عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 07-13-2013, 02:38 PM
 

يوماً في الصحراء، ووصل إخيراًأمام قصر جميل يقع على قمة جبل، وهناك كان يعيش الحكيم الذي يجدُّ في البحث عنه.
فبدل أن يلتقي رجلاً مباركاً، فإن بطلنا داخل صالة تعج بنشاط كثيف: تجار يدخلونويخرجون، وأناس يثرثرون، وفي إحدى الزوايا فرقة موسيقية صغيرة تعزف ألحاناً هادئة،وكان هناك مائدة محمّلة بمأكولات من أطيب وأشهى ما تنتج تلك البقعة من العالم. هذاهو الحكيم الذي يتحدث مع هذا وذلك، وكان على الشاب أن يصبر طيلة ساعتين حتى يأتيدوره.
أصغى الحكيم إلى الشاب الذي كان شرح له دوافع زيارته، لكن الحكيم أجابهأن لاوقت لديه كي يكشف له سر السعادة، وطلب منه القيام بجولة في القصر ثم العودةلرؤيته بعد ساعتين.
- أريد أن أطلب منك معروفاً ـ أضاف الحكيم وهو يعطي إلىالشاب ملعقة كان قد صب فيها قطرتين من الزيت ـ ، أمسك الملعقة بيدك طوال جولتكوحاول ألا ينسكب الزيت منها.
أخذ الشاب يهبط، ويصعد سلالم القصر، مثبتاً عينيهدائماً على الملعقة، وبعد ساعتين عاد إلى حضرة الحكيم.
- إذاً ـ سأل هذا، هلرأيت السجاد العجمي الموجود في صالة الطعام؟ هل رأيت الحديثة التي أمضى كبيرالحدائقيين سنوات عشرة في تنظيمها؟ هل لاحظت أروقة مكتبتي الرائعة؟
كان علىالشاب المرتبك أن يعترف بأنه لم يرَ شيئاً من كل هذا على الاطلاق، فشاغله الوحيدكان ألا تنسكب قطرتا الزيد التي عهد له الحكيم بهما.
- حسن، عد وتعرّف علىعجائب عالمي ـ قال له الحكيم ـ فلا يمكن الوثوق برجل تجهل البيت الذي يسكنه.
اطمأن الشاب أكثر، وأخذا الملعقة، وعاد يتجول في القصر، معيراً انتباهه هذهالمرة لكل روائع الفن التي كانت معلقة على الجدران، وفي السقوف، رأي البساتينوالجبال المحيطة بها وروعة الزهور، والاتقان في وضع كل واحدة من تلك الروائع فيمكانها المناسب، وعند عودته إلى الحكيم، روى له ما رآه بالتفصيل.
- ولكن أينقطرتي الزيت اللتين كنتُ عهدت لك بهما؟
نظر الشاب إلى الملعقة ولاحظ أنه قدسكبها.
- حسنٌ ـ قال حكيم الحكماء ـ هاك النصيحة الوحيدة التي سأقولها لك: " سرّ السعادة هو بأن تنظر إلى عجائب الدنيا كلّها، ولكن دون أن تنسى أبداً وجودقطرتي الزيت في الملعقة " .
مكث الراعي صامتاً، كان قد فهم حكاية الملك العجوز،فيمكن لراعٍ أن يحب السفر، لكن ليس له أن ينسى نعاجه أبداً.
نظر العجوز إلىالشاب، وبكفيه المبسوطتين، قام ببعض الحركات الغريبة فوق رأيه ثم جمع غنامه ومضى.

× × ×

على أحد مرتفعات مدينة " طريفة " الصغيرة كان هناك حصن قديم بناه العرب فيمامضى، ومن يجلس على أسواره يستطيع أن يرى من هناك بائع البوشار وجزءاً من إفريقية.
" ملكي صادق " ملك " سالم "، يجلس هذا المساء على متاريس الحصن، ويشعر بالريحالشرقية تلطم وجهه، كانت الأغنام قريبة منه تتوقف عن الحركة كدرة وقلقة بسبب تبدلراعيها وسيّدها، والتغيرات التي حصلت، فإن كل ماكانت ترغب به، هو ماتأكله وتشربه.
