عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات طويلة

روايات طويلة روايات عالمية طويلة, روايات محلية طويلة, روايات عربية طويلة, روايات رومانسية طويلة.

Like Tree10Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 07-13-2016, 12:25 PM
 
يحتضنني من الخلف، كما يحتضن جملة هاربة، بشيء من الكسل الكاذب. فأبقى متكئة على الجدار حيث استدرجني منذ البدء، وقد خدرتني زوبعة اللذة، دون أن أسأل نفسي. ماذا تراه فاعلاً بي؟ تراه يرسم بشفتيه جسدي؟ أم يرسم قدري؟ تراه يملي عليّ نصي القادم؟ أم تراه يلغي لغتي؟
هذا الرجل الذي يكتبني ويمحوني بقبلة واحدة, أو حتى من دون أن يقبلني، كيف أقاومه وهو يعبر بشفتيه الممرات السرية للرغبة، ثم يجتاحني بشراسة مفاجئة، يلتهم شفتيّ مبتلعاً كلّ ما كنت سأقوله له؟
أكتشف أنه بدأ الآن فقط بتقبيلي. ممسكاً بي من شعري المنفلت في يده، خالطًا ريقي الممتزج بريقه.. مثيراً لعرقي الذي يطغى على عطره، قاطعاً لأنفاسي التي ضاعت في فمه، حتّى لكأنني أتنفس منه ومعه.
كنت أتمنى لو ضمّني إليه كي يمنعني من السقوط. ولكنه كان يتلذذ بانبهار أنوثتي به، حتّى أنه لم يستعمل لضمّي سوى ذراع واحدة.
ثمّ كما في قبلة عنقودية.. راح يضع على عنقي قبلات تنازلية متدرجة، متلاحقة، وكأنه يضع نقاط انقطاع عند نهاية نصّ قد يعود إليه ومضى.

رحت أستعيد أنفاسي. أتنبه للثوب الذي أتصبب تحته عرقًا، وأنا أراه يخلع جاكيته، يشعل سيجارة، ويجلس على تلك الأريكة لاحتساء قهوته.
عاودتني أسئلتي.. وأنا أنظر إليه
كما تقرأ غجرية الكف، رحت أقرأ هيأته. بحدسي وحواسي فقط.
لا يعنيني اللحظة أن أكتشف ماضيه، بقدر ما يعنيني أن أطالع قدري مكتوباً عليه، قدراً متعب الشفاه، فوضويّ الشعر، كسول الكلمات، مربك اللمسات، مباغت القبلات، متناقض الرغبات، كرجل في الأربعين.
يسألني:
-فيم تفكرين؟
أجيب:
-أحب الرجال في الأربعين
يبتسم.. يردّ:
-ولكنني لست الرجل الذي تتوهمين!
يلقي برماد سيجارته في المنفضة. ويمد نحوي يده:
-تعالي.. اجلسي قريباً مني
أتردد بعض الشيء قبل أن أعترف:
-إنني أتصبب عرقاً. أنا أرتدي هذه العباءة منذ ساعات.
أتوقع أن يقول اخلعيها مثلاً. لكنه يقول وهو يسحبني إلى جواره:
-أحب رائحتك.. لقد أحببت دائماً لغة جسدك!
ثم يواصل وكأنه يطمئنني:
-إن جسداً لا رائحة له.. هو جسدٌ أخرس!
أقول وأنا أجلس على مقربة منه:
-أخاف أن يأتي يوم يصبح فيه جسدي أكثر بلاغة مني!
يردّ:
-في جميع الحالات هو أكثر صدقًا منك.. فوحدها حواسنا لا تكذب
يواصل:
-لكن العجيب.. أنّ لي إحساساً ثابتاً بأنني قابلتك في بيت آخر، وقبّلتك في زمن آخر، وأنّ هذه الرائحة أعرفها من ضمة أخرى، وهذا المذاق خبرته في قبلة أخرى.. كيف تفسرين أنّ بإمكاننا أن ننسى الجسد الذي امتلكناه ولكننا لا ننسى الجسد الذي اشتهيناه.. ولم نمتلكه؟
طبعاً لم أكن أملك جواباً لأسئلة كهذه. خاصةً أنني لم أكن أبادله الإحساس بأن هذا قد حدث في زمن سابق.
أكتفي بالقول:
-جميلة هي هذه الحالة العالية من الرغبة. ثمة بطولة ما، في البقاء على قيد الوفاء.. لِوَهْم!
ولكنّه وضع رجليه على الطاولة المقابلة له وقال بشيء من السخرية وهو ينفث دخانه بيننا:
-أية بطولة؟ مازلت تأخذين الحياة مأخذ الأدب، لأن الناس يحبون القصص التي تنتهي بخيبة، والتي تكثر فيها المبادئ، ويصمد فيها "البطل" حتى الصفحة الأخيرة، لأنهم في الحياة عاجزون عن الصمود إلى هذا الحدّ..
وأضاف:
-انتهى زمن القضايا الجميلة. لقد خذلتنا البطولات في الحياة. فلتكن لنا في الروايات بطولات أجمل.
كلّ بطولات الفضيلة.. وكلّ انتصارات الحكمة. لا تساوي شيئاً أمام عظمة السقوط في لحظة ضعف أمام من نحبّ. السقوط عشقاً، هو أكثر انتصاراتنا ثباتاً!
يمسك بيدي كأنه يستوقفني يقول:
-هذه المرّة.. أريد لنا بطولات بسيطة وجميلة.. في متناول الجميع. كأن تكون لنا أطول قبلة في تاريخ الأدب الجزائري..
ثم يسألني أمام دهشتي:
-أتدرين بماذا فكرت وأنا أقبلك منذ قليل؟
قلت بفضول:
-بماذا؟
أجاب:
-فكرت أنّ الحياة بدأت معنا في تقليد الأدب. كأن الحبّ أومأ لنا، لنواصل في الحياة، قبلة بدأناها في كتاب سابق.
كما في تلك الرواية. ها نحن في موعدنا الأول نفسه. نواصل قبلة أمام المكتبة إياها. وأنت تستعيرين أحدها.
أحب مصادفة هذه القبلة العابرة للكتب، العابرة لقصّتين. تصوّري روعة قبلة يبدأها رجلٌ وهميّ في كتاب.. ويواصلها في الحياة رجل آخر، تطابق مع الأول حتّى لكأنّه يعرف مذاق شفتي هذه المرأة.
في زمن البطولات الخارقة، والصواريخ العابرة للقارات والأقمار العابرة للكواكب... قبلةٌ عابرةٌ للزمن، عابرة للروايات، تظلّ أهم إنجاز قد يفتخر به المرء.
أقول:
-جميل كلّ هذا.. ولكن لا أفهم لماذا تصرّ على تحطيم هذا الرقم القياسيّ بالذات. عادةً يزهو الرجال بتحطيم أرقام قياسية أخرى!
يضحك وكأنّ سؤالي فاجأه. يقول بعد شيء من الصمت وكأنه جمع كلماته استعداداً لمرافعة:
-لأن القبلة هي الفعل العشقيّ الوحيد الذي تشترك فيه جميع حواسنا. نحن في حاجة إلى حواسنا الخمس لتقبيل شخص. ولكن لسنا في حاجة إليها جميعها لنمارس الجنس. القبلة تفضحنا. لأنها حالة عشقية محض، لا علاقة لها بالرغبات الجنسية التي نشترك فيها مع كلّ الحيوانات.
ولذا، نحن قد نمارس الحبّ مع شخص لا نشعر برغبة في تقبيله. وقد نكتفي بقبلة من امرأة تمنحنا شفتاها من الحمّى، ما تعجز أجساد كلّ النساء على منحنا إياه!

