عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات طويلة

روايات طويلة روايات عالمية طويلة, روايات محلية طويلة, روايات عربية طويلة, روايات رومانسية طويلة.

Like Tree10Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #26  
قديم 07-13-2016, 12:27 PM
 
ربما ولدت لدّي يومها تلك الهواية السري، التي لم تأخذ بعدها الموجع في حياتي، إلاّ بعد أكثر من عشرين سنة، والتي استيقظت فجأة داخلي على أيام الانتفاضة الفلسطينيّة، عندما بدأت أقضي وقتًا طويلاً في تأمل صور الشهداء. تلك التي درجوا على أخذها فرادى أو مجموعات للذكرى قبل أية عملية انتحارية. والتي كانت تنشرها الجرائد في اليوم التالي لتعلن استشهادهم. وكنت أنا أحتفظ بتلك الصفحة من الجريدة.. عملية بعد أخرى. ثم لكثرتها قررت أن أجمعها في كيس وأضعها بعيدًا عن متناول يدي.. ومتناول نظري، كي أرتاح.
وكنت قد نسيت أمر تينك الصورتين، اللتين بعد انتقالنا من تونس إلى الجزائر، لم تعودا جزءًا من ديكور غرفة استقبالنا، التي أصبحت أكثر فخامة من أن تزينها صورتان في تلك البساطة. قبل أن أعثر عليهما مصادفة ، منذ سنة تقريبًا، في غرفة صغيرة فوق سطح بيتنا ، حيث تعودت أمي أن تخبئ أشياء تحتفظ بها ، منظمة ومرتبة و"مدفونة " في حقائب وصناديق حديدية ، من ذلك النوع الذي اندثر ،مذ أصبح الناس يسافرون على متن الطائرة ، والتي أتوقع أن تكون أمي قد استعملتها لنقل حاجياتنا من تونس إلى الجزائر سنة 1962 غداة استقلال الجزائر.
أذكر أنني عثرت على تينك الصورتين بفرح كبير، فقد أيقظتا في شيئًا ما ، أو زمنًا ما ، لفرط بعده، ولفرط صغري، بدا لي وكأنه لم يكن.
كانتا ضمن أشياء أخرى تحتفظ أمي بها هكذا، لكونها أهم من أن ترمى، وأقل أهمية من أن تشغل مكانًا في بيتنا.
ترددت يومها في تركهما لغبار النسيان، وكأنني لم أصادفهما. ثم ترددت في أن آخذ واحدةً دون الأخرى. فقد كانتا ذاكرة لزمن واحد. حتى إنه لم يكن بإمكان ذاكرتي البصريّة أن تفصل إحداهما عن الأخرى. ولذا قررت أن آخذهما معًا إلى بيتي، حيث أصبح لهما مكان ثابت في مكتبي.. أمام احتجاج أمي ودهشة زوجي.
لم أشعر برغبة في تقديم أية شروح أحد. فقد كانت تلك الذاكرة تخصني وحدي. وربما أنا وناصر لا غير.
ولكن ناصر أيضًا فاجأني بتعامله الصامت مع تينك الصورتين . وكأنه لم يكن ثالثهما.
ولم أشأ أن أستدرجه إلى اعترافات طفوليّة قد يكون ألغاها منطق الرّجولة تأملت فقط صمته أمامها، واستنتجت أنه ربما نسي ولعه الطفو لي بأحدهما، وولع الآخر الأبوي به، وأنه تركهما لي، ليصبحا قضيتي وحدي.
ولكن هاجسي الأول ظلّ هو. فهو رحل منذ أكثر من شهر، وأمي تطاردني بأسئلة عنه، لا أجد لها جوابًا.
_لماذا ذهب إلى ألمانيا؟ الناس يذهبون عادة إلى فرنسا.. أنا لم أسمع بأحد سافر إلى ألمانيا..
ولا ادري ماذا أقول لها. أنا نفسي لم أعرف بوجهته إلا منذ أسبوع.
كان ذلك عندما حدثني على الهاتف. وكنت أزور أمي مصادفة.سألته إذا كان كل شيء كما يريد. أجاب :" الحمد لله" سألته إذا كان له عنوان أو رقم هاتف نطلبه عليه فرد أنه سيتصل بنا كلما استطاع ذلك. فهمت أنه لا يريد أن يقول شيئًا على الهاتف. ثم سألني إن كانت أمي تقيم معي منذ سفره. أجبته أنها تصر على البقاء في بيتها . قال" لا تتركيها كثيرًا بمفردها إذن.." ثم أضاف للتأكيد " أرجوك..".
أمي رفضت منذ البدء، فكرة الانتقال للعيش معي في انتظار عودة ناصر. فهي ترفض ذلّ الإقامة عند صهرها. خاصّة أنها تملك شقة جميلة، وأنها متعلقة بكل أشيائها الصغيرة.
ولكنها، منذ ذلك الحين، أصبحت تزداد تعلقً بي. لا تكفّ عن زيارتي، أو طلبي هاتفيّاً ، واستشارتي في كل شيء، ومرافقتي إلى كل مكان، حتى بدأت أشعر من فرط حاجتها إلي بأنني أصبحت أنا أمها.
وكنت أتفهم حاجتها الدائمة إلى حناني. فهي التي ترمّلت في سن العشرين، وتيتّمت قبل ذلك في طفولتها، لا تفهم أن تطاردها الحياة حتّى ذريتها، وأن يكون قدرها أن تعيش بين ابنة عاقر.. وابن غائب.
وهكذا أصبحت أستمع برحابة صدر، إلى تذمرها، وشكواها، وثرثرة أمومتها. ولا أملك إلا أن أستسلم مكرهة لكل نزواتها. حتى أنني قبلت أن أرافقها بعد ظهر اليوم إلى " الحمّام التركي" برغم أنني لم أكن أشاركها يومًا حماسها لطقوس النظافة الأسبوعية، في هذا الحمّام الجماعيّ.
في الواقع كنت أتفهم منطقها. الحمّام هو المكان الذي يمكن أن تلتقي فيه بكل نساء المدينة. ومثلهنّ يمكنها أن تثرثر وتحكي ماجدّ في حياتها، وهي تباهي بمشترياتها الجديدة، وصيغتها، وثيابها التي لم يرها رجل.
تمامًا كما كانت في زمنٍ مضى تستعرض أواني الحمّام الفاخرة. من طاسة فضّيّة، ومشط من العاج والفضة بأسنان دقيقة، ومناشف فاخرة مطرزة، و"صابون ريحة" مستورد، وعطور، ومستحضرات لإزالة الشعر أو صبغة، وكثير من التفاصيل النسائية التي تعودت أن أراها في طفولتي مجموعة في سطل فاخر من الفضة المنقوشة، موجود دائمًا في ركن من الخزانة. جاهز للاستعراض الأسبوعي.
بعد عشرين سنة، لم تتغير الأشياء كثيرًا. صحيح أن السطل فرغ من محتوياته وانتقل الآن من خزانة أمي إلى الصالون، ليتحول وعاءً فاخرًا يحتوي نبتة خضراء تزين قاعة الجلوس.ولكن عقل أمي لم يفرغ تمامًا من محتوياته.. ولا من عقليّته الأولى. لقد تأقلم فقط مع لوازم العصر. ولم يعد هناك من ضرورة الآن لتلك الحقيبة المبطنة والمغلفة من الداخل بالساتان السماويّ، بأثواب أمي الحميمية، وتمتع بها أكثر مما تمتع بملمسها رجل.
وأذكر أنني في طفولتي، كثيرًا ما كنت أفتح تلك الحقيبة خلسةً، كما نفتح صندوق العجائب. وأجلس على طرف السرير. أحلم بذلك العالم النسائيّ الذي لم أكن أعرفه بعد.
أتفرج على أشياء أمي الصغيرة.. أحلم أن يكون لي يومًا جسد يشبه جسدها تمامًا، أملأ به كل تلك الأثواب الحميمية.
أحلم.. أحلم.ثم أغلق على جسد أمي في حقيبة. أعيد تلك الحقيبة إلى الخزانة. وأغادر مسرعة تلك الغرفة قبل أن تفاجئني أمي الأخرى. تلك التي لا جسد لها.
هيذي أمي" الحاجة" بجسدها الذي تغير منذ ذلك الحين، تسبقني كما في طفولتي. فألحق بها من قاعة إلى أخرى داخل الحمام دون جدل.
في تلك القاعات المتفاوتة التدفئة، والتي تزداد حرارتها كلما اتجهت نحو الأبعد، تصر أمي على القاعة الثالثة، الأشد حرارة. ولا أجادلها، رغم كراهيتي لهذه القاعات بالذات.
ألحق بها. أمشي رويدًا رويدًا على بلاط مائيّ، جاهز للتّزلج والتهشم.
أذكر أنني شاهدت يومًا امرأة، تقع أمامي.. وهي ممسكة برضيع، فيفلت من يدها، ويسقط ليموت بعد ساعات في مستشفى.
أدخل قاعة، يتصاعد البخار فيها من البرك الجدارية. ويعلو صراخ طفل هنا.. وضحكات نساء هناك.
أمام أول بركة، أجلس أرضًا،دون سؤال. أو بالأحرى بسؤال واحد:
لماذا منذ طفولتي الأولى، كنت أكره الجلوس في هذه القاعات العارية إلا من البخار والماء، والتي لا تؤثثها سوى أجساد نساء عاريات؟
ترى احترامًا للأنوثة، التي كنت أتوقعها أجمل من أجساد لم تعد لها من حدود ، ولا تضاريس "طبيعية"؟
أم لأنني منذ البدء، خلقت لأكون كائنًا من ورقٍ وحبر، تلغيه هذه الكميات الهائلة من الماء والبخار؟
تجلس أمي جواري. تضع أشياءها. أما أنا فلا أشياء لي، سوى ما تركته في الخارج من أثواب أحضرتها إكرامًا لها.. فيما لو التقينا بمن يعرفني.
تزعجني هذه الفكرة. فألف حول جسدي تلك الفوطة من جديد، وأعيد ربطها حول صدري تلقائيّاً.
ولكن صوت أمي يباغتني، يعيد كلمات أعرفها تمامًا، لفرط ما سمعتها في هذا الحمام نفسه، مذ أصبحت صبية تستحي من أنوثتها، وتختبئ داخل الفوطة بإصرار من يبعد عنه تهمة.
هنا أنت تتعلمين من عيون الآخرين، كيف تنكرين جسدك، وتضطهدين رغباتك، وتتبرأين من أنوثتك. فقد علموك أن ليس الجنس وحده عيبًا. وإنما الأنوثة أيضًا.. وكل ما يشبهني ولو صمتًا.
تصرخ أمي بي كعادتها" انزعي عنّا هذه الفوطة !" تقودني كلماتها إلى أسئلة جديدة.
تراها تظن جسدي أحد أملاكها الخاصة، لأنها أنجبتني؛ ومن حقها إذن أن تستعرضه أيضًا على الناس، كأحد إنجازاتها، واجدة فيه عزاءً وتعويضًا عما آل إليه جسدها هي؟
فجأة، وجدتني أعي أحد أسباب علاقتي المعقدة البعيدة بهذا المكان. ففي هذه المدينة التي ليس فيها أي مكان لما هو حميميّ وخاص، الحمام هو المكان الذي تنتهك فيه حرمة الجسد وحياؤه. تسلط عله الأضواء، والنظرات الفضوليّة للنساء. تتالى عليه الأيدي حكّاً ودلكًا وتشطيفًا، ساكبة عليه كميّات هائلة من الماء. وكأنها تريد أن تطهره من أنوثته.
فهل الأنوثة نجاسة؟ أم هل لهؤلاء النساء اللاتي يولدن ويمتن غالبًا، دون أن يتعرين تمامًا أمام رجل، علاقة شبقية ما بهذه الكميات الهائلة من الماء، التي يسكبنها على أجسادهن سطلاً بعد آخر، ساعات بأكملها دون توقف، بلذة غامضة ما، وبانشغال تام بتفاصيلهن النسائية، وكأنهن جئن هنا، ليكنّ على موعد مع أجسادهن لا غير؟ أم أن جميع النساء، هن على اختلاف أجناسهن وأعمارهن حفيدات"كليوباترا" تلك الأنثى التي حكمت بلدًا في عظمة مصر، دون أن تغدر حمامها تمامًا!
.. وأنهن يعتقدن ، عن صواب أو عن سذاجة،أنهن بعد كل حمام يعدن إلى بيوتهن ملكات، على عرش ليس سوى فراش الزوجية،عرش سيحملن تاجه لبضع لحظات_في العتمة_ ويعدن بعدها لحياتهن العاديّة.
العتمة..!
اكتشف الآن إحدى نعم العتمة. وأنا أتفرج على أجساد مشوهة الأنوثة، مترهلة البطون، متدلّية الصدور. وأفهم أن يكون الله ، بحكمته تعالى، قد خلق _ العتمة_ أيضًا ليمنح كل مخلوقاته حق ممارسة الحب في الظلام.
وإلا..فمن من الرجال، مهما جمحت به رغبته الجنسية.. أو حالته المتقدمة من السكر، سيقدر على مضاجعة نساء على هذا الشكل.. في عز النهار؟
أحتفظ بتلك التعليقات لنفسي، تمامًا كما أحتفظ بتلك الفوطة حول جسدي، وكأنني أرفض أن أختلط أو أحسب على هذا الرهط من النساء، اللاتي تجلس كل واحدة منهن الآن جوار بركة ماء، وحولها سيول سوداء، أو بلون الحناء، حسب الصبغة التي وضعتها على شعرها، والتي تقوم الآن بغسلها، محولة هي وغيرها بلاط الحمام، إلى "دانوب" متعدد الألوان.
وفجأةً، تدخل الحمام ثلاث نساء. متوسطات العمر، متوسطات الجمال، لكن بإغراء وبمظهر "مميز". فقد دخلن عاريات. شاهرات أنوثتهن في وجه الجميع، بينما العادة هنا أن تدخل جميع النساء بالفوطة ولا يخلعنها إلا وهن جالسات.
وفي لحظة، التفتت نحوهن الأعماق، وطاردتهن نظرات فضولية وأخرى شزرة من كل صوب.
أفهم من مسبات أمي ونعوتها لهن، أنهن مومسات. مومسات،
وهل مازال في هذه المدينة مكان لمهنة كهذه..؟ عدا أرصفة بعض الشوارع قليلة الحركة، حيث يحدث لبعض البائسات أن يقفن.
ينقسم تلقائيا، قاعة الحمام، إلى شطرين . النساء" الشريفات" من جهة، والنساء" المشبوهات" في الطرف الآخر.
الطرف الأول يلاحق الطرف الثاني بالتعليقات.. والغمزات.. ونظرات الازدراء، التي مصدرها إحساس مفاجئ بفائض عفة وشرف. بينما يتجاهل الثاني تمامًا وجود الطرف الأول. وتتصرف النساء الثلاث، وكأنهن بمفردهن. ويضحكن بصوت عالٍ ، ويتغاسلن.. ويتغازلن استفزازًا للأخريات.