كان يراقب القارب الصغير الذي يبتعد عن الميناء، لن يلتقي هذا الشاب من جديد،وذلك بعد أن يجعله يدفع العشر مثلما أنه لم يكن قد لقى إبراهيم، لأن للآلهة أساطيرخاصة، وليس لها أمنيات.
غير أن ملك " سالم "، ومن عميق ضميره قد تمنى للشابالنجاح.


للأسف ! سينسى إسمى عما قريب، كان عليّ أن أكرره له مراتعديدة، حتى إذا ماتحدّث عني استطاع أن يقول إنني " ملكي صادق " ملك " سالم ".
ثم رفع عينيه إلى السماء، مشوشاً قليلاً مما كان يفكّر به لتوّه:
- أناأدرك أن هذا ليس إلا أباطيل، كما قلت أنت نفسك يا إلهي، لكن الملك العجوز يشعرأحياناً بالحاجة للشعور بالاعتزاز بالنفس.

× × ×

- يالها من بلدغريب إفريقية هذه ! حدّث الشاب نفسه.
كان جالساً في مكان ما يشبه المقهى، وسائرالمقاهي التي استطاع رؤيتها، وهو يعبر أزقّة المدينة الضيقة. كان هناك رجال،يدخّنون غليوناً ضخماً يتبادلونه من فم إلى فم.
وخلال عدة ساعات رأى رجالاًيتجولون يداً بيد، ونساء محجبات، ورجال دين يصعدون إلى قمم أبراج عالية، ويؤذنون،بينما كان سائر الناس يركون، ويلطمون رؤوسهم بالأرض.
- إنها ممارسات الكفّار ـقال في سرّه.
فعندما كان طفلاً، اعتار أن يرى في كنيسة قريته تمثالاً للقديس " جاك الأعظم " ممتطياً حصانه الأبيض، مجرّداً سيفه، واطئاً بقدميه شخصيات مشابهةلهؤلاء الناس.
كان يشعر بالغم والوحدة بشكل مخيف، نظرة تشاؤم، زد على ذلك أنهفي غمرة الترحال الطويل قد نسي واحدة من الجزيئات، يمكن لها أن تبعده عن كنزهكثيراً من الوقت: في تلك البلاد يتكلّمون العربية.
اقترب صاحب المقهى، فأشارإليه بإصبعه أن يحضر له مشروباً كان قد رآه يقدّمه لطاولة أخرى، إنه الشاي المرّ،وتمنى لو كان خمراً.
لكن الوقت كان غير مناسب بالتأكيد لأن يشغل باله بمثل هذهالأمور، فأولى به ألا يفكّر الآن إلا بكنزه، والطريقة التي تمكّنه من الحصول عليه،فبيع أغنامه مكّنه من امتلاك مبلغ مهم نسبياً، كان يعلم أن للمال جانبه السحري، فهويمنح الانسان الشعور بالأمان وبأنه ليس وحيداً تماماً، ومن الممكن أن ينتهي الأمرخلال أيام، ويجد نفسه عند أقدام الأهرامات، فالرجل المسن، وبهذا الذهب اللامع علىصدره، ليس بحاجة مطلقاً لأن يروي الأكاذيب كي يحصل على ست غنمات.
لقد حدّثهالملك العجوز عن علامات، وخلال عبور المضيق، فكّر كثيراً بها.
نعم إنه يدركتماماً عما يتحدّث، فطيلة الوقت الذي كان قضاه في أرياف الأندلس كان معتاداً أنيقرأ على الأرض وفي السماوات المؤشرات المتعلّقة بالدرب التي عليه أن يسلكها، وانطائراً معيّناً على يدل على وجود أفعى بالقرب منه، وشجرة تدل على وجود الماء علىبضع كيلومترات من المكان، الأغنام علّمته كل هذه الأشياء.
- الإله هو الذي يهديالأغنام فعلاً، وهو الذي سيهدي الإنسان ـ قال لنفسه، فشعر بالاطمئنان، وبدا لهالشاي أقل مرورة.
- من أنت؟ سمع سؤالاً باللغة الاسبانية.
شعر بارتياحكبير، فهو كان يحلم بعلامات، وهاهو قد ظهر من ينبئ بها.
- كيف لك أن تتكلمالإسبانية؟ سأل الشاب.
كان القادم الجديد، شاباً يرتدي الزي العربي، أما لونبشرته يجعل المرء يحسبه من أبناء المدينة، وكانا يبدوان متقاربين في السن والطول.