تعلو وجنتيّ حمرة مفاجئة. أرتبك لهذه الكلمات التي يتكهرب لها جسدي. ولكنني لا أقول شيئاً، وكأنني أصبحت فجأة أخرى.
يرفع عن وجهي خصلة أسدلها الارتباك. يقول:
-مارست الحبّ كثيراً.ولكنني الآن أنتبه أنّني لم أقبّل امرأةً منذ زمن طويل، وأنّ عمر لذتي توقف على شفتيك عند الصفحة 172.
أوشكت أن أسأله، عن أي كتاب يتحدّث؟ وكيف يذكر رقم الصفحة بالتحديد؟ ولكنني لم أعد أجد لي صوتاً أضيف به شيئاً إلى ما قاله.
فأقف وكأنني أبحث عن جواب قد أعثر عليه واقفة.
قد يكون أساء فهمي. فقد نظر إلى ساعته وسألني:
-متى يحضر السائق؟
أجبته:
-إنه ينتظرني عند الخامسة.. في الشارع الخلفيّ.
ردّ:
-أمامك ربع ساعة. أنصحك بالذهاب.
لا أجادله في شيء. فأنا أعرف عادته في قطع موعدنا في لحظته الأجمل. كما ينقطع تيار كهربائي أثناء احتفال.
أضاف وكأنه انتبه لشؤون أنساه إياها الحبّ:
-الوضع سيء، وقد تحدث مواجهات في الساعات القليلة القادمة بين المتظاهرين والجيش.
سألته كمن يبحث عن عذر للبقاء.
-لماذا اليوم؟ لماذا الآن؟
قال:
-لأن زعيم الإنقاذ خطب اليوم واصفاً الشاذلي بأنه مسمار مزروع في كعب الجزائر لابدّ من اقتلاعه، وأنّ مسيرة من الملتحين تتوجه نحو القصر الرئاسيّ مطالبة بتقديم تاريخ الانتخابات الرئاسية.
سألني وهو يرى اندهاشي لهذه الأخبار:
-ألا تستمعين إلى الإذاعة؟
قلت كمن يعتذر:
-لا يوجد مذياع حيث أنا، ولأنك نصحتني بأن لا أطالع الجرائد.
فأنا معزولة عن العالم منذ أسبوعين، في ذلك المصيف.
رحت على مرأى منه أجدد هيأتي أمام مرآة. أضع من جديد ذلك الشال على رأسي.
أشياء حوله أحسدها. أتركها خلفي وأتجه نحو الباب.

استوقفني حاملاً ذلك الكتاب. قال مازحاً وهو يمدّني به:
-يبدو لي الآن أنني أتطابق مع خالد في تلك الرواية. ولكن لا خطر من إعارتك هذا الكتاب.. مادام ليس ديواناً لزياد!
عجبت لذاكرته، ولغمزته الساخرة، وأدهشني أن يعرف إحدى رواياتي إلى هذا الحدّ.
قلت وأنا أطمئنه:
-لقد مات هنري ميشو منذ عدّة سنوات. ولا خطر عليك منه!
ردّ مازحاً:
-لا أدري.. ولكنّني تعلمت أن لا أطمئن إلى قراءاتك!
ضحكت.
تذكّرت أن في تلك الرواية تستعير البطلة من خالد ديوان شعر لصديقه الفلسطيني زياد، الذي لا ينفك يحدثها عنه وعن شعره بإعجاب. مطمئناً إلى وجوده في الجبهة. ثم يصادف أن يحضر زياد من لبنان لزيارة باريس لبضعة أيام، فتقع البطلة في حب الشاعر وتتخلّى عن الراوي، الذي خسرها منذ بدأت في قراءة ذلك الكتاب.

أمام الباب الذي ما زال مغلقاً على سرّنا، ضمّني إليه دون أن يقول شيئاً. وكأنّ ذلك الشال الذي يغطّ رأسي أعادنا إلى خانة الغرباء.
افترقنا دون قبلة, دون سلام. كلمات قليلة فقط قالها وأنا أغادر البيت:
-أنتظر هاتفك.. اطلبيني حال وصولك لأطمئن إليك..
أجبت بصوت غائب:
-سأفعل..
توقفت لأنظر إلى الباب وهو ينغلق خلفي، على لحظة مسروقة من شرعيّة القدر. ونزلت الدرج بخطى سارق يرى في كلّ من يصادفه، عيوناً تشتبه في أمره. وهو نفسه يبدأ بالاشتباه في سعادته، وفي لذة وقد مضت، لم تعد تستحقّ كلّ تلك المجازفة. وفي لحظة حبّ وقد انتظرها طويلاً، وخطط لها عدّة أيام، وإذا بها في لحظة صغيرة، لا تتجاوز ما يستغرقه إغلاق باب من وقت، قد أصبحت خلفه.
أجل.. لا أتعس من عاشق يهبط الدرج!
أعود إلى البيت سالكة الطريق نفسه، ولكن بخوف أكثر، وحماس أقلّ. تسكنني فسحة غامضة للفرح.. وأخرى للندم.
أن تخلو بنفسك ساعتين في سيّارة يقودها سائق عسكريّ يعود بك من موعد حبّ، سالكاً شوارع الغضب وأزقّة الموت، ليس سوى سقوط مفجع نحو الواقع، ووقت كافٍ للندم.
يساعدك في ذلك زيّ التقوى الذي تلبسه. وإذا به يلبسك إذا بك تفكر ضدّ نفسك!
ولذا ما كدت أصل إلى البيت، حتّى أسرعت بخلع تلك العباءة، واعدتها إلى صاحبتها. عساني أتصالح مع جسدي.
منذ قرن، لكي تستطيع الكتابة، تبنّت جورج صاند اسمًا رجالياً، وثياباً رجالية. عاشت داخلها كامرأة. ولأنّ هذا لم يعد ممكناً، فأنا أستعير كلّ مرة ثياب امرأة أخرى، كي أواصل الكتابة داخلها.
رد مع اقتباس
  #22  
قديم 07-13-2016, 12:26 PM
 
