عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > ~¤¢§{(¯´°•. العيــون الساهره.•°`¯)}§¢¤~ > أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه

أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه هنا توضع المواضيع الغير مكتملة او المكرره في المنتدى او المنقوله من مواقع اخرى دون تصرف ناقلها او المواضيع المخالفه.

 
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #6  
قديم 07-13-2013, 02:38 PM
 

يوماً في الصحراء، ووصل إخيراًأمام قصر جميل يقع على قمة جبل، وهناك كان يعيش الحكيم الذي يجدُّ في البحث عنه.
فبدل أن يلتقي رجلاً مباركاً، فإن بطلنا داخل صالة تعج بنشاط كثيف: تجار يدخلونويخرجون، وأناس يثرثرون، وفي إحدى الزوايا فرقة موسيقية صغيرة تعزف ألحاناً هادئة،وكان هناك مائدة محمّلة بمأكولات من أطيب وأشهى ما تنتج تلك البقعة من العالم. هذاهو الحكيم الذي يتحدث مع هذا وذلك، وكان على الشاب أن يصبر طيلة ساعتين حتى يأتيدوره.
أصغى الحكيم إلى الشاب الذي كان شرح له دوافع زيارته، لكن الحكيم أجابهأن لاوقت لديه كي يكشف له سر السعادة، وطلب منه القيام بجولة في القصر ثم العودةلرؤيته بعد ساعتين.
- أريد أن أطلب منك معروفاً ـ أضاف الحكيم وهو يعطي إلىالشاب ملعقة كان قد صب فيها قطرتين من الزيت ـ ، أمسك الملعقة بيدك طوال جولتكوحاول ألا ينسكب الزيت منها.
أخذ الشاب يهبط، ويصعد سلالم القصر، مثبتاً عينيهدائماً على الملعقة، وبعد ساعتين عاد إلى حضرة الحكيم.
- إذاً ـ سأل هذا، هلرأيت السجاد العجمي الموجود في صالة الطعام؟ هل رأيت الحديثة التي أمضى كبيرالحدائقيين سنوات عشرة في تنظيمها؟ هل لاحظت أروقة مكتبتي الرائعة؟
كان علىالشاب المرتبك أن يعترف بأنه لم يرَ شيئاً من كل هذا على الاطلاق، فشاغله الوحيدكان ألا تنسكب قطرتا الزيد التي عهد له الحكيم بهما.
- حسن، عد وتعرّف علىعجائب عالمي ـ قال له الحكيم ـ فلا يمكن الوثوق برجل تجهل البيت الذي يسكنه.
اطمأن الشاب أكثر، وأخذا الملعقة، وعاد يتجول في القصر، معيراً انتباهه هذهالمرة لكل روائع الفن التي كانت معلقة على الجدران، وفي السقوف، رأي البساتينوالجبال المحيطة بها وروعة الزهور، والاتقان في وضع كل واحدة من تلك الروائع فيمكانها المناسب، وعند عودته إلى الحكيم، روى له ما رآه بالتفصيل.
- ولكن أينقطرتي الزيت اللتين كنتُ عهدت لك بهما؟
نظر الشاب إلى الملعقة ولاحظ أنه قدسكبها.
- حسنٌ ـ قال حكيم الحكماء ـ هاك النصيحة الوحيدة التي سأقولها لك: " سرّ السعادة هو بأن تنظر إلى عجائب الدنيا كلّها، ولكن دون أن تنسى أبداً وجودقطرتي الزيت في الملعقة " .
مكث الراعي صامتاً، كان قد فهم حكاية الملك العجوز،فيمكن لراعٍ أن يحب السفر، لكن ليس له أن ينسى نعاجه أبداً.
نظر العجوز إلىالشاب، وبكفيه المبسوطتين، قام ببعض الحركات الغريبة فوق رأيه ثم جمع غنامه ومضى.

× × ×

على أحد مرتفعات مدينة " طريفة " الصغيرة كان هناك حصن قديم بناه العرب فيمامضى، ومن يجلس على أسواره يستطيع أن يرى من هناك بائع البوشار وجزءاً من إفريقية.
" ملكي صادق " ملك " سالم "، يجلس هذا المساء على متاريس الحصن، ويشعر بالريحالشرقية تلطم وجهه، كانت الأغنام قريبة منه تتوقف عن الحركة كدرة وقلقة بسبب تبدلراعيها وسيّدها، والتغيرات التي حصلت، فإن كل ماكانت ترغب به، هو ماتأكله وتشربه.
كان يراقب القارب الصغير الذي يبتعد عن الميناء، لن يلتقي هذا الشاب من جديد،وذلك بعد أن يجعله يدفع العشر مثلما أنه لم يكن قد لقى إبراهيم، لأن للآلهة أساطيرخاصة، وليس لها أمنيات.
غير أن ملك " سالم "، ومن عميق ضميره قد تمنى للشابالنجاح.


للأسف ! سينسى إسمى عما قريب، كان عليّ أن أكرره له مراتعديدة، حتى إذا ماتحدّث عني استطاع أن يقول إنني " ملكي صادق " ملك " سالم ".
ثم رفع عينيه إلى السماء، مشوشاً قليلاً مما كان يفكّر به لتوّه:
- أناأدرك أن هذا ليس إلا أباطيل، كما قلت أنت نفسك يا إلهي، لكن الملك العجوز يشعرأحياناً بالحاجة للشعور بالاعتزاز بالنفس.

