عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات و قصص الانمي > روايات الأنيمي المكتملة

Like Tree632Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع التقييم: تقييم الموضوع: 9 تصويتات, المعدل 4.56. انواع عرض الموضوع
  #251  
قديم 08-13-2016, 12:06 PM
 



الفصل الثاني و الأربعون
*سلاحك الأقوى*





من بعد ذلك اليوم أصبح آلويس شخصا مختلفا ! مع أنه بقي محافظا على صمته إلا أن نظراته و الجو المحيط به كانا يرعبان كل من حوله و يجبرانهم على الابتعاد عنه حتى إيريك و ماريان أكثر من يحبونه لم يجرؤا على الاقتراب ..
إنزو وحده من استطاع التحدث إليه - أو بالأحرى التحدث أمامه فالآخر كان يستمع فقط دون أن يشارك - إذ كان أكثر رفاقه فطنة ، يختار كلماته و مواضيعه بعناية و يتجنب الدخول في المسائل التي قد تثير أعصابه.


عاد جاستن إلى المدرسة بعد عشرة أيام من العلاج في المشفى.. كان وجهه ما يزال مغطى بالضمادات كالمومياء ، و كان الطلاب يشعرون بالخوف كلما رأوه مع أنهم لا يعلمون حقيقة من تسبب في إصابته البليغة هذه . أما هو فبدا هادئا خلافا لما توقع رفاقه ! لم يكن يتحدث إلى آلويس أو يحاول مضايقته بل يجلس في الصف متجاهلا وجوده تماما !


سار آلويس ، إنزو ، جاستن و اثنان آخران نحو المختبر لحضور حصة الكيمياء .. كان الأستاذ قد جهز كل شيء و جلس خلف مكتبه ينتظر وصولهم و حالما دخلوا طلب إليهم ارتداء المعاطف الخاصة و القفازات و النظارات الواقية فدرس اليوم عبارة عن تجارب متعددة على أحماض حارقة.
تجول الأستاذ لتفقد التجارب التي يعمل عليها التلاميذ.. نظر باستحسان إلى قارورة إنزو التي تحول سائلها ذو القوام السميك إلى اللون الأبيض ، و لم تختلف نتيجة تجربة جاستن كثيرا عن زميله .. أما آلويس فكان يسير بتجربته بشكل مخالف تماما للتعليمات ! اقترب الأستاذ منه و حملق بدهشة في السائل الأزرق الذي يملؤ قارورته "ما هذا يا آلويس ؟!"

لم يرد التلميذ بل لم ينظر إليه أصلا ، أضاف محلولا أحمر اللون لتجربته لتبدأ بالفوران و ينقلب لونها للبنفسجي الغامق.

اتسعت عينا أستاذه و تشكلت فوقها عقدة حادة "ما الذي تفعله ؟! هذه ليست التجربة التي نعمل عليها !"

نظر آلويس نحوه ببرود و عدم اكتراث "لكنها تقود للنتيجة ذاتها !"

"كيف ذلك ؟!"

"سأريك !"

و إذا به يرمي بالسائل الحامض نحو الأستاذ !

تراجع التلاميذ في رعب و هم يرون أستاذهم يصيح ألما جراء الحمض الذي أحرق ساقيه !

"عليك اللعنة .. أيها الشيطان !" صاح الأستاذ و قد هوى إلى الأرض يتلوى من شدة الألم !
نظر إليه آلويس بعينين باردتين خاويتين من العواطف و قال بصوت يقطر سما "ألم أقل لك ؟! النتيجة نفسها ! حمض حارق في النهاية !"

تمتم الأستاذ بصوت متقطع : "أيها اللعين ! كـ.. كيف ترمي بالتجربة .. على أستاذك ؟!"

تحرك آلويس خطوة في اتجاهه.. ثم رفع قدمه و داس بها بقوة على ظهره "لأن التجارب على البشر أكثر متعة ! أليس كذلك ؟!"

جحظت عيناه و اختطفت الصدمة صوته فلم يستطع الرد ! لماذا يقول هذا الطفل اللعين كلاما كهذا له ؟!! هل يعقل أنه ...

أزاح قدمه عنه ببطء ، ثم ابتعد عنه و غادر المختبر و عينا جاستن تراقبانه بغموض من بين الضمادات التي تلف كامل وجهه تقريبا.

مشى في الممر بخطوات عجلة لا مباليا بما حوله.

"آلويس انتظر !" هتف إنزو الذي غادر المختبر ليلحق به !

التفت المعني بتعابير لا متنهاية في البرود و عينين باهتتين .. دنا إنزو منه و تحدث بلهجة مؤنبة : "لم فعلت ذلك ؟!"

رد بصوت مبحوح : "ليس من شأنك !" و ولى له ظهره لينصرف لكن رفيقه أمسك ذراعه و قال بحزم : "اسمعني يا آلويس ، أنا لا أعلم ما الذي حصل لك حتى أصبحت هكذا لكن ما تفعله خطأ في خطأ !"

تشرب البرود في نظرات الآخر مقدارا ليس بقليل من الغضب "حقا ؟! هل سيعطيني طفل جاهل مثلك محاضرة في الصواب و الخطأ ؟!"

ترك إنزو ذراعه و حاول نفي اتهامه "لا أبدا.."

"أنت على عكسي مدين لهذه المدرسة ، فقد انتشلتك من بيئة فقيرة و عم سكير شبه مختل ، و منحتك ما تتمنى من احترام لشخصك و تقدير لمواهبك !"

أقر آنزو ببعض الحنق : "هذا صحيح ! أنا لا أكره هذه المدرسة و ما كنت لأريد الخروج منها لولا أني أدرك جيدا حقيقتها البشعة !" تنهد تنهيدة عميقة ثم أضاف بهدوء "استمع إلي رجاء .. أنا لم أستأ لما فعلته اهتماما بذلك الرجل و إنما قلقا عليك أنت ! مضى يومان فقط على مهاجمتك البروفيسور كابوستين و لم يكد الأمر يسقط من ألسنتهم حتى سكبت الحامض الكيميائي على أستاذ الكيمياء ! أرجوك أن تهدأ و تتحكم بأعصابك ! إن واصلت تصرفاتك المتهورة سيقتلونك بلا ريب ! صحيح أنك عملة نادرة بالنسبة لهم و لكن حياتهم أهم من كل شيء ! و إذا أحسوا أنك قد تهدد وجودهم لن يترددوا لحظة في التخلص منك !"

سكن الغضب في عينيه و عاد الهدوء ليسودها.. تحدث فانتبه صاحبه لرنة حسرة في صوته الكدر "الحياة و الموت .. لم يعد هناك فرق !"

ضرب الآخر كتفه بمرح "هناك فرق كبير بالنسبة لنا ! نحن نقدر وجودك بيننا و نعتبرك قائدا نرجع إليه في كل أمر و نشعر بالأمان تحت ظله ! نحن أصدقاؤك سنكون بجوارك في كل الظروف كن واثقا من ذلك !"

ثم رسم على وجهه ابتسامة عريضة .. لم يبتسم الآخر لكن نفسه هدأت.


كان يسيران نحو غرفة الطعام لأجل تناول الغداء عندما خرج من غرفة المدير رجل غريب لم يرياه يدخل المدرسة من قبل ! كان نحيل الجسم طويل القامة بوجه شاحب هزيل برزت عظامه ! التفت نحو التلميذين و ركز نظراته المتفحصة على آلويس بشكل خاص .. شعر الأخير بكراهية مجهولة الدافع نحو هذا الرجل !

كشر الغريب بصورة كريهة و قال : "أنت إذن الطفل الذي يسبب المشاكل هنا ؟!"

اتسعت عيناه الذهبيتان بشكل مخيف و قال بلهجة تحذيرية : "هل تريد بعضا منها يا وجه الفزاعة ؟!"

صفر الغريب بانبهار "لم يبالغوا في كلامهم عنك كما يبدو !"

نظر إليه باحتقار ثم واصل مع إنزو خطاه نحو وجهته متجاهلا ذلك الرجل الذي بقي يحدق فيه بابتسامة غامضة حتى دخل غرفة الطعام و أغلق الباب وراءه.


*****

في مكان آخر بعيد عن النجوم المضيئة .. جلس باسترخاء في كرسيه الوثير يرفع إليه الفنجان كل هنينة ليرتشف من قهوته الساخنة.

سمع طرقا على الباب فتحدث بصوته البارد "ادخل !"

ولج الطارق إلى داخل الغرفة الدافئة فقال الرجل الجالس : "ها قد عدت إذن يا سلايدر ! أسرع و أطلعني على ما تحمل من أخبار !"

شبك سلايدر يديه خلف ظهره و بدأ حديثه : "ذلك الطفل المتسلط يسبب المزيد من المشاكل و المسؤولون عن المدرسة لم يعودوا قادرين على تحمله أكثر من ذلك !"

وضع الرجل فنجانه على الطاولة ثم نظر إلى حارسه بفضول : "ما الذي فعله هذه المرة ؟!"

ابتسم سلايدر بسخرية "لقد سكب محلولا كيميائيا على مدرس الكيمياء !"

"آه !" ظهر العجب على وجهه ، لكن صوته كشف شعورا آخر .. الاستحسان !

فرك ذقنه ببطء ثم وجه لحارسه سؤالا : "أخبرني .. عن انطباعك عنه ! لقد رأيته أليس كذلك ؟!"

حك سلايدر خده و ابتسامة إعجاب صغيرة ترتسم فوق شفتيه "باختصار .. وحش متعطش للدماء !" ثبت عينيه على رئيسه و اتسعت ابتسامته "نسخة مصغرة منك يا سيدي !"

ضاقت عيناه و تصلبت قسمات وجهه ! هذه ليست المرة الأولى التي يسمع فيها هذا الانطباع من أحد أتباعه ! كلهم يجمعون على أنه يشبهه بشكل لا يصدق !

عاد سلايدر ليسأل : "إذن بماذا أرد عليهم ؟! هل أنت موافق على طلبهم بقتله ؟!"

مرت فترة من الصمت.. سرحت فيها عيناه و عادت ذاكرته تسترجع جملة محفورة فيها ("لن تفعل يا مورفان ! حتى إن أردت قتله لن تستطيع !")

"فليقتلوه !"
أصدر أمره الوحشي بهدوء عجيب لا تجاريه فيه حتى الوحوش الضارية.

"لكن ليس أن ينفذوا هذا بأيديهم !"حلت البلاهة على وجه سلايدر "بل أن يوكلوا المهمة لطلاب المدرسة الذين يرونهم أكفاء للقيام بذلك !"

خرج حارسه لينقل موافقته لأتباعه بينما عاد هو ليغرق في كرسيه (سنرى يا آيون ! سنرى إن كان لكلامك التافه أية صحة !)


*****

كان آلويس على وشك أن يصعد لينام .. عندما سمع صوت ركض خلفه ، استدار بتساؤل نحو إنزو !
تلفت الأخير حوله ثم اقترب منه و همس بكلمات خرجت من بين أنفاسه المتلاحقة "تعال إلى المكتبة .. عند منتصف الليل !"

ثم عاد أدراجه بذات السرعة التي جاء بها .. بدا آلويس مستغربا لكنه استجاب لدعوة إنزو المفاجئة و نزل إلى المكتبة بعد أن دقت ساعة منتصف الليل.
كان المكان مظلما و ساكنا تماما حين وصل .. لكن إحساسه بما حوله كان قويا ليدرك أنه ليس وحيدا !

لمح ظلا يتحرك على يساره ثم وصله صوت هامس لشخص مألوف : "إنه أنا إنزو !" أشار له بيده "اتبعني !"

تحرك إنزو ليقود آلويس في الظلام .. توقف أمام طاولة طويلة ثم انحنى ليدخل تحتها.. تبعه آلويس و التساؤلات تملأ ذهنه.. تحسس إنزو الأرض الخشبية و بعد عدة محاولات وجد غايته جمع قوة كلتا يديه و أزاح بهدوء غطاء ثقيلا لتظهر تحته حفرة ينبعث منها النور !
أومأ لرفيقه قائلا : "هيا لننزل !"

هبط إنزو إليها بخفة .. و تردد آلويس للحظات قبل أن يلحقه.

كانت الحفرة عبارة عن مخزن صغير جدا تتكدس فيه الكثير من الصناديق الكرتونية ، و لم يكن فارغا كما توقع بل مكتظا برفاقه الآخرين .. إيريك ، سيباستيان ، آليكسي ، غلبيرت ، و ماريان !

قفز إنزو ليجلس بمرح على أحد الصناديق و قال فرحا : "مرحبا بك في مقرنا السري !"

"مقركم السري ؟!"

"أجل ، مقرنا الذي سنعقد فيه اجتماعاتنا السرية !"

"و لماذا هذه الاجتماعات ؟!"

أجاب سيباستيان بجدية : "أظنك أكثر من يدرك الخطر الذي يزداد يوما بعد يوم في المدرسة ! الوضع لم يعد طبيعياً !"

أضاف غلبيرت بصوته الخشن : "أجل.. الطلاب أصبحوا أكثر عدوانية و إثارة للريبة من أي وقت مضى !"

عاد إنزو ليقول : "المسؤولون عن المدرسة يخططون لأمر كبير !"وجه نحو آلويس نظرة جادة بشكل لم يعهد منه "و أكاد أجزم أن له علاقة بك !"

إتكأ الفتى الهادئ على الجدار عاقدا ذراعيه فوق صدره "هل تظنني لا أعلم بهذا ؟!"

هتف إنزو مستنكرا : "إذن لماذا لا تفعل شيئاً ؟!"

رفع عينيه الساكنتين إليه ثم وزع نظراته بين رفاقه ببطء "لقد خططت لكل شيء لكني لا أستطيع التنفيذ بمفردي ! لذا.."

نهض إيريك و هتف دون تردد : "أخبرنا و نحن سنساعدك !"

"الأمر في غاية الخطورة و قد تخسرون حياتكم !"

رفعت ماريان رأسها و نطقت للمرة الأولى منذ وصوله "نحن مستعدون للمخاطرة بكل شيء .." عادت لتطأطئ رأسها بخجل و قد عجزت عن إضافة "من أجلك" لآخر كلامها.

حول بصره نحو الآخرين و الذين أبدوا موافقتهم الكاملة لماريان.

عندها أخذ له مكانا بجوار إنزو ، ثم انحنى للأمام لينعكس ضوء الشمعة المتذبذب في عينيه الصفراوين "سأطلعكم على الخطة .. لكن قبل ذلك يجب أن تعرفوا المستهدفين منها !"

انحنى إنزو بدوره مبديا اهتمامه و انتباهه الكامل : "أظننا نعرفهم ! مجموعة برايان من المستوى الخامس ، و سيدريك من المستوى الرابع ! أليس كذلك آليكسي ، سيباستيان ؟!"

هز الاثنان رأسيهما في موافقة ، و أضاف غلبيرت : "و لا تنسوا سيبيلا من المستوى الثاني ! إنها مستعدة لقتل أي أحد في أي وقت تريد دون أن يرف لها جفن !"

شبك آلويس أصابعه و قال : "صحيح ! لكنكم نسيتم أهم شخص !" نظروا نحوه باستفهام فأكمل "جاستن !"

هتف إنزو في دهشة : "لكنه يبدو هادئا تماما و لم يعد يثير المشاكل معك كما في السابق !"

اكتسبت عيناه الصفراوان جدية مضاعفة "و هذا ما جعلني أضع اسمه على رأس القائمة ! أنت لا تعرف جاستن بقدري يا إنزو ! إنه لم يصبح هادئا بهذا الشكل المريب إلا لأنه يخطط لأمر خطير و يتربص اللحظة المناسبة لتنفيذه !" سكت هنيهة ثم تابع "نحن بالطبع لن نهجم ما لم نتيقن من صحة شكوكنا مع أني واثق تمام الثقة من استنتاجاتي إلا أن التريث مطلوب في وضع خطير كهذا الذي نمر به !"

لمعت عينا سيباستيان السوداء الفاحمة "إذن ما هي الخطة ؟!"

"سأطلعكم عليها الآن !"

كانت تعابير وجوههم مختلفة بشكل كبير حين انتهائه من الشرح .. لم يعد ذلك الحماس المفرط باديا عليها بل كان التردد هو المسيطر على حالهم !

لاحظ آلويس ذلك فنهض و هو يقول : "إن كنتم لا تريدون المشاركة فلن أجبركم ! تذكروا أن لكم كامل الحرية في الإختيار !"

استدار ليتسلق الصناديق نحو الفتحة فأتاه صوت سيباستيان الحازم : "أنا موافق على الخطة !"

هب آليكسي قائلا : "و أنا مع سيبا !"

مرت ثوان قليلة حتى تحدث إنزو مؤيدا : "أنا كذلك ! إنها مخيفة و خطرة لكن لا خيار آخر أمامنا !"

هتفت ماريان : "أنا معكم أيضا !"

لحقها إيريك و غلبيرت معا : "أنا أيضا !"

أمعن القائد الصغير النظر في عيونهم المتحدية و الإرادة المشتعلة فيها و قال : "حسنا اتفقنا إذن !" هموا بالنهوض و العودة إلى مهاجعهم لولا أنه أضاف "هناك أمر آخر !" ولوه انتباههم فوزع نظراته بينهم بتمهل "الأحاديث بيننا ممنوعة أمام التلاميذ ! أنتم الخمسة سيباستيان ، آليكسي ، إيريك ، ماريان و غلبيرت لا تربطكم بي أية علاقة ! خصوصا أنت يا إيريك !" حدق فيه الفتى بذهول "يجب أن تظهر نحوي كرها و نفورا و لا تقترب مني مجددا !"

سأل مستنكرا : "لكن كيف أفعل هذا فجأة ؟! ذلك لن يبدو منطقيا !"

"بل سيبدو منطقيا و مقبولا تماما إذا كانت حجتك في ذلك.." قست تعابيره و بهت لون عينيه "ما فعلته بوجه جاستن !"

شخصت أبصارهم و سقطت الصدمة بقوة على ملامحهم ، باستثناء ماريان التي أطرقت رأسها بحزن ..
نظر إليه إنزو بعينين ذاهلتين من خلف عدسات نظارته السميكة "أنت من فعل ذلك به ؟! لكنه يقول أنه كان مجرد حادث !"

رد آلويس بجمود : "قال ذلك لأنه لا يريد أن يهين نفسه بالاعتراف بحقيقة أن من وجه له تلك الضربة كان أنا !" فجأة أدار وجهه نحو ماريان و قال : "لقد رأيت ذلك بأم عينك صحيح ؟!"

أجفلت حتى ارتعش جسدها ! هل كان يعلم بمراقبتها له منذ البداية ؟! ابتلعت لعابها بخوف ثم حاولت أن تسأل : "ك.. كيف .. عرفت ؟!"

"من رد فعلك قبل لحظات ! كنت الوحيدة التي لم تبد متفاجئة بهذا الخبر !"

"آ.. آه !" تنفست الصعداء و عاد نبضها لينتظم "صحيح.. لقد كنت مارة من هناك.. و رأيتك !"

زاد وقع المفاجأة العنيفة على رؤوسهم ، بدوا كأنهم لم يصدقوا الأمر حتى شهدت ماريان بصحته.