-أنت ذاهب إلى قسنطينة؟
-لا.. إلى فرنسا.
أصرخ من جديد بعجب:
-إلى فرنسا! وماذا ستفعل هناك؟
يجيب ضاحكاً:
-ما يفعله الآخرون عندما يسافرون إلى هناك.
-ولكنّك..
يقاطعني:
-ولكنني لا أشبههم.. أليس هذا ما تعنينه؟ أنا كائن حبريّ أسافر بين دفاترك ومعك فقط. ومن قسنطينة إلى العاصمة.. لا أكثر. وليس من حقّي أن آخذ تذكرة سفر لشخص واحد.. ولوجهة ليست وجهتك.
يصمت ثمّ يواصل:
-ولكنني لست البطل الذي تتوهمين. أبطالك لا يمرضون ولا يشيخون، وأنا متعب ومريض يا سيدتي.
أقول بخوف مفاجئ:
-ممّ تعاني؟
يردّ متهكماً، كما لفرط حزنه:
-أعاني الوقوف.. لقد قضيت عمري واقفاً، لأنني لا أحسن الجلوس على المبادئ.
لا أريد أن أتعمق في فهم ما يقوله. سؤال واحد يعنيني:
-ومتى تعود؟
-لا أدري.. أنا رجل عابر.
-ولكنني معنية بحياتك..
يجيب ساخراً:
-أيّ حياتيَّ تعنيك؟
أصمت لا أفهم ما يقصد.
يواصل:
-أنا لم أوفق في حياتي. ولذا أصبحت أمنيتي أن أوفق في موتي. أيمكن أن تهدي إليّ موتاً جميلاً.. إذا ما خذلتني الحياة في المشهد الأخير؟
أصرخ:
-ما هذا الذي تقوله؟ لقد كنّا منذ ساعات قليلة سعيدين، نتحدث عن الحبّ. ما الذي أوصلك إلى هذا التشاؤم؟
يضحك:
-ولكن لأن الحب يعنيك.. لا بد أن يعنيك الموت أيضاً. فالحب كالموت. هما اللغزان الكبيران في هذا العالم. كلاهما مطابق للآخر في غموضه.. في شراسته.. في مباغتته.. في عبثيته.. وفي أسئلته.
نحن نأتي ونمضي، دون أن نعرف لماذا أحببنا هذا الشخص دون آخر؟ ولماذا نموت اليوم دون يوم آخر؟ لماذا الآن؟ لماذا هنا؟ لماذا نحن دون غيرنا؟ ولهذا فإنّ الحبّ والموت يغذيان وحدهما كلّ الأدب العالمي. فخارج هذين الموضوعين، لا يوجد شيء يستحق الكتابة.

يستدرجني كلامه إلى حالة من التفكير، فأغرق في صمت يقطعه من جديد صوته:
-أتدرين بماذا فكرت وأنا أقبلك اليوم؟
-بماذا؟
-فكرت.. أنه إذا كانت كلّ القبل مثلنا تموت، فالأجمل أن نموت أثناء قبلة.
-عجيب.. هل تصدق أنني عندما عدت، كتبت على دفتري "ثمة قبل إن لم نمت أثناءها فنحن لسنا أهلاً للعيش بعدها".
يسجّل لحظة صمت وكأنه يتعمق في هذه الفكرة أو يتذوقها. ثمّ يقول:
-لقد أدركت وحدك.. أنه دون ملامسة الموت. لا توجد حالة حبّ شاهقة بما فيه الكفاية لتسمّى عشقاً.
أصمت وكأنني تلميذة تحاول أن تحفظ كلّ ما يلقنها أستاذ. لا برنامج دراسياً له عدا مزاجه المتقلب، وعليها أن تستوعب في يوم واحد، درساً في الرغبة، وثانياً في الموت، وثالثاً في الحبّ، وآخر في فن التخلي عن امرأة، قبلناها بكلّ ذلك الشغف.. ونغادرها بهذا القدر من اللامبالاة!
هذا كلّ ما علق في ذهني من هاتفه.
لا أذكر أنه قال بعد ذلك كلمة حبّ معينة. أو أنه ترك لي رقم هاتف آخر. أو عنواناً بالتحديد.
قال فقط، إنه يحمل معه رائحة الوقت المسروق. وأضاف معتذراً أنه يريد أن ينام ليستريح استعداداً للسفر.
وفهمت أنه سيكون بإمكاني أن أطلبه غداً، حين أستيقظ، لنتحدث مرة أخيرة في هذه التفاصيل.
ولكن في اليوم التالي، كانت الساعة السابعة صباحاً. كنت أستيقظ من ليلة مضطربة، عندما طلبت ذلك الرقم وأنا نصف نائمة.
كان الهاتف يدقّ بطريقة شبيهة بالبكاء.. ولم يكن ثمة من أحد ليوقف بكاءه على الطرف الآخر للذاكرة. إنها ملهاة الحبّ الدائمة التكرار.
الآن فقط، يمكن للصمت أن يبكي.
رد مع اقتباس
  #23  
قديم 07-13-2016, 12:26 PM
 
حتمًا
ــــــــــ


نأتي الحب متأخرين قليلاً، متأخرين دومًا.
نطرق قلبًا بحذر، كمن مسبقًا يعتذر، عن حب يجيء ليمضي.بصيغ مغايرة، يعيد الحب نفسه، ببدايات شاهقة لأحلام.. وانحدارات مباغتة الألم. وعلينا أن نتعلم كيف ننتظر أن يوصلنا سائق الحب الثمل إلى عناوين خيبتنا.
حتمًا.. نضج الحلم. ولكن الزمن هو الذي لم يستو بعد. فما جدوى أن يبلغ القلب رشدًا سريعًا؟!
جاء العيد.. ولقسنطينة عيد آخر.
أعود إليها بقلب متعدد الانكسارات. ها أنا أنهض من تحت أنقاض الحلم. أتنفس من تحت ركام هائل من الأوهام.
وهاهي تفاجئني بوجه لا أعرفه . وقد تراكمت فيها القمامة على امتداد الشوارع بعد أن أضرب فيها عمّال البلديّة والتنظيفات الذين صادر الإسلاميون شاحناتهم المخصصة لنقل النفايات، لإرغامهم على الإضراب المفتوح.. مما جعل القطط هي المحتفلة الوحيدة بالعيد.
أستعجل العودة إلى بيتي. حيث أنا لا شيء يصلني سوى ضجيج المدينة التي تستعدّ لفرحها..و"ثغاء" الخرفان التي تنتظر فجرًا موتها.