وجدت لذة في وجودي الشاذ بين طرفين، دون أن أنحاز أخلاقاً لأحدهما دون الآخر.
وربما كنت سرًا أتسلى بكتابة بعض التعليقات في ذهني. هنا، وسط البخار والماء والشهوة.. والنفاق النسائي. فقد كنت على مسافة وسطية من العفة.. والخطيئة. هناك حيث يقف الكاتب.. وحيث يقف أي إنسان طبيعي.
فأنا أدري أن كل إنسان عفيف، يحمل في داخله قدرًا كافيًا من القذارة، قد تطفو يومًا فتغرق حسناته، تمامًا كما أن في أعماق كل إنسان سيء، شعلة صغيرة للخير، ستضيء داخله يومًا ، في اللحظة التي يتوقعها الأقل .
وأدري قبل كل هذا، أن بإمكان أية امرأة أن تغدو قديسة أو عاهرة في أي لحظة. لقد خلقت بنصفين معًا. ولكنها كلما انحازت إلى أحد نصفيها، تمادت في السخرية والتشهير بالنصف الآخر.
تهجم أمي على ذراعي، وتبدأ في دلكهما وحكهما بعد أن نفد صبرها، رافضة أن تسلمني إلى "طيابة".
رد مع اقتباس
  #27  
قديم 07-13-2016, 12:28 PM
 