واصل آلويس توجيهاته "إذن ستنشر ماريان الخبر و يسمعه إيريك منها ، ثم يتخذ منه ذريعة للابتعاد عني ! سيباستيان ، آليكسي ، غلبيرت هذا الأمر ينطبق عليكم أيضاً ! أما أنت يا إنزو فستبقى معي و في صفي في السر و العلن !"

بدا القلق على وجه غلبيرت "و لكن قد يقوم جاستن بإيذاء ماريان إن فضحت الحقيقة التي يجاهد لإخفائها !"

لمع بريق الذكاء في عينيه الجادة "لا داعي للقلق فهو ليس غبياً ، و تصرف عنيف كهذا سيكون له رد فعل عكسي إذ سيثبت للجميع صحة كلامها لذلك سيكتفي بالانكار و السخرية من الموضوع !" أمعن النظر فيهم للحظات ثم قال : "إذن .. هل لديكم أسئلة أخرى ؟!"


هزوا رؤوسهم بالنفي فقال مختتما بذلك اجتماعهم الأول : "جيد.. سنجتمع كل ليلة في مثل هذا الوقت و نناقش سير الخطة ! كونوا حذرين و متيقظين دائماً !"

كانت الخطة كما وصفها إنزو مخيفة و خطرة ، تقضي بنشر النزاعات و الخلافات داخل المجموعات المستهدفة سواء بين مجموعة و أخرى أو بين أفراد المجموعة الواحدة ! و قد باشروا تنفيذها حالما تأكدوا من توقعاتهم إذ كان أؤلئك الطلاب و مجموعاتهم يبدون بالفعل مقدمين على جريمة ! نظراتهم المتربصة التي تلاحق آلويس حيثما ذهب ، اجتماعاتهم اليومية التي يتم عقدها في أوقات محددة و داخل أماكن معزولة . لم يكن آلويس و مجموعته هم الوحيدون الذين أحسوا باقتراب الخطر فكثير من الطلاب الذين لزموا الحياد أدركوا الأمر ، لكن لم يسعهم القيام بشيء حياله سوى الصمت و محاولة النأي بأنفسهم بعيدا عن المشاكل.


أخذ الوضع يتأزم يوما بعد يوم.. الشقاق يتسع في مجموعة سيدريك ، الشجارات غدت لا تنتهي بين برايان المتبجح و سيبيلا الشرسة ! ليتحول هدف كل مجموعة من قتل آلويس إلى القضاء على المجموعات المنافسة ! كانت المكافأة المعروضة على من يتم المهمة بنجاح و إتقان دون ترك أي أثر ضخمة جدا بغض النظر المبلغ الهائل الذي سيحصل عليه هناك أيضا جوائز أخرى يترك للفائز حرية اختيارها ! كان برايان يحلم بقصر عظيم يطل على شواطئ الريفيرا الخلابة ، أما سيبيلا ابنة أحد أكثر أعضاء الخنجر المعقوف شهرة فكانت أمنيتها أن تنصب قائدة على فرقة الاغتيالات هذه ! بينما أراد سيدريك السفر إلى الولايات المتحدة و إكمال دراسته بأرقى جامعاتها !
وحده جاستن من لم تغره هذه المكافآت و لم يكن دافعه الحقيقي من بينها ! إذ كان مراده و هدفه الوحيد من القبول بالمهمة أن يهزم آلويس و يكسر شوكته و يثبت تفوقه عليه !


هبط غلبيرت داخل المخزن الصغير و أعاد الغطاء الثقيل إلى مكانه مغلقا المكان عليهم.
كان هو آخر الواصلين إلى الاجتماع و الذي بدأ حال جلوسه ، و الموضوع الرئيسي لهذا الاجتماع كان موت برايان !!


ابتدرت ماريان الحديث : "لقد قتلته سيبيلا أنا واثقة من هذا !"

قال غلبيرت : "هذا ما نراه جميعا ! كثيرا ما سمعتها تتمتم باسمه بحقد و هي تمشي في الممرات كما أنها هي وحدها من تستطيع فعلها بذلك البرود و القسوة !"

علق آلويس : "سيبيلا قاتلة لكنها لن تكون يوما مغتالة ! إنها شرسة بشكل علني و لا تحاول حتى إخفاء نواياها الشريرة و هذا ما سيجعلها تفشل في الاختبار حتما !"

ظهرت علامات الاستهجان على وجه إنزو : "جريمتها لم تكن متقنة بل واضحة تماما !"

شارك آليكسي في النقاش الدائر "لقد سمعت اثنين من مجموعة برايان يتحدثان عن عثورهما على شاهد رآها و هي تخرج من المختبر حيث وجد برايان مقتولا !"

عقد سيباستيان حاجبيه : "هذا لن يكون جيدا أبدا لها ، فهم يريدون جريمة كاملة لا يرتاب أحد فيها !"

تكلم آلويس : "أجل.. سيكون عقابها وخيما !" سكت قليلا ثم خلع سترته التي كان يغطي بها كتفيه.. راقبه الاخرون بمزيج من الاستغراب و الفضول و هو يضعها فوق صندوق أمامه ثم يدخل يده في فتحة داخل بطانتها و يخرج سبعا من السكاكين !!
فتحوا أعينهم و قد أخذت الدهشة منهم كل مأخذ ! همس إنزو و عيناه تكادان تقفزان من مكانهما "من أين حصلت عليها ؟!"

نظر إليه بزاوية عينه نظرة ساكنة "من أين يمكن أن أحصل على السكاكين في رأيك ؟! أليس المطبخ مكانها المعتاد ؟!"

"أجل ، لكنه مكتظ بالطباخين طوال النهار و مقفل دائما في الليل !"

ارتسمت على طرف شفتيه ابتسامة صغيرة ساخرة "إنه مقفل لكن في المكتبة كتبا تعلملك بالتفصيل طرق فك الأقفال إن كنت لم تلاحظ !"

اتسعت عيناه في اندهاش "لم أنتبه أبدا لوجود كتب من هذا النوع !"

"إنها مخبأة بعناية بين الرفوف و لن يلاحظ وجودها إلا من جاء يبحث عنها بعينها !"

تحدث سيباستيان بعبوس : "إذن فهم يريدوننا أن نشغل عقولنا و نبحث حتى نحصل على ما نريد !"

"أجل .. و الآن هيا فليأخذ كل واحد منكم سكينا !"

ترددوا لبعض الوقت و تبادلوا نظرات الحيرة .. نظرهم إليهم و أردف : "الحذر واجب ! و يجب أن تكونوا مستعدين للدفاع عن أنفسكم في حال تعرضتم لهجوم مباغت !"

عندها تقدموا و مدوا أيديهم تباعا ثم التقط كل منهم سكينه و خبأها داخل سترته.

عبرت فكرة مفاجئة ذهن ماريان "و لكن ألن يلاحظوا فقدان سكاكين بهذا العدد ؟!"

أخذ آلويس يلعب بسكينه بين أصابعه "هذه ليست السكاكين المستخدمة في الطبخ ! لقد عثرت عليها مع الكثير غيرها مرصوصة داخل صندوق في الدواليب العليا للمطبخ ، على الأرجح وضعوها هناك عمدا ليستخدمها الطلاب !"


حدق غلبيرت بتمعن في نصل السكين و قبضتها "إنها لا تبدو كالتي تستعمل عادة في الطبخ !"

انعكس ضوء الشمعة على النصل اللامع و التمعت عينا آلويس الذهبيتان حتى غدتا أقرب لعيون الذئاب وسط الظلام "بالطبع فهذه السكاكين مخصصة للقتل !"

تبسم إنزو ابتسامة حاقدة : "هكذا إذن يربون القتلة !"


أفاقوا صباح اليوم التالي على خبر آخر .. و هو موت سيبيلا !! لكن على خلاف الجريمة السابقة التي قتل ضحيتها طعنا ماتت سيبيلا جراء استنشاقها غازا خانقا و لم يعرف رفاقها و لا المسؤولون كيف وصل إليها !


"من تعتقد أنه الفاعل ؟!"

همس إنزو في أذن آلويس أثناء جلوسهما في المكتبة .. سكت الآخر لمدة ثم قال : "ماذا تعتقد أنت ؟!"

قطب إنزو جبينه و قلب شفتيه محاولا الاستغراق في التفكير "همم الفاعل هذه المرة مختلف تماما عن المرة السابقة فهو أكثر مهارة و حذرا و الأهم من ذلك أكثر سرية !"

"و من تراه الأقرب لهذه الصفات ؟!"

"هذا السؤال صعب نوعا ما.. لكن لا يمكن أن يكون غير سيدريك ! فكلما قل منافسوه زادت فرصته في الفوز !"

عاد آلويس ليطالع كتابه "ماذا عن جاستن إذن ؟!"

استهجن إنزو هذه الفكرة تماما "جاستن ؟! لكنه لا يهتم بالمنافسين و هو لا يضع لسيبيلا أية قيمة أو وزن ، فلماذا يقتلها ؟!"

أدار آلويس عينيه الذكيتين نحوه ببطء "لأن مسؤولي المدرسة الذين يدعمونه أمروه بذلك ! لا تنس أن سيبيلا خالفت القوانين جهرا و بقاؤها بعد الجريمة التي اقترفتها سيسبب لهم مشاكل لا حصر لها !"

حك إنزو رأسه و ظهر عليه الاقتناع "آه صحيح ، يبدو الأمر منطقيا الآن !"


لكن مقتل سيبيلا لم يكن نهاية الجرائم بل في الواقع البداية الفعلية لها ، فبعد يومين فقط من تلك الحادثة مات طالبان آخران من المستوى الأول إثر سقوطهما من أعلى السلالم !


بعد منتصف الليل في اليوم نفسه .. فتح آلويس باب غرفته بهدوء بعدما أيقن نوم شريكه فيها و مشى في الظلام الدامس بخطوات مكتومة .. و بينما ينزل الدرج أحس فجأة بحركة خلفه فاستدار سريعا .. كان على وشك أن يسدد ركلة لولا أن الشخص تراجع للوراء و هو يقول بخوف : "أرجوك لا تضربني .. أريد الحديث فقط !"

تحدث آلويس بقسوة و دون أن يتخلى عن حذره : "من تكون ؟!"

رد المجهول بصوت باك : "أنا.. شقيق أحد الطالبين الذين ماتا اليوم !"

مرت فترة ليست بطويلة حتى قال آلويس بلهجة آمرة : "تحرك أمامي .. سندخل إحدى الصفوف و نتحدث !"

انصاع الفتى على الفور و سار أمام آلويس إلى أقرب صف إليهم .. جلس آلويس على مقعد قرب الباب ثم سأل : "ما الأمر ؟!"

جلس الفتى قربه ثم أجاب بصوت مرتعش تتخلله شهقات بكائه : "أنا .. أنا أعرف من قتل .. أخي !"

ركز آلويس انتباهه عليه "من ؟!"

مسح الطالب دموعه التي كادت تسقط ثم قال : "كانـ.. كانوا ثلاثة من .. مجموعة سيدريك !"

لم يبد آلويس مدهوشا من هوية القاتل بقدر اندهاشه من الضحية التي اختارها "و لماذا يقتلون شقيقك ؟!"

"كانوا.. يختبرون .. " ضاقت عينا آلويس "يختبرون قوة السقطة من الدرج ! فإذا وجودها مميتة.. جربوها عليك ! كنت واقفا في الممر في الطابق الثاني و سمعتهم يتناقشون بهذا قبيل دقائق من ارتكابهم الجريمة.. لكني لم أتوقع أن يكونوا وحوشا ليقوموا بهذا فعلا و لم أتوقع كذلك أن من سيجرون عليه التجربة .. سيكون أخي !"

التزم آلويس الصمت .. و ترك رفيقه ينفث أحزانه خارج صدره .. لم يعثر على شيء يقوله لمواساته .. كيف يواسيه و هو أكثر من يستحق المواساة في هذه المدرسة ؟!

أطلق تنهيدة عميقة مملوءة بالكرب ثم قال : "لكن لماذا أتيت إلي أنا و لم تذهب للمدير أو أحد الأساتذة ؟!"

"هه ! المدير و الأساتذة لا يختلفون عنهم في شيء ، بل إنهم هم في الحقيقة من يشجعونهم على ارتكاب هذه الجرائم !"

تنهد آلويس مجددا .. يبدو أن الأمر لم يعد خافيا على أحد ! الجميع بات يدرك حقيقة هذه المدرسة !

سأل : "لم تخبرني عن اسمك !"

"ه.. هوارد !"

نهض من مكانه و ربت على كتفه "حسنا يا هوارد عد إلى غرفتك الآن و لا تخبر أحدا بما سمعت ! و إن حصل و شعرت بأي شيء مريب تعال إلي ! جيد ؟!"

هز هوارد رأسه موافقا ، ثم خرجا معا من الغرفة و صعدا إلى الطابق الثاني.. انتظر آلويس قليلا حتى ولج الفتى إلى غرفته ثم نزل إلى المكتبة.

وجد رفاقه في غاية القلق حين وصل كانوا على وشك الخروج للبحث عنه ، لكنهم عدلوا عن ذلك عندما سمعوا وقع خطواته فوقهم.
أطلعهم آلويس على لقائه بهوارد و الكلام الذي أخبره به.. بعدها قال بلهجة حاسمة : "الوضع لم يعد يتحمل أية مماطلة أو تباطؤ ، سنبدأ من الغد الإعداد لتنفيذ الخطة النهائية !"

سأل إيريك بتوتر : "ماذا سنفعل ؟!"

رفع آلويس عينيه اللتين توهجتا تحت ضوء الشمعة الخافت .. بدت نظراتها شرسة بشكل يثير الخوف "سندمر هذه المدرسة !"

شهقوا بصوت مكتوم و حملقوا فيه غير مصدقين .. "كيف نفعل ذلك وحدنا ؟!" هتف إنزو.

"الأمر ليس مستحيلاً كما تتخيلونه ! لقد فكرت جيدا و خرجت بخطة إن نفذناها بدقة سنقضي على هذه المدرسة بمن فيها !"

أصغوا إلى كلماته باهتمام مختلط بالدهشة.. "آليكسي ، سيباستيان سأحتاج إلى مساعدتكما في التحضير للمرحلة الأولى منها !"

أشار آليكسي بسبابته نحو صدره في عجب "أنا ؟!"

"أجل أنت !"

رمشت عيناه الفيروزيتان عدة مرات بشكل ينم عن عدم فهمه بينما لم يبد سيباستيان أي رد فعل مميز.

شرع آلويس يشرح التعليمات : "سيباستيان ستكون مهمتك هي التسلل إلى المختبر و جلب مواد كيميائية سأعطيك أسماءها لاحقا ، أما أنت يا آليكسي فسوف تعاونني على إعداد الوصفات !"

سأل آليكسي بشك : "هل تريد صنع سم ؟!"

"نعم ! بالإضافة لشيء آخر سأخبركم عنه حالما تكتمل التحضيرات !"


تمكن سيباستيان من التسلل إلى مخزن المختبر بعد أن نجح في إحداث فوضى عارمة أثناء حصة الكيمياء بسبب إشتعال تجربته و امتلاء المكان بالدخان الخانق مما اضطر الأستاذ و التلاميذ إلى مغادرة المختبر و انتظار سحب الدخان حتى تخرج من النوافذ المفتوحة.


وضع قوارير المواد المطلوبة أمام آلويس الذي أعرب عن استحسانه : "لقد قمت بعمل جيد !" ثم التفت نحو آليكسي و أضاف : "هيا تعال سنبدأ معا في إعداد الوصفة !"

اقترب آليكسي متخطيا الصناديق التي يمتلئ المخزن الضيق بها و هو يقول "ماذا سنصنع ؟!"

سحب آلويس بعض الزجاجات ، ثم رتب الباقية داخل صندوق صغير و وضعه جانبا .. رفع رأسه إلى الفتى المتسائل و أجاب : "أولا سنصنع سما كيميائيا بسيطا !"

نظر آليكسي إلى المواد في القوارير ثم قال باستغراب : "هذه المواد لا تصنع سما قاتلا بل سما خفيفا يسبب مغصا معويا حادا و فقدانا للشهية فقط و لا يمكن أن يقتل إلا في حالات نادرة !"

التمع بريق في عينيه الساحرتين "و هذا ما أريده ! مرض لا يقتل !"

تبادل الرفاق نظرات الغباء و البلادة .. حتى رأف آلويس بحالهم و قال موضحا : "سندس هذا المحلول في طعام الطلاب المحايدين الذين يريدون الابتعاد عن هذا المكان .. حتى يتسنى لنا القضاء على الآخرين براحة بال ! هل فهمتم الآن ؟!"

هتف سيباستيان : "لكن ذلك سيجعلهم يرتابون و يأخذون حذرهم ؟!"

"لا.. لن يشكوا ! لأننا سنجعل الأمر يبدو و كأن المدرسة كلها مستهدفة !"

خرج سؤالهم في وقت واحد "كيف ؟!"


" ببساطة سنضع المحلول في الأطعمة المفضلة للطلاب المسالمين و في الأطعمة غير المحببة لأعدائنا ! لكن لدرء الشبهات يجب أن تكون هناك حالات شاذة أي سنجعل بعض أعدائنا يتناولون هذا المحلول و يخرجون من المدرسة !" نظر إلى تعابيرهم المأخوذة ثم ثبت عينيه على وجه إيريك "ستتناول أنت أيضا هذا المحلول !"

صاح إيريك مصدوما : "هاه ؟!!"

فأتته ضربة على رأسه من طرف غلببرت "لا تصرخ ! ستوقظ المدرسة !"

حك رأسه بألم ثم عاد إلى موضوعه الأهم "و لكني أريد البقاء معكم !"

رد آلويس بصرامة : "لا ستخرج ! نحن نحتاج جاسوسا عند أحد مسؤولي المدرسة بعد أن نغادرها و لا أحد أفضل منك للقيام بهذه المهمة !"


تخللت الخيبة صوته "تعني.. أن علي العودة للعيش مع جدي ؟!"

"نعم سيكون ذلك ضروريا جدا ! و تذكر ! أنت تكرهني و تحتقر أفعالي ! واضح ؟!"

طأطأ رأسه مكرها على الانصياع لتعليمات قائده .. ضرب سيباستيان على ظهره بخفة و هو يبتسم : "لا تتصرف و كأننا سنتخلى عنك أيها الأحمق ! إنها مسألة وقت فقط حتى نرتب أمورنا !"

التفت إيريك نحو آلويس و قد دب الأمل في قلبه "هل هذا صحيح ؟!"

أشاح بوجهه إلى القوارير أمامه "أجل.."

فأشرق وجهه بابتسامة واسعة و عادت الدماء لتواصل سريانها خلال شرايينه.


طرحت ماريان سؤالا نسيه الآخرون "لكن .. أي أعدائنا سنجعله يخرج ؟!"

قال غلبيرت و قد تذكر : "صحيح من ؟!"

تأمل آلويس في المحلول الأصفر الذي يؤرجحه بيده و دون أن يرفع عينيه عنه أجاب : "بعض من مجموعة برايان و ... جاستن !"

هتفوا جميعا في ذهول : "جاستن ؟!!"

كرر ببرود : "أجل جاستن.."