أكره الأعياد. وهذا العيد كان أكثر الأعياد حزناً. كان عيد الغياب.
انتابني هذا الإحساس، وأنا أستيقظ ذلك الصباح، فلا أجد أحداً في البيت لأعايده عدا الشغّالة. ولا أحد يمكن أن أطلبه على الهاتف، عدا زوجة عمّي أحمد التي زادني سماعها حزناً. وأيقظ إحساسي بالذنب تجاهها.
زوجي كان قد غادر البيت باكراً. تحسّبًا لمظاهرات أو لأحداث طارئة قد تحدث بعد صلاة العيد. فريدة ذهبت كعادتها لقضاء العيد مع أهلها. " مّا " لم تكن قد عادت بعد من الحجّ.. وناصر لم يكن في البيت ليردّ على هاتفي. والخرفان نفسها التي كانت في البيت، لم تعد هنا. ولم يبق منها سوى آثار دمٍ على الأرض، وجثّة معلقة يتسلى الجزار بسلخ جلدها.

ماذا يفعل الناس صباح عيد الأضحى غير الانقضاض على لحوم الخرفان سلخاً وتقطيعاً.. وتقسيماً. فهنا لا يمكن لأحد أن يتصور عيد الأضحى دون أضحيّة. مهما كانت إمكانيّاته الماديّة، أو نوع البيت الذي يسكنه.
ولذا تعودت أن أراهم صباح العيد مسرعين جميعهم: الرجال نحو الذبائح..والنساء نحو المطابخ، يقسّمن أجزاء الشاة حسب حاجتهنّ ويتصدقن بما زاد عنهنّ.
هذا العام أتوقع أن تكون الحاجة إلى الصدقات قد زادت، بعدما تجاوزت أسعار الخروف، العشرة دينار جزائري. وهو ما جعل أضحية العيد تفوق ثمن الإنسان نفسه،الذي لا يكلّف هذه الأيام أكثر من رصاصة..

أطلب زوجي على الهاتف لأعايده. أشعر أن هاتفي يفاجئه وربما يسعده. أسأله إن كان أرسل شيئًا إلى بيت عمّي أحمد.. يقول أنه نسي ذلك، نظراً إلى مشاغله. أجيبه أنني سأتكفل بالأمر. وقبل أن أواصل كلا مي يدق في مكتبه هاتف آخر.. ويتوقف بيننا الكلام.
أطلب من السائق أن يأخذ نصف الشاة إلى بيت ذلك المسكين. ثمّ ألحق به.. وأطلب منه أن يوصلني قبل ذلك إلى المقبرة.
لم يحدث إلاّ نادرا أن زرت قبر أبي صباح العيد. كنت أحب أن أذهب إليه وحدي. كما نذهب إلى موعد حبّ.
أكره أن أزوره في المناسبات. ربما من كثرة ما تقاسمته مع الآخرين، كتلك المرات التي أعبر فيها شارعاً أو مدرسة تحمل اسمه، فأشعر باليتم يجتاحني، ويكاد يغطي على زهوي بحمل الاسم نفسه.
كان بيني وبين هذا الرجل، الذي يقيم تحت هذا الرخام، تواطؤ ما. ولذا صنعت له ضريحاً صغيراً داخلي، لا علاقة له بوجاهة مقامه هنا، ضريحا كان يكبر معي سنة بعد أخرى. وإذا به في غيابه، أكبر مما حولي من أحياء.
كنت أجلس إليه بين الحين والآخر، كما تجلس النساء إلى ضريح الأولياء، يشكون همومهن،ويستنجدن ببركات الأموات على مصائب الحياة.
رد مع اقتباس
  #24  
قديم 07-13-2016, 12:26 PM
 
تواصل متحدثة إليّ شتم تلك "الفاجرات". تقول إن العائلات الكبيرة، تعودت أن تستأجر الحمام وتحجزه مرة في الأسبوع، لتدعو القريبات والصديقات على حسابها.
كل هذا، حتى تضمن عدم اختلاطها بالغرباء، وبهذه النماذج التي هجمت على قسنطينة فانتهكت حرمتها، وأهانت أهلها.
لا أجيب. أتظاهر بالاستماع فقط.
فقد كنت مشغولةً عنها، بمقولة لساشا غتري: " ليس هناك من نساء غير شريفات.. وأخريات شريفات. ثمة فقط، نساء غير شريفات.. وأخريات قبيحات!".
يومها غادرت الحمام، دون أن يغادرني ساشا غتري تمامًا حتى أنني عدت إلى البيت عصرًا تحت المطر. وأنا أستعيد إحدى مقولاته الساخرة: " لا تمارس الحب مساء السبت.. إذ ما الذي تفعله لو أمطرت السماء صباح الأحد؟".
وهي غمزة ساخرة، عن الأزواج الذين يمارسون الحب عن ضجرٍ جسدي مساء السبت، ثم لا يدرون بعدها، ماذا يفعلون بأنفسهم طوال الغد، عندما يبقون في البيت.. في يومٍ ممطر!
ورغم أنه كان يوم سبت ممطرًا، فقد قررت أن أخالف ذلك المساء نصيحة ساشا غتري ، بكون السبت ليس نهاية أسبوع عندنا بل بدايته. وبالتالي لن يكون زوجي هنا في الغد ليقاسمني ضجري، لكوني عائدة من حمام نسائي أشعل شهوتي، وبي رغبة في أن أهدي أنوثتي إلى رجل.
طبعًا.. لم أكن أدري أنه يكفي أن أنوي الحب، كي تنقلب البلاد رأسًا على عقب. ولا توقعت أن التاريخ سيهدي إلى الجزائر يومها إحدى مفاجآته. ولا أن الرئيس الشاذلي بن جديد، سيختار ذلك السبت بالذات، ليعلن في نشرة الثامنة مساءً من ليلة 11 يناير 1992 استقالته، وحله البرلمان.. ومن ثمة دخول البلاد في متاهة دستوريّة.
لم أعتب على الشاذلي بن جديد إهداره ليلتها رغبتي.
فقد أهدر قبلها سنوات بأكملها من رغبات شعب.


