها تتغير فينا وتتغير معنا. ولذا لم يكن ممكنًا لي أن أدلك إلا على ما ليس الحقيقة".
حبه أيضًا أصبح وسط التساؤلات، حقيقة متحركة. في الواقع، كان لنا زمن سريّ وذاكرة مشتركة، لشيء شبيه بالحبّ، عشناه معًا، حتّى قبل أن نلتقي.
هو قال "أجمل حبّ هو الذي يأتيك أثناء بحثك عن شيء آخر" وأنا صدّقته، ونسيت من انبهاري به عن أي شيء بالتحديد كنت أبحث يوم صادفته.
ها هوذا اليوم، في دوره الأخير، يصبح قارئي.
فكيف يمكن لقارئ أن يفعل بكاتبٍ كلّ هذا!؟
رد مع اقتباس