نظروا إلى بعضهم البعض بحيرة بالغة ! مهما حاولوا .. لن يستطيعوا أن يفهموا كيف يفكر هذا الآلويس !

أما هذا الأخير .. فانشغل مع آليكسي في إعداد كمية كافية من المحلول ، و استغرق الأمر منهما ساعتين كاملتين حتى فرغا تماما ! كان هناك شيء آخر قد قاما بالتجهيز له أيضا ..

لم يبدأ آلويس و رفاقه بتنفيذ الخطة إلا بعد يومين ، إذ توجب عليهم أولا أن يراقبوا الطلاب المسالمين و الأعداء معا بحذر و يحفظوا الأصناف التي تفضلها المجموعة الأولى و الأنواع التي تكرهها المجموعة الثانية.


كانت الساعة قد تجاوزت السابعة بقليل عندما تجمع الطلاب في غرفة الطعام لتناول وجبة العشاء .. جلسوا أمام الموائد الكبيرة.. و شرع الطباخون يملؤون صحونهم بعدة أصناف من الطعام.. كان كل شيء يسير بشكل طبيعي.. حتى سمعت تلميذة تجلس على الطرف صوتا خفيضا جعلها ترتجف "هل تسمعون هذا الصوت ؟!"

نظروا إليها بتساؤل.. و لم تمر لحظات حتى ظهر الاشمئزاز على وجه أحدهم و قال بصوت خائف : "هناك .. شيء مر من بين قدمـ.. ي !"

ثم قفزت تلميذة أخرى من مقعدها وهي تصيح : "فأر ! فأر تحت المائدة !"


انتفض الطلاب في رعب و أخذت الفتيات يصرخن .. حتى جاستن قفز فوق المائدة و الخوف ينبثق من عينيه ! حاول الطباخون تهدئتهم لكن حين مر الفأر من تحتهم فقدوا هدوئهم و انطلقوا راكضين إلى الخارج فتبعهم التلاميذ تلقائيا.


لخوفهم و الفوضى التي عمت المكان لم ينتبهوا للتلاميذ الذين تخلفوا عن اللحاق بهم . كان إنزو ، آليكسي و غلبيرت غارقين في الضحك.
بينما اتجه آلويس ، ماريان ، سيباستيان ، و إيريك نحو الأطباق لإفراغ المحلول فيها ، كانوا سريعين و لم يأخذ الأمر منهم دقائق حتى انتهوا.

هتف آلويس : "لنخرج من النافذة بسرعة قبل أن يعودوا !"

قفز السبعة من النافذة سريعا .. مسح إنزو دموعه "يا إلهي هذه أول مرة أضحك فيها بهذا الشكل منذ دخلت المدرسة !"

أضاف غلبيرت و أثار الضحكة ما تزال واضحة على وجهه : "أجل من كان يتصور أن جاستن سيخاف هكذا ؟!"

قال آلويس معللا : "جاستن يعاني رهاب الفئران لذا من الطبيعي أن يبدو عليه الخوف !"

التفوا حول المدرسة و اتجهوا إلى عامل النظافة الذي كان ينظف الممر المقابل للبوابة.. أخبره آلويس بوجود الفأر في الغرفة ، فحمل الأول مكنسته و اتجه إلى المدرسة.
سارت مجموعة آلويس وراءه .. و حالما وصلوا إلى الممر الذي تجمهر التلاميذ فيه انخرطوا بينهم و دخل العامل إلى الصالة ليبدأ مطاردة غريمه الصغير.

و بعد خمس دقائق خرج الرجل منتصرا ! تنفس الطلاب الصعداء و عادوا لتناول وجبتهم .. مع أنهم لم يأكلوا إلا لقيمات قليلة بسبب الحيوان المقرف الذي أفسد عليهم طعامهم.


سارت الخطة بعد ذلك بشكل جيد و كما أراد لها آلويس إذ أصيب عدد كبير من الطلاب - من بينهم إيريك و جاستن - بآلام معوية مفاجئة لم تستطع ممرضة المدرسة التعامل معها فاضطر المدير لإرسالهم إلى المشفى بأسرع ما أمكن.


عندها... حان موعد الجزء الأخير من الخطة و الأكثر صعوبة.. و هو الانهاء على الأعداء في المدرسة !

تسلل آلويس و رفاقه إلى المطبخ في الليل و دسوا سما قاتلا سريع المفعول في الأطعمة و المشروبات المخزنة بعدما أخذوا لأنفسهم زجاجات مياه و كمية قليلة من الطعام المعلب تسد رمقهم لمدة ثلاثة أيام.
أخرجوا كذلك بعضا من ملابسهم .. ثم نزلوا إلى المخزن الصغير تحت المكتبة و اختبؤوا هناك .. حتى ينتهي الأمر تماما !












رد مع اقتباس
  #252  
قديم 08-13-2016, 12:09 PM
 



الفصل الثالث و الأربعون
*شاطئ الحرية*





داخل المخزن الضيق الذي شتت ظلمته نور شمعة خافت قضى الستة ليلتهم العصيبة .. منهم من انكمش على نفسه فوق أحد الصناديق ، و منهم من اتكأ على الجدار البارد . كان الصمت يطبق على المكان مع أن النوم لم يزر أيا من تلك العيون الساهرة.

مر الوقت ببطء مميت و كأن الزمن يوشك أن يتوقف .. اعتدلت ماريان في جلوسها بعدما تشنج ظهرها من الاستناد على الحائط القاسي . دلكت عامودها الفقري بظهر يدها قليلا ، ثم أراحته باستلقائها على سطح صندوق ، لم يكن مريحا تماما ، لكنه أكثر ليونة من الجدار على أية حال . لحظات ثم قامت جالسة .. اختلست نظرة سريعة إلى آلويس .. كان يضع رأسه فوق ذراعه المضمومة و يدير وجهه للجدار .. لم تعرف إن كان نائما أم مستقيظا إذ تخفت عيناه بالظلام الذي حشدته حولها و عجز نور الشمعة الضئيل عن قهره أو الوصول إليه.


جذب سيباستيان قارورة ماء و روى عطشه منها ببضع رشفات .. شغل إنزو نفسه بالإطلاع على محتويات صندوق بعد أن يأس من إمكانية نومه فوقه ، كان يحتوي كمية كبيرة من ملفات و مستندات تفوح من صفحاتها رائحة التراب الخانقة .. بدت مثيرة للاهتمام له ، فرشها أمامه و انكب في قراءتها بتمعن .
تسمرت عينا غلبيرت على الفتحة المغلقة - التي كانت المدخل و المخرج الوحيد لهذا المخزن - أملا في بزوغ شعاع من نور الشمس ، أخذ آليكسي يعبث بشرود بزجاجات المحاليل الفارغة و هو يضع رأسه في حضن سيباستيان.


مضت دقائق بدت لهم ساعات طوال قبل أن ينطق صوت غلبيرت بلهفة : "انظروا لقد حل الصباح !"

ترك الجميع ما كان يشغلهم و التفتوا تلقائياً نحو الفتحة ليروا خيطا رفيعا واهنا من الضوء يتسلل بصعوبة من خلال شرخ صغير للغاية في الزاوية العليا للغطاء الثقيل.

رفع آلويس سبابته ليضعها أمام شفتيه في إشارة لهم بالصمت و التزام الهدوء.


اتجهت أبصارهم لأعلى في ترقب .. ظل الجو محافظا على سكونه لفترة ، ثم سمعوا الكعب العالي لأمينة المكتبة يدك خشب الأرضية فوقهم.
هذا الهدوء المعتاد كل صباح .. يدل على أن المدرسة لم تنتبه لغيابهم بعد لكن الأمر لن يطول حتى يدركوا ذلك.

و بالفعل لم تمر دقائق حتى زلزلت الأرض خطوات ثقيلة عجلة لرجل بدين .. قام غلبيرت أطول الموجودين قامة ، دنا من الفتحة و أصغى السمع لكلامه العصبي : "أين أؤلئك الملاعين ؟!"

تحدثت الأمينة بصوتها الممل البارد : "أرجو أن تخفض صوتك فأنت في المكتبة سيدي"

رد الآخر و قد ضاق ذرعا : "أوه دعينا من هذه التراهات ! هل رأيت أحد الأطفال يدخل المكتبة ؟!"

ردت سريعا : "لا"

"أين هم إذن ؟! لقد بحثنا عنهم في كل مكان دون أن نعثر على أي أثر لهم !"

ضرب سطح المكتب بيده الغليظة في غضب .. جالت عيناه في أرجاء المكتبة ببطء متفحصا بعناية كل زاوية منها .. أخيرا عقد حاجبيه و قال : "هل يوجد .. مكان للاختباء هنا ؟!"

حبس الخمسة شهقة رعب .. نظروا إلى بعضهم بخوف و اضطراب و أنفاسهم تتثاقل ، فأخفض آلويس عينيه الساكنتين ليوجه نحوهم نظرة تقريع حادة تستنكر خوفهم.
تلك الهالة المهيبة التي ظلت تحيط به دون أن تتزعزع شعرة طمأنت نفوسهم و هدأت من روعهم إلى حد كبير.

لم تأت الإجابة المنتظرة من أمينة المكتبة على شكل كلمات .. و إنما خطوات ! خطوات سريعة واثقة تحركت فوقهم و أخذت تقترت من مكانهم شيئا فشيئاً .. كان الصوت الوحيد الذي يهدد الصمت في الحجرة الضيقة هو صوت نبضات قلوبهم المتسارعة ، لم يسعهم طرد كل مخاوفهم فحتى إن نجوا من هذين الاثنين لن يكون ذلك بسهولة أو بطريقة سلمية بل بالقتل ! سيكون عليهم أن يقتلوا ! يقتلوا بسكاكينهم !


توقفت الأمينة عن السير .. و أحس الفتيان بها تجثو على ركبتيها .. أيا كان ما أرادت فعله ، فإنها لم تستطع إذ صدحت أصوات صراخ و صياح هزت جدران المدرسة و أضفت إلى جوها المقيت رعبا و فزعا !

انتصبت المرأة واقفة ثم انطلقت مهرولة برفقة الرجل إلى الممر.


التفت إنزو نحو آلويس : "يبدو أن السم قد بدأ يظهر مفعوله !"

بقيت عيناه الذهبيتان معلقتان في السقف .. كان على دراية بأن المرحلة النهائية من خطته لن تستغرق وقتا طويلا ، لكن الحيطة لم تكن من الأمور التي يغفل عن الأخذ بها لأي سبب ، فمن الممكن أن يحصل شيء لم يضعه في حسبانه و يطول انتظارهم في هذه الحفرة المظلمة حتى يموتوا في النهاية من الجوع و العطش.


تعالت صيحات الخوف و الألم و تردد صداها المخيف في كل بقعة .. ضمت ماريان جسدها بين ذراعيها لتوقف ارتعاشه ، ارتجفت عينا إنزو لكنه لم يسمح للرجفة أن تتعداهما .. أطبق غلبيرت جفنيه بقوة هربا من مواجهة أفعاله ، أما آليكسي ، سيباستيان ، و آلويس فكانوا هادئين تعلو وجوههم تعابير جامدة لا تحمل شيئا من الشفقة بل تزخز بالشماتة و نشوة النصر ! فعلى عكس المجموعة الأولى التي لم تعاني أو تخسر عزيزا عليها بسبب المنظمة كانت الثانية قد خسرت كل شيء بفعل وحشيتها و أتباعها القساة !


أخذت الأصوات تخفت تدريجياً .. حتى سكنت كليا و عاد الهدوء ليسود المكان مجددا.

تأهب إنزو للنهوض لكن قائده أوقفه بإشارة مفاجئة من يده و أمره بالعودة إلى مكانه و الإنتظار.

لحظات ، دقائق ، أو ربما ساعات لم يدر أحد ، فالوقت كان يسير بشكل مختلف في تلك الحفرة الصغيرة كأنها تقبع في عالم آخر مغاير للعالم فوقها !

ألقى نظرة على ساعة معصمه ثم نهض و سار حتى وقف تحت الفتحة المغطاة .. نظر إليها لثوان ثم بدأ يتسلق الصناديق نحو الأعلى.

هب إنزو واقفا و هو يقول : "سنخرج أخيرا ؟!"

كانت يد القائد قد لامست الغطاء حين أدار وجهه لرفيقه و قال ببرود : "أنا وحدي من سيخرج ! أما أنتم فستنتظرون هنا حتى أتأكد من أمان المكان !"

تهدلت قسمات وجوههم من الخيبة و ضاقت أنفسهم ذرعا من الإنتظار الطويل في هذه الحفرة الخانقة .. لم يسعهم الاعتراض على القائد الذي رشحوه عن إرادة و قناعة ، لكن القلق على سلامته كان أمرا آخر لا علاقة له بالقيادة و التبعية.

هتف إنزو محتجا : "لكن ماذا لو أمسكوا بك ؟! يجب أن.. "

قاطعه آلويس بحدة : "أنا قادر على الاعتناء بنفسي كما ينبغي ! لذا كفوا عن الجدال و الزموا مكانكم !"

أطرق ذو النظارات رأسه بغم و ألجم لسانه عن الكلام مكرها.


رفع آلويس الغطاء الخشبي بحذر محاولا قدر استطاعته عدم إصدار أي صوت.. أخذت عيناه الحادتان تجولان المكان بروية و هدوء حتى اطمئن صاحبهما إلى خلو المكتبة ، فأمسك الغطاء بكلتا يديه و أزاحهه ببطء . خرج من الحفرة و قبل أن يعيد إغلاق المخبأ وصله صوت عازم خرج منه فجأة "نصف ساعة فقط ! سننتظرك نصف ساعة إن لم تعد خلالها سنخرج نحن أيضا !"

تقابلت عيناه الجامدتان بعيني إنزو المفعمتين بالإصرار و القوة .. استمرت معركة العيون هذه لحظات ثم خرج آلويس مهزوما ! أغلق عينيه و تنهد "حسنا.. "

لاح الرضا على ملامح رفيقه و اعتلت شفتيه ابتسامة سرور فيما يعيد آلويس الغطاء لمكانه ليرجع للظلام سطوته على المقر الصغير.

عاد إلى مكانه و شرعت عيناه تلاحقان عقارب ساعته المتباطئة بلهفة و صبر يوشك على النفاذ .. أطلق زفرة ضيق ثم رمى بالساعة إلى ماريان بعدما نال كفايته من التحديق غير المجدي بها.

بدت الأخيرة أكثر صبرا من رفيقها وفي الوقت نفسه أكثر قلقا.. كانت تعتبر تقدم العقارب تهديدا يولد في نفسها مخاوف جديدة.

فجأة نهضت الفتاة فالتفت وجوه رفاقها إليها و هي تهتف : "لقد مضت تسع و عشرون دقيقة ! دقيقة أخرى فقط !" كان القلق جليا في نبرة صوتها و نظراتها المرتبكة.

راقبت العقرب الطويل و هو يتجاوز الأرقام .. عشر ثوان .. خمسة عشر .. عشرون .. خمس و عشرون .. و عندما بلغ الثلاثين ثانية أحسوا بخطوات خافتة الصوت تتحرك على الأرض فوقهم.

تجمعوا تحت الفتحة الذي أخذ غطاؤها يتزحزح عن مكانه رويدا و باشر الضوء يتسلل من خلالها إلى داخل الحفرة ليكشف تعابير السرور و ابتسامات الترحيب التي سادت وجوه من فيها.

أطلق إنزو تنهيدة نفث عبرها كل همومه خارجا "و أخيرا !"

خرج صوته الهادئ "المكان آمن ! اصعدوا !"

شعروا كما لو كانوا أمواتا ثم عادوا إلى الحياة عندما وقفوا أمام نافذة المكتبة الكبيرة و أخذت أشعة الشمس الدافئة تغمر أجسادهم و تعيد الحيوية لكل خلية فيها .. لكن هذا الإحساس الجميل لم يدم طويلا فقد تلاشى تماما حين خرجوا إلى الكابوس المخيف في الممر.


انقبضت قلوبهم و هم ينظرون بعيون عنوانها الفزع إلى الأجساد المرمية على الأرض دون حراك !
تحرك آلويس بلا أدنى اهتمام بالمنظر حوله و ببرود و قسوة مثيرين للدهشة عبر من فوق الجثث نحو ثلاثة من البراميل الصغيرة صفت قرب باب المطبخ.

وقف قربها ثم أعطاها ظهره ليوجه نحو رفاقه نظرة استنكار "إلى متى ستبقون واقفين هناك ؟! تعالوا بسرعة هناك عمل أخير علينا إنجازه !"

وقع صوته الجلد كالصدمة الكهربائية عليهم أفاقتهم من ذهولهم و أرجعت لأجسادهم المشلولة قدرتها على الحركة.
ساروا إليه متجنبين قدر استطاعتهم ملامسة الجثث أو النظر إلى قسمات وجوهها المرعبة.


أمعن إنزو النظر في البراميل البيضاء الشفافة .. ثانيتين فقط و رمى الرعب بظلاله على وجهه ! رفع عينيه الشاخصتين إلى قائده جليدي القلب و خرج صوته هامسا "بنزين ؟!"

لم تكن هناك حاجة لقول المزيد فالجميع الآن يعرف جيدا ماذا سيحدث.


حمل آلويس أحد البراميل و بدأ يعطي توجيهاته "آليكسي ، ماريان ، إنزو أغلقوا كل النوافذ و الأبواب !" تجاهل نظرات التساؤل و الحيرة على وجوههم و استدار نحو الاثنين الباقين "أما أنا ، سيباستيان و غلبيرت فسنتولى أمر هذه البراميل !" رفع عينيه الذابلتين كأوراق الخريف و القاسيتين كعيون النمور الضارية "سنحرق هذه المدرسة بكل ما فيها !"

تبادلوا فيما بينهم نظرات متباينة .. الاستغراب ، الخشية ، العزم ، التردد و تأنيب الذات !
لكن رغم اختلاف ردود أفعالهم تجاه الأمر كانوا جميعا متفقين و مجمعين على عدم عصيان قائدهم أو الاعتراض على أوامره ! لذا فقد انصاعوا لتعليماته .. و نفذوها بحذافيرها !


******

دون أن يظهر جسده مد رأسه قليلاً و ألقى نظرة حذرة من خلال النافذة المكسورة إلى الشارع حيث تندفع سيارات الإطفاء و الإسعاف بأقصى سرعة نحو البناء المشتعل لافتة أنظار و أسماع الناس إليها بأصواتها الصاخبة المزعجة.

ابتعد سيباستيان عن النافذة و عاد ليجلس فوق أريكة مهترئة قرب أصدقائه.. كانوا قد استبدلوا ملابسهم المدرسية بأخرى عادية و اجتمعوا داخل غرفة رثة متهالكة لمبنى قديم سيهدم عما قريب.

أصدر الباب الحديدي صريرا حادا حين فتحته ماريان.

استقبلها غلبيرت بتعليقه "لقد تأخرت !"

رفعت القبعة الصبيانية عن شعرها الذي جمعته فوق رأسها بتسريحة ذيل حصان و أطلقت زفرة طويلة "المدينة في حالة من الفوضى بسبب الحريق !"