قطعًا
ـــــــــــ
وحده الزمن سيدلك على الصواب، عندما يفقد الآخرون صوابهم.
أمّا التاريخ.. فلا تتوقع في هذه الحالات أن يقول كلمته على عجل.
هو أيضًا ينتظر.
ثمانية وعشرون عامًا من الانتظار. وطائرة تحطّ على مطار. ورجل تجاوز الثانية والسبعين من عمره، ينزل. يمشي على سجاد أحمر، مذهولاً من أمره.
أكان بين الوطن والمنفى مسافة ساعة فقط؟ لماذا.. كان يلزمه إذن، ثمانية وعشرون عامًا ليقطعها؟!
رجل نحيف، ومستقيم، وفارع كما هو الحقّ، احدودب ظهره قليلاً، وخشنت يداه كثيراً، وبانت عظام وجهه وعظام أصابعه.
قبل قليل.
قبل التاريخ بقليل. كان اسمه محمد بوضياف. وكان يسكن في مدينة صغيرة بالمغرب. يدير بيديه اللتين اخشوشنتا مصنعًا بسيطًا للآجُرّ. ويعيش بعيداً عن كلّ عمل سياسيّ. سوى ذكريات ثورة تنكّرت له، وأخبار وطن حذف حكامه اسمه حتّى من كتب التاريخ المدرسية، كزعيم أشعل ذات نوفمبر سنة 1954 الشرارة الأولى للثورة التحريرية.
اللّحظة لم يعد له اسم.
مذ خطا على تراب الوطن، أصبح اسمه هو "التاريخ".
أليس التاريخ "هو ما يمنع المستقبل من أن يكون أيّ شيء"؟
الآن.. لم يعد له من عمر.
لقد أصبح له أخيرًا عمر أحلامه، تلك التي جاءت متأخرة بجيلين وأكثر.
الآن.. في هذا العمر، هو يتعلم المشي من جديد على تراب وطن، لم يمش عليه يوماً بحرية ولا بأمان. فقد طاردته فرنسا فوقه أرضًا وجوًا. ولم تجد من سبيل لإلقاء القبض عليه هو ورفاقه سوى خطف طائرتهم سنة 1956، وهي تعبر أجواء البحر الأبيض المتوسط، في رحلة تقلهم من المغرب نحو تونس، فحوّلت وجهتها نحو فرنسا، واقتادت بوضياف مع رفاقه الأربعة: أحمد بن بللّة وآيت أحمد ومحمد خيدر ورابح بطاط، موثقي الأيدي نحو معتقلاتها، أمام اندهاش العالم الذي لم يكن قد سمع بعد ببدعة خطف الطائرات، وأمام غضب الشارع العربي ومظاهراته، والذي كان عبدالناصر في السنة نفسها قد ألهبه خطابات حماسية، وملأه عنفواناً وغروراً قوميًا.
حتى إن إذاعة صوت العرب من القاهرة لم يكن يلزمها أكثر من أيام لتخرج إلى العالم العربي بألحان حماسية تطالب بإطلاق سراح الزعماء الخمسة، أناشيد تلقفتها أفواه أطفالنا، وحناجر رجالنا، وزغاريد نسائنا، فردّدنا معها:
"باسم الأحرار الخمسة حنرد الثار يا فرنسا.."
كنّا نبكي.
ووحده التاريخ كان يضحك. فهو وحده كان يدرك ما لم يكن يتوقعه أحد.
فما كادت الجزائر تنال استقلالها، ويصبح "الزعماء الخمسة" أحراراً، حتى أرسل بن بللّة وقد أصبح رئيساً، من يقبض على رفيق نضاله محمد بوضياف، في حزيران 1963، وهو يغادر بيته. واقتيد بوضياف من مكان إلى مكان. حتّى انتهى به المطاف في معتقلات ضائعة في غياهب الصحراء، حيث خبر رجل الثورة الجزائرية الأول، قبل غيره، مهانة أن يكون لك وطن، أقسى عليك من أعدائك.
وهو ما اكتشفه بعده بسنتين، بن بللة نفسه. عندما جاءه بومدين ذات حزيران (أيضًا) من سنة 1965 فأزاحه من السلطة ورمى به في السجن، ليخرج منه بعد خمسة عشر عامًا عجوزاً.
أمّا بو ضياف الذي لم يطالب يومًا بالسلطة، وإنما رفض منذ البدء أن يكون قد كافح ليحرر وطنًا من الاستعمار، كي يسلمه لدكتاتورية الحزب الواحد، فقد تساوى عنده الحاكمان.
يوم اختفى، لم يوجد من بين رفاقه أحد ليسأل أين ذهبوا به!
كانوا مشغولين عنه باقتسام الوليمة.
فمضى بذلك القدر الهائل من الغياب، كما عاد بهذا القدر الهائل من الحضور.
تذكّروه، هكذا فجأة، بعد ثلاثين عامًا، وقد شبعوا وانتفخوا، وملأوا جيوبهم وأفرغوا جيوب الجزائر. وانسحبوا تاركين لنا وطنًا مرهونًا لدى البنك الدوليّ –مع كثير من التمني- لعدة أجيال فقط.
فقد كان الوحيد الذي ما زال على ذلك القدر من النّحافة.. والنزاهة.. ولم يجلس يومًا حول طاولة الصفقات المشبوهة للسلطة.
كان لابد من اسمه ليعيد الثقة إلى شعب لم يعد يثق بشيء، ولا بأحد. وقد تناوب عليه حكمًا بعد آخر، علي بابا والأربعون حراميّاً.
جاؤوا به. قالوا له الكلمات التي لم تصمد امامها شيخوخته "الجزائر في حاجة إليك.. أنت الرجل الذي سينقذها".
فقام العجوز. غسل يديه من طين الآجرّ، وذاكرته من الحقد. فقد آمن دائمًا أنه لا يمكن ان تبني شيئاً بالكراهية. وكان له مقدرة مذهلة على الغفران، فاحتضن من نفوه ومضى نحو "وطنه".
فمنذ الأزل، لم يحدث أن نادته الجزائر ولم يستجب لندائها.