× × ×

- يالها من بلدغريب إفريقية هذه ! حدّث الشاب نفسه.
كان جالساً في مكان ما يشبه المقهى، وسائرالمقاهي التي استطاع رؤيتها، وهو يعبر أزقّة المدينة الضيقة. كان هناك رجال،يدخّنون غليوناً ضخماً يتبادلونه من فم إلى فم.
وخلال عدة ساعات رأى رجالاًيتجولون يداً بيد، ونساء محجبات، ورجال دين يصعدون إلى قمم أبراج عالية، ويؤذنون،بينما كان سائر الناس يركون، ويلطمون رؤوسهم بالأرض.
- إنها ممارسات الكفّار ـقال في سرّه.
فعندما كان طفلاً، اعتار أن يرى في كنيسة قريته تمثالاً للقديس " جاك الأعظم " ممتطياً حصانه الأبيض، مجرّداً سيفه، واطئاً بقدميه شخصيات مشابهةلهؤلاء الناس.
كان يشعر بالغم والوحدة بشكل مخيف، نظرة تشاؤم، زد على ذلك أنهفي غمرة الترحال الطويل قد نسي واحدة من الجزيئات، يمكن لها أن تبعده عن كنزهكثيراً من الوقت: في تلك البلاد يتكلّمون العربية.
اقترب صاحب المقهى، فأشارإليه بإصبعه أن يحضر له مشروباً كان قد رآه يقدّمه لطاولة أخرى، إنه الشاي المرّ،وتمنى لو كان خمراً.
لكن الوقت كان غير مناسب بالتأكيد لأن يشغل باله بمثل هذهالأمور، فأولى به ألا يفكّر الآن إلا بكنزه، والطريقة التي تمكّنه من الحصول عليه،فبيع أغنامه مكّنه من امتلاك مبلغ مهم نسبياً، كان يعلم أن للمال جانبه السحري، فهويمنح الانسان الشعور بالأمان وبأنه ليس وحيداً تماماً، ومن الممكن أن ينتهي الأمرخلال أيام، ويجد نفسه عند أقدام الأهرامات، فالرجل المسن، وبهذا الذهب اللامع علىصدره، ليس بحاجة مطلقاً لأن يروي الأكاذيب كي يحصل على ست غنمات.
لقد حدّثهالملك العجوز عن علامات، وخلال عبور المضيق، فكّر كثيراً بها.
نعم إنه يدركتماماً عما يتحدّث، فطيلة الوقت الذي كان قضاه في أرياف الأندلس كان معتاداً أنيقرأ على الأرض وفي السماوات المؤشرات المتعلّقة بالدرب التي عليه أن يسلكها، وانطائراً معيّناً على يدل على وجود أفعى بالقرب منه، وشجرة تدل على وجود الماء علىبضع كيلومترات من المكان، الأغنام علّمته كل هذه الأشياء.
- الإله هو الذي يهديالأغنام فعلاً، وهو الذي سيهدي الإنسان ـ قال لنفسه، فشعر بالاطمئنان، وبدا لهالشاي أقل مرورة.
- من أنت؟ سمع سؤالاً باللغة الاسبانية.
شعر بارتياحكبير، فهو كان يحلم بعلامات، وهاهو قد ظهر من ينبئ بها.
- كيف لك أن تتكلمالإسبانية؟ سأل الشاب.
كان القادم الجديد، شاباً يرتدي الزي العربي، أما لونبشرته يجعل المرء يحسبه من أبناء المدينة، وكانا يبدوان متقاربين في السن والطول.
- كل الناس هنا يتكلّمون الإسبانية تقريباً، فليس بيننا وبين أسبانية إلا أقلمن ساعتين.
- اجلس واطلب لنفسك شيئاً على حسابي، أما أنا فاطلب لي خمراً، فأناأشمئز من هذا الشاي.
- لايوجد خمر في بلادنا، فالدين يمنعه.
عندئذٍ أخبرهالشاب بأن عليه أن يتوجه إلى الأهرامات.
وقد أوشك أن يتحدث عن كنزه، لكنّه فضّلأخيراً ألا يقول شيئاً، فقد كان بمقدور العربي أن يقوده إلى هناك مقابل حصة منالكنز، وتذكر ما كان قد قاله العجوز حول موضوع الاقتراحات.
- أود لو تقودني إلىهناك إن كان هذا ممكناً، أستطيع أن أدفع لك ما تستحقه كدليل.
- هل لديك فكرة عنكيفية الذهاب إلى هناك؟
لاحظ عندئذٍ أن صاحب المقهى كان على مقربة منه، يصغيبانتاه إلى المحادثة، أزعجه حضوره قليلاً، لكن لابأس فقط حظي بدليل ولن يضيّع هذهالفرصه.
- قال القادم الجديد: عليك اجتياز الصحراء الإفريقية الكبرى، وهذاسيتطلب منك المال، فقبل كل شيء أريد أن أعلم إن كنت تملك ما يكفي.
وجد الشاب فيسؤال الفتى شيئاً من الفضول، لكنّه كان يثق بالرجل العجوز، الذي قال له أنه عندمايصمم المرء على تحقيق شيء ما، فإن العالم كله يتضافر في صالحه.
سحب نقوده منجيبه، وأراها لرفيقه الجديد، اقترب صاحب المقهى ونظر أيضاً، تبادل الرجلان بضعكلمات باللغة العربية، وبدا صاحب المقهى غاضباً.
- هيّا بنا ـ قال الفتى ـ فهولايريد بقاءنا هنا.
أحس الشاب بنفسه أكثر اطمئناناً، قام لكي يدفع الحساب، لكنصاحب المقهى أخذه من ذراعه، وراح يملي عليه محاضرة طويلة دون توقف، كان الشاب قوياًلكنه في بلد غريب، أما صاحبه الجديد، فقد دفع صاحب المقهى جانباً وصحبه للخارج.
- إنه يريد مالكَ، فـ " طنجة " ليست كسائر إفريقية، نحن هنا في ميناء، والموانئتكون دائماً وكراً للصوص.
كان يستطيع أن يثق بصديقه الجديد، الذي هبّ لمساعدته،في الوقت الذي وجد نفسه في موقف صعب، سحب ماله من جيبه وعدّه.
قال الآخر وهويتناول المال:
- غداً نستطيع الوصول إلى الأهرامات، لكن يجب أن أشتري جملين.
وانطلق الإثنان في أزقّة " طنجة " الضيّقة، وفي كل الزوايا والحنايا، كانت هناكبضائع معروضة على مباسط للبيع، وصلا أخيراً إلى وسط ساحة كبيرة كان يشغلها سوقأسبوعي، آلاف من الأشخاص يتحادثون، يبيعون ويشترون، لم يرفع الشاب نظره عن صديقهالجديد، فهو لم ينسَ أن ماله كلّه صار الآن بين يديه، كان يود لو يستطيع أن يطلباسترجاعه، لكن شعر في قرارة نفسه أن في هذا شيئاً من عدم اللباقة، فهو لم يكن يعرفعادات هذه البلاد العربية التي يطأ أرضها الآن.
- تكفي مراقبه، فهو أقوى منه ـقال في نفسه.
فجأة، وفي وسط هذه الأكوام من البضائع، وقعت عيناه على أجمل سيفرآه في حياته، غمده من فضة، ومقبضه أسود، مرصّع بالأحجار الكريمة. فعاهد نفسه علىأن يشتري هذا السيف عندما يعود من مصر.
قال لصاحبه:
- اسأل التاجر كم سعره؟
وقد لاحظ أنه استغرق ثانيتين من الغفلة فقط وهو يتأمل السلاح، انقبض قلبه كمالو أن صدره تقلّص فجأة، خشي الالتفات حوله، فهو يعلم جيّداً ما الذي ينتظره، وبقيمسمّر العينين في السيف، وأخيراً تسلّح بالشجاعة واستدار، كان كل شيء حوله، السوق،الناس الذين كانوا يروحون ويجيئون، يصرخون، يشترون السجاد، والبندق والخس بجوارأطباق النحاس، والرجال الذين كانوا يسيرون يداً بيد، والنساء المحجبات، والعطورالغريبة، لكن مامن أثر لصديقه، مامن شيء على الإطلاق، لاظل له.
حاول أن يقنعنفسه في بداية الأمر، أنه وصديقه قد ضلاّ بعضهما وغابا عن أبصار بعضهما بعضاًصدفةً، فقرر أن يبقى في مكانه على أمل أن يعود إليه صديقه قريباً.
وبعد وقتقصير صعد رجل إلى أحد تلك الأبراج المشهورة، وبدأ بالآذان، وكل الموجودين جثوا،ولطموا الأرض، بجباههم، وأخذوا يرتلون، ثم بعد ذلك، وكمستعمرة من النمل في غمرةالعمل، حزموا يرتلون، ثم بعد ذلك، وكمستعمرة من النمل في غمرة العمل، حزموابضائعهمو انصرفوا.
راقب الشاب الشمس فترة طويلة، إلى أن اختفت هي أيضاً خلفالبيوت البيضاء المحيطة بالساحة، وتخيّل كيف أنه عندما أشرقت عليه ذات صباح كانمايزال على أرض قارة أخرى. كان راعياً، وكان لديهستون غنمة، وكان على موعد معالفتاة الشابة، وفي الصباح أثناء تجواله في الأرياف، كان يعلم مايمكن أن يتعرضإليه، والآن ومع الشمس التي تغيب في بلدٍ آخر، يجد نفسه غريباً على أرض غريبة لايستطيع حتى أن يفهم اللغة التي يتكلمونها.
لم يعد راعياً، ولم يعد يمتلك شيئاً،ولاحتى المال اللازم كي يعود على أعقابه ويستدرك كل شيء.
- حصل كل هذا مابينشروق وغروب الشمس نفسها ـ قال في نفسه ـ راثياً لحاله، مفكّراً بأن الأشياء تتغيرأحياناً في الحياة في مدى وجيز لايسمح للمرء أن بالتعود على ما آلت إليه.
كانيخجل من الاستسلام للبكاء، لم يكن قد بكى إطلاقاً أمام أغنامه، لكن ساحة السوق كانتخاوية، وكان هو بعيداً عن وطنه.
بكى وبكى، لأن الإله كان ظالماً، ولأنه يجازيالناس الذين يؤمنون بأحلامهم الخاصة.
- عندما كنت مع أغنامي، كنت سعيداً أشاركبسعادتي كل من يحيطون بي، وكان الناس يرونني قادماً، ويستقبلونني استقبالاً جيداً،أما الآن فأنا حزين وتعيس، ماذا سأفعل؟ سأصبح أشد لؤماً، ولن أثق بأي إنسان كان بعدالآن. هناك شخصاً خانني، وسأكل كل هؤلاء الذين وجدوا كنوزاً مخبأة لأنني لم أجدكنزي، وسأسعى باستمرار لادخار المال الذي املكه، فأنا مازلت ضعيفاً لمواجهة العالم.
فتح جعبته ليتفحّص ماكان لديه فيها، فربما بقي شيء من الوجبة التي كان يأكلهاعلى حافّة القارب، لكنه لم يجد إلا الكتاب الضخم، والمعطف، والحجرين الكريمتيناللتين كان العجوز قد أعطاه إياهما، وعند رؤيته لهما اعتمل في صدره شعور بالعزاء،فقد كان دفع مقابلها ست غنمات، إنهما حجران ثمينتان انتزعتا من قلادة ذهبيّة، كانبمقدروه بيعهما وهكذا يستطيع أن يحصل على بطاقة عودته.
- سأصبح من الآن أكثرخبثاً ـ فكّر وهو يستخرج الحجرين ليخبئهما في قعر جيبه، كان في الميناء والشيءالصادق الوحيد الذي قاله ذلك اللص: الميناء يعجّ دائماً باللصوص.
  #7  
قديم 07-13-2013, 02:57 PM
 