سلمت الكيسين في يديها لآلويس ثم جلست بحذر فوق كرسي يهدد بالسقوط في أية لحظة.
أفرغ القائد محتويات الكيس أمامهم .. كنزة صوفية ، تنورة قصيرة ، جوارب طويلة و سميكة ، زوج من العدسات الملونة بالإضافة لشعر أشقر مستعار.

كانوا ليتوقعوا أنها لماريان لولا مقاسها الصغير .. الشخص الوحيد في المجموعة الذي يتلائم حجمه معها كان ..

التفتت الرؤوس نحو آليكسي الذي فغر فاه في عدم تصديق أو بالأحرى في محاولة لعدم تصديق الأمر ! رمش بعينيه الواسعتين مرارا بطريقة بلهاء "لا تقل .."

كتم إنزو و سيباستيان ضحكة مدوية بينما ثبت آلويس نظراته الحازمة على قط المجموعة الصغير "أجل .. سترتديها !"

انكمشت تعابير وجهه في اشمئزاز "و لماذا أنا ؟!"

لم يدر بداية إن كان آلويس قد تجاهل سؤاله أم أنه أراد الإجابة عنه بطريقة أخرى .. إذ التقط حقيبة ظهره و أدخل يده في جيبها الكبير .. اتسعت عيونهم في دهشة و انبهار و هم يرونه يخرج رزما عديدة من المال كانت كل رزمة منها تحوي أكثر من عشرين ورقة من فئة مئة يورو !

انحنى صاحب العيون الأربع للأمام بنظرات ذاهلة و أطلق سؤاله قبل الجميع "من أين لك كل هذا ؟!"

صف آلويس الحزم بترتيب بجانب بعضها ثم رفع إليه وجهه ذا البرود الهائل "من أين برأيك ؟! أخذتها من خزانة المدرسة طبعا ! سنحتاج المال إن أردنا العيش ، أليس كذلك ؟!"

أمسك إنزو إطار نظراته و قد أخذت التعابير البلهاء على وجهه لحظات حتى تغادره.. "أوه.. نعم"

قسم آلويس الرزم لثلاث مجموعات ثم رفع رأسه ليوزع نظراته الذكية بين رفاقه الحائرين "أنصتوا إلي جيدا .. سننقسم إلى ثلاث مجموعات و نفترق !"

هتفت ماريان بارتباك و قد أخذتها المفاجأة : "لكن لماذا لا نبقى معا ؟! أليس هذا أكثر أمانا ؟!"

"على العكس ! سيسهل عليهم العثور علينا إن بقينا بهذا العدد الكبير ! كما أن انكشاف شخص واحد سيؤدي لانكشافنا جميعا لذلك الافتراق هو الحل الأمثل !"

أطرقت رأسها بأسف .. و أصغى الآخرون لتوجيهاته المتتابعة : "سيذهب آليكسي - بعد تنكره كفتاة - مع إنزو.. "

قاطع هتاف آليكسي المعترض كلامه "أريد البقاء مع سيبا !"

احتدت نظراته و اكتسى صوته بالقسوة "هل تريد الموت لسيباستيان ؟!" حلت الصدمة على وجهه الطفولي و أخذت صوته "أنت و سيباستيان متناقضان تماما في الشكل و التصرفات و بقاؤكما مع بعضكما سيلفت الأنظار نحوكما دون شك !"

طأطأ رأسه الأبيض عابسا و حزينا فمسد سيباستيان على شعره بعطف "لا تقلق ! إنها مسألة وقت فقط و لن يطول الأمر حتى نعود معا !" رفع عينيه المملوءتين بالأسى .. لم يبدو أن طمأنة سيباستيان قد خففت من إحباطه كثيرا.


واصل القائد شرحه "ليس آليكسي و سيباستيان وحدهما من يلفتان الانتباه باجتماعهما ، فالأمر أيضا ينطبق علي أنا و إنزو كذلك ماريان و غلبيرت الثنائيات المعتادة في المدرسة ! لذلك لابد من إعادة التقسيم !" أضاف بعد وهلة "من الأفضل و الآمن أيضا أن يكون هناك شبه بين أفراد كل مجموعة ليتسنى لهم الظهور كأشقاء ! فالروابط العائلية هي الأقل شبهة ! إذن.. كما كنت أقول سيذهب آليكسي مع إنزو ! ماريان مع سيباستيان ، أنا و غلبيرت ! سيذهب كل منا إلى وجهة مختلفة ومن الأفضل أن نتوزع في عدة مدن !"

رفع سيباستيان يده سائلا : "ألا يجب أن يكون لنا مكان محدد للقاء كل فترة ؟!"

"بلى ! سنقوم بتحديده بعد انتقاء منطقة توزع المجموعات إذ ينبغي أن يكون الموقع قريبا للجميع !" عقد حاجبيه في تفكير "أظن من الحكمة أن تبقي كل مجموعة اختيارها لنفسها و لا تطلع باقي المجموعات عليه ! لكننا سنحدد المنطقة بشكل عام.. ما رأيكم بالجنوب الشرقي ؟! أعتقد أن انتشار أفراد المنظمة فيه أقل كثافة من المدن الشمالية طبعا هذا باستثناء نيس ، كان و ليون !"

ابتسم إنزو "القرار يعود إليك فأنت القائد !"

"لكن هذا لا يعني أن تغلقوا عقولكم و كأني وحدي من عليه التفكير ! عندما نفترق سيتوجب على كل مجموعة أن تخطط و تحمي نفسها بنفسها !" أطلق تنهيدة عميقة ثم أردف منهيا الاجتماع " إذن.. نختار الجنوب الشرقي من البلاد !"

انقسم الستة إلى ثلاث مجموعات كما أمر آلويس و ذهبت كل مجموعة - بعد أن حددوا غابة قريبة من الألب كمكان لقائهم - إلى مدينة مختلفة في المنطقة الجنوبية الشرقية.


*****

نزل آلويس و غلبيرت من القطار في محطة المدينة الساحلية غرونوبل . مدينة أخاذة بسحر طبيعتها و جمال أبنيتها ، تحفها جبال الألب الخلابة من جانب و بحر تتراقص ألوانه بين الأزرق و الأخضر من جانب آخر.

سار آلويس و رفيقه في شوارع المدينة المغدقة بأنسام البحر العذبة .. كانت أكثر انتعاشا و مرحا من المدن الداخلية التي قد تبدو مملة بعض الشيء مقارنة بها كستراسبورغ و باريس مثلا.

تلفت غلبيرت حوله بإعجاب و عيناه تستحسنان كل ما تقعان عليه ..
ثم توقف فجاة ليلتفت إلى آلويس .. كان قد ابتعد عنه قليلا و اتجه إلى متجر صغير يعرض صحفا و مجلات متنوعة في واجهته .. التقط صحيفة و عاد إلى صاحبه بعدما دفع ثمنها.

واصلا سيرهما في المدينة بلا هدى .. سأل غلبيرت قائده الذي بدا مشغولا عنه بمطالعة أخبار الصحيفة : "إلى أين سنذهب الآن ؟!"

تمعن المعني في مقال معين في الصحيفة.. و بعد لحظات من التجاهل طوى الجريدة عدة مرات ثم دسها في حقيبته و قال بما لم يبد لرفيقه كإجابة : "سنرى.."

مرا أثناء مشيهما بفندق صغير متواضع البناء .. نظر غلبيرت إلى مرافقه و قال بشك : "نحن لن ننزل في فندق .. صحيح ؟!"

رد الآخر دون أن يلتفت إليه : "طبعا لا.. الفنادق ليست مكانا آمنا ! ثم هل تعتقد أنهم سيسمحون لقاصرين مثلنا أن يمكثوا فيها بهذه البساطة ؟!"

تنهد غلبيرت بتعب و اكتفى بذلك دون تعليق موكلا للقائد مهمة العثور على مكان ملائم لإقامتهما.

نفذا إلى رواق جانبي.. و قبل أن يعبراه توقف آلويس فجأة و سأل بارتياب : "هل أنت جائع ؟!" هز غلبيرت رأسه ببعض الحرج فاستطرد الآخر و هو يشير نحو مقهى في نهاية الطريق"لنذهب هناك و نسترح قليلـ.. "


لم يكد ينطق الحرف الأخير من كلمته حتى اندفع شخص بسرعة خاطفة نحوهما !
تراجع آلويس بضع خطوات في اللحظة المناسبة بينما أوشك غلبيرت أن يسقط من دفعة الغريب المفاجئة.
ركل آلويس الرجل الذي حاول أثناء اندفاعه اختطاف حقيبته و طرحه أرضا ، و قبل أن يتمكن من النهوض و الفرار انقض عليه غلبيرت قوي البنية بلكمة فولاذية و ألصق وجهه بالأرض.

وقف آلويس عند رأسه و رسم على وجهه ابتسامة خبيثة تنضح سخرية "انظروا من وقع ! ما أتعس حظك الذي قادك إلينا أيها اللص المسكين !"

زمجر الرجل و بالكاد بانت كلماته و قد التصق أكثر من نصف وجهه بالأرض "اتر..كوني ! دعو..ني أ..ذهب !"

جلس القرفصاء و أمال رأسه للجانب و ابتسامته الماكرة تزداد اتساعا : "سنتركك ! و ستحصل أيضا على ما جئت تسرقه.."


سقطت الدهشة قوية على وجه اللص و غلبيرت بنفس القدر ! ما الذي يخطط له هذا الفتى العجيب ؟!


******

حمل السيد هوغو أكياس مشترياته الكثيرة و حث خطاه خارجا من المجمع التجاري .. كان معتادا على التسوق مرة واحدة نهاية كل أسبوع لذلك تبدو مشترياته كثيرة بالنسبة لرجل يعيش وحيدا.

وزع الأكياس على كلتا يديه بالتساوي و نزل إلى الشارع و على وجهه تلك الابتسامة الودودة المعهودة منه.. و بينما يسير عائدا إلى منزله استوقف بصره صندوق تبرعات أمام مشفى للأطفال . اتسعت ابتسامته اللطيفة ، وضع أكياسه على الأرض و أخرج محفظته .. كان السيد هوغو يلزم نفسه كلما خرج للتسوق أن يتبرع و لو بمبلغ ضئيل من المال لأي جهة من أوجه الخير و كان ذلك في الحقيقة هو سبب سعادته الدائمة و تفاؤله الذي يضرب به المثل .
لكنه ما كاد يفتح المحفظة حتى اختطفت من بين يديه !

غطت الصدمة الممزوجة بالرعب ملامح وجهه مزيحة ابتسامته عنها .. تلك المرة الأولى التي يحصل فيها شيء فظيع مثل هذا له.

شتت المفاجأة تركيزه للحظات و ما إن استعاد انتباهه حتى ركض خلف اللص و هو يصيح : "توقف ! توقف أيها السارق !"

لكن اللص كان يجري أسرع منه و لم يبد أن في استطاعة رجل غير رياضي مثل السيد هوغو أن يلحق به.. تلفت الأخير يمينا و يسارا أملا في العثور على شرطي يستغيثه لكن دونما فائدة ، لذلك صاح محاولا استنجاد الناس حوله "إنه لص ! أوقفوه ! لقد سرق محفظتي ! أوقفوه !"


و من حسن حظه أن شخصين من المارة قد سمعا ندائه ، كانا يقفان في آخر الرصيف و يعترضان طريق اللص ، و بتعاونهما لم يأخذ الأمر منهما دقيقة حتى أوقعا به !
قبض الضخم منهما على ذراعي السارق بقوة بينما تقدم رفيقه من السيد هوغو الذي توقف و انحنى على ركبتيه ليستجمع أنفاسه المبعثرة .. مد الفتى ذو العيون الساحرة يده بالمحفظة و قال بتهذيب : "تفضل سيدي !"

رفع الرجل رأسه و نظر إلى الفتى بابتسامة عريضة تفيض امتنانا و شكرا و هو يستعيد محفظته التي كاد يفقدها "شـ.. شكرا جزيلا لك !"

كان الفتى الآخر يركز انتباهه على رفيقه و السيد هوغو و لم يشعر إلا بالسارق يفلت من قبضتيه القويتين و يلوذ بالفرار بأقصى سرعة استطاعها.

التفت الآخر نحوه و قال موبخا : "كيف سمحت له بالهرب ؟!"

أطرق المعني رأسه معتذرا "آ..سف لقد شردت قليلا.."

لكن الأول واصل تأنيبه القاسي : "كان عليك أن تكون أكثر انتباها و حذرا !"

عندها تدخل السيد هوغو بدماثة "لا بأس يا بني لقد استعدت محفظتي بفضلكما و هذا كاف !"

هدأت ابتسامته من إنزعاج الفتى و تبسم قائلا : "كان واجبنا.." استأذن بأدب قبل أن يستدير "اسمح لي بأن أذهب إذن.."

لكن السيد هوغو هتف معترضا : "لا ! لن تذهبا قبل أن أعبر لكما عن شكري ! أنتما ضيفاي على الغداء !"

"لكن.. "

لوح الرجل بيده غير قابل للنقاش "لا لكن ! ستجيبان دعوتي ! أم تريدانني أن أحزن ؟!"

ارتسمت على وجهه ابتسامة إحراج صغيرة لينتهي بذلك جداله مع السيد هوغو و يخضع هو و رفيقه لمطلبه.


*****

استند اللص على جدار الزقاق و أخذ يعد غنيمته بفرح غامر : "ما أسعد حظي اليوم ! لم تمسك يداي مبلغا كهذا منذ زمن طويل !"

تقطب جبينه و هو يمد رأسه نحو الشارع ليلقي نظرة مستغربة على ذلك الفتى و رفيقه خلف الرجل الذي مثل سرقته "لكن ما لا أفهمه لماذا طلب مني أن أقوم بسرقة ذلك الرجل ؟! هل أراد أن يبدو بطلا أمامه ؟! لكن لماذا ؟!" حك رأسه عابسا ثم هز كتفيه "و ما شأني أنا ! المهم أني حصلت على ما أريد !"


صفر السيد هوغو بسعادة و هو يعد مائدة الغداء و الذي كان عبارة عن شوربة خضار و لحم بقر مشوي .. وضع أكواب العصير على السفرة ثم ألقى على الفتيان الجالسين سؤالا دون أن يتوقف عن عمله : "بالمناسبة ما اسمكما ؟!"

جاء الرد من آلويس "أنا أدريان و هذا أخي ماركو !"

وزع الرجل نظراته المستهجنة بينهما "أخوان ؟! أنتما لا تتشابهان إطلاقا !"

تصنع ابتسامة باهتة ثم قال "إنه أخي من أبي فقط و هو يشبه أمه !"

هتف السيد هوغو باقتناع : "أها هكذا إذن !" سكت لحظة ثم طرح سؤالا آخر : "أنتما لا تبدوان من سكان المدينة ، من أين جئتما ؟!"

أجاب آلويس سريعا "من باريس !"

"باريس ؟!" التفت نحوهما ببعض الاستغراب بينما يطفئ الفرن "و ما الذي أتى بكما إلى غرونوبل ؟! إنها بعيدة عن مكان إقامتكما ! هل لديكما أقارب هنا ؟!"

تحرك غلبيرت في كرسيه .. لم يكن مرتاحا لأسئلة السيد العفوية ، أما مرافقه فلم يبد عليه أي توتر أو قلق كان رد فعله طبيعيا و كذلك إجاباته.

تنهد بهم ثم قال : "لا لا نملك أقارب هنا.. " تشرب صوته حزنا عميقا "و لا في أي مكان !"

توقف السيد هوغو ليركز نظراته المصدومة على ضيفيه "هل أنتما يتيمان ؟!"

"أصبحنا كذلك قبل أقل من أسبوع !"

ظهرت الدهشة على وجه الرجل ، و حتى غلبيرت ! كان الأخير يتفاجأ كلما فتح آلويس فمه بكذبة جديدة لكنه يخفي اندهاشه بإطراق رأسه كيلا يفسد خطته.

نسي السيد هوغو كل ما حوله و جلس أمام ضيفيه الصغيرين .. انحنى باهتمام و قد استبد الفضول به "قبل أقل من أسبوع ؟! كيف حصل ذلك ؟!"

أخفض عينيه اللتين زداتهما الدموع لمعانا .. كان غلبيرت مستعدا لأن يقسم بأن تلك الدموع لم تكن زائفة بل هي في الواقع الشيء الحقيقي الوحيد في هذه التمثيلية .. حبس الأول آلامه و دموعه و عاد ليرفع رأسه و يجيب مضيفه : "هل سمعت خبر السفينة الفرنسية التي غرقت أثناء إبحارها نحو الجزر الإيطالية ؟! أمي و أبونا نحن الاثنين كانا على متنها .. و قد ماتا !"

اتسعت عينا غلبيرت .. هل هذا هو الخبر الذي حاز على اهتمامه في تلك الصحيفة ؟!

شعر الرجل الرقيق بأسف كبير نحوهما و بالاستياء من نفسه لالقائه سؤالا قاسيا بتلك اللامبالاة.

"آسف.. حقا.. "

"لا عليك سيدي "

"لكن.. لماذا جئتما إلى هنا إن لم يكن لديكما أقارب ؟!"

"لم نعد نستطيع البقاء في تلك المدينة .. إن كل شيء فيها يذكرنا بأسرتنا .. لقد زرنا عدة مدن ، لكن أيا منها لم تعجبنا بقدر غرونوبل لذلك اخترناها أنا و أخي لنقيم فيها بعض الوقت.. "

"آه .. أتفهم ذلك .. لكن أين ستقيمان ؟! الفنادق لا تسمح لمن في مثل سنكما بالنزول فيها دون مرافق بالغ كما أن أسعارها مرتفعة جدا !"

"نعم ندرك ذلك .. لكننا سنتدبر أمرنا بأي طريقة.. "

"أنتما غريبان عن المدينة و ليس من الحكمة أن تتجولا فيهما وحدكما ، فاللصوص و المحتالون في كل مكان ! و ما حدث اليوم خير دليل على كلامي !"

تبادل آلويس و غلبيرت النظرات.. و عاد الأول ليلتفت إلى السيد هوغو مبديا حيرة مقنعة "ماذا ترى إذن يا سيدي ؟!"

تنهد السيد.. مط شفتيه و جالت عيناه في أرجاء مطبخه الصغير قبل أن يرسم فوق شفتيه ابتسامة محرجة و يقول بقليل من الارتباك : "تستطيعان .. المكوث في منزلي .. إن شئتما !"

ارتفع حاجبا آلويس في تفاجؤ لم يشك مضيفه في صدقه ، التفت نحو غلبيرت الذي على خلافه أبدى دهشة حقيقية .. هذه إذن النتيجة التي كان صاحبه يسعى إليها من البداية !


أطرق الفتى عينيه مظهرا ترددا و حيرة كان طبيعيا لشخص في مثل موقفه أن يظهرهما.
و اصطبغ وجه الرجل بحمرة خفيفة و قد فهم تردده بطريقة أخرى "أتفهم موقفكما.. فمنزلي البسيط لا يبدو كالمكان الذي اعتدتما العيش فيه.."

كان منزل السيد هوغو صغيرا بطابق واحد و مساحة لا تتجاوز الثمانين مترا ، بسيط كما قال لكنه مميز بإطلالته الرائعة على الشاطئ و الجو الرحب المحبب الذي يملؤ كل زاوية منه .. كان كما رآه آلويس النقيض التام للسجن الذي قضى فيه أتعس سنين حياته و أكثرها قسوة.