ها هوذا..
يرتدي بذلة لم يتوقع أنه سيرتديها لمناسبة كهذه.
يتعلّم المشي أمامنا. يتعلم الابتسام لنا. يرفع يده اليمنى ليحيينا بخجل، كمن يعتذر عن يدٍ لم تحمل يومًا سوى السلاح.. والآجرّ، ولم تكن مهيأة لمثل هذا الدور.
ها هوذا.. بوضياف.
يأتينا مشيًا على الأقدام، مشيًا على الأحلام. فتخرج لاستقباله الأعلام الوطنية، وجيل لم يسمع باسمه قبل اليوم. ولكنه يرى في قامته، تاريخ الجزائر في عظمتها الخرافية.
ها هوذا..
ليست أقدامه التي كانت تبوس تراب الوطن مع كلّ خطوة، إنما تراب الجزائر، هو الذي كان يحتفي بخطاه، ويقبّل حذاءه.
فلا تملك القلوب إلا أن تهتف: أيها التاريخ توقّف.. لقد جاءنا رجل من رجالك.
كان يوم 14 يناير 92 يومًا استثنائيًا، حتى في طقسه. فقد توقفت فيه الأمطار التي هطلت قبل ذلك بغزارة، وجاء يوم مشمس. وكأنّ الطبيعة تطابقت مع مشاعر الجزائريين، أو كأنها أرادت أن تتواطأ مع التاريخ، وتهدي إلى بوضياف يومه الأجمل.
طوال الظهيرة، تعلقت عيون الجزائر بشاشة التلفزيون؛ الكلّ يريد أن يرى ويسمع هذا الرجل الذي دخل حزب الصمت، منذ ثلاثين سنة. ماذا تراه سيقول؟
الكلّ يريد أن يقبل، ولو بعينيه، هذا الذي ينادي رفاقه "سي الطيب الوطني" والذي تناديه قلوبنا اليوم "أبي".
فمنذ موت بومدين ونحن يتامى. نعاني إفلاسًا عاطفيًا، يفوق إفلاس اقتصادنا، وعجزًا وطنيًا في المحبة، يفوق عجز مزانيتنا.
نحن نبحث عن رجل له قامة عبدالناصر، وكلمات بومدين، ونزاهة بوضياف، رجل في بساطة أهلنا، يمرّر يده على رأسنا، يربت على أكتافنا، يقول لنا أشياء بسيطة نصدّقها. يعدنا بأحلام بسيطة ندري أنه سيحققها، يبكي أمامنا عن كلّ من ماتوا، دون أن يحقق في انتماءاتهم. يعتذر للأحياء عن موتاهم.. وللموتى عن اغتيال احلامهم. رجل منذ نزوله من الطائرة يعلن الحرب على من سطوا على مستقبلنا، وبنوا وجاهتهم.. بإذلال وطن.
يقول "الجزائر قبل كلّ شيء" فيوقظ فينا الكبرياء.
وتصبح كلماته البسيطة شعارنا.
قطعــًــا.. منذ الأزل، كنّا ننتظر بوضياف، دون أن ندري. ولكن بوضياف، ماذا تراه كان ينتظر؟ هو الذي قال يومها لزوجته "كلّ هذه الحفاوة لن تمنعهم من اغتيالي.. فلا ثقة لي في هؤلاء".
وعندما سألته إن كان جاء إذن بنية الانتحار. أجابها كمن لا مفر له من قدر "إنه الواجب.. كلّ أملي أن يمهلوني بعض الوقت".