النساء أيضًا كالشعوب؛ إذ هنّ أردن الحياة فلابدّ أن يستجيب القدر. حتّى إن كان الذي يتحكم في أقدارهنّ ضابط كبير، أو دكتاتور صغير في هيأة زوج.
حتّى الآن، لا أدري كيف استطعت إقناع زوجي بفكرة سفري إلى العاصمة للاستجمام على شاطئ البحر، في عزّ الشتاء!
وكيف لم يجد في سفر كهذا شبهةً ما.
أتذكّر تلك المقولة الساخرة "ثمّة نوعان من الأغبياء: أولئك الذين يشكّون في كلّ شيء. وأولئك الذين لا يشكون في شيء!".
أمّا زوجي الذي يملك من التذاكي المهنيّ ما يجعله دائمًا على حذر، فقد بدأ حياته الزوجية معي، كأيّ عسكريّ، بالتجسس والتحري والاشتباه في كلّ شيء.
ثمّ أمام غياب الأدلّة، أعطاني من الحرية ما فاجأني، أو ربّما بقدر ما يلزمه من الوقت كي ينصرف عنّي إلى مهامه، واثقًا من سطوة نجومه الكثيرة.. عليّ.
وهذه المرة ايضًا، من الأرجح أنه مشغول عنّي بالمستجدات السياسيّة، وأن لا وقت له للتجسس على مشاغلي النسائيّة، التي حتّى الآن، لم يكن فيها ما يستحق الإخفاء والحذر.
مشكلتي الآن مع "الآخرين"، أولئك الذين عوض التنصّت إلى الإرهابيين.. يتنصّتون إلى هواتف العشّاقّ!
ساعة في طائرة، لا أكثر، وإذا بي أبتعد عن قيودي بمئات الكيلومترات. وأعود إلى ذلك البيت نفسه الذي جئته منذ أربعة أشهر مع فريدة.
بيت أسميته بيت الحلم، فهنا كلّ شيء يصبح ممكناً كما في الأحلام.
ما كدت أصل، وأضع شيئًا من الترتيب حولي حتّى أسرعت إلى الهاتف. وجاء ذلك الصوت بحرارة هذه المرة يؤكد لي أنني لا أحلم.
-أخيراً أنتِ.. لو تدرين كم افتقدتك.. سأراك غدًا.. أليس كذلك؟
كلمات، وسؤال لا أكثر، ويصبح العالم أجمل، وتصبح الأسئلة أكبر. ولكن لا وقت لي للإجابة عنها؛ مأخوذة أنا بهذه الحالة العشقيّة.. مأخوذة حدّ الأرق.
مقولة لبودلير منعتني من النوم.
"كلّ إنسان جدير بهذا الاسم، تجثم في صدره أفعى صفراء، تقول (لا) كلما قال (أريد)".
قضيت ليلتي في محاولة قتل تلك الأفعى.
اكتشفت قبل الفجر بقليل أنّ "لا" أفعى بسبعة رؤوس، وأنك كلّما قتلتها، ظهرت لك "لا" أخرى، شاهرة في وجهك –لأسباب أخرى- أكثر من حرف نهي وتحذير.
وبرغم ذلك، غفوت وأنا أقرض تفاحة الشهوة، على مرأى من رؤوسها.
لي موعد مع "نعم". وكلّ شيء داخلي يعيش على مزاج "نعم".
صباح "نعم" أيها العالم. صباح "نعم" أيها الحبّ.
يا كلّ الأشياء التي تصادفني والتي اصبح اسمها "نعم".
يا كلّ الكون الذي يستيقظ جميلاً على غير عادته: من نقل إليك خبر "نعم"؟
أيّتها الأغاني التي يردده المذياع هذا الصباح.. وكأنه يدري ما حلّ بي. أيتها الطرقات المشجرة التي تمتد أشجارها حتى قلبي، أيتها الطاولات التي تنتظر على رصيف شتويّ عشاقها، أيتها الأسرة غير المرتبة، التي تنتظر في مدن "نعم" متعتها.
أيّها الليل الذي مساؤه "ربّما". صباحك "نعم". فكم كان مساؤك "لا" يا أيها المساء!
في اليوم التالي استيقظت من ليل تقاسمته مع بحر شتويّ هائج. وبداته بصباح مفخخ بأسئلة أمّي ومشاريعها.
ولكنني نجحت في إحباط كلّ برامجها المشتركة بكذبة. وذهبت نحو مشروعي الأجمل.
انطلقت بي السيارة ظهرًا، سالكة طريق الحبّ نفسه. الذي بدا لي أطول رغم سرعة السائق، ورغم خلوّ الطرقات هذه المرّة، من حواجز التفتيش.
شعرت بالاطمئنان، وأنا أرى الشوارع قد عادت إلى حياتها الطبيعيّة.
وفرغت من المتظاهرين، والملتحين، واختفت منها اللافتات، والهتافات.
ولذا، نزلت عند ساحة الأمير عبد القادر. وواصلت طريقي مشيًا على الأقدام.
رقم.. رقمان.. بناية.. بنايتان. وطوابق أربعة أصعدها بسرعة سارقة، وبلهفة عاشقة.
شوق يركض بي.. قلب تسرع دقّاته. وباب ينفتح من دقة واحدة، وينغلق خلفي.
باب يفصلني عن مدينة "لا" ويدخلني عالم "نعم".
رجل لا اسم له ينتظرني. يتأملني. يضمني. وقبلة خلف باب مغلق توّاً على فرحتي تسمّرني بين عالمين.
يسألني وهو يراني ألتقط أنفاسي:
-هل وجدت صعوبة في الوصول إليّ هذه المرّة؟
وأجيب:
-الأصعب كلّ مرة أن أجتاز هذا الباب..
ثمّ اواصل بعد شيء من الصمت:
-دخولاً .. وخروجًا!
يردّ بشيء من السخرية:
-ابقي هنا إذن!
أرتمي متعبة على الأريكة. أقول:
-احجزني رهينة عندك.. أيمكنك هذا؟
يجيب ساخرًا:
-كلنا رهائن.
-رهائن من؟
أتوقع أن يقول "رهائن الحبّ".. ولكنّه يقول:
-رهائن الوطن..
أردّ بشيء من العصبية:
-أرجوك.. دعني من السياسة. أنا لست هنا لأحدثك عن الوطن. أنت لا تعي كم أنا أجازف للوصول إليك.. فقط لأعيش لحظة حبّ.
-ولكن ليس ثمّة من حبّ خارج السياسة. ألم تفهمي هذا بعد؟
أصمت لأنني لم أفهم. ولا أريد أن أفهم. لماذا تصبح السياسة طرفًا ثالثأ في كلّ علاقة؟
لماذا تنام في سرير الأزواج، وفي سرير العشّاق؟
لماذا تتناول معنا فطور الصباح.. وكلّ وجبات النهار. وترافقنا إلى زيارة الأحياء والأموات من أهلنا؟
لماذا تسبقنا إلة مدن الحلم، وحال وصولنا، تجلس معنا على الأريكة. ولماذا تبعث بقريب إلى الغربة، وتعود متى شاءت بمن نحبّ؟
أقول:
-ربّما كنت على حقّ.. في النهاية السياسة هي التي عادت بك.
ثمّ أواصل:
-لحسن حظّ الحبّ.
-وماذا لو كان العكس؟
-لا أصدّق أن تكون قد عدت من أجلي..
-أنا لم أقل أنني عدت من أجلك.. لنقل إنني عدت كي نواصل كتابة الرواية معًا.. أليس هذا الذي يعنيك؟
-ربّما.. ولكن لا أفهم أن يعنيك أنت إلى هذا الحدّ.
يضحك:
-طبعاً يعنيني.. لأنني لا أريد أن أخلف نهايتي، أريد لنا نهاية جميلة.
-حقًا؟
-طبعًا.. مهمّة هي النهايات، في الكتب كما في الحياة.
أقاطعه:
-أتدري ما يعنيني الآن بالتحديد؟ يعنيني أن أعرف من تكون. ولا شيء غير هذا. منذ ذلك اليوم وأنا أشتري كلّ الجرائد، أتفحّص كلّ الصور، أطالع كلّ المقابلات السياسية التي يدلي بها أعضاء المجلس الوطنيّ. أعرف حياة الجميع. أقرأ تصريحاتهم جميعًا حول كلّ شيء، ولا أقرأ شيئًا لك.. لماذا؟
يردّ ساخراً:
-لهم نياشين الكلام.. ولي بريق الصمت.
-ولكن مع ايّ جهة أنت؟ إلى أيّ حزب تنتمي؟
يردّ:
-السؤال الحقيقي. هو عمّ انت منشق. وليس إلى أي حزب تنتمي.
لا أملك إلا أن أتبع منطقه في قلب الأسئلة. أسأل:
وعمّ انت منشق؟
يصمت وكأنّ السؤال فاجأه. ثمّ يجيب:
-لي أكثر من جواب عن سؤال كهذا. لنقل إنّني منشق عن أحلامي. أنا الشاهد الأخير يا سيدتي على الأفول العربيّ. قضيت عمري على شرفة الخيبة. أتفرج على غروب أحلامي وطنًا.. وطنًا، بما في ذلك وطني. أفهمت لماذا كان لابدّ أن لا أخلف نهايتي في هذه القصّة؟ تسألينني عن سرّ صمتي، أنا رجل كنت قبل مجيء بوضياف فارغًا بلا أحلام. كلّ أحلامي كانت خلفي.
-وأنا؟
-أنتِ؟
-أين تضعني في كلّ هذا؟
-أضعك تمامًا حيث أنتِ الآن.
-أي..؟
-أي على ورق. أحلامي معك، كمشاريعك معي لا تتجاوز مساحة صفحة. حتّى عندما تكون هذه الصفحة في حجم سرير. إنه قدرنا.