ابتسم آلويس و قال بصدق : "على العكس سيدي منزلك أجمل بكثير من المكان الذي عشنا فيه ! يكفي أنه ملك لرجل كريم الخلق مثلك !"

تغلغلت السعادة في تجعيدات وجهه اللطيفة "إذن ستبقيان ؟!"


نطق غلبيرت للمرة الأولى "لكن ألن نسبب لك المشاكل ؟!"

"أبدا ، أنا لست متزوجا و أعيش وحدي ، كما أنكما لا تبدوان كمن يثير المتاعب !"

شاب ابتسامة آلويس مقدار ضئيل من السخرية لم يلحظه السيد هوغو .. هما بالفعل لا يثيران المتاعب لكن المتاعب هي من تلاحقهما أينما ذهبا.

نظر للرجل أمامه بامتنان و قال : "حسنا ، لكننا سندفع لك ثمن إقامتنا !"

قطب جبينه بانزعاج : "ما الذي تقوله أيها الفتى ؟! هذا ليس نزلا لتدفع !"

"أعلم لكننا لا نريد أن نشكل عبئا إضافيا عليك !"

"لن تشكلا أي عبء حالتي ميسورة و الحمد لله !"

"لكن.. "

"كف عن الجدال أيها الفتى لم أنت عنيد هكذا ؟! لن آخذ مالا مقابل إقامتكما عندي ، لكن قد أقترض منكما إن اقتضت الحاجة لذلك ، و الآن .. يا إلهي لقد انشغلت بالثرثرة و نسيت أمر الغداء كليا ! لا شك أنكما تتضوران جوعا !"

ضحك من بلاهته و نهض متجها إلى الفرن ليخرج اللحم المشوي.


تزين وجه غلبيرت بابتسامة رقيقة و همس لرفيقه "إنه رجل لطيف حقا !"

هز آلويس رأسه ببطء مبديا موافقته .. لقد مضى وقت طويل لم يقابل فيه أشخاصا مثل السيد هوغو ، منذ دخل إلى النجوم المضيئة لم يعد يرى من العالم سوى جانبه المظلم.


بعد تناول الغداء الشهي .. تكفل آلويس بتنظيف المائدة و غلبيرت بغسل الصحون بينما انشغل سيد المنزل بتجهيز أكواب الشاي و مراقبة الإبريق على النار.


اجتمع الثلاثة أمام طاولة في الشرفة ليستمتعوا بالنظر إلى البحر و النوارس المحلقة في سمائه الزرقاء الصافية أثناء احتسائهم الشاي اللذيذ.

استرخى السيد هوغو في كرسيه الهزاز .. مر صمت قصير قبل أن يهتف فجأة : "صحيح ! يجب أن نعثر لكما على مدرسة بسرعة !"

اتجهت عينا غلبيرت لرفيقه بنظرة قلق .. تسجيلهم في مدرسة بمثابة رمي أنفسهم بين براثن المنظمة ! لكن كيف يمكنهم تجنب ذلك دون إثارة شكوك السيد هوغو ؟!

رفع آلويس حاجبيه و رمشت عيناه عدة مرات ليبدو بمظهر بريء يعتريه العجب "نحن لا نذهب للمدرسة !"

على الذهول وجه الرجل "لا تذهبان للمدرسة ؟! لماذا ؟!"

تطلع غلبيرت إلى صاحبه بصدمة .. كيف يستطيع قولها مباشرة و بتلك الطريقة غير المكترثة ؟!

نظر آلويس نحو غلبيرت بمسحة غريبة من الشفقة لم يستطع الأخير تفسيرها ، ثم تنهد و قال موجها عينيه إلى السيد "لقد توقفنا عن الذهاب إلى المدرسة منذ سنتين .. و ذلك للمضايقات الكثيرة التي يتعرض لها ماركو هناك !"

"مضايقات ؟!"

"أجل ، إنه في الحقيقة .. مصاب بالتوحد !" انتفض جسد غلبيرت لكنه كافح حتى لا تظهر ملامح الصدمة على وجهه بينما يواصل رفيقه "و هذا ما جعله هدفا دائما للأولاد المتنمرين !" أصغى السيد بانتباه.. تنهد الفتى بعمق ثم تابع "لذلك قرر والداي أن يترك المدرسة و يكمل دراسته في المنزل . كان يقضي معظم وقته وحيدا فهو بلا أصدقاء نهائيا و كلا والدينا يخرج للعمل طيلة النهار .. لذلك توجب علي أن أترك مدرستي كذلك و أجلس معه !" رسم ابتسامة أخوية على شفتيه و هو يستدير نحو أخيه المزعوم و الذي خطف نظرة إلى وجهه ثم عاد ليلصق عينيه بالأرض .. بدا حينها فعلا كفتى يعاني عزلة و مشاكل نفسية و يشعر بتأنيب الذات على ما يسبب لأخيه غير الشقيق من متاعب.


و هو يحدق فيهما شقت ابتسامة إعجاب طريقها مزيحة تعابير الدهشة من وجهه "فهمت ! يا لكما من أخوين رائعين !"


أخفض آلويس رأسه متصنعا ابتسامة خجلة ، أما غلبيرت فلم يرفع عينيه عن حذائه .. رغم أن المفاجأة غير المتوقعة من طرف آلويس لم ترقه أبدا إلا أن دور الفتى الانطوائي لم يكن سيئا بالنسبة له ، بل إنه يناسبه كثيرا في الواقع فهو هادئ بطبعه و لا يتكلم كثيراً لذلك لن يصعب عليه تمثيل هذا الدور.


و هكذا أصبح منزل السيد هوغو ملجأ للهاربين من شرور المنظمة.


كان آلويس و صديقه أثناء إقامتهما هناك يدرسان مناهج المدارس العادية أو بالأصح يتظاهران بدراستها فمعلوماتها - بالنسبة لطالبين متفوقين من النجوم المضيئة - بديهية و محفورة في ذاكرتيهما لسهولتها و كثرة تكرارها.

مرت الأيام التالية هادئة لطيفة دون مشاكل أو أحداث تذكر .. التزم الأصدقاء الستة باللقاء عند الغابة كل أسبوع أو عشرة أيام ، كانت المجموعتان الأخريتان قد تدبرتا أمرهما بشكل جيد أيضا . أقام سيباستيان و ماريان في بيت زوجين عجوزين لم يرزقا بأبناء ، أما إنزو و آليكسي فقد وجدا مقامهما عند صياد أعزب يعيش حياته في قاربه.

كذلك فقد عرف آلويس من إتصاله بصديقه البعيد إيريك أن هوارد و عدد قليل من الطلاب استطاعوا الهرب من المشفى و الافلات من المنظمة بعد أن التزموا بتعليمات آلويس التي نقلها إليهم إيريك ، أما الباقون و هم الأغلبية فلم يبرحوا مكانهم خوفا من بطش المنظمة و هو ما أدى إلى هلاكهم و ضياع فرصتهم الوحيدة في النجاة . لم تكن تلك هي المعلومة الوحيدة في جعبة صديقه فهناك واحدة أخرى أثارت اهتمامه أكثر من سابقتها.. و هي اختفاء جاستن المفاجئ !


أطبق آلويس كتابه و أخذ نفسا عميقاً.. كان ذهنه مشغولا بأمور كثيرة لم تسمح له بالتركيز في القراءة .. أين ذهب جاستن ؟! و ماذا سيحل بهوارد و الآخرين ؟! ثم ماذا سيفعل هو و غلبيرت بشأن مكان إقامتهما ؟! السيد هوغو رجل مضياف كريم حلو المعشر و قد استضافهما لما يقارب السنة ، لكنهما لا يستطيعان المكوث هنا بشكل دائم يجب أن يتنقلا من مكان إلى آخر كل فترة حتى لا تستطيع المنظمة تتبعهما.

ألقى نظرة نحو رفيقه.. كان منصبا على قراءة كتاب الأحياء البحرية و لم يبد أن هناك ما يشغل باله غير الدلافين و أسماك القرش.


تنهد ثم نهض من كرسيه قائلا : "سأذهب لأصنع لي كوبا من الشاي .. هل تريد أن أحضر لك واحدا ؟!"

رفع غلبيرت رأسه المحني فوق كتابه و قال ببعض الامتنان : "نعم من فضلك !"


سار نحو المطبخ بذهن شبه غائب .. غير أنه حالما وضع قدميه فيه استعاد إدراكه و انتباهه ، إذ وجد هناك شيئا غير مألوف جعله يعقد حاجبيه و يركز نظراته عليه باندهاش . كانت الثلاجة مفتوحة على آخرها و قد انحنى شخص غريب على رفوفها لينبش محتوياتها ! من هو ؟! لص ؟! لكن هل اللصوص يقصدون الثلاجات ؟!

خطى آلويس على رؤوس أصابعه و أخذ يقترب من المجهول .. وقف على يساره دون أن تفصل بينهما مسافة كبيرة ، ثم أمال رأسه للجانب و قال باستنكار "من تكون ؟!"

جفل الغريب قليلا بسبب الصوت الذي بدد سكون المطبخ فجأة .. رفع رأسه لينظر إلى محدثه .. لم يكن المجهول أكثر من سيدة شقراء في أواخر العشرينيات ! احتضنت الأطعمة المعلبة التي أخرجتها من الثلاجة بين ذراعيها و كشرت بمرح عن صف من الأسنان البيضاء المتراصة و قالت بنبرة طفولية "أنا سوزان !"

ضاقت عيناه المثبتتان عليها بارتياب .. من تكون هذه المرأة ؟! السيد هوغو ليس متزوجا و لم يأت على ذكر امرأة طيلة وجودهما عنده.


تحركت سوزان نحو الطاولة و فرشت الطعام فوقها .. جلست بأريحية أمامه ثم عادت لتنظر نحو آلويس .. أمالت رأسها للجانب المعاكس له و كأنها تحاول تقليده و بذات التكشيرة المرحة قالت : "عيناك جميلتان حقا ! هل يمكنني التعرف عليك ؟!"

بغير تهذيب تجاهل آلويس سؤالها و طرح سؤاله بقليل من الحدة "ما هي علاقتك بالسيد هوغو حتى تدخلي إلى منزله دون إذن ؟!"

قهقهت المرأة باستمتاع و كأنه ألقى بدل السؤال طرفة ظريفة أثارت ضحكها ، رمقها بنظرة استخفاف باردة كانت في نظرها أكثر مدعاة للضحك من سؤاله.

"أنت ظريف للغاية لقد أحببتك !"

تحلت تعابير وجهه بالاشمئزاز .. آخر إمرأة في الدنيا قد يتمنى أن تحبه هي واحدة من صنف سوزان.

اختلط صوت ضحكها بالمضغ و هي تحشر قطعة من الجبن في فمها.. بدت مستمتعة كثيرا بالنظر إلى وجهه الجامد و التعابير الباردة التي تظهر عليه.

"هذه أنت يا سوزان ؟!"

كان ذلك السيد هوغو الذي وقف عند باب المطبخ و دهشة كبيرة بادية عليه .
لوحت له سوزان و هي تدفع زجاجة الحليب في فمها.

"متى وصلت ؟!" سأل السيد بينما يدخل لينضم إليها على الطاولة.. أبعدت المعنية الزجاجة بعد أن شربت ربع ما فيها بجرعة واحدة ثم أخذت ثانية لتعطي رئتيها مهلة قصيرة للتنفس و قالت : "اليوم !"

انتبه للمرة الأولى منذ دخوله لوجود آلويس فقال مجيبا على نظرات التساؤل في عينيه : "إنها ابنة عمي سوزان !"

أطلقت سوزان ضحكة و هي تنظر نحوه "أجل أنا ابنة عمه الغالية التي لا تحتاج إذنه لتدخل بيته و تغير على ما في ثلاجته !"

ضحك السيد هوغو بدوره بينما انسحب آلويس من أمامهما قائلا : "سأعد الشاي.."

أحاطته سوزان بنظراتها المهتمة طوال سيره نحو الموقد .. ثم التفت نحو ابن عمها و سألت : "ما اسم هذا الوسيم العابس ؟! إنه يرفض أن يخبرني !"

تظاهر آلويس بعدم الإصغاء لكلامها بينما تبسم السيد و هو يحول بصره إليه "إنه أدريان ! و لا أنصحك باللعب معه !"

تدفقت الإثارة داخلها جراء هذا التحذير "حقا ؟!"

حينها التفت الجميع نحو باب المطبخ .. كان غلبيرت واقفا على عتبته و ينظر نحو سوزان باستغراب .. أجابت الأخيرة مبتسمة قبل أن يبادر بالسؤال : "أنا سوزان ابنة عم هوغو !"

تصنع غلبيرت بعض الارتباك و التوتر كان من المطلوب أن يظهره من هو في مثل حالته - التي يمثلها - عند التقائه أناسا جددا.

أشار السيد هوغو إلى كرسي قربه و قال : "تعال اجلس يا ماركو !"

تقدم غلبيرت بعد تردد قصير و جلس دون أن تقابل عيناه عيني سوزان المتفحصة.

سألت الأخيرة و الفضول يأكلها : "هل هذان الاثنان هما ابناك بالتبني ؟!"

"لا ، إنهما يقيمان معي فقط .. لكني كنت سأسعد كثيرا بابنين صالحين مثلهما !"

بان السرور مع بعض الخجل على وجه غلبيرت "شـ.. شكرا سيدي !"

أما آلويس فبدا كأنه لم يسمع .. كان منشغلا بإعداد أكواب الشاي دون الالتفات لما حوله.

سأل السيد هوغو : "لكن ما الذي أتى بك بهذا الشكل المفاجئ ؟! هل حدث شيء مع زوجك ؟!"

ظهر الملل في عينيها حين ذكر كلمته الأخيرة "ذاك الغبي ؟!" استعادت نظرات الشغب الماكرة فجأة "لقد جئت هنا فقط لأثير أعصابه !" ثم غرقت في نوبة شريرة من الضحك "لا يمكنني تخيل ردة فعله حين يعلم بأني بعت المنزل و تركته بلا مأوى !"

أخذ آلويس يصب الشاي في الأكواب بصمت.. وضع السيد هوغو يده على رأسه و تنهد بعمق : "يا إلهي هذا زواجك الثالث يا سوزان ! لم لا تعتبرين من تجاربك السابقة ؟!"

قهقهت بخبث "كل أزواجي كانوا مغفلين و من النوع ذاته من الرجال البغيضين ! لذلك توجب ان أعاملهم بالطريقة نفسها !"

"و لماذا تقعين مع نفس النوع كل مرة ؟!"

هزت كتفيها و ابتسمت "لا أعرف و لست أهتم بأن أعرف ما دمت أحصل على المال !" رفعت عينيها الحالمتين إلى السقف "بعد أن أحصل على طلاقي من الأبله الثالث سأكون قد جمعت ما يكفيني من المال لأعيش حياة رغيدة و لن أفكر في الزواج مجددا" تنهدت بغم "فبعد رحيله لم يعد بين الرجال من قد يثير اهتمامي !"

نظر السيد هوغو نحوها باستغراب "من تقصدين ؟!"

فتحت عينيها باستغراب مماثل : "ألا تعرفه ؟! إنه .. أعني كان رئيسي في العمل ... السيد إدمون آيون !"

انقبض قلب آلويس و شخصت عيناه و قد استبدت الصدمة به ! استغرق الأمر منه وقتا حتى استطاع طمس هذه الدهشة و الالتفات نحو المرأة .. أوشك أن يسألها لكنه كبح نفسه في اللحظة الأخيرة . حمل أكواب الشاي و وزعها على الجالسين ثم اتخذ لنفسه مقعدا بجانب غلبيرت.. مع أن البرود يلف محياه إلا أن قلبه ما زال يرتجف من الصدمة.

لكن لحسن حظه فقد طرح السيد هوغو السؤال الذي تردد في ذهنه "هل كان هناك شيء بينكما ؟!"

مطت شفتيها و هزت رأسها "لا.. كانت المشاعر من طرفي أنا فقط أما هو فكان يعاملني بطريقة عادية ! لكني لم أيأس من إمكانية أن يبادلني تلك الأحاسيس ! كنت دوما أحلم به يترك إيفا - رغم علمي بإخلاصه الشديد لها - و يتزوجني أنا.. لكن .." عبست و تنهدت بحزن.

أما السيد هوغو فلم يتمالك نفسه من الضحك "لا من تكرهينه يسلم من شرك و لا من تحبينه ينجو من نحسك ! أي كارثة أنت ؟!"

قطبت جبينها و رمته بنظرة تهديد : "كلمة أخرى و سأحبك !"

لوح بيديه راجيا و هو يضحك "لا أرجوك ! سأطبق فمي و لن أفتح الموضوع مجددا !"

زمت شفتيها بطفولية "هذا من مصلحتك !"

لم يكن آلويس مستمتعا بالحديث الجاري خلافا لرفيقه.. بل بدا منزعجا لحد الغضب ! رغم إدراكه أن السيد هوغو و سوزان لا يقصدان سوءا بما قالا إلا أن جعلهما موت أقرب فرد إليه من عائلته موضوعا كوميديا مثيرا للسخرية كان شيئا يفوق احتماله و يتخطى كل حدود الصبر ! التقط كوبه و ارتشف من شايه الساخن عله يهدئ أعصابه الثائرة و لو قليلا..


لم يظهر إن كان أي من الثلاثة الآخرين قد لاحظ الغضب الذي يتملكه .. سأل السيد هوغو محولا دفة الموضوع عن إدمون "ألا زلتي تعملين في مؤسسة لوميير ؟!"

قالت بحنق : "لا ، لقد فصلني ذلك القرد القبيح بيفورت ليضع مكاني نعجته البدينة ! و لذلك تراني هنا ! فقد جئت أبحث عن وظيفة في غرونوبل !"

هز رأسه بتفهم "هكذا إذن.. أظنني أستطيع مساعدتك في هذا !"

تهلل وجهها بابتسامة واسعة "هذا ما كنت أتوقعه من ابن عمي الرائع !"
ألقت ما بقي في كوبها داخل فمها بعجالة ثم التقطت حقيبتها و نهضت قائلة "هيا لنذهب الآن !"

"الآن ؟!"

شدته من ذراعه لتحمله على النهوض "نعم الآن لا وقت نضعيه !"

تنهد في استسلام و قلة حيلة و قام من مقعده مكرها .. سارت سوزان بنشاط يتبعها ابن عمها بتمهل و قليل من التثاقل نحو الباب .. توقفت فجأة حين مرت بآلويس الذي لم يعرها اهتماما .. اقتربت منه لتقف خلفه و قبل أن يتمكن الأخير من فعل شيء أمسكت خديه و صارت تشدهما باستمتاع و تلذذ "يا إلهي ما أجمل هذه الخدود ! هل أستطيع أكلها ؟!"

ثم قفزت للوراء قبل لحظة من أن تصيبها صفعة آلويس الذي وقف يستشيط غضبا.
أمسكت بطنها و وجهها قد ازرق من الضحك .. فسحبها السيد هوغو من ذراعها قائلا بنفاذ صبر : "دعي الفتى و شأنه سوزان !"