* * *
رد مع اقتباس
  #25  
قديم 07-13-2016, 12:27 PM
 
نجحوا في الحياة؟ في الواقع لا. هي تقصد من نجحوا في اختصار مشقة الحياة، ناهبين البلاد حيث وجدوا، مشهرين غنائمهم دون خجل، رافعين في بضع سنوات فيليات شاهقة، تقف عند بابها سيارات فخمة. وتسكنها امرأة تسافر إلى أوروبا في كل المناسبات لتجدد خزانتها.
لم تكن تعي أنها كانت تعمق فيه الشعور بالخيبة، ولا تحثه سوى على المزايدة عليها.
وكنت أراه يومًا بعد آخر يفقد صوته بالرد عليها، ويفقد أناقته، وكأنه أضرب عن الحياة وعن الأناقة، لأن الوطن لم يكن في أناقة أحلامه!
أكان يدخل هو أيضًا حزب الصمت، ويخلع صوته، تمامًا كما خلع الآخرون فجأة شعاراتهم، وحلقوا قناعاتهم، خوفًا من سجن يتربص بالملتحين.
جاء زمن شفرات الحلاقة إذن_أخيرًا أصبحت متوافرة_ نزلت الأسواق، مع نزول مفاجئ في القيم، وفي قيمة الإنسان. فهل هذا زمن الوطن التنازلي؟
نزلت ،ومعها نزلت الشعارات على الجدران، تعلن بدء الزمن الصعب. وامتلأت السجون بالملتحين..وبأولئك الذين أخذوا خطًأ بين نارين..كما في كل حرب.
أسأله بنبرة منخفضة:
_أيجب حقًا أن تسافر يا ناصر؟ وهل فكرت في ما سيحدث لأمي في غيابك؟
يجيب:
_إني أسافر كي أعود. ولكن إن بقيت فقد تخسرونني. أقول هذا الكلام لك. أما أمي.. فسأغافلها وأمضي بخديعة جميلة نحو قدري.
ستتحمل غيابي أكثر من تحملها خبر سجني أو موتي.
_ولكن هل هذه الخيارات محدودة حقًا إلى هذا الحد؟
_طبعًا..لقد انتهى ذلك الزمن الوديع في خيباته. جاء زمن السجون.. والموت المباغت.. والاغتيالات الملفقة.
أقول:
_لقد أبلغني زوجي أنك اعتقلت أثناء غيابي.
يقاطعني:
_وأبلغك أيضًا أنه تدخل للإفراج عني.
_وهل هذا غير صحيح؟
_نعم..ولكنها مراوغة سياسيّة متعددة الأهداف. إنه من جهة يجعلني مدينًا له بهذه الخدمة، ومن ناحية أخرى يثير حولي الشبهات، ويجعل رفاقي يشكون في مصداقية معاداتي للسلطة. مادمت لم أسجن سوى يومين ويبقون هم هناك لعدّة أشهر ، وربما لسنوات. ثم..إن يطلقوا سراحك فهذا لا يعني سوى بدء مشاكلك، خاصة مذ بدأوا بإطلاق سراح كل من يزعجهم، كي يتمكنوا بعد ذلك من قتله خارج السجن، تحت ستار الموت العشوائي. فماذا بقي لي من اختيار سوى الرحيل؟
استمعت إليه، كمن لا يصدق أمرًا لفرط غرابته، أو كمن يرفع الغطاء خطأ أمامك عن صندوق قمامة، دون أن يعتذر لك عن عفونة أحلامك.. التي كنت أودعتها مكانًا "آمنًا" أسميته الوطن!
فجأة، لم تعد لي من رغبة سوى الهروب به إلى أي بلد آخر.. أو أي قارة أو كوكب آخر، ريثما يمر قطار الجنون.
أنا التي لم أقتنع يومًا بمنطق رجل يتركني ويسافر. اقتنعت بمنطقه في مغادرة الوطن. ووجدتني ألفق معه أكاذيب وحججًا لإقناع أمي بذلك.
عدت يومها محملة بقبل ناصر.. وتعليماته. أما أمي فقد حملتني بعض ما أحضرت لي من هدايا. وعلى رأسها (ماء زمزم) ، الذي تعودت أن تأتيني به في كل حجة، تحسّبًا لذلك اليوم الذي قد أحبل فيه.. وأستنجد به عندما أضع مولودي!
في انتظار ذلك، أنا حبلى بذلك الرجل. إنه الشيء الوحيد الذي يكبر داخلي كل يوم. وإذا به يومًا بعد آخر يغطي حتى على رحيل ناصر، وعلى خيباتي الأخرى. ولا أفهم أن يستطيع هذا الرجل أن يفعل بي كل هذا، وأن يواصل برغم كل ما يحدث حولي من مآسٍ، الإقامة داخلي، ومنعي من التركيز على أي شيء عداه.
أكثر من كلماته، علقت بي رائحته الممتزجة بعطرٍ ما. وبرائحة تبغٍ ما. وبرائحة عرقٍ ما. لتشكل كلها هذا الحضور الذي يوقظ حواسي، والذي لا اسم له، أو ربما كان اسمه: هو.
وأذكر أن ديدرو الذي وضع سلمًا شبه أخلاقي للحواس، وصف النظر بالأكثر سطحية، والسمع بالحاسة الأكثر غرورًا، والمذاق بالأكثر تطيرًا، واللمس بالأكثر عمقًا. وعندما وصل إلى الشمّ. جعله حاسة الرغبة، أي حاسة لا يمكن تصنيفها، لأنها حاسة يحكمها اللا شعور، وليس المنطق.
المخيف مع هذا الرجل. أنه جعلني أكتشف حواسّي. أو على الأصح، خوفي النسائيّ من هذه الحواس.
بل إنه وضعني في حالة من فوضى الحواسّ أخاف أن يأتي يوم، لا أستطيع معها أن أصفه، أو أن أتعرف إليه، بعد أن خرجت معرفتي به عن المنطق.
ولذا قررت يومًا التفرغ لمطالعة ذلك الكتاب الذي أحضرته معي لهنري منشو، والذي وضع جوار مقاطعة إشارات أو ملاحظات. وكأنني وقد فشلت في اكتشاف ذلك الرجل في الحياة، رحت أحاول اكتشافه داخل سطوة حضوره. بهدوء من يطالع رجلاً في كتاب.
أن تعيش مأخوذا بلغز رجل غامضٍ حد الإغراء، وحد الإزعاج أحيانًا، قد تكون فرصتك في كتابة رواية جميلة. هذا إذا كنت روائيًّا. أمّا إذا كنت عاشقًا، فسيكون في لغزه عذابك ولعنتك. ذلك أن الحب سيحولك رجل تحرٍ. حتى ليكاد يصبح التحري مهنتك الأخرى.
ككل عاشق، أنت تريد أن تعرف كل شيء عنه. تريد معرفة ماضيه وحاضره، وأسماء من أحب ومن أحبوه، عناوين البيوت التي سكنها، والمدن التي زارها، والمهن التي مارسها، والأماكن التي يرتادها.
تطارده بالأسئلة لتعرف برجه، وهوايته، وانتماءاته.. حتى إنك قد تعود بكتاب من مكتبته، فقط لمتعة التجسس على قراءاته!
إن في الحب كثيرًا من التلصص والتجسس والفضول. والأسئلة لا تزيدك إلا تورطًا عشقيّاً. وهنا تكمن مصيبة العشاق!
سؤالي الأول كان. مالذي أوصل هذا الرجل إلى هنري ميشو؟ ولماذا اختار هذا الكتاب ليسجل عليه خواطره؟ ولم أجد من جواب سوى كونه كان رسامًا أيضًا. وعندما أصبح السؤال، كيف يمكن أن أفهم رجلاً من خلال شاعر وهو نفسه غامض. حتى إنه كان شاعر الأسئلة التي لا تفضي سوى إلى أسئلة أخرى. وكل حياته كانت مبنية على الانتهاكات الدائمة لوجاهة الحياة الظاهريّة فقد ظل يرفض الجوائز الأدبية، ويرفض أن تؤخذ له صور فوتوغرافية، ويرفض أن تصدر كتبه في طبعات شعبية، بل ظل يتمنى لو أصدر من كل كتاب له خمس نسخ فقط. ولم يفارقه طوال حياته إحساس دائم بالعبثيّة، يتّضح منذ الفكرة الأولى:
"في ردهة روحك، ظنًّا منك أنك تجعل من الآخرين خدمًا لك، تكون على الأرجح أنت من يتحول بالتدريج خادمًا. خادم من؟ خادم ماذا؟ إذن فابحث، ابحث"
على هامشها كتب: " لا تبحث.. ستضع ذكاءك في خدمة الجنون"
ثم خاطرة أخرى:
" في غياب الشمس تعلم أن تنضج في الجليد"
وأضاف باللون الأزرق أسفلها " أو في جريدة!" .
ثمّ:
"إذا كنت الإنسان المقدم على فشل.. فلا تفشل كيفما كان" وواصل القلم " أما إذا كنت مقدمًا على الموت فلا تهتم!".
أن يطالع أحد هواجسك في كتاب، تركت عليه بعض آرائك، أو علّمت على بعض جمله، كأن يطالع شخصيتك في حقيبة يدك. أو يتلصص عليك من حيث لا تتوقع .
الأشياء الحميمة، نكتبها ولا نقولها. فالكتابة اعتراف صامت. ولذ أشعر بشيء من الحرج أمام كتاب لم يكن مهيأ لي.
بل لا أفهم، كيف تجرأ ذلك الرجل على إعارتي إياه دون تردد. وإذا بي أقرأ الكتاب قراءتين ، في وقت واحد.
أحب تلك النصوص التي تكتب بقلمين. والتي تشبه في وقعها تلك الموسيقى التي تعزف على البيانو بأربع أيدٍ، وبتناوب عازفين. كهذه الخاطرة التي تبدأ بعزف منفرد على إيقاع "هنري ميشو":
"في استطاعتك أن تكون مطمئنا.لا يزال فيك بعض نقاء . في حياة واحدة .. لم تستطع أن تدنس كل شيء ! "
ويدخل العزف الآخر.ليضيف بنوتة مفاجئة " أحقا " .
أو هذه التي تأتي كما في عنف "بيرليوز" في سمفونيته المدمرة
"ما الذي تهدمه عندما تكون هدمت ما أردت هدمه: السد المنيع لمعرفتك الخاصة ؟" .
وترد أصابع واثقـة.. بقلم أزرق "بل جدارا اسمه الخوف ". ثم ينغلق البيانو . ويواصل القلم الأزرق بصمت ، وضع سطر تحت أبيات و خواطر استوقفته.
"لا تتعجل أخطاءك.لا تستخف بها وتعمل على إصلاحها..إذ ما الذى تضعه مكانها ؟ "
أو
" لم ألبث أن انتبهت أنني لم أكن النمل فحسب وإنما كنت أيضا طريقه"
أو
"النوم في النهاية، هو أكثر خيباتك ثباتا " وجوارها سؤال بالقلم بصيغة خيبة أكبر، تأتي كما لو أنها الجملة الأولى في السمفونية الخامسة لبتهوفن: "والحب إذن ؟".
ويصمت الأزرق.
قضيت أياما في العودة إلى "أعمدة الزاوية" من باب الفضول في البدء، ثم مأخوذة بتطابق هذين الرجلين في كثير من الأشياء. كحبهما للرسم، وحبهما للون الأسود الذي كان غالبا ما لا يرسم هنري ميشو إلا به، أو عليه ، لوحاته. إضافة إلى كراهيتهما للأسماء أو للأضواء. وهاجس الموت الذي يسكنهما معًا.
اكتشافي الآخر كان ، أن هذا الرجل يعمل في جريدة ، وأن في حياته خيبة عاطفية كبرى، وأنه يملك أسلوبًا على قدر كبير من السخرية ، التي تخفي مرارة وذكاءً حادين. وهو تمامًا .. النوع الذي أعشقه من الرجال .
ألأنني كنت مسكونة بهاجس ناصر، وجدتني أيضًا أطالعه، وأعود إليه من بين فكرتين ؟
ثمة كتب تضعك أمام اكتشافات مذهلة . تكتشف فيها نفسك ، و مساحات منك لم تكن تعرفها.
و أخرى شخصًا آخر، لم تكن تتوقعه . بل إنها قد تفضي بك من شخص إلى آخر. وها أنا أمام ناصر.حتى بدا لي أن بعض الخواطر هو قائلها. كذلك البيت :
"لا اسم لي. اسمي تبذير للأسماء"
وهل كان ناصر عبد المولى إلا تبذيرًا لحلمين ولاسمين: اسم جمال عبد الناصر، واسم الطاهر عبد المولى؟
كيف يمكن أن تولد أثناء حرب التحرير الجزائرية، بتوقيت التواريخ الناصرية دون أن تشعر فيما بعد، بأن سلسلة من المصادفات التاريخية، ستغير حتمًا تاريخ حياتك.
قبل أي خطاب سياسي، تفتح وعي ناصر على اسمه، الذي كان نصفه منذورًا للقومية، والنصف الآخر للذاكرة الوطنية.