فهم الآن جهودصاحب المقهى اليائسة، فقد كان يحاول أن يقول له بألا يثق بذلك الرجل، أنا ككلالآخرين: أنظر إلى العالم كما أتمنى أن يكون، وليس كما تجري الأمور في الواقع.
بقي يتفحّص الحجرين الثمينتين، داعبهما بلطف وتحسس حرارتهما ونعومتهما، إنهمانزه الوحيد، ومجرّد لمسهما كفيل لأن يزرع في نفسه نوعاً من الشعور بالسكينة فقدكانتا تذكّرانه بالرجل العجوز: " عندما تريد شيئاً بالفعل، فإن الوجود كلّه يتضافرليهيئ لك الحصول عليه ".
كان يتمنّى لو يفهم كيف يمكن لهذا أن يكون صحيحاً.
الآن يجد نفسه هناك على ساحة سوق مقفرة، لايملك درهماً في جيبه، دون أغناميحرسها في الليل، أما الحجران فقد كانتا تشكّلان الدليل الذي يثبت أنه قد التقىملكاً يعرف أسطورته الشخصية، وعلى اطّلاع بما قد فعله بسلاح أبيه، وبتجربتهالجنسيّة الأولى.
الحجران تفيدان في التنبؤ وتدعيان " أوريم وتوميم "، أعادهماإلى مكانهما في الجعبة وقرر أن يقوم بالتجربة، فالعجوز كان قد قال له أن عليه طرحأسئلة واضحة، لأن الحجرين لاتفيدان السائل في شيء إن لم يكن يعرف مايريد.
عندئذٍ سأل الشاب إن كانت بركة العجوز ترافقه دائماً، سحب من جيبه واحد منالحجرين فكانت "نعم"، ثم سأل هل سأجد كنزي؟ وضع يده في جيبه ليمسك بواحدة منها،عندها انزلقتا كلتاهما من ثقب موجود في القماش، لم يكن قد لاحظ قط أن جعبته مثقوبة،انحنى ليلتقط أوريم وتوميم، ليعيدهما إلى الكيس، ولكن عند رؤيته لهما على الأرض،مرّت في ذاكرته جملة أخرى: " تعلّم أن تتبع وأن تحترم العلامات "، هذا ماكان قدقاله الملك العجوز أيضاً.
علامة ! وشرع الشاب بالضحك لوحده، ثم التقط الحجرين،أعادهما إلى جعبته الفتوقة، والتي لم يكن لديه أية رغبة في إصلاحها. تستطيع الحجرانالهرب من هذا الثقب إن أرادتها، كان قد فهم أن هناك بعض الأشياء التي لايجوز للمرءأن يطلبها كي لايهرب من قدره المحتوم.
- لقد وعدت أن أتخذ قراراتي الخاصة بنفسيـ قال في نفسه، لكن الحجرين كانتا قد أحبرتاه بأن العجوز كان دائماً إلى جانبه،وهذا الجواب أعاد له الثقة بنفسه. نظر مليّاً من جديد إلى السوق المقفرة، ولم يعديشعر باليأس الذي كان يعذّبه من قبل، ولم يعد العالم الذي يحيط به عالماً غريباً،بل صار عالماً جديداً، فبعد كل شيء، هذا ماكان يرمي إليه: " معرفة عوالم جديدة،فحتى لو لم يصل إلى أهرامات مصر، فقد ذهب إلى أبعد مما يذهب إليه أي راعٍ آخر ".
- آه ! ليتهم يعلمون أنه بأقل ساعتين من السفر في القارب يوجد الكثير منالأشياء المختلفة ... ـ قال لنفسه.
تبدى العالم الجديد أمام ناظريه على شكل سوقأسبوعية مقفرة، في حين كان قد رأى هذا المكان من قبل يغصّ بالحياة، وهو لن ينساه،تذكّر السيف الذي دفع ثمناً غالياً من أجل تأمله لحظة، وفجأة شعر أن بإمكانه أنينظر للعالم إما من خلال نظرة ضحية السارق البائسة، أو من خلال نظرة المغامر الذييسعى وراء كنز.
- إنني مغامر يسعى بحثاً عن كنز ـ فكّر قبل أن يغط منهكاً فينومٍ عميق.

× × ×

أفاق وهو يحس بأن أحداً ما يهزّه من كتفه، كان قدنام وسط ساحة السوق الأسبوعي الذي بدأت تدب فيه الحركة، نظر حوله باحثاً عن أغنامه،لكنّه تنبه إلى أنه الآن في عالمٍ آخر، واستبدل الإحساس بالحزن الذي يكابده بإحساسالسعادة، وأصبح بمقدوره الآن الانطلاق، وأن يكد للبحث وراء الطعام والشراب، وصارأكثر إصراراً في البحث عن الكنز، لم يكن لديه درهم في جيبه، لكنّه يملك الإيمانبالحياة، ومساء الأمس اختار أن يكون مغامراً مشابهاً لشخصيات اعتاد أن يقرأ عنها فيالكتب.
أخذ يتنزّه على أرض الساحة بتريّث، حيث كان التجار قد أخذوا بنصببراكاتهم، فساعد رجلاً يبيع السكاكر على نصب براكته، وكانت ترتسم على وجه هذا الرجلابتسامة لامثيل لها، كان جذلاً للغاية، يفيض حبوراً، ومنفتحاً على الحياة، ومستعداًللقاء يوم عمل جيّد.
ابتسامته تذكّر نوعاً ما بالشيخ، ذلك الملك العجوز الغريب،الذي كان قد تعرّف عليه.
- هذا لايصنع الحلوى، لأنه يريد السفر، أو الزواج منابنة تاجر، كلاّ إنه يصنع السكاكر لأنه يحب هذه المهنة ـ فكّر الشاب ـ ثم لاحظ أنهكان قادراً على فعل مايفعله الشيخ، وهو معرفة إن كان المرء قريباً أو بعيداً عنأسطورته الشخصية.
- هذا سعل مع أنني لم أكن قد تبيّنت ذلك أبداً.
عندمافرغا من تركيب البراكة، قدّم له الرجل ما أعدّ من الحلوى، فأكلها بسرور كبير، ثمشكره وانطلق في طريقه، وبعد أن ابتعد قليلاً عنه رواده التفكير بأن البراكة قد نصبتمن قبل شخصين اثنين، أحدهما يتكلّم العربية، والآخر الأسبانية، ومع ذلك كانامتفاهمين.
- توجد لغة فيما وراء الكلمات ـ حدّث نفسه ـ لقد حصلت على هذه الخبرةمن قِبَل الأغنام وهاأنذا أتوصّل إلى ذلك مع البشر.
إنه يتعلّم أشياء جديدةومتنوعة كان قد اختبرها من قبل، ومع ذلك فهي جديدة لأنها قد وجدت مصادفة عبر دربهدون أن يكون قد حسب لها حساباً، هذا لأنه اعتاد على مثل هذه الأشياء.
- لوأستطيع أن اتعلّم فك رموز هذه اللغة التي تتجاوز الكلمات لاستطعتُ فكّ رموز العالم.
- " كل شيء هو شيء واحد وفريد " ، هذا ماقاله الرجل العجوز.
قرر أن يجوببكل هدوء شوارع " طنجة " الصغيرة، فبهذه الطريقة فقط سينجح بإدراك العلامات، وهذايتطلّب دون شك قدراً كبيراً من الصبر، لكن الصبر هو الفضيلة الأولى التي يتعلّمهاالراعي.
ومرة أخرى فهم كيف يطبّق عمليّاً، في هذا العالم الغريب، الدروس نفسهاالتي تعلّمها من أغنامه.
- " فكلّ شيء هو شيء واحد وفريد "، كان قد قال الرجلالعجوز.

× × ×

رأى تاجر الزجاجيّات شروق الشمس، فأحس بالغم الذيكان يكابده عند مطلع كل صباح، فهو في المكان نفسه منذ مايقارب الثلاثين عاماً، وكانمتجره يقع في قمّة طريق منحدرة، ومن النادر مرور زبون واحد من هناك، وقد فات الأوانعلى التاجر كي يغيّر مهنته، فكل ماكان قد تعلّمه عبر حياته كلّها هو بيع وشراءالزجاجيّات.
جاء وقت صار فيه متجره معروفاً من قِبل كثير من الناس.
تجارعرب، جيولوجيون فرنسيون وإنكليز، وجنودٌ ألمان، وكلّهم لديهم المال الوفير، في حينأن بيع الزجاج في ذلك الوقت كان يشكّل مغامرة كبيرة، وقد تخيّل كيف سيصبح رجلاًغنيّاً، وسيكون عنده تلك االنسوة الجميلات كلهنّ عندما يشيخ.
مضى الوقت بطيئاً،والمدينة على حالها، وازدهرت مدينة " سبتة " أكثر من " طنجة " وأخذت التجارة منحنىآخر، ولم يبق بعد زمن قليل إلا بعض المحلاّت القليلة في المرتفع، ولن يأتي منيتسلّق طريقاً منحدرة من أجل هذه المخازن التعيسة.
أما تاجر الأواني فلم يكنليملك الخيار، فقد عاش الثلاثين عاماً من عمره في بيع وشراء الزجاجيّات، وصار الوقتمتأخراً كي ينخرط باتجاه آخر.
طوال فترة الصباح، كان يراقب الرائحين والغادينالقلائل في الطريق الصغيرة، وهذا ماكان يفعله منذ سنوات حتى صار يعرف عادات المارّةفرداً فرداً.
وقبل موعد الغداء بلحظات قليلة توقف شاب غريب أمام واجهة المتجر. كان يرتدي كسائر الناس، لكن تاجر الزجاجيّات اكتشف ببصيرته الثاقبه أنه لم يكن يملكالمال.
وعلى الرغم من ذلك، فقد قرر أن يعود إلى متجره وينتظر بضع دقائق حتىينصرف الشاب.