جرها ورائه حتى باب المطبخ .. و قبل أن تغادر لوحت له مودعة "ستصبح رجلا رائعاً عندما تكبر و قد أفكر في الزواج بك !"

نهرها السيد هوغو و قد ظهر الرعب على وجهه "أوه أرجوك لا تدمري مستقبل الفتى ! هيا تحركي ! ألست أنت من حثني على الإسراع ؟!"


خرجت سوزان من المطبخ و لم ينقطع صوت ضحكاتها حتى غادرت المنزل كله.

زفر آلويس بحنق و عاد للجلوس و هو يفرك وجنتيه المحمرتين بألم .. دون أن ينتبه لغلبيرت الذي كان يهتز و يكتم ضحكته بشق الأنفس.


*****

بعد مرور بضعة أشهر من الحياة المريحة المسالمة في غرونوبل .. حدث ما شكل نهاية ذلك الحلم الجميل !
رن الهاتف و طاف رنينه اللحوح في أنحاء المنزل الهادئ دون كلل حتى خرج آلويس من غرفته و اتجه إليه.. رفع السماعة و قال بفتور : "آلو.."

اندفع الطرف الثاني ليقول بصوت مرتجف : "هذا أنت يا آل ؟! اسمعني يجب أن تغادر المدينة التي أنت فيها بأسرع ما يمكن !"

اتسعت عيناه الصفراوان في تفاجؤ "ماذا ؟! ما الذي حدث يا إيريك ؟!"

ازداد صوت صديقه اضطرابا و خوفا "إنهم يعرفون ! لقد اكتشفوا مكانك و قد يصلون إليك في أية لحظة !"

أغمض آلويس عينيه و أخذ نفسا طويلا.. ليخمد ثوران مخاوفه.. لم يكن خوفا لأجل حياته إذ كان واثقاً من قدرته على حماية نفسه لكن قلقه الأكبر كان على أصدقائه و الناس المحيطين به.

تحدث بعدما استعاد رباطة جأشه و هدوءه "من أين تحدثني يا إيريك ؟!"

"من هاتف جارتنا !"

"جيد ! إياك و مهما حدث أن تتصل بنا من هاتف منزلك ، واضح ؟!"

رد إيريك مترجيا : "حاضر ! و لكن أرجوك أن تسرع بالهرب فالوقت ضيق جدا !"

"لا تقلق سنكون على ما يرام !"


أطبق السماعة ثم انطلق عائدا إلى غرفته.. وجد غلبيرت مستلقيا فوق سريره يقرأ مجلة هزلية.. هتف آلويس : "انهض بسرعة يجب أن نغادر هذا المكان !"

أجفل غلبيرت تماما لكنه و قبل أن يفيق من دهشته قفز واقفا .. التقط آلويس حقيبته على عجل و رمى بخاصة رفيقه نحوه.
و اندفع الاثنان خارجين إلى البهو.. كان السيد هوغو في الخارج لذلك شق آلويس ورقة من دفتر ملاحظاته و كتب له رسالة قصيرة "اضطررت أنا و أخي للعودة إلى باريس لأمر عاجل ! سنبقى هناك في منزل أسرتنا لذلك لا تقلق بشأننا ! شكرا جزيلا لك على كل ما قدمته لنا !"


خرج الاثنان راكضين نحو الشارع أعلى الشاطئ.. لكن قبل أن يبلغاه بقليل أمسك آلويس ذراع رفيقه و قال آمرا : "سنفترق من هنا !"

هتف الآخر مستنكرا : "ماذا تقول ؟! لماذا ؟! ألم.. "

قاطعه آلويس بغضب : "الوضع اختلف الآن ! يجب أن نفترق و يذهب كل منا إلى جهة مختلفة !" تلفت حوله ليتأكد من أن لا أحد يراقبها ثم قال : "اسمع اذهب إلى أفيغنون ! إنزو و آليكسي هناك ، لقد استطعت معرفة المكان من وصفهما له !" دفعه بصبر نافذ "هيا تحرك ! إن بقينا معا سيمسكون بنا دون شك !"

سار غلبيرت بخطوات بطيئة مكرهة يتبعها بالتفاتة حزينة نحو رفيقه كل لحظة.. لكنه حالما وصل الشارع صار يركض دون توقف ! لم يكن يريد ترك قائده و صديقه .. لكنه في الوقت نفسه كان يخشى أن يشكل عبئا قد يتسبب في إيقاعه بين أيدي المنظمة !











رد مع اقتباس
  #253  
قديم 08-14-2016, 11:17 AM
 



الفصل الرابع و الأربعون
*تأهب للمواجهة*





رفع السيد هوغو قصاصة الورق الموضوعة قرب الهاتف و وجهه يتلون بمختلف تعابير الاستغراب و الدهشة . اقتربت سوزان و أخذت تنظر من فوق كتفه بفضول ما لبث أن حل الذهول مكانه ، رفعت حاجبيها الاشقرين و هتفت باستنكار : "عادا إلى باريس ؟! بهذه السرعة ؟! لم لم ينتظرانا حتى نعود للمنزل على الأقل ؟!"

قطب الرجل جبينه .. تجاهل استفسارها و اتجه مسرعا نحو الغرفة التي كانت تخص الصبيين لأكثر من عام . تبعته سوزان و راقبته باستغراب و هو يفتح خزانة الملابس الفارغة ، ثم ينحني ليتفقد أدراج الكتب و التي كانت ممتلئة على عكس سابقتها !

اشتدت العقدة فوق عينيه حدة "لقد تركوا كل كتبهم !"

استقام في وقوفه و قالت سوزان متعجبة من استغرابه للأمر : "ربما لم يعودا يريدانها فقط !"

تجهمت ملامح وجهه الرقيقة "لا ، الكتب كانت الشيء الوحيد الذي ينفقان مالهما عليه و يقتصدان في كل شيء سواه !"ضاقت عيناه و هما تتفحصان زوايا الغرفة بعناية "و تركهما لها بكاملها يدل على أن الأمر عاجل بالفعل و لا يسمح بالتأجيل !" أطلق زفرة ضيق و اجتاح الهم قسمات وجهه "أشعر بالقلق ! لا أدري لكن الأمر لا يبدو مطمئنا ً!" التفت إلى ابنة عمه الصامتة على غير عادتها بنظرات حائرة "هل علي إبلاغ الشرطة يا ترى ؟!"

عقدت حاجبيها مفكرة و ردت بعبوس : "و ما الحاجة لذلك ؟! ألم يقولا أنهما عائدان إلى منزلهما في باريس ؟! ما الذي يقلقك إذن ؟!"

تنهد بهم و هو يتخبط بحيرته "قلت أنني لا أدري سوزان ! إنه .. إنه شعور فقط !"


لم تحب ذلك العبوس - و ما رافقه من غم و كدر - على وجهه اللطيف الذي دوما ما كان مقاما للبهجة و السرور و مدعاة لاطمئنان الناظرين إليه.
انحنت للأمام شيئا بسيطا و شكلت ابتسامة مرحة فوق شفتيها الوردتين و هي تقول : "يمكنني الذهاب إلى باريس و التحقق من الأمر إن شئت ؟!"

رفع رأسه بدهشة "حقا ؟!"

"أجل ، أنا كذلك ينتابني الفضول لأعرف ما حصل معهما !"

فكر لبعض الوقت و قلب الأمر داخل رأسه عدة مرات قبل أن يقول أخيرا : "حسنا.. أعتمد عليك سوزان !"

غمزت بعينها و قالت و ابتسامتها المرحة تزداد اتساعا : "لن تندم على ذلك يا ابن عمي !"

بحركة رشيقة التقطت حقيبتها من فوق الطاولة ، ثم لوحت له مودعة و خرجت .
نزلت مسرعة الخطى إلى الشارع الذي شرع نشاطه يتزايد مع بداية موسم السياحة ، ثم شقت طريقها على الرصيف حتى وصلت كابينة هاتف ، دخلت و بعدما أغلقت الباب وضعت قطعة نقدية في المكان المخصص ثم رفعت السماعة إلى أذنها و طلبت رقما معينا.
لحظات قليلة من الإنتظار ثم سمعت الطرف الآخر يجيب : "آلو !"

عندها و دون أن تعرف عن نفسها أو تلق أية تحية اندفعت قائلة : "لم يعد موجودا ! لقد هرب !"

كانت الجدية مسيطرة على ملامحها و نبرة صوتها بصورة غير مسبوقة.

بانت الصدمة بوضوح على الطرف الثاني "ماذا ؟! متى حصل ذلك ؟!"

ردت سريعا : "هذا الصباح !" قطبت جبينها و أضافت "يبدو أنه اكتشف شيئاً ما !"

"شيئاً ما ؟!" ردد المجهول بشرود و حل صمت قصير بين الطرفين قطعه الأول فجأة بقوله : "تعالي لآخر مكان اجتمعنا فيه حتى نستطيع التحدث بحرية ، أريد معرفة كل التفاصيل الممكنة !" ثم أردف في الأخير بطريقة بدا معها كأنه يحادث نفسه لا سوزان : "يجب أن نعثر عليه بسرعة قبل أن يبتعد !"


*****

عاد ليمعن النظر في القصاصة و يدقق في تفاصيلها .. كانت تلك هي المرة السادسة التي يكرر فيها قراءة الرسالة و رغم أنه لم يعثر في أي من المرات السابقة على ما يفيد إلا أنه لم ييأس من المحاولة . قطب جبينه الأسمر و حث ذاكرته على استرجاع ما مر بها من معلومات عن الخطوط و كيفية التوصل لنفسية كاتبها و مشاعره ، مرر بصره بتمهل و تركيز فوق الكلمات محاولا استقراء ما توارى من عواطف بين حروفها .. لكن لا ، لا عواطف و لا أحاسيس ! و كأن من خط هذه الكلمات رجل آلي مجرد من المشاعر الإنسانية !

أطلق تنهيدة يأس معلنا بذلك كفه عن الاستمرار في التنقيب عن شيء قد لا يكون موجودا أصلا و ألقى الورقة فوق الطاولة ، تجهم وجهه و شعر ببعض الحماقة .. ما كان عليه أن يقلق كل ذلك القلق و يحمل سوزان على الذهاب لباريس بدافع من هاجس خلقته أوهامه.

نهض فجأة و أوقف تدفق أفكاره ... هناك من يطرق الباب !

أسرع نحو المدخل ليفتح للطارق .. أمسك المقبض و أداره على عجل ثم فتح الباب بنصف اتساعه .. لم يتوقع من البداية أن يكون الوافد شخصا من معارفه ، لكنه فوجئ قليلا حين وجد على بابه رجل شرطة و آخر خمن من بذلته الرسمية و ابتسامته المتكلفة أنه موظف في الدوائر الحكومية أو ما شابه.

قطع الشرطي السكون بينهم و قال بتهذيب : "عمت مساء سيدي !"

وزع السيد هوغو نظراته المتسائلة بينهما "عفوا.. هل من خطب ؟!"

رد دون مقدمات : "نحن نبحث عن طفل مفقود سيدي و قد وصلنا خبر أنك تؤوي قاصرين غريبين عن المدينة ، هل هذا صحيح ؟!"

هز السيد رأسه ببطء و علامات الدهشة جلية على ملامحه ، كاد يفتح فمه ليتحدث لكن الرجل الثاني لم يمهله وقتا ، أخرج صورة من جيبه و أراها له قائلا بصوته العميق : "لقد هرب هذا الطفل من الميتم قبل أكثر من عام و نحن نبحث عنه منذ ذلك الوقت . إن كان عندك فنرجوا أن تسلمه لنا !"

تشكلت عقدة حادة فوق عينيه الشاخصتين و هما تحدقان بصدمة في صورة آلويس : "هارب من الميتم ؟!"

"أجل سيدي !"

ضاقت عينا الشرطي بتركيز "يبدو من ردة فعلك أن المعلومات التي وصلتنا صحيحة !"

اندفع مبعوث الميتم مستعجلا "هلا سلمته لنا رجاء !"

رفع السيد وجهه المبهوت إليهما و هتف : "لم يعد في منزلي ، لقد غادر هذا الصباح !"

صاح ذو البدلة الرسمية مصعوقا : "قلت غادر هذا الصباح ؟! إلى أين ؟!"

"قال أنه عائد إلى منزله في باريس !"

ردد الرجل بلهجة مستنكرة "عاد إلى باريس ؟!"

"أجل هذا ما ذكره في رسالته التي تركها خلفه !" سكت لوهلة ثم أضاف بنبرة حائرة : "لكن.. لماذا هرب من الميتم ؟!"

مرت لحظة من الصمت المطبق تخللتها الشكوك من طرف السيد هوغو و التردد و الحيرة من طرف رجل الميتم .. تنهد الأخير ثم قال ما لم يبد للسائل جوابا مقنعا : "إنه فقط يحب التمرد و التسبب بالمتاعب لنا !" أدخل يده في جيبه ثانية لكنه هذه المرة أخرج بطاقة عمل تحمل رقمه "هذه بطاقتي أرجو أن تتصل بي في حال عاد الطفل أو عرفت أي معلومات بشأنه !"

مد السيد هوغو يده و أخذ البطاقة "حسنا.. "

"إذن.. نستأذنك في الانصراف !"


مكث واقفا في مكانه يحدق في ظهريهما بشرود و هما يبتعدان.. أطلق تنهيدة ثقيلة مملوءة بالخيبة .. لقد خدع ! خدعه طفل صغير ! أدريان أو أيا كان اسمه لم يخبره كلمة واحدة صحيحة بشأنه و لم ينطق لسانه سوى الكذب . لكن لماذا ؟! هل يعقل أن دافعه كان حب التمرد فقط ؟! و ماذا عن ماركو ؟! من يكون يا ترى ؟! مبعوث الميتم لم يسأل عنه بتاتا و لم يذكر شيئاً بخصوصه !

تنهد مجددا .. أغلق باب منزله ثم عاد أدراجه بخطى بطيئة.. لم يكن مستاء من الطفلين بقدر ما كان قلقا عليهما .. إنهما وحيدان في عالم مخيف لا يرحم . أيا كان اسماهما و مهما اختلفت قصتهما عن الحكاية الملفقة التي أخبراه بها تمنى من كل قلبه أن يكونا على ما يرام ، فهو يعرف عن يقين - و رغم كل الكذب الذي غلفا به حقيقتهما - أنهما ليسا سيئين.


*****

أخرج قداحته و أشعل لفافة التبغ بين شفتيه.. أرسل الشرطي السائر بجواره بصره للوراء حيث منزل السيد هوغو ثم عاد يسأل رفيقه : "هل سنتركه هكذا ؟!"

نفث الأول من بين شفتيه سحبا من الدخان تبعتها كلمات متروية : "إنه لا يعرف شيئاً . الدهشة التي أبداها لرؤية صورة الصبي كانت صادقة تماما و لا شك لدي في أن طريدنا قد احتال عليه ليختبأ في منزله !"

حاول الآخر الاعتراض "لكن ماذا لو.. "

لكن الأول قاطعه بصرامة : "هل أنت أحمق ؟! القائد الأعلى أمر بإتمام المهمة بأكبر قدر ممكن من الهدوء و السرية . بالإضافة إلى ذلك فقولي أني صدقت كلامه لا يعني أن أضع ثقتي فيه ، بالطبع سنترك بعض رجالنا لمراقبة المنزل في حال عاد الطفل !"

أدار الشرطي - أو من يفترض أن يكون كذلك - رأسه للأمام و أبدى حيرته "ما لا أستطيع فهمه هو لماذا يرسل القائد مغتالين من الخنجر المعقوف وراء طفل في الثالثة عشر ؟!"

قال ذلك و وهو يوجه عينيه نحو رفيقه ذي الملامح الجامدة .. أطلق زفرة متشبعة بدخان النيكوتين السام ، لكن نظرته المتعطشة للقتل تخطت تلك المادة في سميتها "إنه ليس طفلا عاديا ، لقد أحرق مدرسة بكاملها و قتل معظم من فيها من طلاب و أساتذة !" اجتاح عينيه و صوته حقد هائل حين أضاف : "كانت ابنتي سيبيلا من بينهم !"

ظهرت الدهشة صادقة على وجه الشرطي "ابنتك ؟!"

لكن المغتال تابع كلامه المغمور بالكراهية كأن تسأول رفيقه لم يصل أذنيه : "لذلك أنا ممتن للقائد لتوكيل مهمة قتله لي أنا !"

كانت تحيطه هائلة شريرة مخيفة جعلت الشرطي - و هو حليفه - يرتعد فكيف بعدوه ؟!

"كن متيقظا و أعلمني حال حصولك على أي جديد واضح ؟!"

هز الشرطي رأسه و قد أجفله حديثه المفاجئ "أجل .. سأفعل !"

ثم انفصل مغتال الخنجر المعقوف عن الشرطي و صعد إلى الشارع حيث تقف السيارة في انتظار عودته.

تنفس الرجل الخائن لمهنته الصعداء و شعر براحة عظيمة و هو يرى السيارة السوداء تسير حتى تختفي عن بصره "يا إلهي ! ما هؤلاء الوحوش ! لا يسعني سوى الشعور بالشفقة على الطفل الذي يطاردونه !"


تفحص الجالس في المقدمة بجانب السائق الطريق أمامه للحظات ثم أدار رأسه نحو قائده في المقاعد الخلفية و سأل بعدما أصابه اليأس : "ماذا لو أنه سافر إلى باريس فعلا يا أرماندو ؟!"

رد المعني بصوته الخشن : "سيكون مجنونا لو فعل ذلك ! مركز المنظمة هناك ! لن يخطو شبرا على أرضها حتى يقع في قبضتنا !"

"أين تتوقع أن يكون إذن ؟!"

إتكأ على ظهر مقعده باسترخاء "على الأرجح في إحدى المدن المجاورة لغرونوبل . ذلك الصبي ذكي و لا ريب أنه يعلم أن تواجدنا و نفوذنا في المنطقة الجنوبية أقل من الشمالية بكثير ، و إلا لماذا اختار هذه المدينة بالذات لتكون مخبأه لما يزيد عن السنة ؟!"

حك الرجل الذي أمامه خده و قد ظهر عليه الاقتناع "أظنك على حق !"

اشتعلت نظراته الوحشية العازمة على سفك الدماء و هو يقول "سنتوزع في الريفيرا و ما حولها و نبدأ البحث عنه ، و لن نعود إلا بجثته !"


*****


في ذلك الوقت كان آلويس جالسا بجانب رجل عجوز كثير الكلام في القطار المتجه إلى نيس !
لم يكن اختياره المقعد المجاور للرجل الثرثار عبثيا بل عن قصد و إدراك. فالمنظمة تعرف عنه الانعزال و قلة الكلام ، لذلك ستبحث عن فتى يجلس وحيدا و لا يحادث أحدا ، و هو أراد أن ييدو مناقضا لتلك الصفات لئلا يلفت أنظارهم إليه.

توقف القطار أخيرا بوصوله إلى المحطة المطلوبة و ذلك بعدما جف حلق آلويس و آلمته حنجرته من الثرثرة ، لم يقابل في حياته شخصا مهذارا كرفيقه في هذه الرحلة المملة.