- كل الناس هنا يتكلّمون الإسبانية تقريباً، فليس بيننا وبين أسبانية إلا أقلمن ساعتين.
- اجلس واطلب لنفسك شيئاً على حسابي، أما أنا فاطلب لي خمراً، فأناأشمئز من هذا الشاي.
- لايوجد خمر في بلادنا، فالدين يمنعه.
عندئذٍ أخبرهالشاب بأن عليه أن يتوجه إلى الأهرامات.
وقد أوشك أن يتحدث عن كنزه، لكنّه فضّلأخيراً ألا يقول شيئاً، فقد كان بمقدور العربي أن يقوده إلى هناك مقابل حصة منالكنز، وتذكر ما كان قد قاله العجوز حول موضوع الاقتراحات.
- أود لو تقودني إلىهناك إن كان هذا ممكناً، أستطيع أن أدفع لك ما تستحقه كدليل.
- هل لديك فكرة عنكيفية الذهاب إلى هناك؟
لاحظ عندئذٍ أن صاحب المقهى كان على مقربة منه، يصغيبانتاه إلى المحادثة، أزعجه حضوره قليلاً، لكن لابأس فقط حظي بدليل ولن يضيّع هذهالفرصه.
- قال القادم الجديد: عليك اجتياز الصحراء الإفريقية الكبرى، وهذاسيتطلب منك المال، فقبل كل شيء أريد أن أعلم إن كنت تملك ما يكفي.
وجد الشاب فيسؤال الفتى شيئاً من الفضول، لكنّه كان يثق بالرجل العجوز، الذي قال له أنه عندمايصمم المرء على تحقيق شيء ما، فإن العالم كله يتضافر في صالحه.
سحب نقوده منجيبه، وأراها لرفيقه الجديد، اقترب صاحب المقهى ونظر أيضاً، تبادل الرجلان بضعكلمات باللغة العربية، وبدا صاحب المقهى غاضباً.
- هيّا بنا ـ قال الفتى ـ فهولايريد بقاءنا هنا.
أحس الشاب بنفسه أكثر اطمئناناً، قام لكي يدفع الحساب، لكنصاحب المقهى أخذه من ذراعه، وراح يملي عليه محاضرة طويلة دون توقف، كان الشاب قوياًلكنه في بلد غريب، أما صاحبه الجديد، فقد دفع صاحب المقهى جانباً وصحبه للخارج.
- إنه يريد مالكَ، فـ " طنجة " ليست كسائر إفريقية، نحن هنا في ميناء، والموانئتكون دائماً وكراً للصوص.
كان يستطيع أن يثق بصديقه الجديد، الذي هبّ لمساعدته،في الوقت الذي وجد نفسه في موقف صعب، سحب ماله من جيبه وعدّه.
قال الآخر وهويتناول المال:
- غداً نستطيع الوصول إلى الأهرامات، لكن يجب أن أشتري جملين.
وانطلق الإثنان في أزقّة " طنجة " الضيّقة، وفي كل الزوايا والحنايا، كانت هناكبضائع معروضة على مباسط للبيع، وصلا أخيراً إلى وسط ساحة كبيرة كان يشغلها سوقأسبوعي، آلاف من الأشخاص يتحادثون، يبيعون ويشترون، لم يرفع الشاب نظره عن صديقهالجديد، فهو لم ينسَ أن ماله كلّه صار الآن بين يديه، كان يود لو يستطيع أن يطلباسترجاعه، لكن شعر في قرارة نفسه أن في هذا شيئاً من عدم اللباقة، فهو لم يكن يعرفعادات هذه البلاد العربية التي يطأ أرضها الآن.
- تكفي مراقبه، فهو أقوى منه ـقال في نفسه.
فجأة، وفي وسط هذه الأكوام من البضائع، وقعت عيناه على أجمل سيفرآه في حياته، غمده من فضة، ومقبضه أسود، مرصّع بالأحجار الكريمة. فعاهد نفسه علىأن يشتري هذا السيف عندما يعود من مصر.