هذا الرجل يتقن الكلام، إلى درجة يمكنه معها أن يمرّ بمحاذاة كلّ الأسئلة، دون أن يعطيك جوابًا، أو هو يعطيك جوابًا عن سؤال لم تتوقع أن يجيبك عنه اليوم بالذات، وأنت تطرح عليه سؤالاً آخر.

وهكذا ها هو يجيبني عن سؤال كان يشغلني في البدء. بل كان سببًا لبدء هذه القصة، يوم كان همّي أن أعرف لماذا دخل هذا الرجل دير الصمت، واختصر اللغة حتّى لم تعد تتجاوز بضع كلمات تراوح بين "حتمًا" و"قطعًا" و"طبعًا" و "دومًا" وكأن كلّ الحياة يمكن أن تختصر بها.
لماذا حوّل العالم كلماتٍ قاطعةً، والحبّ كلماتٍ متقاطعةً، يصعب على أية امرأة أن تجاريه فيها أو تهزمه؟
وأنا التي دخلت معه هذه المبارزة اللغوية، ككاتبة تحترف الكلمات، وترفض أن يهزمها "بطل" في عقر دارها، وفي كتاب هي صاحبته، ها أنا أهزم أمامه شوطًا بعد آخر، وأتورط معه سؤالاً بعد آخر، بعدما أصبح كلّ سؤال يوصلني إلى أسئلة أخرى.

ومنذ البدء كنت أدري تمامًا أن الأسئلة توّرط عشقيّ. ولكن.. لم أكن أعرف أنه، مع هذا الرجل بالذات، تصبح الأجوبة أيضًا انبهاراً لا يقلّ تورطًا.
أحبّ أجوبته، وأعترف أنني كثيرً ما لا أفهم ما يعنيه بالتحديد. كثيرًا ما يبدو لي وكأنّه يحدّث امرأة غيري عن رجلٍ آخر. ولكنني أحبّ كلّ ما يقول، ربّما لأنني مأخوذة بغموضه.
أقول وأنا أعبث بيده:
-أحبّك.. حرّرني قليلاً من عبودّيتك.
يحتضنني ويسحبني نحوه قائلاً:
-الحبّ أن تسمحي لمن يحبّك بأن يجتاحك ويهزمك، ويسطو على كلّ شيء هو أنت. لابأس أن تنهزمي قليلاً.. الحبّ حالة ضعف وليس حالة قوة.
-ولكن..
-ولكن.. لأنك لم تعي هذا، أن تتكررين خطأً سبق أن ارتكبته في كتاب سابق.
أريد أن أسأله متى حدث هذا، وفي أيّ كتاب، ولكن شفتيه تسرقان أسئلتي وتذهبان بي في قبلة مفاجئة.. كأجوبته. فأستسلم لاجتياح شفتيه لي. وكأنني أريد أن أثبت له، مع كلّ مساحة تسقط تحت سطوة رجولته، كم، كم أنا أحبه.
في الواقع، لم أكن املك القوة، ولا الرغبة في مقاومته. كنت أجد متعتي في اندهاشي به، وهو يضع مفاتيحه في الأقفال السرّية لجسدي.
في المتعة كلمة سرّ، وشيفرة جسدية، تجعل من شخصٍ عبداً للآخر دون علمه. وهذا الرجل الذي لم يستعمل معي سوى شفتيه، من دلّه على متعتي، كي يسلك ممرات سرّية للرغبة، لم تعبرها شفتا رجل قبله؟
رد مع اقتباس
  #28  
قديم 07-13-2016, 12:28 PM
 