× × ×

على باب المتجر، كانت قد علقت يافطة تشير إلىأن صاحبه يجيد التكلّم بعدة لغات. لمح الشاب أحدهم يظهر خلف طاولة مبسط السلع، فقالله:
- إنني أستطيع تنظيف هذه المزهريات، ففي هذه الحالة التي هي عليها، فإنأحداً لن يشتريها، هذا إن أردت ذلك.
نظر التاجر دون أن ينبس ببنت شفة.
- بالمقابل، فإنك سوف تعطيني شيئاً آكله، اتفقنا؟
بقي الرجل صامتاً، وفهم الشابأن عليه أن يتّخذ قراراً. كان معطفه في جعبته، ولم يكن بحاجة إليه في الصحراء،تناوله وأخذ ينظّف به الأواني الزوجاجية، وبعد نصف ساعة كان قد نظّف ماكان يوجد فيالواجهة بينما دخل زبونان واشتريا عدداً منها، وعندما فرغ من تنظيفها كلّها، طلب منصاحبها أن يعطيه شيئاً يسد به رمقه.
- هيّا نتغدَّ ـ قال تاجر الزجاجيّات.
علّق لوحة على الباب، وذهبا إلى مقهى صغير في أعلى المرتفع، وبينما كانا جالسينعلى الطاولة الوحيدة هناك، قال بائع الزجاجيّات مبتسماً:

- لم يكن هناك أيداعٍ لتنظيف أي من الزجاجيّات، فالشرع القرآني يرغم على إطعام الجائع كائناً من كانهذا الجائع.
- لكن لماذا تركتني أقوم بهذا العمل؟
- لأن الزجاجيّات كانتمتّسخة، وأنت مثلي، كلانا بحاجة لتطهير رأسه من الأفكر السيئة.
عندما فرغا منالطعام، التفت التاجر نحو الشاب:
- أريدك أن تعمل في متجري، فقد دخل اليومزبونان بينما كنتَ تنظّف الزجاجيّات، إن في ذلك لعلامة حسنة.
- يتكّلم الناسكثيراً عن العلامات ـ فكّر الراعي ـ لكنّهم على الأصح لا يعلمون عمّ يتكلّمون،مثلهم مثلي، أنا الذي لم أكن قد لاحظت أنه طيلة كثير من السنين كنت أتكلّم معأغنامي لغة دون كلمات.
- هل تريد أن تعمل لدي؟ ألح تاجر الزجاجيّات.
- أستطيع أن أعمل طيلة الوقت المتبقي من اليوم ـ أجاب الشاب ـ سأنظّف حتى طلوع الفجرالزجاجيّات كلّها، بالمقابل يلزمني بعض المال كي أكون غداً في مصر.
فجأة أخذالتاجر بالضحك وقال:
- لو نظّفت زجاجيّاتي طيلة عام بأكمله، أو كسبت عمولةجيّدة لقاء بيع أي قطعة منها، سيلزمك اقتراض المال الكثير كي تذهب حتى مصر، فآلافالكيلومترات الصحراوية تفصل " طنجة " عن أهرامات مصر.
عندها خيّم فاصل منالصمت، وفجأة بدت معه المدينة غافية، فما عاد يُلمح فيها أي نشاط، وانتهت محادثاتالتجار فيما بينهم، وآذان الرجال الذين كانوا يصعدون إلى المئذنة قد توقف، ولم يقديرى تلك السيوف الجميلة ذات المقابض المرصّعة.
لا رجاء، لا مغامرة، لا ملوككبار لا أساطير شخصيّة، لا كنز ، لا أهرامات بعد الآن، كان يشعر كم لو أن العالمبأسره قد صار أخرس، لأن روحه قد غُلِّفت بالصمت.
لم يبقَ هناك ألم، أو عذاب، أوإخفاق، بكل بساطة لم يكن يملك إلا نظرة جوفاء تعبر باب الحانة ورغبة عارمة في الموتلدى رؤيته كل شيء ينتهي في هذه اللحظة وإلى الأبد.
نظر إليه ذلك التاجرمحتاراً، فذلك السرور الذي كان قد لمحه على وجهه في ذاك الصباح قد اختفى فجأة.
- أستطيع أن أعطيك المال كي ترجع إلى بلادك يا بني ـ قال تاجر الزجاجيّات، لكنالشاب بقي صامتاً، ثم نهض، أصلح ثيابه، ولملم جعبته.
- سأعمل عندك ـ قال، ثمأضاف بعد فترة أخرى من الصمت.
- يلزمني المال لشراء بعض الأغنام .

  #8  
قديم 07-13-2013, 02:59 PM
 
:: الجزء الثاني ::


لم يكن قدمضى أكثر من شهر على عمل الشاب عند بائع الزجاجيّات، لكن هذا العمل لم يكن هو الذييطمح إليه حقاً، فالتاجر لم يكن يكفّ عن التذمر طوال النهار، آمراً إيّاه من وراءطاولته بأن ينتبه على الدوام إلى الحاجات المعروضة خشية أن ينكسر منها شيء، ولكنهبقي، فعلى الرغم من أن التاجر كان متذمّراً، فهو على الأقل لم يكن ظالماً، فقد كانيتلقّى منه عمولة لابأس بها لقاء كل قطعة تُباع، وقد استطاع حتى الآن ادخار بعضالمال، وبعد أن قام بحساباته هذا الصباح، ألفى أنه لو عمل طوال اليوم، وبنفس هذهالشروط للزمه عام كامل كي يستطيع شراء بعض الأغنام.
- إنني أود ولو أقوم بعرضالزجاجيّات خارج المخزن، سيكون من المستطاع وضع رف في الخارج، إنه سيجذب المارّة منهناك في أسفل الجبل.
- لم يسبق لي أن فعلتُ شيئاً مماثلاً ـ أجاب التاجر ـ رفّ ! إن الناس ستصطدم به في الممر، والزجاج سوف يتهشّم.
- عندما كنتُ اطوف بأغناميفي القرى، فقد كان من الممكن أن يتعرّض بعضها للدغة أفعى، وتذهب ضحيّة ذلك، هذاالخطر يشكّل جزءاً من حياة الأغنام والرعاة.
راح التاجر يلبّي طلبات أحدالزبائن، لقد باع الآن ثلاث مزهريات من الكريستال، فقد نشط البيع أكثر من أي وقتمضى، وكأن العالم قد عاد إلى ماكان عليه عندما كانت الطريق المؤديّة إليهم واحدة منأهم الطرق التي تجذب الزبائن في " طنجة ".
- أصبح المارّة يتزايدون أكثر فأكثرـ قال التاجر لمستخدمه عندما انصرف الزبون ـ وإن مانكسه الآن يمكن أن يؤمّن ليمعيشة أفضل، ويمكن أن يسمح لك بشراء أغنامك في وقتٍ وجيز، ماذا نريد من الحياة أكثرمن هذا؟
- هذا لأنه يتوجد علينا أن نقتفي العلامات ـ أجاب الشاب دون تفكير ـلكنّه تأسف لأنه تكلّم هكذا، فالتاجر لم يكن قد مُنّي أبداً بفرصة لقاء ملك.
- هذا هو ماداعه الشيخ " المبدأ المناسب " أو " حظ المبتدئين "، لأن الحياة تريدللإنسان أن يحيا أسطورته الشخصية.
على كل حال، فهم التاجر جيداً عم كان يتحدثهمستخدمه، فحضور هذا الأخير يمثّل بحد ذاته علامة، وعلى مر الأيام وبازدياد المالالذي صار يكسبه بعد مجيئه لم يعد نادماً على استئجار هذا الشاب الأسباني، غير أنأجر هذا الأخير كان أكثر من العادي، وبما أنه كان يعتقد بأن البيع سيسر أيضاً نحوالأفضل، فإنه قد دفع للشاب مايستحقه كعمولة. لكن حدسه كان ينبئه أن الشاب سيعودعمّا قريب إلى أغنامه، سأله كي يغيّر الحديث بخصوص عرض البضائع:
- لماذا كنتَتريد الذهاب لرؤية الأهرامات؟
- لأنهم تحدّثوا لي كثيراُ عنها ـ أجاب الشابمتحاشياً الكلام عن حلمه.
فالكنز صار الآن مسألة ذكرى مؤلمة باستمرار، وكانيحاول أن يمنع نفسه من التفكير به بعد.