قال لصاحبه:
- اسأل التاجر كم سعره؟
وقد لاحظ أنه استغرق ثانيتين من الغفلة فقط وهو يتأمل السلاح، انقبض قلبه كمالو أن صدره تقلّص فجأة، خشي الالتفات حوله، فهو يعلم جيّداً ما الذي ينتظره، وبقيمسمّر العينين في السيف، وأخيراً تسلّح بالشجاعة واستدار، كان كل شيء حوله، السوق،الناس الذين كانوا يروحون ويجيئون، يصرخون، يشترون السجاد، والبندق والخس بجوارأطباق النحاس، والرجال الذين كانوا يسيرون يداً بيد، والنساء المحجبات، والعطورالغريبة، لكن مامن أثر لصديقه، مامن شيء على الإطلاق، لاظل له.
حاول أن يقنعنفسه في بداية الأمر، أنه وصديقه قد ضلاّ بعضهما وغابا عن أبصار بعضهما بعضاًصدفةً، فقرر أن يبقى في مكانه على أمل أن يعود إليه صديقه قريباً.
وبعد وقتقصير صعد رجل إلى أحد تلك الأبراج المشهورة، وبدأ بالآذان، وكل الموجودين جثوا،ولطموا الأرض، بجباههم، وأخذوا يرتلون، ثم بعد ذلك، وكمستعمرة من النمل في غمرةالعمل، حزموا يرتلون، ثم بعد ذلك، وكمستعمرة من النمل في غمرة العمل، حزموابضائعهمو انصرفوا.
راقب الشاب الشمس فترة طويلة، إلى أن اختفت هي أيضاً خلفالبيوت البيضاء المحيطة بالساحة، وتخيّل كيف أنه عندما أشرقت عليه ذات صباح كانمايزال على أرض قارة أخرى. كان راعياً، وكان لديهستون غنمة، وكان على موعد معالفتاة الشابة، وفي الصباح أثناء تجواله في الأرياف، كان يعلم مايمكن أن يتعرضإليه، والآن ومع الشمس التي تغيب في بلدٍ آخر، يجد نفسه غريباً على أرض غريبة لايستطيع حتى أن يفهم اللغة التي يتكلمونها.
لم يعد راعياً، ولم يعد يمتلك شيئاً،ولاحتى المال اللازم كي يعود على أعقابه ويستدرك كل شيء.
- حصل كل هذا مابينشروق وغروب الشمس نفسها ـ قال في نفسه ـ راثياً لحاله، مفكّراً بأن الأشياء تتغيرأحياناً في الحياة في مدى وجيز لايسمح للمرء أن بالتعود على ما آلت إليه.
كانيخجل من الاستسلام للبكاء، لم يكن قد بكى إطلاقاً أمام أغنامه، لكن ساحة السوق كانتخاوية، وكان هو بعيداً عن وطنه.
بكى وبكى، لأن الإله كان ظالماً، ولأنه يجازيالناس الذين يؤمنون بأحلامهم الخاصة.
- عندما كنت مع أغنامي، كنت سعيداً أشاركبسعادتي كل من يحيطون بي، وكان الناس يرونني قادماً، ويستقبلونني استقبالاً جيداً،أما الآن فأنا حزين وتعيس، ماذا سأفعل؟ سأصبح أشد لؤماً، ولن أثق بأي إنسان كان بعدالآن. هناك شخصاً خانني، وسأكل كل هؤلاء الذين وجدوا كنوزاً مخبأة لأنني لم أجدكنزي، وسأسعى باستمرار لادخار المال الذي املكه، فأنا مازلت ضعيفاً لمواجهة العالم.
فتح جعبته ليتفحّص ماكان لديه فيها، فربما بقي شيء من الوجبة التي كان يأكلهاعلى حافّة القارب، لكنه لم يجد إلا الكتاب الضخم، والمعطف، والحجرين الكريمتيناللتين كان العجوز قد أعطاه إياهما، وعند رؤيته لهما اعتمل في صدره شعور بالعزاء،فقد كان دفع مقابلها ست غنمات، إنهما حجران ثمينتان انتزعتا من قلادة ذهبيّة، كانبمقدروه بيعهما وهكذا يستطيع أن يحصل على بطاقة عودته.
- سأصبح من الآن أكثرخبثاً ـ فكّر وهو يستخرج الحجرين ليخبئهما في قعر جيبه، كان في الميناء والشيءالصادق الوحيد الذي قاله ذلك اللص: الميناء يعجّ دائماً باللصوص.