تنفس الصعداء.. ثم نهض و أنزل حقيبته و حقيبة العجوز من الرف فوق مقعده .. حمل خاصته على ظهره و عرض على الرجل هزيل القوة أن يحمل حقيبته فوافق الأخير بعد تردد قصير .. سار بتمهل كيلا يسبق مرافقه بطيء الخطى و الذي قال له مادحا : "أنت عطوف حقا يا بني !"

تشكلت على طرف فم الصبي ابتسامة باهتة .. فدافعه لما يقوم به من مساعدة لم يكن العطف أو الإحسان قطعا.

و حالما خرجا من القطار و قطعا بضعة أمتار داخل المحطة سلم الفتى لكبير السن حقيبته ثم ودعه و رحل بعد سيل لا يكاد ينقطع من كلمات الشكر.


عدل وضعية حقيبته على ظهره و واصل خطواته متوسطة السرعة نحو البوابة .. و هو يسير نظر إلى انعكاس صورته في حائط معدني بدا كالمرآة لشدة لمعانه .. توقف و قد تصلبت تعابير وجهه في صدمة ، رفع أنامله المترددة و تلمس لاشعورياً وجنته تحت عينه اليمنى .. لقد سقطت العدسة الخضراء دون أن ينتبه و ظهر اللون الذهبي الذي حاول إخفائه ! و أصبح لعينيه الآن لونان مختلفان !
أطلق زفرة مكتومة الصوت ثم بخفة سبابته نزع العدسة الباقية و رماها في أقرب سلة نفايات.

أخفض مقدمة قبعته ليخفي قدر ما أمكن لون عينيه المميز ، و وضع يديه في جيبه ثم غادر المحطة.


استقبلته أنسام البحر الرقيقة و أخذت تداعب بلطف خصلات شعره الناعم . سحب نفسا عميقا و امتلأت رئتاه بهواء الساحل المنعش و المشبع بالملوحة .
مشى على الرصيف مشية متأنية .. لم يكن يعرف ماذا سيفعل أو إلى أين سيذهب .. نظر حوله بتمعن فيما يحث خلاياه الرمادية على مضاعفة نشاطها و الوصول إلى فكرة جيدة عبر تدقيق النظر فيما يحيط به من ناس و مبان.

و أيا كانت الفكرة التي أوشك عقله على الخروج بها فقد نحاها جانبا و وجه نشاط دماغه نحو هدف آخر أهم من العثور على مسكن.

هناك أحد ما يراقبه !
لقد أحس بشخص خلفه ! و قد توارى سريعا داخل زقاق عندما انعطف هو يسارا !
تباطأت خطواته قليلا .. و احتدت نظرة الشك في عينيه المختبئتين تحت ظل القبعة .. هل اكتشفوه بهذه السرعة ؟!

شعر بدقات قلبه تتسارع و بحرارة جسده ترتفع .. فأخذ نفس عميقا ثم زفر ما دخل رئتيه من هواء ببطء و كرر هذه العملية مرارا حتى استعاد كامل هدوئه و رباطة جأشه.

دون أن يدير رأسه جال بعينيه في كلا الاتجاهين ، ثم تحرك في الطريق المؤدي إلى البحر .. لم يكن يسير منفردا بل منخرطا بين عدة مجموعات من السياح من مختلف الجنسيات.
بدا هادئا و مرتاحا في سيره - أو على الأقل من وجهة نظر المحيطين به - لكن عيناه المتيقظتين تراقبان ما يدور حوله بحذر شديد.


توقف و كذلك فعل السائحون عندما أضاءت الإشارة الحمراء للمشاة .. رفع رأسه مترقبا توهج الإشارة الخضراء و مرت الثوان كأنها ساعات .. فجأة أحس بشيء حاد شرخ قميصه بسرعة خاطفة و كاد يخترق أحشائه لكنه قفز للوراء و في الوقت ذاته ضرب بقوة مفاجئة اليد الحاملة للسكين الصغيرة !

نظر بشراسة إلى الرجل الذي تراجع خطوتين و أخفى السكين في كمه بخفة مدهشة و بادله النظرات المتوعدة بالموت.
كان الناس قد التفتوا نحوهما بمزيج من التفاجؤ و الخوف و ابتعد عنهما من كان قريبا.

لكن آلويس أثار دهشة الجميع بمن فيهم مهاجمه حين أظهر الندم على وجهه و أحنى رأسه معتذرا للرجل بصوت طفل مهزوز : "أرجو منك المعذرة سيدي .. لقد حسبتك لصا ! أنا حقا آسف !"

اتسعت عيناه الغائرتان بين جفونه المزرقة .. ارتبك لثوان لكنه - و بعدما اتجهت أنظار الشارع كله إليه - لم يجد بدا من أن يقول : "أوه .. لا عليك .. لا مشكلة !"


تصنع آلويس ابتسامة بريئة تظهر خجلا زائفا و هو يرفع رأسه نحو المهاجم ، ثم عاد ليلتفت أمامه - و كذلك فعل الآخرون - حين أضاءت الإشارة الخضراء و تابع مسيره .. دون أن ينتبه أحد لذلك الشق في جانب قميصه ! كان من المفترض أن تحدث الضربة جرحا سطحيا في أعلى خاصرته ، لكن لوجود شيء تحت قميصه لم تفعل بل لم تصبه بخدش !


ضغط المهاجم على أسنانه و هو يستشيط غيظا .. ( شيطان حقير ! ما زلت لا أستطيع استيعاب ما فعله قبل لحظات ! )

رفع أصابعه إلى السماعة في أذنه ، ثم همس و عيناه مسمرتان بحقد على ظهر آلويس "لقد فشلت المهمة يا أرماندو !"

صاح المعني باستنكار شديد : "ماذا ؟! كيف ؟!"

"ذلك اللعين إنه أخبث و أكثر حذرا مما توقعت ! لقد أحس بي و أنا أحاول طعنه فدفعني ، لكن ما فاجأني هو أنه اعتذر لي مدعيا أنه ظنني لصا ثم تابع طريقه و كأن شيئاً لم يكن ! و الآن بعدما رآني جمع لا يستهان به من الناس لم يعد في استطاعتي مهاجمته نهائياً !"

زمجر أرماندو بحنق : "غبي !"

غير أن الآخر تجاهل إهانته و تابع تساؤلاته : "لكن ما لا أفهمه هو لماذا اعتذر ؟! لماذا لم يصح مستنجدا الناس ؟! أو يطلب منهم استدعاء الشرطة ؟!"

"ذلك الطفل ليس مغفلا مثلك ! إنه على دراية بأن أجهزة الشرطة مخترقة من قبلنا لذلك قدومهم ليس في صالحه بل إنه في الحقيقة يعني محاصرته و استحالة إفلاته مرة أخرى !"

اتسعت عيناه -اللتان تلاحقان تحركات آلويس منذ فترة - في ذهول "هل هو طفل حقا ؟!"


عاد أرماندو ليقول بصوته العميق الصارم : "كف عن الثرثرة و عد الآن ! لم تعد هناك أية فائدة من وجودك !"

تجهمت ملامح الفاشل في مهمته و أخذ تدريجيا ينسحب من بين السائحين حتى ابتعد عنهم و سار في الاتجاه المعاكس عائدا إلى رفاقه . اختلس الفتى بين الجموع نظرة خاطفة للمغتال المنسحب .. لم يجعله ذهابه يشعر بالارتياح و إنما بمزيد من الحيطة و الحذر ، فمن بعد تلك اللحظة لن يعلم من أين قد تأتيه الضربة الغادرة !


بعد ما يقارب العشر دقائق من المشي أخذت الزرقة البراقة تتسع و تكبر حتى وجد آلويس نفسه فوق الرمال البيضاء و البحر الواسع مترام الأطراف يمتد أمامه إلى ما لا نهاية . كان جميلا بشكل يجعل القلب يخفق عشقا .. لكنه لسبب ما لم يكن له ذلك التأثير الإيجابي على آلويس ، بل كان الشعور الذي خالجه لرؤيته أبعد ما يكون عن هذا .. كان الضياع هو كل ما أحس به و هو يطالع المياه الزرقاء بعينيه باهتتي اللون . وقف في مكانه و قد تسمر بصره على البحر بينما أخذ السياح ينقسمون إلى مجموعات صغيرة من العوائل و الأصدقاء بما لا يسمح لغريب بالتسلل بينهم.

أخذ الناس من حوله يبتعدون حتى لم يبق غيره .. جلس فوق صخرة أعلى الشاطئ بعيدا عن التجمعات و عيناه تتابعان ما تحته بحسرة .. وجد نفسه - دون أن يدري - يراقب طفلا أصغر منه بسنتين أو ثلاث يصارع الأمواج ليعوم .. كاد أن يغرق لولا أن والده الذي كان قربه أخرجه بسرعة ، و بعدما أخذ الصبي استراحة كافية لالتقاط أنفاسه اللاهثة أعاد الأب تذكيره بالكيفية الصحيحة للسباحة نظريا و عمليا ثم بدأ الابن في محاولة جديدة.

أحس بفجوة ابتلعت نصف قلبه و هو يتذكر محاولته الأولى للسباحة مع السيد إيفرهارت .. مع أنه لما يكن يجيد العوم إلا أنه نزل إلى البحر مطمئنا . كان على ثقة أنه لن يغرق ، ما دام والده بالروح موجودا ليمد يديه إليه و ينقذه تلك الأمواج العالية لن تخيفه.

عاد الصبي مع والده إلى الشاطئ بعدما ابتلع ما يكفيه من المياه المالحة ، كانت أمه جالسه هناك بجوار أخيه الصغير الذي بدا مستمتعا ببناء قلعة من الرمال . اتجه الابن الأكبر نحوها فرحبت به ضاحكة و أحاطته بمنشفة دافئة بينما ذهب الأب و جلب لعائلته عصيرا باردا.

و هو يرى هذا المشهد المؤلم له فقط .. بدأت الفجوة المظلمة في قلبه تتسع و تتسع و تلتهم ما تبقى منه .. شعر بروحه تتآكل من الألم .. و بالدموع تتحجر في عينيه الذابلتين.

"عائلة.."

همس بصوت خاو من الحياة .. كان ذلك أكثر وقت يشعر فيه بالوحدة . لم تعد لديه أسرة يحتمي في ظلها ، و لا منزل يعود إليه كلما أحس بالضياع أو الخوف ، و لا حتى صورة تذكره بأيامه السعيدة مع أهله . تلك الأوقات التي مضت و كأنها لم تكن لم تترك أثرا خلفها سوى حفر عميقة في فؤاده.


نهض من فوق الصخرة القاسية .. ولى ظهره الشاطئ بما فيه ، ثم سار بخطوات متروية في اتجاه آخر . أخذ يمشي غير مبتعد عن البحر بكثير و لم يتوقف حتى وجد نفسه أمام أرض خضراء تكاثفت فيها الأشجار بمختلف أحجامها و أنواعها و تشابكت مع بعضها مشكلة ما يشبه غابة صغيرة . حرك ساقيه و نفذ من بين الأشجار و توغل داخل الأرض حتى تلاشى في خضرة نباتاتها.


واضعا يديه في جيبه بلا اكتراث مشى فوق جذور الأشجار الناتئة و أوراق أغصانها الساقطة على الأرض .. ثم توقف فجأة.

رفع رأسه قليلا لكن بتعال كبير و خرج صوته محتقرا : "إلى متى ستظل مختبئا كالفأر أيها الجبان ؟!"

صدر من ورائه حفيف لشيء تحرك بين الشجيرات تلاه دعس على الأغصان المتكسرة ثم صوت رفيع فيه بعض الخشونة "تبدو مستعجلا على الموت أيها الصغير !"

كشر الرجل بدناءة و هو يلوح بسكينه القصيرة حادة النصل.

دون أن يلتفت إليه رد آلويس بصوت غامض المشاعر : "نعم أنا كذلك فعلا !"

قهقه الرجل و قال بسخرية : "مسكين ! دعني أحقق لك أمنيتك إذن !"

و أخذ يقترب من مكان وقوفه فيما يتابع كلامه الغريب : "أنا أريد الموت ! أريده بشدة !"

توقف الرجل خلفه مباشرة .. وضع يده على كتفه ، ثم رفع السكين و هو يكشر بوحشية عن أنيابه الذئبية "لك ما تريد يا صغيري !"

أدار آلويس رأسه فجأة لتظهر عيناه الشاخصتان أشد فتكا من سلاح عدوه "الموت ليس لي !"

و لم يكد يكمل استدارته حتى أتبعها بطعنة مباغتة من سكين صغيرة أخرجها من جيبه و غرسها في صدر عدوه بقوة دفعت جسده النحيل إلى الوراء رغما عنه !

"بل لكم !"

ثم لوح بيده المهاجمة لتتناثر قطرات من الدماء العالقة بها و تلوث الأرض الخضراء بحمرتها الكريهة.

"قذارة !"

قال باشمئزاز بينما وقف الرجل شبه الميت ترتعش أطرافه و الصدمة لم تفك وثاقها عنه .. تلمست أنامله المرتجفة قبضة السكين المغروسة في صدره .. رفع رأسه ببطء إلى قاتله البارد .. نظر إليه بعينين جاحظتين من الرعب و دون أن يسعه قول شيء .. هوى إلى الأرض جثة هامدة !

نظر ببرود إلى قتيله .. ثم تحرك بهدوء و انحنى على جثته ، سحب سكينه الملطخة بالدماء من الجسد الجامد ، مسح ما علق بها من السائل الأحمر بمنديل رماه قرب الجثة بعد انتهائه منه ، ثم خبأ سلاحه في حزام بنطاله .. و ذهب كأن شيئاً لم يحدث !


*****

صفق أرماندو باب السيارة بعنف و بصق لفافة تبغه المشتعلة و قد استبد الحنق و الاستياء به "ذلك الغبي غريغوري !"


تبعه رفاقه - الذي أضحوا أتباعه في هذه المهمة - و تحدث أحدهم بقلق : "قال في آخر اتصال له أن الصبي دخل إلى هذه الغابة !" مشيرا إلى منطقة الأشجار الكبيرة قبالتهم.

قال أرماندو بصبر نافذ : "أعلم ذلك !"

سأل شخص آخر و القلق باد عليه "هل تظن أنه.. قد.. "

لكن قائده رد بحزم قبل أن يتم سؤاله : "سنعرف قريبا !"

حث خطاه مع أتباعه إلى المنطقة الشبيهة بالغابة و قبل أن تطأها أقدامهم قال بلهجته الآمرة : "سنفترق للبحث عنه و من يجده فليعلمني فورا مفهوم !"

"حاضر !"

توزع الرجال الستة في اتجاهات مختلفة و بدؤوا عملية البحث عن الطفل الهارب.


******


مدت رأسها من النافذة لتلاعب الرياح المنعشة بشرتها و يتطاير شعرها الأحمر اللامع . نظرت للبحر أمامها بسعادة غامرة و هتفت بحماسة لرجل يقف بجوارها ليطالع المنظر : "الجو رائع اليوم دعنا ننزل إلى الشاطئ يا ألبيرت !"

ابتسم ألبيرت برقة "حسنا لنخبر أمي .."

قفزت لونا من الكرسي الواقفة عليه و قالت على عجل : "سأذهب لجلب الكاميرا ! أخبر أنت جدتي ريثما أعود !"

و غادرت مسرعة.
خرج ألبيرت إلى الحديقة حيث تجلس والدته هناك لتمارس هوايتها المفضلة .. البستنة و العناية بالنباتات.

نزل الدرجتان أمام الباب و هو يقول : "سننزل للشاطئ يا أمي !"

رفعت الجدة رأسها نحوه ثم اعتدلت واقفة و هي تقول : "حسنا اعتن بلونا يا بني و لا تتركها تغيب عن ناظريك !"

"لا تقلقي !"

"مشكلة يا ألبيرت !" التفت المعني نحو الصغيرة التي بدت الخيبة واضحة في صوتها "هناك عطل في كاميرتي ، إنها لا تعمل جيدا !" عبست و هي تضيف "أظن أن بعض أجزائها الداخلية قد تكسرت عندما أسقط الحمال حقيبتي في المطار .."

"لم أنت مهتمة بالتصوير هكذا ؟!"

"صديقتي باتريشا لم تستطع المجيء لذلك طلبت مني أن أصور لها المدينة !"

اقترح ألبيرت بلطف : "يمكنك استخدام كاميرتي !"

سألت بلهفة و الأمل يلوح في عينيها : "هل هي كاميرا فديو أم كاميرا عادية ؟!"

"بل .. كاميرا عادية !"

تنهدت و أطرقت رأسها بأسف و عادت الخيبة لصوتها "لكنني أريد أخذ فديو لا صورا فقط !"

مرت على ذهنها فكرة مفاجئة فهتفت بها بسرعة أجفلت ألبيرت "هل لديك مسجلة ؟!"

أجاب و بعض الاستغراب يظهر على ملامحه : "أجل لدي واحدة !"

قالت بفرح : "هذا رائع حلت المشكلة ! سألتقط الصور بالكاميرا و أسجل صوتي بالمسجلة !" و ابتسمت ابتسامة انتصار واسعة.

نظر ألبيرت إلى أمه و تبادلا الابتسام .. تلك الطفلة غريبة بحق.


أخذت تتقدمه على الطريق بخطوات أقرب للقفز ، تحمل المسجلة بيد و الكاميرا - الملفوف رباطها الطويل حول عنقها - باليد الأخرى .. التقطت صورتين للبحر من جهتين مختلفتين و ضغطت زر التسجيل لتبدأ حديثها الغريب .. تنحنحت و كأنها مقدمة على إلقاء خطبة :
"ها هي ذي لونا آردوان الجميلة بثوبها الكريمي الأنيق تشق طريقها نحو بحر نيس ! تمشي على الرصيف بحذائها المكشوف و ترفع عينيها الخضراء لتنظر .. "

لكن ألبيرت - الذي كان يسير خلفها واضعا يديه في جيبيه - قاطع سردها ضاحكا : "هل هذا وصف للمدينة أم لشكلك ؟!"

التفتت لونا نحوه و هي تزم شفتيها كالبطة .. ثم أدارت وجهها و عادت لتكمل التسجيل على مضض : "مشت الراوية غير المهم ذكرها على الرصيف.. "

ضحك ألبيرت بصوت مكتوم بينما نظرت هي لسائح مر بقربها و أخذت تهمس : "رجل أفريقي فارع الطول بلحية كثيفة يمر بجوارها إنه ضخم حقا لدرجة أن المتحدثة تبدو كفرخ دجاجة أمامه !" نظرت يسارا ثم استطردت : "و هذه امرأة سمراء تبدو من مظهرها إسبانية أو برتغالية.. " تنهدت ثم أعادت موضوعها للفكرة الأساسية "لكن هذا ليس موضوعنا .. آه ماذا أقول ؟!"مررت بصرها في الارجاء بشيء من الحيرة " المدينة .. المدينة جميلة !" قالت بفتور .. فلم تجد في طريقها ما يمكن وصفه كالأبراج أو المبان التاريخية فقط متاجر ، مطاعم ، و شاليهات.

قهقه ألبيرت في سره لم ير طيلة حياته شيئا أفظع من وصفها.

رفعت رأسها و التقطت صورة لحمامة حلقت فوقها.. ثم قفزت فجأة قبل أن تصيبها فضلاتها.. اهتز ألبيرت ضاحكا "يبدو أن الآنسة حمامة تخجل من الكاميرات ، ما كان عليك تصويرها دون إذنها يا لونا !"