قال التاجر:
- إنني ماعرفتأحداً هنا أراد اجتياز الصحراء فقط كي يرى الأهرامات، فهي ليست إلا كومة من الحصى،حتى أنك لتستطيع أنت أن تبني لنفسك هرماً في حديقتك.
- إنك لم تحلم إطلاقاًبالسفر ـ قال الشاب وهو يمضي ليلبي طلب زبون آخر آتى لتوّه إلى المخزن.
وفياليوم الثالث، عاد الشاب إلى التحدّث مع معلّمه عن رف البضائع، قال:
- أنا لاأحب التغيير كثيراً، فأنتَ وأنا لسنا من " حسان "، ذلك التاجر الغني الذي لن يتأثرأبداً في حال خسارته بصفقة، أما نحن الإثنين، فسوف يتوجب علينا أن نتحمّل تبعةأخطائنا.
- هذا صحيح ـ أجاب الشاب.
سأل التاجر:
- لماذا تصرّ كثيراًعلى رفّ العرض هذا؟
- أريد العودة بسرعة إلى أغنامي، وعندما تهب رياحنا فعليناأن نغتنمها، وأن نعمل مابوسعنا كي يحالفنا مايسمونه بـ " المبدأ المناسب " أو " حظالمبتدئ " .
بقي التاجر صامتاً للحظة ثم قال:
- منحنا النبي القرآن، الذيفرض علينا خمسة فروض فقط، علينا مراعاتها في حياتنا، الأكثر أهميّة منها هو ذا: وحدانية الإلة، والفروض الأخرى هي: الصلاة خسمة أوقات في اليوم، صيام رمضان، وواجبالزكان لمساعدة الفقراء، صمت بينما كانت عيناه مغرورقتين بالدموع وهو يتحدّث عنالنبي. كان رجلاً ورعاً للغاية، وحتى لو كان يبدو غالباً لجوجاً ونافذ الصبر، فإنهيجهد للعيش منسجماً مع الشرع الإسلامي.
- وماهو الفرض الخامس ؟ ـ سأل الشاب
- منذ يومين سألتني إن لم أكن قد حلمتُ إطلاقاً بأحلام السفر. الفرض الخامس هوأن يقوم كل مسلم مؤمن بالسفر. فأنه يتوجب علينا أن نقوم خلال عمرنا برحلة واحدة علىالأقل إلى مدينة "مكة المكرّمة". فـ " مكّة " أيضاً هي مدينة تبعد عنا أكثر منالأهرامات. وعندما كنت فتيّاً فضّلت أن أستثمر القليل نم المال الذي كنت أملكه فيشق طريقي في هذه التجارة، على أمل أن أصبح غنيّاً، وأملك المال، لكنني لم أكنلأستطيع أن أعهد لأحد بعناية الزجاجيّات، لأنها أشياء حساسة، حينذاك كنت أرىمجموعات من الناس يمرّون على مخزني، في طريقهم إلى " مكة " ، كان من بينهم حجاجأثرياء يرافقهم موكب من الخدم، وجمال لكن معظمهم كان أكثر فقراً مني. كلّهم كانوايذهبون ويعودون سعداء، وكانوا يضعون على أبواب مساكنهم رموز قيامهم بالحج، وأحدأولئك الحجيج كان حذّاءً، وكان يعيش من خلال إصلاح أحذية هذا وذاك، وقد أخبرني أنهقد مشى عاماً بكامله في الصحراء، ولكنّه كان يشعر بالتعب أكثر عندما كان يتوجّبعليه المرور على منازل كثيرة في " طنجة " لشراء الجلد.
سأل الشاب:
- لماذالاتذهب الآن إلى مكّة ؟

- لأن مكة تجعلني اتمسّك بالحياة، وهي التي تمنحنيالقوة لتحمّل هذه الأيام الرتيبة، وهذه المزهريات المنضدة على الرفوف، والغداءوالعشاء في هذا المطعم البائس، وأخشى أن أحقق حلمي، ثم أفقد كل رغبة بأن أبقىحيّاً. أما أنت ... فإنك تحلم بالأغنام، وبالاهرامات، أنت لست مثلي لأنك تريد تحقيقأحلامك، أما أنا فكل ما أريده هو أن أحلم بـ " مكة "، لقد تخيّلت من قبل آلافالمرات، عبور الصحراء ووصولي إلى الساحة التي يوجد بها الحجر المقدّس، والدوراتالسبع التي عليّ ان أتمّها قبل أن أستطيع لمسه، وتخيّلت من سيكون بجانبي أو أمامي،من الأقاويل والدعوات التي سنقولها ونتبادلها معاً. لكنني أخشى ألا يكون ذلك سوىخيبة كبيرة، ولهذا أفضّل أن أكتفي بالحلم.
وفي ذلك اليوم سمح التاجر للشاببإنشاء رف عرض البضائع، فليس بنفس الطريقة يعيش الناس كلّهم أحلامهم.


× × ×

مرّ شهران، وصار رفّ البضائع يجذب إلى المتجر عدداً كبيراً من الزبائن،الأمر الذي جعل الشاب يحسب أنه سيستطيع خلال أشهر ستة العودة إلى أسبانية وشراءستين غنمة، فبأقل من عام سيستطيع مضاعفة قطيعه، وأن يتاجر مع العرب لأنه نجح فيتعلّم هذه اللغة الغريبة.
منذ هذا الصباح المشهود على أرض ساحة السوق، لم يعديستخدم أبداً أوريم وتوميم، لأن مصر قد أصبحت بالنسبة له حلماً بعيد المنال، حلماًيبعد عنه كما تبعد مكّة عن بائع الزجاجيّات، على كل حال صار مقتنعاًَ بعمله الآن،ولم يكن يتوقف عن التفكير باليوم الذي سيرسو فيه كمنتصر في "طريفه".
- تذكّردائماً أن تعرف ماتريد ـ هكذا كان قد قال الملك العجوز، والشاب كان يعرف مايريد أنيعمل في هذا الصدد.
فمن الممكن أن يكون كنزه هو أن يأتي إلى هذه الأرض الغريبة،وأن يلتقي بسارق، وأن يضاعب أغنامه مرتين دون أن ينفق قرشاً واحداً.
كان فخوراًبنفسه، لأنه تعلّم أشياء هامّة كتجارة الأواني الزجاجيّة، لغة دون كلمات، وتفسيرالعلامات.
في عصر ذات اليوم، رأي رجلاً في أعلى المرتبفع، كان هذا الرجل يشكولأنه لم يستطع أن يجد مكاناً مناسباً يشرب فيه شيئاً مابعد كل هذا العناء، من تسلّقالمنحدر.
كان الشاب يعرف الآن لغة العلامات فراح يبحث عن معلّمه ليكلّمهقائلاً:
- علينا أن نقدّم الشاي للناس الذين يتسلّقون المنحدر.
أجابالتاجر:
- يوجد هنا الكثر من الأماكن التي يمكن أن يُشرب فيها الشاي.
- سيكون بإمكاننا تقديم الشاي إلى الزبائن في أقداح من الكريستال، بهذه الطريقةسيُعجبون بالشاي، وسيبتاعون الأواني الزجاجية لأن أكثر مايفتن الناس هو الجمال.
أخذ التاجر يطلب رأي مستخدمه دون أن يجيب بشيء لكن في ذلك المساء بالذات، وبعدأن أدى صواته، وأغلق مخزنه، جلس على الرصيف، ثم دعاه إلى تدخين النرجيلة، هذاالغليون الغريب الذي يدخّنه العرب !
- وراء أي شيءٍ أنت تجري؟ سأل تاجر الزجاجالعجوز.
- كنت قد أخبرتك أنني بحاجة إلى تعويض أغنامي، ومن أجل هذا يلزمنيالمال.
وضع الرجل جمرات جديدة في النرجيلة وأخذ نفَساً طويلاً.
- ثلاثونعاماً مرّت على إدارتي هذا المخزن، فإنا أعرف الرجاج الجيّد من الرديء، واعرف بعمقخصوصيات هذه التجارة كلّها، فأنا معتاد على مخزني، وعلى حجمه، وعلى زبائني، ولوشرعت في بيع الشاي بأقداح من الكريستال، فإن القضيّة ستزداد أهميّة أكثر فأكثر،وسيتوجب