ثمّ فجأة وضع قبلتين متلاحقتين على فمي. كما يضع نقاط انقطاع بعد جملة مفتوحة، ونهض ليبحث عن علبة سجائر.
اغتنمت فرصة انشغاله. فاتجهت نحو الحمّام كي أجدّد هيأتي.
تأمّلت دون اهتمام تفاصيل أشيائه الرجالية، التي استوقفني منها على رفّ المغسلة، زجاجتا عطر من النوع نفسه، إحداهما مفتوحة، والأخرى مازالت مغلفة بورقها الشفّاف.
سحبت تلك المفتوحة. ورحت أتأملها بفضول من وقع على سرّ. تذكّرت كلّ تلك المرات التي كنت سأسأله فيها "ما اسم عطرك يا سيّدي؟".
تذكّرت أيضاً أن قصتي مع هذا الرجل، ولدت بسبب كلمة وعطر. وربما بسبب هذا العطر وحده. الذي لولاه لما استدللت عليه.
كنت لا أزال ممسكة بتلك القارورة، عندما عبر الممر، متجهاً نحو المطبخ.
سألته ممازحة، وأنا أجرب العطر على كفّي:
-ألأنني أبديت إعجابي بعطرك، أصبحت تشتري منه قارورتين دفعة واحدة؟
ردّ ضاحكاً:
-لا.. لقد أحضرت معي هاتين القارورتين من فرنسا.كلّما سافرت أحضرت واحدة لي، وأخرى لصديقي عبد الحق. في الحقيقة، هو الذي جعلني اكتشفه. إنه لا يستعمل غيره.
كنت على وشك أن أغادر الحمّام عندما عاد وكانه تذكر شيئاً. ثمّ قال وهو يمدني بتلك القارورة المغلقة:
-أعتذر، لأنني لم أحضر لك شيئاً معي. لقد عدت على عجل. هل تسمحين لي بأن أهدي إليك هذا العطر؟ يقال إن المرأة تحبّ استعمال عطر الرجل الذي تحبه.. ضعيه كلّما اشتقتِ إليّ.
قلت وأنا أتسلم منه تلك القارورة:
-لم أكن اعرف هذا.. تبدو لي الفكرة جميلة. ولكن أخاف أن تلزمني قارورة كلّ أسبوع إذا كان الأمر يتعلّق بالشوق!
ثمّ أضفت مستدركة:
-وصديقك؟
أجاب:
-لا تهتمي.. سأتّدبر أمره.
سعدت بتلك الهديّة. شعرت أنني أطوق هذا الرجل موعداً بعد آخر. أتسلل إلى عالمه الحميميّ من حيث لا يتوقع، وأسطو على كلّ ما قد يدلّني عليه.
عدت إلى قاعة الجلوس. كان يدخّن بهدوء على الأريكة المقابلة لي. وكأنه قرّر أن يتأملني. أو يتأمل ما فعله بي في عمر قبلة.
أخفيت تلك القارورة في حقيبة يدي، بفرحة تشبه تلك التي احسست بها يوم أخذت منه كتاب هنري ميشو. عساني أكتشف أخيرًا من يكون.
وجدتني أقول له دون تفكير وأنا أعيد الحقيبة إلى مكانها.
-أتدري ماهو اجمل شيء يمكن أن تهديه إليّ؟
ردّ وهو يواصل تدخين سيجارته، واضعًا قدميه على طرف الطاولة:
-ما هو..؟
قلت:
-الحقيقة! أيمكنك أن تهدي إليّ الحقيقة؟ من حقّي أن أعرف من تكون.
ردّ ساخراً:
-أجّلي خيبتك قليلاً!
واصلت بإصرار:
-ما اسمك؟ هل صعبٌ إلى هذا الحدّ أن تبوح لي باسمك؟
ردّ ضاحكاً:
-لا.. ولكن أيّ الاسمين يعنيك؟
قلت:
-وهل لك اسمان..؟ لماذا؟
ردّ:
-لأننا نعيش في عصر، حتّى الدول والأنظمة والأحزاب، غيّرت فيه أسماها في ظرف سنوات قليلة، وبجرّة قلم. أي بما يعادل لحظة من عمر التاريخ. في روسيا وحدها توجد ثمان وعشرون مدينة غيّرت اسمها. بما في ذلك لنينغراد. ولماذا لا نستطيع، نحن الناس البسطاء، أن نفعل ذلك عدما نغيّر معتقداتنا.. أو عندما يطرأ على حياتنا ما يغيّر مجراها؟
أتدرين.. تعجبني حكمة الصينيين، وذلك التقليد الجميل، الذي يتّبعونه في اختيار اسم جديد لهم، في آخ حياتهم. كأنهم، وقد خبروا الحياة، أصبح بإمكانهم أن يختاروا اسما يناسبهم لحياة أخرى. في النهاية، إنّ الأسماء التي تشبهنا تهبنا إيّاها حياتنا. أمّا تلك التي نأتي بها الحياة، فكثيراً ما تجور علينا. لنقل أنني أعجبت بهذه الفكرة، وقرّرت أن أكون رجلاً باسمين.
جوابه كالعادة لا يحمل أيّ جواب. وإنما قدرة مدهشة على تحاشي الأسئلة.
ولكنّني لا أستسلم. بل أطارده بإصرار.
-أعطني أيّ اسم شئت. أريد اسماً أناديك به.
يجيب بنبرة عادية:
-اسمي خالد بن طوبال.
أرددّ مذهولة:
-خالد بن طوبال؟ ولكن..
يقاطعني:
-أدري.. إنّه اسم بطل في روايتك.. أعرف هذا ولكنّه أيضًا اسمي..
أجلس على طرف الأريكة. أتفرّج على رجل أتعرّف إليه. وأستعيد آخر، عرفته يومًا في كتاب سابق. كان أيضًا رسامًا من قسنطينة.
رجل أعرف كلّ شيء عنه، كما لو كان أنا. ولم تفصلني عنه سوى الرجولة، وجسد شوّهت الحرب ذراعه اليسرى.
أيعقل أن يكون هو؟ أتأمله دون أن أصدق هذا. أتوقع أن يقول شيئاً. ولكنّه لا يفعل. يواصل تدخين سيجارته بالهدوء نفسه.
في لحظة ما، أشعر أنني أقترب من الحقيقة، ولا يفصلني عنها سوى سؤال واحد. "هل خالد بن طوبال هو اسمه الأول أم اسمه الثاني؟".
والجواب عن هذا السؤال سيكون مخيفًا وحاسمًا، لأنه سيقلب كلّ مقاييس هذه العلاقة، ومعها هذه القصّة. ولذا تماديًا في الغموض والمراوغة.. لا أتوقع أن يجيبني عنه بسهولة.
أسأله:
-هل هذا هو الاسم الذي يناديك به أصدقاؤك وزملاؤك في الشغل؟
يردّ:
-طبعاً.. وهو أيضًا الاسم الذي أوقع به مقالاتي.
ثمّ أمام دهشتي. يمدّني بجريدة على مقربة منه. ويدّلني على مقال سياسيّ يحمل توقيع خالد بن طوبال.
آخذ منه الجريدة غير مصدّقة لما أرى.
طبعًا، كنت توجست من مطالعتي لكتاب هنري ميشو أن يكون صحافيّا وأذكر تماما، ذلك البيت لهنري ميشو:
"في انتظار الشمس، تعلّم أن تنضج في الجليد".
والذي أضاف أسفله، بقلم أزرق (أو في جريدة)!.
ولكنّني لم أتوقف طويلاً عند البيت الآخر.
"ليس لي اسم
اسمي تبذير للأسماء"
والذي وضع تحته سطرين. وكأنه البيت الذي يشبهه الأكثر.
بقيت ممسكة بالجريدة، بينما واصل هو تدخين سيجارته متجاهلاً نظراتي. وربّما تماديًا في التجاهل، أشعل جهاز التلفزيون. وها هوذا يغرق في متابعة تحقيق أخباري حتّى كاد ينسى وجودي معه.
كان التلفزيون يعرض تغطية مباشرة للجولة التي يقوم بها بوضياف في الوطن، لشرح مبادئ التجمّع الوطنيّ. كان بوضياف يخطب ملوحًا بيده:
"إنّ في هذا البلد مافيا ومسؤولين استحوذوا على أموال ليست لهم. اعدكم بإعلان حرب حقيقية على هؤلاء. إن العدالة ستدرس كلّ الملفات. وستقوم بدورها. وإنني أطلب من المواطنين أن يساعدوا العدالة في ذلك.. أن يكتبوا إليها.. ويزودوها بكلّ ما لديها من معلومات..
لن يكون هناك بعد الآن من أحد فوق العدالة، العدالة ستطول الجميع. فمن حقّ الشعب أن يعرف الحقيقة. من حقه أن يعرف أين ذهبت أموال هذا الوطن.."
كان لكلمات بوضياف المرتجلة، في ذلك النقل المباشر، والتي ألهبت الحضور هتافات وزغاريد، ما جعل مزج جلستنا يتغيّر بعض الشيء، قبل أن يكسر ذلك الرجل الصمت بيننا.. ويتوجّه نحوي معلقًا:
-لن يتركوه ينجز ما جاء من أجله.. أنا واثق من هذا..
لا أدري بالتحديد ماذا كان يعني. فقد كان ذهني ما يزال مشتتّاً، ولكنّني سألته بنية مدّ الحديث:
-لماذا؟
أجاب بلهجة تهكمّية:
-لماذا؟ لأنهم لم يأتوا به ليفتح الملفات الملغومة، وإنما واجهة يواصلون خلفها حكم الوطن ونهبه. ولذا يقول المقربّون منه، إنه يغلق على نفسه ساعات طويلة في النهار والليل. إنه يبحث عن الحقيقة التي يريد أن يهديها إلى الشعب بعد ثلاثة أشهر.. بمناسبة عيد الاستقلال.
ثمّ يواصل بعد شيء من الصمت:
-تبحثين عن الحقيقة؟ الكلّ يبحث عن الحقيقة.. ولكنّ الكلّ يخافها. أتدرين لماذا؟
أتمتم:
-لماذا؟
يطفئ سيجارته في المنفضة ببطء، وكأنه يسحقها. ثمّ يقف فجأة، ويشرع في فكّ أزرار قميصه الواحد تلو الآخر بيد واحدة.
أتذكّر أنّني لم أره يومًا يستعمل معي إلا يده اليمنى. يذهلني هذا الاكتشاف المتأخر، والذي يعيدني إلى ذلك البطل في روايتي. وقبل أن اتمادى في تفكيري، أراه يلقي بقميصه على الأريكة المجاورة. ويواجهني بصدره العاري قائلاً وكأنّه يواصل الحديث عن أمر آخر:
-لأنّ الحقيقة تعبّر عن نفسها دائماً بشكل رديء!
ثمّ يتابع بعد شيء من الصمت:
-وأحياناً بشكل قاتل، حتّى عندما لا تتعدّى جريمتها قتل أوهامنا.
أنتبه فجأة لذراعه اليسرى. التي تبدو مصابة بشلل يمنعها من الحركة، بينما تظهر أعلاها بعض التشويهات، وكأنّ عملية جراحية أجريت لها في موضعين أو ثلاثة، دون أية مراعاة جمالية.
تنتابني قشعريرة، وحالة من الذعر، ليس مصدرها ما أرى. وإنما خوفي من أن أكون قد بدأت أجنّ، ولم أعد أعرف الفاصل بين الكتابة والحياة.
رد مع اقتباس
  #29  
قديم 07-13-2016, 12:28 PM
 
ردّ ساخرًا:
-لقد مارست دائمًا بجدارة صلاحيات الحبّ في التدمير!
قلت:
-بل مارست صلاحيات الكاتب في التخيّل ليس أكثر.
ردّ:
-كفّي عن التخيل.. كلّ الذي أجهدت نفسك في خلقه.. قد سبقتك الحياة إليه. الإنجاز الوحيد بالنسبة إلى كاتب، هو ما يتركه في كتابه من بياض.
كلّ صفحة بيضاء في كتاب، هي مساحة مسروقة من الحياة، لأنها تصلح بداية لقصّة أخرى أو كتاب آخر. ومن هذا البياض جئتك.. وليس ممّا تتوقّعينه أدباً.
قلت متحاشية الدخول معه في جدل:
-لا يعنيني أن أعرف من أين جئتني.. كلّ ما أدريه أنني أريدك.
ردّ ساخرًا:
حقًا.. توقعت أنك تريدين الحقيقة !
أجبته بشيء من العصبية:
-أيّ اعتراف تريد منّي بالتحديد؟
ردّ بالسخرية نفسها:
-أنا لا أريد منك أيّ اعتراف؛ يعنيني فقط أن تكوني صريحة مع نفسك، وتعترفي ولو لها، أن ما يحدث بيننا كرجل وامرأة يعنيك بالدرجة الأولى. وأنّ هذه القصة من دونه لا تستحقّ مشقة الكتابة.
-ثمّ؟
-ثمّ لا شيء.. عدا كونك تمّرين بمحاذاة هذه الحقيقة الكبرى، وتنشغلين بالبحث عن حقيقة أخرى، أقلّ أهمية، تدور كلّها حول سؤال واحد "من أكون؟".
السؤال الأهم في اعتقادي هو "لماذا أنتِ هنا؟".