قبل أن يكبر بالقدر الذي يسمح له بمتابعة الأخبار، أو بطالعة جريدة، فتح عينيه على غياب والده، وعلى الحضور الدائم لعبد الناصر، مبتسمًا ومحييًا في صورته الشهيرة. ليس فقط لعدم وجود جهاز للتلفزيون في بيتنا في تلك الأيام، ولن لأنه الصورة الوحيدة التي كانت في غربتنا ، تزين غرفة متواضعة للاستقبال.
وأذكر تمامًا أن تلك الصورة وصلتنا إلى منفانا بتونس. عن طريق صديق لوالدي كان يدعى سي عبد الحميد، وكان يتردد علينا أثناء وجود والدي في الجبهة، محملاً بالهدايا وبمبلغ من المال، لا أدري إن كان منه أو بتكليف من الجبهة.
ذات مرة زارنا، وراح يلاعب ناصر كعادته. ثم سأله" ماذا تريد أن أحضر لك؟" وإذا بناصر، و لم يتجاوز الرابعة من عمره، يجيبه وكأنه يطلب لعبه " جيب لي عبد الناصر". وتروي أمي أن سي عبد الحميد ظل مذهولاً للحظات قبل أن يجيبه بمنطق الأطفال" سآتيك به في المرة القادمة".
ولأنه كان يتردد على القاهرة لإجراء بعض المشاورات السياسية، وكان أيضًا مسؤولاً عن متابعة شؤون الطلبة الجزائريين هناك، والذين كان من بينهم طالب لم يكن يدعى بعد هواري بو مدين، فقد أحضر لنا مرة صورة كبيرة لعبد الناصر، مع جملة من الهدايا التذكارية.
منذ ذلك الحين أصبح بإمكاننا في بعض الأمسيات أن تستمع من تونس إلى" صوت العرب من القاهرة"
وهو يبث خطابات لجمال عبد الناصر، وأناشيد عربية ملتهبة، لازلت أحفظ بعضها، كما يحفظ الطفل في ذلك العمر أناشيد تعلموها في روضة، وعلقت بذهنهم إلى الأبد . ثم ننام سعيدين، دون حاجةٍ إلى التلفزيون الذي لم نكن قد شاهدناه في حياتنا بعد.
لقد كنا نتفرج على العالم من شاشة جداريّة.مثبتة عليها صورة عبد الناصر، قبل أن يأتي يوم تجاور فيه صورة أبي على الجدار صورة عبد الناصر، بحجم أصغر، ولكن بالحجم الكبير ذاته الذي نقلتها به الصحافة وهي تعلن في صيف 1960 على صفحاتها الأولى، مقتل أحد قادة الثورة على يد المظليين الفرنسيين، بعد معركة ضارية في مدينة باتنة.
أذكر أنني احتفظت أيامًا بتلك الجريدة، كنت خلالها أفتحها بين الحين والآخر على الصفحة الأولى، وأقضي وقتًا طويلاً في تأمل ملامح أبي. كما توقف عندها الزمن إلى الأبد، قبل أن أفاجئ نفسي يومًا أقتطعها بمقص، وأقنع أمي بوضعها هي، ولا أية صورة أخرى في إطار، لتصبح هي الصورة الثانية في بيتنا.
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فوضى...ابتسامه قارب الغروب نثر و خواطر .. عذب الكلام ... 31 05-20-2017 07:56 PM
فوضى.......بقلمي jehan1970 أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 13 09-29-2011 09:03 AM
فوضى في المحاكم الأمريكية دارين! نكت و ضحك و خنبقة 3 11-29-2010 10:49 PM
###فوضى## ليالي الأنس أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 9 08-14-2009 12:13 AM


الساعة الآن 08:17 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011