علي أن أغير طريقتي في الحياة.
- ألن يكون في هذا شيء حسن ؟
- أنامعتاد على نمط حياتي، فقبل مجيئك كنت أفكر بأنني قد أضعت وقتي بالمكان نفسه، بينماأصدقائي كلهم، على العكس، قد غيّروا أعمالهم، فبعضهم خسر، وبعضهم من ازدهر عمله،وهذا ماجعلني أغرق في الغم، وأنا أعرف أن الأمر لم يكن فعلاً هكذا،
- فقد أصبحمخزني بالمستوى الذي كنت أتمناه دائماً، ولا أريد التغيير لأنني لا أعرف كيف أتغير،وقد أصبحتُ منسجماً مع نفسي.
لم يكن الشاب يعرف مايقول، عندئذٍ أردف العجوز:
- لقد كنتَ بالنسبة لي بركة وها أنذا اليوم أفهم شيئاً: أن أية نعمة تُرفض يمكنأن تنلقب إلى نقمة، فأنا لا أنتظر بعد شيئاً من الحياة، وأنت، أنت تجبرني علىاستشفاف ثروات، وآفاق لم تخطر على بالي، وقد عرفتها الآن، وعرفت إمكانياتياللامحدودة، وسأتألم كثيراً لأنني لم أكن هكذا من قبل، لأنني أدرك الآن إنني أستطيعامتلاك كل شيء، لكنني لا أريد ذلك.
- لحسن الحظ أنني لم أكن قد قلت شيئاً لبائعالبوشار ـ قال الشاب في نفسه.
تابع الإثنان تدخين النرجيلة والتحدث باللغةالعربية، بيمكا كانت الشمس تميل للغروب...
كان الشاب مسروراً لأنه يتكلمالعربيو فمنذ عهد بعيد اعتقد أن نعاجه تستطيع تعليمه كل شيء، لكنها كانت عاجزة عنتعليمه اللغة العربية.
- هناك أشياء أخرى في العالم لا تُحسن النعاج تعليمهاللإنسان، فكّر وهو ينظر للتاجر دون أن يقول شيئاً، هذا لأنها لاتبحث عن أي شيء آخرغير الماء والكلأ، أظن أنها ليست هي التي تعلم، وإنما انا من يتعلم.
- " مكتوب " ـ قال التاجر أخيراً.
- ماذا يعني هذا؟
- كان يجب أن تولد عربياً كي تفهمذلك، لكن يمكن أن تكون الترجمة شيء من هذا القبيل: " هو شيء قد كُتب علينا"، وبينماكان يُطفي جمرات النرجيلة قال للشاب إنه يستطيع أن يقدّم للزبائن الشاء في أقداح منالزجاج،

في بعض الأحيان، يستحيل على المرء أن يسيطر على مجرى الحياة.


× × ×



صار الناس يتسلّقون الطريق المنحدرة، وكانوايشعرون بالتعب لدى وصولهم أعلاها.
  #9  
قديم 07-13-2013, 03:00 PM
 

في علية ذلك المنحدة كان هناك متجرللزجاجيّات الجميلة، وشاء بالنعناع يُشرب كمرطب لذيذ، كان الناس يدخلون لتناولالشاس الذي يقدّم لهم في كؤوس زجاجيّة رائعة.
- لم تخطر ببال زوجتي إطلاقاً هذهالفكرة ـ قال رجل وقد اشترى بضع أكواب زجاجية، فقد كان لديه زوار في ذلك المساء،وسوف يُفتنون بروعة هذه الأكواب، زبون آخر أكّد من جهته أن الشاي سيكون أفضل عندمايُقدّم بكؤوس زجاجيّة، فهي تحافظ على طيب نكهته، فشرب الشاي بكؤوس زجاجيّة واحد منتقاليد الشرق بسبب مغرياته السحرية.
وفي وقت قصير انتشر الحبر بين الناس، وبدأالكثير منهم يتقصّدون الصعود حتى قمة المنحدر، ليتعرّفوا على المتجدر الذي دشّن هذاالتجديد لتجارة مندثرة، وافتتحت متاجر آخرى تقدّم الشاي في كؤوس من الزجاج، لكنموقعها لم يكن في عالية طريق منحدرة، الأمر الذي لم يجلب لها الزبائن بسرعة كبيرةواضطرّ التاجر إلى تشغيل عاملين جديدين، وقد توجب عليه أن يستورد بالاضافة إلىالزجاجيّات كميّات كبيرة من الشاي كي تفي بحاجة الاستهلاك المتزايد يوماً إثر يوم،من قِبل الناس والرجال المتعطّشين للأشياء الجديدة.

وهكذا مرّت أشهر ستة .


× × ×


أفاق الشاب قبل طلوع السمي، أحد عشر شهراً وتسعةأيام قد مرّت عليه منذ أن وطئت قدميه إفريقية للمرة الأولى.
لبس البدلة العربيةالمصنوعة من الكتّان الأبيض، لقد اشتراها خصيصاً من أجل هذا اليوم. غطّى رأسهبعمامة مثبتاً إيّاها بعقال مصنوع من جلد الجمل، وأخيراً انتعل صندلاً جديداً، ونزلبهدوء.
كانت المدينة ماتزال غافية، تزوّد بفطور خفيف مكوّن من خبز وسمسم، وشربالشاي الساخن في كأن زجاجيّة، ثم جلس على عتبة المخزن وأخذ يدخّن النرجيلة وحده.
دخّن بصمت، دون أن يفكّر بشيء، دون أن يسمع إلا وشوشة الريح المستمرّة التيكانت تصفر حاملة معها رائحة الصحراء، ثم عندما انهى تناول الشاي، وضع يده داخلواحدة من جيوبه، وظلّ للحظات يتأمل ماكان قد سحبه منها، إنه مبلغٌ جيّد من الماليمكن أن يشتري له مائة وعشرين غنمة، مع بطاقة عودته ورخصة استيراد وتصدير من بلدهوالبلد الذي يقيم فيه في الوقت الحاضر.
انتظر بفارغ الصبر استيقاظ التاجرالعجوز من نومه، قم جاء لفتح المخزن. وهكذا سيتناولا الشاي سويّة هذا الصباح.
- في هذا اليوم سأنصرف ـ قال الشاب ـ فقد صار لدي المال اللازم لشراء أغنامي، وأنتأيضاً لديك مايكفي كي تذهب إلى مكّة.
لم يقل التاجر العجوز شيئاً.
- أطلبمباركتك ـ ألحّ الشاب ـ ساعدتني كثيراً.
تابع العجوز تحضير الشاي بصمت، وبعدلأي استدار نحو الشاب وقال:

- أنا فخور بك، لقد أنعشت مخزني، ولكنني لنأذهب إلى مكن، أنت تعرف ذلك جيّداً مثلما أنت على يقين بأنك لن تشتري الأغنامأبداً.
- من قال لك هذا؟ سأل الشاب مندهشاً.
أجاب تاجر الزجاجيّات العجوزبكل بساطة:
- " مكتوب " ، ثم باركه.