حشرني في المربع الأخير للاعتراف. ولم أجد ما أجيب به سوى:
-أنا هنا.. لأن واجبي ككاتبة هو البحث عن الحقيقة.. وكامرأة.. من الطبيعيّ أن أبحث عن الحبّ. ولكنني معك لم أعد أحسن التمييز بينهما.
ردّ بنبرة أستاذ:
-سأدّلك على طريقة، تتعرفين بها عليهما دون خطأ. فالحقيقة تعبّر دائماً عن نفسها بشكل بشع، والحبّ يبدو دائماً أجمل مما هو!
كان يتحدّث إليّ، وهو يرتدي من جديد قميصه، ويده اليمنى تحاول بصعوبة إدخال تلك الأزرار.
وبدل أن أساعده على تزريرها، امتّدت يدي تخلع عنه القميص. وراحت شفتاي تتدحرجان على مساحة صدره. ثمّ تنزلقان نحو ذراعه الثابتة مكانها، فتكسوها قبلاً، بشراسة العشق الذي هو وحده قادر على جعل أية حقيقة.. جميلة في بشاعتها !

* * *


عندما غادرته، انتابتني أحاسيس متناقضة تراوح بين المتعة، والخيبة، والاندهاش الجميل والمؤلم في الوقت نفسه.
أن تذهب إلى موعد حبّ، وإذا بك مع شخص خارج توًا من كتابك، يحمل الاسم نفسه، والتشويه الجسدي نفسه لأحد أبطالك، وأن تبقى برغم ذلك على اشتهائك نفسه له، لا بدّ أن يترك في نفسك كثيرًا من فوضى المشاعر.. وفوضى الأسئلة، خاصة عندما ترى اسمه، كما اخترعته أنت، وأجهدت نفسك للعثور عليه، قد غادر كتابك، وأصبح مكتوبًا، أسفل مقال صحافيّ على جريدة، كاسم لرجل لا علاقة له بك، لولا تلك الخصوصية الثانية التي تذهلك: كيف يمكن أن يكون معطوب الذراع أيضًا.. كبطلك؟

ما يدهشني هو كون هذا الرجل، يواصل معي قصة بدأت في رواية سابقة، وكأنّه يعيد إصدارها في طبعة واقعيّة. من نسخة واحدة.
حتّى أنّه يوم قبّلني لأوّل مرّة، أمام مكتبته، قال "نحن نواصل قبلة.. بدأناها في الصفحة 172 من ذلك الكتاب.. في هذا المكان نفسه".
وعدت إلى كتبي، بحثًا في رواياتي عن الصفحة 172 في كلّ كتاب. وعثرت على تلك القبلة، مطوّلة مفصلّة، مرتجلة، كما حدثت ذات يوم بين ذلك الرسام، وتلك الكاتبة.
ثمّ عندما استعرت منه كتاب هنري ميشو، قال إنّه يخشى أن يكررّ معي حماقة حدثت في كتاب سابق، ملمّحاً إلى حبّ البطلة في تلك القصّة لصديق البطل.. بسبب كتاب.
أمّا أنا فانتبهت أنّني كنت أكرّر في الحياة تصرّفات تلك البطلة بعد قبلة، وأستعير كتابًا.
كلّ شيء كان يعيدنا منذ البدء، إلى تلك القصّة، بما في ذلك المدينة التي جمعتنا.
بل حتّى في حديثه عن الجسور.. وعن قسنطينة، ثمّة رجوع ما، أو تراجع متعمد، عن كلّ ما قاله ذلك الرسّام في تلك الرواية. وكأنّ المسافة الزمنية قد جعلته يراجع أراءه، ويصحّحها، عن خيبة وتطرّف عشقيّ.
وبرغم كلّ هذا، يبقى الأمر مربكًا. فأنا لا أريد أن أصدق أنّ ذلك الرجل الذي ما انفك منذ ستة أشهر يقلب حياتي رأسًا على عقب، هو خالد بن طوبال، ذلك الكائن الحبريّ الذي خلقته منذ عدّة سنوات. ثمّ نسيته داخل كتاب. ألقيت به إلى جوف مطبعة كما نلقي بجثة إلى البحر، بعد أن نثقلها بالصخور، حتّى لا تعود إلى السطح، ولكّنه عاد.
هذا الكائن أعرفه عن ظهر قلب. فقد عشت معه أربع مائة صفحة وما يقارب الأربع سنوات. ثمّ افترقنا. انتهى عمره مع آخر سطر. وبدأ عمري دونه منذ ذلك الحين.
ولكن من منا كان يبحث عن الآخر، خلال كلّ ذلك الوقت؟ ومن منّا ترى كان الأحوج إلى الآخر؟
أذكر مقولة لروائيّ سئل "لماذا تكتب؟" فأجاب ساخرًا "لأن أبطالي في حاجة إليّ.. إنّهم لا يملكون غيري على وجه الأرض!".
طبعًا كان يرواغ. ويقدّم اعترافًا بيتمه دونهم. فكلّ روائي هو في النهاية يتيم.. ومخلوق عجيب، تخلّى عن أهله، ليخلق لنفسه عائلة وهميّة، وأصدقاء وأحبّة، وكائنات حبرّية، يعيش بينها، مشغولاً بهمومها، محكوماً بمزاجها، حتّى لكأنّه لا يملك على وجه الأرض غيرها !
فأين العجب في أن يصبح هذا الرجل كلّ عائلتي، ويشغل مكان زوجي، وأخي، وأمي.. وكلّ من يحيطون بي؟!
في الواقع، كان عجبي الوحيد أن أتعلق بهذا الرجل بالذات، من بين كلّ من خلقت من أبطال، وإن يقع بيغماليون في حبّ تمثال خلقه بيده، وكان آية في الكمال، فهذا الأمر يبدو منطقيّاً، كما جاء في الأسطورة. أمّا أن يحبّ نحّات التمثال الذي أخفق في خلقه، ويحبّ روائي البطل الذي شوهه بنفسه.. فهنا تكمن الدهشة.
ذلك المساء.. توقّعت أن يكون في جلوسي إلى أمي الحلّ الأمثل للهروب من نفسي؛ فقد كنت أهملتها بعض الشيء، بعد أن أغريتها بالاتصال ببعض معارفها في العاصمة.. وأعددت لها برنامجًا على قياس حرّيتي.
كانت سعيدة، أو ربما بدت لي كذلك، وهي تحدّثني عن قريبة بعيدة، تعقد قران ابنها في نهاية الاسبوع، وتدعونا لحضور احتفال الزواج، ولم يعد صعبا أن أتوقع برنامجها للأيام القادمة.
أمّي تعيش دائمًا بين عرسين، أو حجتين، أو نذرين. وحيثما حلّت، تعثر على من يوشك أن يزوّج قريبًا، أو من له قريب عائد توًا من العمرة أو الحج. أو "شيخ".. يدعوها ل"وعدة" أو "زردة" !
وبرغم هذا، لم تكن سعيدة تماما، قد كان ينقص سعادتها شيء اسمه "ناصر".
قبل اليوم كانت تتمنى أن تزوجه، ويمتلئ البيت بكنّة تتحكم فيها. وبأحفاد تربّيهم وتتسلّى بهم.
أمّا الآن وقد رحل ناصر، فقد أصبح كلّ زواج يعيدها إليه، بل أصبحت لا تريد أكثر من عودته ليقاسمها ما بقي من العمر.
وأكثر ما كان يؤلمها في سفر ناصر أنّها لم تكن مهيأة له. فلا شيء في طبع ناصر ولا في نمط حياته، كان يوحي بأنه قد يأخذ قراراً مفاجئاً وحاسماً كهذا.
منذ سافر ناصر، من ثلاثة أشهر، وأنا أحاول أن أجيب أمّي عن السؤال نفسه الذي أخفي عليها دائمًا نصف حقيقته.
هي تسأل:
-لماذا سافر أخوك يا ابنتي؟ أخبريني؛ أنت يقول لك كلّ شيء.
وأنا أجيب:
-لقد سافر لأنه غير مرتاح في هذا البلد..يريد أن يجّرب حظه في الخارج مثله مثل الآخرين.. ولكنّه سيعود.. لقد وعدني بذلك.
-ولكن متى؟ بعد أسابيع؟ بعد أشهر؟ بعد سنوات؟
ولا أملك إلا أن أجيبها:
-عندما تهدأ الأوضاع قليلاً.. وتتحسن الحاله..
فتردّ:
-أية أوضاع؟ وأية حالة هذه التي ستتحسن؟ ألم تسمعي بما حدث منذ يومين في البليدة.. لقد روت لنا امرأة اليوم أنهم..
وأقاطعها:
-لا أريد أن أعرف.. لا تقصّي عليّ أيّ شيء أرجوك..
لم أكن أريد أن تفسد عليّ أمي ليلتي بأخبار الموت، كما تعودت أن تفعل ليلا، بين حين وآخر، عندما كانت تطلبني هاتفيا عن ضجر، أو عن خوف، ولا تجد ما تقصه علي إلا قصصا لم أشاهد مثلها حتى في أفلام الرعب.
وكانت قد شاعت فجأة بدعة تشويه الجثث، والتمثيل بها، كي لا ترتاح نفوس أصحابها، ولا تدخل الجنة، وكي يعتبر بها "الكفار" أو أولئك الذين يعملون في خدمة "الدولة الكافرة".
وهي صفة لا تعني غالبا، سوى رجال الأمن، وبعض البائسين من شرطة السير، الذين انقرضوا في بضعة أشهر رميًا بالرصاص، وذبحًا ومطاردة حتّى المقابر، حيث اغتيل العديد منهم وهو يرافق قريبا إلى مثواه الأخير.
أما أولئك "الأذكياء" الذين جاؤوا لزيارة موتاهم بعد يومين أو أكثر. فقد فوجئوا بمن ينتظرهم ليلا ونهارا خلف القبور، وذهبت بهم المفاجأة في مقبرة، فكل القبور هنا مفتوحة تنتظر تهمة لتنغلق على أحد.
فماذا يمكن لأمي أن تضيف إلى مسلسل الرعب الذي أتابعه مذهولة كل يوم، مثل كل سكان هذا البلد؟
فجأة سألتني أمي وقد عادت إلى هاجسها الأهم:
-هل ترك لك ناصر عنوانا في الرسالة التي بعث بها مع ذلك الصديق؟
قلت:
-أجل
قالت:
-اكتبي إليه إذن..
قلت:
-سأفعل حال عودتي إلى قسنطينة. فقد سألني عن أمور لا بدّ أن أراجعها هناك.
في الواقع، لم يكن قد سألني سوى عن أخباري وأخبار امي. ولكنني كنت فقط أريد إرجاء هذه الرسالة إلى ما بعد. فقد كان ذهني مشغولاً بأمر واحد: ذلك الرجل، تماما كانشغال أمي بأمر واحد هو ناصر. ناصر الذي أصبح يذكرها فجأة بأبي الذي غاب هكذا منذ أكثر من ثلاثين سنة مع حفنة من الرجال كي يخططوا لما سيسمى في ما بعد "ثورة نوفمبر".
ربما منذ ذلك الحين، أصبحت أمي تخاف الرجال الذين يرحلون هكذا فجاة، دون أن يتركوا عنوانا لغيابهم، ولا تاريخا لعودتهم؛ فقد لا يعودون، أو قد يعودون عندما لا ننتظرهم، لفرط ما انتظرناهم. في ذلك اليوم الذي لا نصدق ذلك الصوت الصغير الذي يردد على مقربة منّا، أنهم سيأتون، اليوم.. وربما الآن. ثمّ فجأة تحدث المعجزة، وتدقّ يد على الجرس. وينفتح الباب، على رجل متعب، مغبّر الثياب، يرفعنا كدمية نحوه، يضمّ جسدنا الصغير إلى صدره. يقبلنا.. يقبلنا.. ولا ندري لصغر سننا، أكان لحظتها يبتسم أم يبكي.