× × ×


ذهب الشابإلى غرفته، وجمع متاعه الذي ملأ ثلاثة أكياس، ولحظة الرحيل تماماً انتبه إلى جعبتهالعتيقة، جعبته كراعٍ، التي كانت ماتزال في إحدى زوايا الغرفة، وهي في حالة يرثىلها، لقد تناسى تماماً وجودها، وفي داخلها يوجد كتابه القديم، ومعطفه، والذي عندماسحبه منها، فكّر أن يقدمّه كهديّة لأول ولد يلتقيه في طريه، ثم تدحرجن الحجرانأرضاً " أوريم وتوميم " فتذكّر عندئذٍ الملك العجوز، وقد اندهش تماماً لدى إدراكهأن زمناً طويلاً قد مرّ دون أن يفكّر في لقائه معه، فانصرافه كليّاً إلى العمل دونانقطاع لكسب المال الذي يجنّبه العودة ذليلاً، خافض الرأي إلى أسبانية، هذا الشعورسيطر عليه ومنعه من تذكّر ذلك.
- " لاتتراجع عن أحلامك، وكن متيقّظاً إلىالعلامات " ـ كان قد قال له العجوز.
التقط أوريم وتوميم من على الأرض، وقدتملّكه من جديد إحساس غريب بأن الملك على مقربة منه، وأنه قد عمل بشكل شاق طيلةسنة، وهاهي العلامات تشير إلى أن لحظة الانطلاق قد بدأت.
- سألفي نفسي علىماكانت عليه تماماً ـ فكّر ـ فالنعاج لم تعلمّني أبداً أن أتحدّث العربيّة.
ومعذلك فقد علّمته شيئاً مهماً آخر، وهو أن هناك لغة ما في العالم يفهمها الجميع، وقداستخدمها هو طيلة ذلك الوقت كي يعمل على الارتقاء بالمتجر، إنها لغة الحماي، أشياءيقوم بها المرء بحب وولع كي يحصل على نتيجة يأملها أو يؤمن بها، لم تعد " طنجة " بالنسبة إليه مدينة غريبة، فقد توّلد لديه شعور بأنه مثلما استطاع اكتشاف هذاالمكان، فإنه بالمثل يستطيع اكتشاف العالم.
- عندما تبتغي شيئاً بالفعل، فإنالعالم بأسره يسعى ليسمح لك تحقيق مبتغاك، كان قد قال الملك العجوز.
لكن الملكالعجوز لم يتكلّم عن لصوص الصحراء الشاسعة، ولا عن الناس، الذين يعرفون أحلامهم ولايريدون تحقيقها، الملك العجوز لم يتحدّث عن الاهرامات على أنها كومة من الحصى، وقدنسي أن يقول أيضاً أنه عند امتلاك المال لشراء قطيع أكبر من ذلك الذي كنت تملكه منقبل فلا تتردد بشرائه.
التقط الجعبة، وتناولها مع بقية الأمتعة الأخرى ونزلالسلّم. كان التاجر العجوز يلبّي طلبات زوجين أجنبيين، بينما زبائن أخرون يتناولونالشاي في المخزن في أقداح من الزجاج. بالنسبة لهذه الساعة من الصباح، كانت بدايةجيّدة لنهار جديد.
ومن المكان الذي نظر فيه للتاجر، لاحظ للمرة الأولى أن شعرهكشعر الملك العجوز. ثم تذكّر ابتسامة بائع السكاكر أول يوم أفاق فيه " طنجة " حيثلم يكن لديه أية فكرة أين يذهب، ولم يكن لديه مايؤكل، فقط تلك الابتسامة التياستدعت في خاطره ذكرى الملك العجوز.
- إنه قد مرّ من هنا وترك بصمة ـ فكّرالشاب، ربما كا واحد من هؤلاء الأشخاص سنحت له فرصة التعرف على الملك في لحظة أوأخرى من حياته، لقد قال في الحقيقة أنه يظهر دائماً لمن يعيش أسطورته الشخصية.
رحل دون أن يودع تاجر الزجاجيّات فهو لايريد أن يبكي: كان بالامكان رؤيته فيهذا الوضع، لكنه سيتحسّر على تلك الحقبة وعلى كل الأشياء الحسنة التي تعلّمها.
وازدادت ثقته بنفسه وأحس برغبة عارمة في اكتشاف العالم.
- لكنني ذاهبباتجاه الريف الذي أعرفه جيّداً من قبل لأرعى أغنامي من جديد.
لم يعد مقتنعاًبقراره، إذ أنه عمل سنة بكاملها من أجل تحقيق حلم، صار مع مرور الوقت يفقد أهميّتهشيئاً فشيئاً، ربما لأنه لم يكن في المحصّلة حلمه.
- من يعلم؟ في نهاية الأمر،أليس من الأفضل أن نكون كتاجر الزجاجيّات الذي قرر عدم السفر مطلقاً إلى مكة والعيشمع رغبة السفر إليها؟ لكنه تناول "أوريم وتوميم"، هاتان الحجران اللتان كانتاتمدّانه بقوة وإرادة ذلك الملك العجوز، ولعلّه بفعل مصادفة أو علامه ـ حدّث نفسه،فإنه دخل المقهى الذي دخله في اليوم الأول، سارقه لم يكن هناك، أما صاحب المقهى،فقد أحضر إليه كوباً من الشاي.
- بمقدوري دائماً أن أعود راعياً ـ حدّث نفسه ،فقد تعلّمت العناية بالاغنام، وهذا مالا أنساه أبداً، لكن ربما، لن تتوفر لي بعدفرصة أخرى للذهاب إلى أهرامات مصر، فالرجل العجوز كان يمتلك على قلادة من ذهب، وكانيعرف قصتي، إنه ملك حقيقي، ملك عالِم.
فهو على بعد أقل من ساعتي سفر بالقارب منسهول الأندلس، لكن بينه وبين الاهرامات هناك صحراء شاسعة.
لقد فهم أنه يمكنأيضاً تصوّر الموقف كما يلي: أنه الآن على بعد ساعتين من كنزه، لكن حتى هذه المسافةالتي لا تستغرق أكثر من ساعتين من السفر قد كلّفته تكريس سنة كاملة من العمل.
- إنني أعرف جيداً لماذا أريد العودة إلى اغنامي، لأنني أعرف أنها لا تتطلب كثيراً منالعمل، وأن المرء يستطيع أن يحبها، لكن لا أعرف إن كانت يمكن للصحراء أن تُحب،علماً بأن الصحراء هي التي تحتوي على كنزي، وإذا لم أستطع إيجاده فبإمكاني الرجوعإلى بلدي، ومع ذلك فإن الحياة قد أعطتني فجأة المال الكافي، ولدي كل الوقت الذيأحتاجه، فلماذا أحجم إذن؟
في هذه اللحظة عاوده شعور عارم بالغبطة، فهو يستطيعأن يعود راعياً، ويستطيع أن يعود بائع أوان زجاجيّة، وربما يخفي العالم كثيراً منالكنوز الأخرى، لكنّه حلم بحلم تكرر، والتقى ملكاً، وهذا لا يحصل لكل الناس.
كان مسروراً للغاية عندما خرج من المقهى، فقد تذكر أحد ممولي التاجر بالبضائع،والذي كان يحمل إليه أوانيه الزجاجية بواسطة القوافل التجارية العابرة للصحراء.
احتفظ بأوريم وتوميم بين يديه، فبسبب هاتين الحجرين هاهو يعود إلى الدرب التيتؤدي به إلى كنزه.
- إنني دائماً مع هؤلاء الذين يعيشون أسطورتهم الشخصية. كانقد قال الملك العجوز.
ولم يفته الذهاب حتى المرفأ، ليعلم إن كانت الأخراماتبعيدة فعلاً.

× × ×

كان الانكليزي جالساً في مدخل مبنى تصدر منهرائحة الدواب والعرف والغبار، وكأنه ليس بمرفأ وإنما حظيرة للماشية.
- أمضي جلّهذه الأيام لأمرّ على مكان كهذا ـ حدّث الانكليزي نفسه وهو يتسلّى بتقليب مجلةكيميائة ـ عشر أعوام من الدراسة كي أنتهي إلى حظيرة ماشية !
كان عليه أن يتابعطريقه وأن يؤمن بالعلامات، فكل حياته ودراساته قد كرّست في البحث عن اللغة الفريدة،التي يتحدث بها الكون، في البداية كان قد اهتم بالاسبرانتو، ثم بالأديان، ولينتهيبالخيمياء، لقد أجاد التكلّم بلغة الاسبرانتو وانسجم تماماً مع مختلف الأديان،لكنّه لم يصبح خيميائياً بعد، وقد نجح دون شك بتحليل أشياء هامة، لكن أبحاثه وصلتإلى مرحلة لم يعد يستطيع تجاوزها.
حاول إقامة علاقة مع أحد الخيميائيين، لا علىالتعيين، فالخيميائيون شخصيات غريبة لا يفكّرون إلا بأنفسهم، ويمتنعون في أكثرالأحيان عن تقديم مساعدتهم، من يعلم إن كانوا لم يكتشفوا بعد سر الانجاز العظيم،وبعبارة أخرى، " حجر الفلاسفة " ، ولهذا السبب يتغلّقون على أنفسهم بصمت.
لقدأنفق جزءاً من الثروة التي تركها له والده باحثاً دون جدوى عن حجر الفلاسفة، وترددعلى أكبر مكتبات العالم، واشتري أهم وأندر الكتب المتعلّقة بالخيمياء، ففي إحداهاكان قد اكتشف أن خيميائياً عربياً زار أوروبا منذ سنوات عديدة، قيل أن عمره أكثر منمائتي عاماً وأنه اكتشف حجر الفلاسفة، وإكسير الحياة. لقد أثّرت هذه القصةبالانكليزي كثيراً، وكان يمكن لهذه الرواية أن تبقى مجرّد أسطورة من بين سائرالأساطير الكثيرة، لولا أن واحداً من أصدقائه العائدين من رحلة أثرية في الصحراءكان قد حدّثه عن أعرابي يملك قدرات خارقة.
إنه يعيش في واحة " الفيّوم " ـ كانقد قال له ـ والناس يروون أن عمره مائتي عاماً، ويستطيع تحويل أي معدن إلى ذهب،عندها عرف الانكليزي الذي أثارته القصة انفعالاً بلا حدود، فألغى في الحل كافةالتزاماته السابقة، وجمع أهم كتبه والآن هاهو ذا هنا في هذا المرفأ المشابه لحظيرةالماشية.
وفي هذه الأثناء كانت قافلة تجارية كبيرة على أهبة الاستعداد للانطلاقلاجتياز الصحراء. وكانت هذه القافلة ستمر في طريقها إلى الفيوم.
- لابد لي منأن ألتقي هذا الخيميائي اللعين ـ فكّر الإنكليزي.
وأصبحت رائحة الحيواناتمحتملة بعض الشيء.
دخل شاب عربي يحمل أمتعته أيضاً إلى المبنى الذي يحل فيهالانكليزي وحيّاه.
- أين تذهب؟ سأل العربي.
أجاب الانكليزي:
- إلىالصحراء، وعاد إلى قراءته، لم تكن لديه الرغبة في المحادثة حينذاك، إذ كان بحاجةلمراجعة ماكان قد تعلّمه خلال تلك السنوات العشرة، لأن الخيميائي سيُخضعه بالتأكيدلنوع من الاختبار.
تناول الفتى العربي كتاباً أيضاً وأخذ يقرأ بدوره، لقد كتبالكتاب باللغة الأسبانية ـ ياللحظ ـ فكّر الانكليزي، فهو يجيد الأسبانية أكثر منالعربية، وإن كان هذا الفتى سيذهب إلى الفيّوم، فسوف يتحدث معه عندما لاينهمكبأشياء ذات قيمة.