رد مع اقتباس
  #30  
قديم 07-13-2016, 12:28 PM
 
كتلك الحادثة المذهلة التي تحكيها أمّي، والتي حدثت يوم كنت طفلة في الخامسة من عمري، وكنا في شهر رمضان، وكانت أمي تعد "البريك" للإفطار، فرحت ألاحقها طالبة منها أن تعدّ واحدة لأبي، لأنه يحبه. وكانت تجيبني أنه غائب، ولا يمكنه أن يحضر. وأجيبها بعناد الأولاد "بلى سيحضر.. أعدّي له واحدة"!".
وما كدنا نجلس حول طولة الإفطار، حتّى دقّ الباب، وجاء أبي قادمًا من الجبهة، بعد غياب سنة تماماً. فقد كانت زيارته الأخيرة تعود إلى رمضان الفائت. لحظتها أجهشت جدّتي بالبكاء وهي تردد "لقد قالت لنا حياة إنك ستأتي.. ولم نصدّق!".
ولذا أتوقع أن تطاردني أمي بعد الان بالسؤال "متى يعود ناصر؟" معتقدة أنني ما زلت أملك تلك الحاسة السادسة أو ذلك الحدس الذي يملكه الأطفال دون غيرهم، والذي يدلهم على ما يجهله الكبار.
طبعاً، فقدت ذلك الحدس منذ زمن بعيد، من جملة ما فقدت من أشياء جميلة، تركتها خلفي، كلّما تقدم بي العمر.
ولو كنت ما زلت أملكه، لوجدت الجواب عن أسئلة كثيرة أخرى. كان أحدها في الماضي "متى يعود ذلك الرجل؟" وأصبح الآن "من يكون؟" و "متى أراه؟" وأين هي ذاهبة بي هذه القصة الغريبة؟

ما كدت أتذكره حتى انتابتني رغبة جارفة في الحديث إليه، وحاجة عجلى إلى سماع صوته، فانتظرت أن تنام أمي وذهبت لأطلبه.
ولكن طوال ربع ساعة، كان خطّ هاتفه مشغولاً دون توقف. وهو ما فاجأني وأزعجني. كأنني لم أتوقع أن يكون في حياة هذا الرجل شخص آخر، قد يتحدّث إليه ليلاً.
ثمّ دقّ الهاتف اخيراً، وجاء صوته:
-كيف أنتِ؟
-بي شوق إليك. رأيت أن أطلبك وكان خطك مشغولا طول الوقت.
-كنت في حديث مع قسنطينة.
-أما زال أهلك هناك؟
-لا.. كنت أتحدث مع صديقي عبدالحقّ.
-تتحدث إلى صديق؟ في هذه الساعة المتأخرة من الليل!
ردّ كمن ينفي شبهة:
-إنه رجل الوقت ليلاً.
-ماذا تقصد؟
-إنه صحافي يعمل ليلا في الجريدة.
-وهل ثمة من جديد؟
بدا لي وكأنه كاد يقول شيئاً. ولكنّه بعد شيء من الصمت، أجاب وكأنه يخفي أمراً:
-لا.. لا شيء
ثمّ.. بصوت غائب:
-وأنتِ؟
-أنا.. كنت أريد أن أسمعك.
صمت قليلاً. ثمّ قال:
-وأنا أريدك.
فاجأتني مباشرته. سألته متعجبة:
-حقًا؟ لماذا إذن استمتّ البارحة في الدفاع عن جمالية الحرمان؟
أجاب:
-يحدث أن نقول كلاما.. ليس تماما ما كنّا نريد قوله.
-وما الذي تريد قوله حقًا؟
-الليلة.. لا شيء. إنّي ثمل بالأضداد. لا تتوقعي منّي كلامًا منطقيًا.
-أمّا أنا.. فلي كلام كثير إليك. ولكن أصبحت أتحاشى المكاشفة. قد خوّفتني بالهاتف؛ ربّما كانوا يتنصّتون إلينا الآن.
ردّ ساخرًا:
-لا تهتمي.. ما فائدة السرّ إذا لم يسمع به الآخرون!
صحت:
-هل جننت؟
-لا.. ولكن ألا تحبّين جمالية الفضيحة في الحبّ؟
فاجأني استهتاره.. قلت:
-ولكنّني متزوجة..
ردّ قائلاً:
-أدري.. ولهذا أنا في كلّ لحظة أتزوجك وأقتلك.
-لماذا؟
-كي أشرّع حبك.. أريدك حلالي كي أمارس معك كلّ الحرام.
-وهل أنت في حاجة إلى كلّ هذا كي تحبّ امرأة؟
-طبعًا.. لقد حدث أن كنت رجلا بكثير من المبادئ.. وقتها كنت أشهى ما أرفض.
-ثمّ؟
-ثمّ لا شيء. الآن أريدك دون أسئلة. لم يبق من الوقت الكثير.
يصمت قليلا ثمّ يواصل:
-تعالي غداً. أريد أن أسرب إليك جنوني.
أسأله:
-وهل تعدني لو جئت أن تخبرني من تكون؟
يردّ:
-لا أعدك بشيء عدا المتعة.. وستأتين.
-لماذا أنت واثق إلى هذا الحدّ بقدومي؟
-لأنّ ثمة من يحوم حولي.. وقد يسرقني منك. ألا تشعرين بالغيرة من كائن قد يستحوذ عليّ إلى الأبد؟
أسأله غير مصدّقة:
-هل ستتزوج؟
يردّ بحزن مستتر:
-بإمكانك أن تسمّي هذا زواجاً.. مع اختلاف في بعض التفاصيل. إنه الارتباط الأبدي الوحيد الذي لا ننجو منه ولا نختاره.
لا أفهم ما يقوله. أستنتج أنه يمازحني، كي يحثني على المجيء.
أقول:
-سأجيء.. وبرغم هذا احذر غيرتي. أنا امرأة من برج الحمل. إنه برج يشكّل أكبر نسبة من مرتكبي الجرائم العشقيّة. وسآتيك بتحقيق يؤكد قولي..
يضحك.. يقول:
-تعالي.. قد أكون أنا من سيقتلك..!
لماذا يصرّ هذا الرجل على إضرام النار في جسدي وفي دفاتري؟ وما الذي غيّر قناعاته، هو الذي كان يقف دائماً على حافة الحرام، مكتفيًا بقبلة؟ وهل حقًا ثمة امرأة تحوم حوله؟ من تراها تكون؟ وكيف حدث هذا.. وأنا أتحدّث إليه يوميًا؟
حاولت أن أنام، وأنا أبحث عن أجوبة عن هذه الأسئلة. ثمّ تذكرت قوله "انتهى وقت الأسئلة" فأخفيت علامات استفهامي تحت الوسادة.
ورحت أحلم بالموعد القادم.

* * *



كان في انشغال أمي بذلك العرس هدية نزلت عليّ من السماء. فأمام معرفتها بمزاجي المضادّ للأفراح، وبعد اليأس من مرافقتي لها، ذهبت لحضوره بمفردها، وتركتني أستعدّ لتلك الأفراح السريّة التي كانت وحدها تعنيني.
كان الوقت ظهرًا عندما وصلت إلى ذلك البيت.
فتح لي ذلك الرجل الباب، بمزاج بحريّ. فقد بدا لي غامضًا، وغير متوقّع كما هو البحر.
قبّلني دون أن يقول شيئًا.
فجلست على الأريكة المقابلة له أتأمله.
قلت:
-فيك شيء من البحر.
قال:
-أكان لقبلتي مذاقه المالح؟
قلت:
-لا.. بل كان لها هدوؤه الكاذب.
لم يجب.
كان الصمت يجعلنا أكثر فصاحة. ذبذبات الرّغبة التي تعبرنا صمتًا تضعنا دائمًا في كلّ موعد في منطقة حزام الزلازل.
الشهوة حالة ترقّب صامت للجسد. ولذا كنّا نحبّ صمتنا المفاجئ هذا، ونخافه.
كان أذان الظهر يأتي من مئذنة بعيدة، بدا لي كأنّه يستمع إليه باهتمام خاصّ. فلم أجرؤ على التحدّث إليه.
ما كاد ينتهي حتّى وقفت. رأيته مشغولاً عنّي بتدخين سيجارة. قلت وأنا أهمّ بالتوجه نحو المطبخ:
-أيمكن أن أحضر ماءً؟ إنني عطشى.
ولكنه لم يجب.
امتّدت يده تستوقفني، وتجذبني نحوه. ثمّ سألني فجأة:
-أما زلت تحبّين زوربا؟
فاجأني سؤاله. بدا لي شبيهًا بتهمة حبّي لرجل آخر.
قلت:
-ربّما.
أجاب:
-بل تحبّينه. ما زال بك افتتان بكلّ ما هو رائع ومهلك. وبتلك الخسارات الموجعة التي تقلب المنطق.
قلت:
-أجل.
قال:
-تعالي إذن.. عندي لك ما يناسب مزاجك من متعة.
كان في نبرته شيء من الحزن الساخر الذي لم أفهمه.
كنت سأسأله ماذا كان يعني. ولكن، كان قد سحبني من يدي. وذهب بي نحو أسئلة أخرى.

في غرفة مجاورة، يؤثثها سرير شاسع، وتفترش الجرائد والكتب الملقاة أرضًا، زاوية من سجّادها المتواضع، تركني واقفة للحظات، واتجه نحو جهاز على مقربة من السرير وراح لدقائق يبحث بين الأشرطة عن شيء ما، قبل أن يضع شريطًا لديميس روسوس ويعود.
قلت وقد أربكني وجودي في غرفة نومه:
-يبدو أنك تحبّ الموسيقى.
أجاب وهو يسدل بإمعان ستار النافذة الوحيدة:
-إن الموسيقى تجعلنا تعساء بشكل أفضل... ألا تعرفين هذه المقولة؟
قلت:
-لا.
قال:
-إنها لرولان بارت.
ثمّ واصل:
-وهذا الشريط هل تعرفينه؟
قلت:
-أنا أعرف معظم أغاني ديميس روسوس... وأحبّ كلّ ما يغنيه.. ولكن لا أدري أيّ شريط هو هذا..
أجاب:
-أنا أيضًا لا أدري.. فقد وجدته هنا مع أشرطة أخرى.. ولكن على أحد وجهيه أغنية ستحبينها حتمًا.
لم أسأله أية أغنية يعنيها. فقد شعرت فجأة. أننا كنّا نستنجد بالموسيقى في محاولة لإنقاذ ما قد يلحق بنا من دمار إثر متعة قد تفضي بنا إلى حزن، لأكثر من سبب.
غير أنّ رغبة مخيفة في صمتها، وحواسّ في حالة تأهّب، كانت تجعلنا دون مناعة عاطفية، أمام صوت يوناني يغنّي بالإنكليزية، ببحّة الألم، خيباته العاطفية.
كنّا على مشارف قبلة، عندما جاءت تلك الموسيقى إيّاها. مباغتة لنا، زاحفة نحونا، متباطئة، كسلى، ثمّ متقاربة الإيقاع، بمزاجيّة الرغبات الطاعنة تناقضًا.
كخطى راقص على أرصفة الشغف، تحت مطر المساء، كانت الأقدام الحافية تنقل لنا إيقاعها العشقيّ منتعلة خفّة شهوتنا.
في حضرة زوربا.. خلع البحر نظاراته السوداء وقميصًا أسود، وجلس يتأملني.
رجل نصفه حبر، ونصفه بحر، يجرّدني من أسئلتي، بين مدّ وجزر، يسحبني نحو قدري.
رجل نصفه حياء.. ونصفه إغراء، يجتاحني بحمّى من القبل.
بذراع وحدة يضمّني. يلغي يديّ ويكتبني. يتأملني وسط ارتباكي. يقول:
-إنّها أوّل مرّة أطلّ فيها من نافذة الصفحة لأتفّرج على جسدك.. دعيني أراك أخيرًا.
أحاول أن أحتمي بلحاف الكلمات، يطمئنني:
-لا تحتمي بشيء. أنا أنظر إليك في عتمة الحبر، وحده قنديل الشهوة يضيء جسدك الآن. لقد عاش حبّنا دائمًا في عتمة الحواسّ.
أودّ أن أسأله:
-لماذا أنت حزين إلى هذا الحدّ؟
ولكنّ زوبعة بحرّية ذهبت بأسئلتي. وبعثرتني رغوة.. على سرير الشهوة.
كان البحر يتقدّم، يكتسح كلّ شيء في طريقه. يضع أعلام رجولته، على كلّ مكان يمرّ به.
مع كلّ منطقة يعلنها منطقة محتلّة وأعلنها منطقة محرّرة، كنت اكتشف فداحة خسائري قبله.
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فوضى...ابتسامه قارب الغروب نثر و خواطر .. عذب الكلام ... 31 05-20-2017 07:56 PM
فوضى.......بقلمي jehan1970 أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 13 09-29-2011 09:03 AM
فوضى في المحاكم الأمريكية دارين! نكت و ضحك و خنبقة 3 11-29-2010 10:49 PM
###فوضى## ليالي الأنس أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 9 08-14-2009 12:13 AM


الساعة الآن 11:19 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011