× × ×

- هذا مضحك، على أية حال ـ فكّر الشاببينما كان يحاول قراءة مشاهد الدفن الذي بدأت به القصة.
سنتان مرتا على بدايةقراءتي لهذا الكتاب، وحتى الآن لم أتوصل إلى تجاوز أكثر من بضع
  #10  
قديم 07-13-2013, 03:01 PM
 


كانت كتباً غريبة فعلاً ، إذ أنها تتحدثعن الزئبق، عن الملح، عن التنبؤات، عن الملوك، لكنه لم يكن ليفهم منها شيئاً علىالاطلاق، مع ذلك كانت هناك فكرة تُذكر دوماً في كل الكتب تقريباً، وهي أن الاشياءكلها ليست إلا تجليّات لشيء واحد وفريد.
واكتشف في أحد الكتب أن النص الأكثرأهمية هو عن الخيمياء ويشتمل على بضعة أسطر فقط، وكانت مكتوبة على زمرّدة بسيطة.
- هذا هو لوح الزمرّد ـ قال له الانكليزي بكل فخر، فقد استطاع أن يعلّم رفيقهشيئاً.
- ولكن لماذا هذا العدد الكبير من الكتب؟
- لكي أتمكّن من فهم هذهالسطور القلائل ـ اجاب الانكليزي دون أن يكون هو نفسه مقتنعاً تماماً بهذا الجواب.
أما الكاتب الذي أثار اهتمام الشاب أكثر من بقيّة الكتب كلها، فقد كان يرويتاريخ مشاهير الخيميائيين، لقد كانوا رجالاً نذروا حياتهم كلها في تنقية المعادن فيمختبراتهم. وكانوا يعتقدون بأنه لدى تسخين معدن ما لسنوات وسنوات، فإنه يتحرر من كلخواصه النوعيّة، فعندئذٍ لن يبقى في مكانه إلا النفس الكليّة، وهذا الشيء الفريدسيمكّن الكيميائيين من فهم كل مايوجد على الأرض، لأنه اللغة التي بفضلها كانتالأشياء تتواصل مع بعضها بعضاً، هذا هو الاكتشاف الذي سمّوه بـ
" الانجازالعظيم " والذي يتآلف من جزء سائل وجزء صلب.
سأل الشاب:
- ألا تكفي مراقبةالبشر والعلامات لاكتشاف هذه اللغة؟
أجاب الانكليزي بانزعاج:
- لديك هوَسمفرط في تبسيط الأشياء، فالخيمياء عمل جاد ودؤوب، ومن المحتّم متابعة كل طور منالسيرورة كما علّمها المعلّمون.
اكتشف الشاب أن الجزء السائل من الانجاز العظيمهو المادة التي كانت تدعى " إكسير الحياة المديد "، وهذا الإكسير لم يكن يشفيالأمراض فحسب، بل يحمي الخيميائي من الشيخوخة أيضاً. أما الجزء الصلب فهو ماكانيُدعى " حجر الفلاسفة " .
قال الانكليزي:
- ليس من السهل أبداً اكتشاف " حجر الفلاسفة "، فالخيميائيون كانوا يمضون سنوات عديدة في مختبراتهم لمراقبة النارالتي تنقّي المعادن، وطوال مراقبتهم للنار، كانوا يتخلّصون من ضمائرهم شيئاً فشيئاًمن كل أباطيل العالم، إلى أن لاحظوا ذات يوم أن تنقية المعادة كانت تطهّر نفوسهمأيضاً.
تذكّر الشاب حينذاك بائع الزجاجيّات الذي قال أن عليهما تنظيف أوانيهماالزجاجيّة لأنهما سيجدان نفسيهما أيضاً قد تخلّصا من الأفكار السيئة، ولقد اقتنعأكثر فأكثر بأنه يمكن تعلّم الخيمياء في الحياة اليومية أيضاً.
- بالإضافة إلىذلك ـ تابع الانكليزي ـ فإن حجر الفلاسفة يمتلك خاصيّة خارقة للمألوف تماماً، فيكفيجزء صغير منها لتحويل كميّات كبيرة من معدنٍ بخس إلى ذهب.
انطلاقاً من هذا، فإناهتمام الشاب بالخيمياء صار أكبر بكثير، فقد فكّر بأنه بقليل من الصبر سوف يستطيعتحويل كل شي إلى ذهب.
لقد قرأ سير الحياة لشخصيات مختلفة، كانوا قد وفقوا إلىذلك، هيلفيتيوس، إيلي، فولكانولي، جابر، وكانت سيرهم جذّابة، فكلّهم عاشوا أساطيرهمالشخصية حتى النهاية، كانوا يسافرون، يتلقون العلماء ويصنعون المعجزات على مرأى منعيون المشككين، وكانوا يملكون حجر الفلاسفة وإكسير الحياة المديدة.
لكنه عندماكان يريد أن يتعلّم بدوره كيفية استخلاص هذا الانجاز العظيم، فقد كان يجد نفسهمحتاراً، فلم يكن يجد في تلك الكتب إلا رسوماً، وتعليمات مرمّزة ونصوص غامضة.
- لماذا يستعملون لغة يصعب فهمها جداً ؟ سأل الانكليزي ذات مساء.
بالاضافة إلىذلك لاحظ ـ وفي هذه المناسبة ـ أن الانكليزي لم يكن صافي المزاج، كما لو انه كانيفتقد كتبه.
- كي لايكون هذا مفهوماً إلا من قِبل هؤلاء القلّة الذين لديهمالمسؤولية الكافية للقدرة على
الفهم _ أجابه _ تصوّر لو أن كل الناس أخذوا يحوّلونالرصاص إلى ذهب، عندئذٍ وخلال زمن قصير جداً، فإن الذهب سيفقد قيمته ولن يساويشيئاً أبداً. وحدهم فقط أصحاب العقول العنيدة من الباحثين المثابرين هم الذينيتوصلّون إلى الإنجاز العظيم. هذا هو سبب وجودي في وسط الصحراء، وبالتحديد كي ألتقيخيميائياً حقيقياً يعينني على فك الرموز.
سأل الشاب:
- في أي وقت كُتبت هذهالكتب؟
- منذ عدة قرون، زفي ذلك الزمن لم تكن المطبعة قد اختُرعت بعد، فلم يكنيتسنّى لكل الناس التوصّل إلى معرفة الخيمياء.
- لماذا إذن هذه اللغة الغريبة؟وكل هذه الرسوم والأشكال؟
على الرغم من هذا الإلحاح، فإن الانكليزي لم يجب علىهذا السؤال، بل اكتفى بأنه قال أنه منذ عدة أيام يراقب القافلة دون أن يكتشف شيئاًجديداً، وأنه لم يلاحظ إلا شيئاً واحداً، إنهم يتحدّثون أكثر فأكثر عن الحرب.


× × ×
 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
" من حكمة الروائي العالمي بالو كويلو " اخترت لكم jehan1970 مواضيع عامة 3 12-18-2011 01:18 PM
Full Metal Alchemist - الخيميائي المعدني الكامل - الكيميائي المعدني الكامل K.Naruto أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 11 09-26-2011 06:58 PM
[ .. ساو باولو ينتظر سبورتنغ لشبونة .. ] ظل الكيو كو شن كاي رياضة و شباب 0 08-26-2009 05:10 PM
باولو مالدينو الأسطورة الميلانية !! Real Madrid is the Best رياضة و شباب 1 02-28-2009 10:12 AM
باولو مالديني المعلم سطح رياضة و شباب 0 04-11-2006 07:59 PM


الساعة الآن 11:23 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011