انكمشت ملامح وجهها في اشمئزاز و تقزز وهي تنظر إلى ما خلفه الطائر على الأرض .. ثم قالت للمسجلة بانفعال : "كان على وشك أن يصيبها هجوم غادر من طائر متوحش لكنها أفلتت منه بشجاعة و حنكة !"


واصلت خطواتها و لكن بتأن أكبر .. فقد قضت معظم وقتها في التقاط الصور .. كادت تشرع بوصف كلب بني كبير للغاية لولا أن المرأة التي خمنت أن تكون إسبانية - و كان تخمينها صحيحا - أخذت تصيح في رجل كان يتبعها منذ فترة ، و بدا من رد فعلها الناري أنها تمقته كثيرا .. كان صوتها حادا مرتفعا يغطي على كل ما حوله من أصوات ، فلم تستطع لونا الكلام طيلة صراخها .. و حالما ابتعدت عنها بقدر كاف لمواصلة تسجيلها تلقت دفعة غير متعمدة من طفلين يتسابقان على الرصيف نحو الشاطئ . أوقفت التسجيل و انقطعت عن المشي .. قطبت جبينها و عبست باستياء "ما بال هؤلاء الناس ؟! إنهم مزعجون حقا !"

ربت مرافقها على رأسها و ابتسامته تتسع "لا تدعي هذا يزعجك !" ثم تخطاها و صار يمشي في المقدمة . أخذت تتبعه ببطء و الانزعاج ما زال آخذا مكانه على تعابيرها ، فوجه إليها نظرة مستغربة و قال يحثها على الإسراع : "هيا أسرعي !"


"دكتور آردوان !"

التفت ألبيرت أمامه ثم ابتسم بدماثة لمناديه .. كان أحد أكثر مرضاه ترددا على عيادته . توقف الرجل قبالته و قال بعدما ألقى التحية : "أريد سؤالك بشأن الدواء الذي وصفته لي.. "

"هل هناك من مشكلة بخصوصه ؟!"

"لا أبدا إنه جيد تماما ، أردت فقط أن أتأكد ما إذا كان من الممكن تناول أدوية أخرى في الوقت نفسه ؟!"

"سيكون عليك قبلها أن تطلعني على مكونات تلك الأدوية !"

حك الرجل رأسه ، عقد حاجبيه و رفع عينيه لأعلى في محاولة للتذكر : "آه.. ماذا كان اسمه ؟! أمهلني لحظة من فضلك دكتور.. "

وقف ألبيرت ينتظر بصبر و أدب .. أولى جل انتباهه لمريضه و لم يلحظ أن مرافقته الصغيرة لم تعد موجودة !











رد مع اقتباس
  #254  
قديم 08-15-2016, 10:41 AM
 



الفصل الخامس و الأربعون
*شعلة حياة في غابة الموت*





وقف فاغرا فاه أمام جثة رفيقه و قد ذهب الرعب بدماء وجهه.. رفع يده المهتزة إلى السماعة في أذنه و اندفعت الكلمات من فمه مبعثرة مزعزعة : "أر.. أرماندو .. أرماندو .. هل تسمعني ؟! لقد.. لقد عثرت على.. "ازدرد لعابه في هلع "جثة .. غريغوري !"

جاء رد أرماندو مدهوشا : "ماذا ؟! هل تعني أن الطفل تمكن منه ؟!"

تلفت حوله بقلق و هو يقول بصوت مضطرب : "و هل يمكن .. أن يفعلها غيره ؟!"

صمت القائد لبرهة ثم عاد يسأل : "كيف قُتل ؟!"

اقترب الرجل من الجثة بحذر و ثبت عينيه على الجرح العميق في الصدر ثم أجاب : "لقد طعن في قلبه ، و لا وجود لسلاح الجريمة !"

زمجر أرماندو بغيظ : "المغفل ! مغتال من الخنجر المعقوف و يسمح لطفل بأن يقتله ؟!" أطلق زفرة مشبعة بالسخط ثم خاطب تابعه بلهجة حادة : "واصل البحث عن ذلك الشيطان ! افتح عينيك جيدا و لا تمت كصاحبك الأخرق !"

أرسل بصره يمينا و يسارا و القلق يلوح في عينيه .. و بعدما اطمأنت نفسه المضطربة إلى خلو المكان تنهد بصوت غير مسموع ، ثم حرك ساقيه و سار في الاتجاه الذي جاء منه .. فجأة زعق غراب فاحم السواد فوق أحد الأغصان فانتفض الرجل فزعا و رفع رأسه لأعلى .. كان الطائر يحني رأسه مثبتا عينيه المظلمتين عليه بصورة مخيفة تنذر بالشؤم !

انقبض صدر المغتال و انفتح فمه ليطلق صرخة مكتومة .. نذير الغراب كان صادقا !


"لا تتحرك !"

صوت بارد منزوع الرحمة أتى من ورائه مصاحبا فوهة مسدس أخذت تنغرس بقسوة في ظهره !
ازدرد لعابه بعسر و كأنه يبتلع حصى صلبة و شعر بقلبه ينتفض بين ضلوعه .. أي أحمق هو ! كيف لم يشعر بالصبي و هو يتسلل خلفه ؟!

"ارفع يديك !"

أمر الفتى بنبرة شديدة متعالية توح بانعدام الصبر ، فما كان من المغتال المغلوب على أمره إلا الإذعان على الفور !

زاد من ضغط المسدس على نقطة معينة من جسده مهددا القلب الخائف الذي كان قابعا خلفها ثم قال : "ما اسمك ؟! و مع من تعمل بالتحديد ؟!"

تلعثم لسانه و اضطربت كلماته حين فتح فمه ليجيب : "بـ.. بونت .. أرنولد بونت ! و أنا .. عضو فـ.. في فرقة الاغتيالات الخنجر المعقوف !"

قطب آلويس جبينه ببعض الشك .. إذن فالمنظمة تولي أمره كل الجدية و تعده خطرا حقيقيا . اكتسى صوته القاسي بالسخرية حين قال : "فرقة الاغتيالات إذن ؟!"ثم سأل بلهجة آمرة : "أخبرني كم عددكم ؟!"

رد بونت و يداه المرتفعتان في الهواء ترتعشان : "أنا معهم ستة !"

"و قد دخلتم جميعا الغابة أليس كذلك ؟!"

"أ.. أجل !"

هم آلويس بطرح سؤال آخر لكنه أحجم عن ذلك حينما التقط سمعه المرهف صوتا لشيء يتحرك بين الشجيرات و يقترب من موقعهم !
غمر الأمل قلب المغتال و عادت الدماء تجري في عروقه عندما سمع ذلك الحفيف ، أدار رأسه نحو آلويس بقدر ما أمكن عنقه و دون أن يتمالك نفسه من الابتسام بسخرية قال كمن يسدي نصيحة أقرب لتحذير هازء : "إنهم رفاقي ! أنصحك بالهرب حالا فحالما يصلون إلى هنا .."

انقطع صوته و اتسعت عيناه في صدمة و هو يرى مهدده الصغير يبتسم ، ابتسامة ضئيلة هادئة لكن مروعة بطريقة لم يسبق له أن شهد مثيلا لها !
ثم و بشكل غير متوقع أخذ يضحك ! يضحك بثقة مفرطة و استمتاع وحشي ضحكة غير إنسانية في منتهى الفظاعة و القسوة !

"هذا أفضل ! فلن يكون علي البحث عنهم !" ارتفع رأسه بتعال و تكشيرة متلذذة لمخلوق متعطش للقتل تزين ملامحه القاسية "سأستمتع بقتلكم كثيرا !"أضاف و قد اسودت نظراته القاسية : " وداعا أيها الحثالة !"

و بدم جليدي ضغط الزناد لتشق رصاصة صامتة طريقها في أحشاء المغتال و تخترق قلبه مطلقة خلفها شلالا من الدماء انصب بغزارة على ذراع الفتى و ملابسه . تراجع الأخير للوراء فيما هوى الرجل أمامه ميتا على الفور !


لم يسعفه الوقت ليزيل تلك الدماء عن ذراعه على الأقل ، إذ أخذت الخطوات تتسارع و تزداد كثافة نحو مكانه ، فتحرك بسرعة و قفز بين الشجيرات ليتوارى خلف أغصانها.


إثر لحظات من الترقب .. وصل إلى الموقع مغتالان آخران . دارت عينا أرماندو الشاخصتان بين الجثتين الغارقتين بالدماء .. و تمتم بغير تصديق : "مستحيل !"

دنا من الجثة الأحدث موتا و دقق النظر بدهشة في الثقب العميق الذي أحدثته الرصاصة في ظهرها .. استقام في وقفته مقطب الجبين : "طلقة مسدس أطلقت قبل مدة قصيرة .. كيف لم نسمعها ؟!" نقبت عيناه الحادتان فيما حوله بتمعن "هل يعقل أنه استعمل كاتما للصوت ؟!"


رفع مسدسه أمامه في تأهب و قال لرفيقه بينما يتحرك فوق العشب بخطوات متروية حذرة : "كن يقظا ! إنه ما زال قريبا !"

فعل الآخر المثل و أخد وضعية الإستعداد لهجوم مرتقب .. و من بين الأغصان المكتظة بالأوراق الخضراء اليانعة كانت عيناه الصفراوان تراقبان تحركاتهما في الخفاء و قد تركزت نظراته ميتة العواطف بشكل خاص على أطولهما قامة و أشدهما سمرة .. ردد في نفسه (من مظهره الواثق و نبرة صوته الآمرة لا شك أنه القائد !)


بهدوء تام رفع يده و صوب مسدسه - الذي ما تزال رائحة البارود تفوح من فوهته - على رأس أرماندو متربصا اللحظة المناسبة للإطلاق .. و لم تكن الفرصة ببعيدة فحالما أزاح الهدف بصره عن جهة آلويس ضغطت أصابع الأخير على الزناد.

حدث الأمر بسرعة خاطفة فأرماندو الذي بدا غير منتبه للحظة اندفع لليسار متفاديا الطلقة التي اختارت رفيقه ليكون ضحية بديلة و حطمت جمجمته !

احتدت النظرات العازمة في عيني آلويس فيما خصمه ينظر نحوه مبتسما بخبث و دون أن يمهله ثانية للهجوم مرة ثانية انقض عليه بوابل من الرصاص احتمى الفتى منه بجذع شجرة سميك !

"لقد وقعت أيها الصغير !" قال أرماندو بابتسامة ماكرة مفعمة بالثقة و نشوة الانتصار ، ثم أوقف إطلاق النار بعدما أفرغ نصف ذخيرة مسدسه في ذلك الهجوم المباغت.

وجه سلاحه أمامه و تقدم بحذر إلى حيث يختبأ عدوه ، ألقى نظرة من فوق الشجيرات و في الوقت نفسه مد مسدسه مصوبا فوهته على الجانب الآخر من الشجرة "ها قد.. "

لكن تكشيرته الشريرة تهاوت من ملامحه و عيناه انفتحتا على اتساعهما و هما تحملقان بصدمة في المكان الخالي !

"سحقا !" أسرع ليستدير بعدما فهم أخيراً الخدعة التي انطلت عليه ليجد ذلك الفتى خلفه !

لقد استغل الوجود الكثيف للنباتات متشابكة الأغصان و المتلاصقة مع بعضها ، و تستر بها و تسلل بهدوء من وراء أرماندو بينما كان هذا الأخير منشغلا باستهداف الشجرة.

كانت الأفضلية للصبي الذي سبق هجومه دفاع خصمه ، و على دهشة من أرماندو لم يستعمل المسدس ، بل رمى على وجهه سكينا اخترقت الهواء كالسهم و أصابت عينه اليمنى.
مما جعل الرصاصة التي أطلقها المغتال نحوه في تلك اللحظة تنحرف عن مسارها و تجرح كتفه الأيمن بدلا من رأسه.

"عيني !" أطلق أرماندو صرخة ألم مدوية تردد صداها في أنحاء الغابة و حلقت الطيور فزعة منها.

جثى على ركبتيه ممسكا عينه الجريحة يتلوى من الألم .. ثم رفع عينه السليمة و نظر بحقد عظيم إلى الطفل الذي وقف يتفرسه بملامح باردة و عينين خاليتين من الرأفة مغمورتين بالكراهية و رغبة جامحة في التدمير . نظرته المروعة ، و دماء المغتالين التي لونت ثيابه و ساعده الأيسر ألجمت لسان أرماندو الذي كاد يتفوه بالسباب و جعلته يستشعر للمرة الأولى التهديد الهائل الذي يشكله هذا الصغير - أو من يفترض أن يكون كذلك - على وجودهم ! كيف لطفل أن تواتيه الجرأة لمواجهة قتلة بمستواهم العالي و لوحده أيضا ؟! كيف يمكنه أن يظل هادئا واثقا بهذه الصورة العجيبة و لا يشعر بأي خوف ؟! ألا يخشى الموت ؟! أليس بشرا ؟!


غير مبال بالجرح النازف في كتفه مد يده إلى جيبه و التقط مسدسه ، سدده نحو أرماندو الذي تخشبت أطرافه و تسمر في مكانه بلا حول ولا قوة .. حرك سبابته على الزناد ليطلق رصاصة النهاية .ك.. لولا أن مسدسه قد ترك يده و طار بعيدا ! دهش أرماندو حين أبصرت عينه الوحيدة الثلاثة الباقين من رفاقه قد وصلوا إلى موقعهم - الذي استدلوا عليه بصرخة قائدهم - و أحاطوا بالفتى من ثلاث جهات !


نظروا إلى الطفل المحاصر نظرات انتصار قابلها الأخير بواحدة غير مكترثة تفيض استخفافا و استهزاء.
نهض أرماندو مترنحا و قد أعادت رؤية رفاقه القوة و الجرأة لقلبه الذي أوشك أن يتوقف رعبا قبل لحظات.

كادت حباله الصوتية تتقطع من شدة صراخه عندما أمسك السكينة المغروسة في عينه و سحبها بيده المرتعشة ألما .. تقدم من الصبي الذي رماه بنظرة محتقرة من طرف عينه ، ثم شده إليه من مقدمة قميصه و زمجر بصوت مرتعد من الغضب : "سأقتلع عينيك الاثنتين أيها السافل !"

بقي آلويس ثابتا هادئا بشكل يثير الدهشة فيما ترتفع سكينه الدامية بيد عدوه في الهواء.

هتف أحد الرجال فجأة : "أرماندو يوجد أحد هنا !"

توقفت يده الحاملة للسكينة على بعد عشرين بوصة من وجه آلويس ، بينما أضاف آخر بقلق و قد تراجع للوراء تلقائياً : "ليس شخصا واحدا بل اثنان على الأقل !"

أنزل القائد الحانق يده و تلفت الأربعة في كل الاتجاهات بغية رصد الجهة التي يأتي منها الصوت .. صوت مرتفع لشخصين يتخاصمان ! توقفت أبصارهم على الجهة المقابلة و قال أرماندو : "إنهم قريبون لكن لم يصلوا بعد لمكاننا !" دفع آلويس بعنف إلى أحد رجاله و أضاف بحقد من بين أسنانه المطبقة : "سنغادر و نأخذ هذا الوغد معنا !"


مستغلا تشتت انتباههم في تلك اللحظة عاجل الفتى هادئ المظهر الرجل - الذي لم يكد يمسكه - بركلة مباغتة على بطنه رمته على الأرض يتأوه ألما ، ثم جمع كل ما تبقى لديه من قوة و سرعة و قفز فوق الشجيرات قبل أن يدركه رصاص المغتالين ! و قد مثل التواجد الكبير للاشجار عائقا مزعجا لهم زاد من صعوبة إصابته . اتجه آلويس شمالا إلى حيث تصدر أصوات الجدال و المغتالون الأربعة يلاحقونه مع طلقات مسدساتهم .. كان أرماندو يجري بصعوبة في آخر المجموعة بسبب إصابته ، ضغط على أسنانه بغضب و زمجر قائلا : "ذلك اللعين يخطط للاحتماء بأؤلئك السياح ظنا منه أننا لن نهاجمه بوجودهم ! لكن لا ! لن تفلت !"

دفعت رغبته الشديدة في الإنتقام مزيدا من القوة إلى ساقيه مما زاد سرعته كثيرا . اختطف مسدسا من أحد رجاله و تقدمهم بعزيمة خلقها حقده الهائل.


واصل آلويس ركضه السريع دون لحظة توقف ، تتلاحق أنفاسه التي أضحت أقرب للهاث و تتسارع دقات قلبه حتى آلمه صدره.. كان منهكا بل يكاد ينهار من التعب ، أراد الراحة و لو لبضع ثوان ، لكن التوقف أو مجرد الإبطاء من سرعته يعني موته على الفور ! لقد خسر سلاحيه و في حالته السيئة هذه لا خيار أمامه سوى الهرب.

أرسل بصره بين الأشجار أمامه بحثا عن أؤلئك الأشخاص لكن لا دون نتيجة فلا وجود لأحد !
كاد اليأس يصيبه لولا أن الصوت عاد مجددا و لكن هذه المرة من الجهة الغربية . داس على الأرض بقوة و اندفع منعطفا يسارا . قطع ستة أمتار فقط ، ثم أخذت خطواته تتباطأ دون أن يحس بذلك .. نظر مشدوها إلى شجرة تبعد عنه خمسة عشر مترا و فرك عينيه غير مصدق ما ترياه إياه .. عاد يحدق أمامه متوقعا اختفاء ذلك الوهم لكنه ما يزال موجودا . ذلك الشعر الأحمر الذي تلاطفه أنسام الرياح و تضفي إليه الشمس بريقا ذهبيا ، و العينان الخضراوان كقطعتين ساحرتين من الزمرد الثمين و اللتين أكسبتهما الدموع الغزيرة لمعانا أخاذا !

توقفت خطواته شيئاً فشيئاً دون أن تنزاح عيناه الذاهلتان عن الطفلة .. تمتم بصوت مأخوذ بالصدمة و ملامحه قد تصلبت : "مـ.. ستحيل !"


كانت الطفلة بدورها تنظر إليه و هي تبكي بصمت .. لقد مضت مدة طويلة جدا منذ آخر مرة رآها فيها ، كانت حينها طفلة في الثانية من عمرها ، لكنه و رغم مرور الزمن و التغيرات التي طالت شكلها استطاع تمييزها على الفور.
لكن ماذا يعني ذلك ؟! ألم تمت هذه الطفلة ؟! هل أصبح يهلوس بسبب الإرهاق أم أن ما يراه أمامه هو شبح ابنة خاله الميتة ؟! إن كانت شبحا فهناك تفسير واحد لقدومها .. و هو أن تأخذه معها إلى العالم الآخر !

إذن ... فهذا هو يومه ؟!

ارتخى جسده في استسلام .. لقد حان أجله سريعا .. أسرع بكثير مما كان يتصور . لكن لا بأس .. فهو لن يعود وحيدا ، و لن يضطر للخوض في هذه الحياة المريعة و مواجهة ما يعوي في أوديتها من ذئاب و ضباع.

لكن .. هناك شيء غريب .. عاد يحملق بتمعن في المسجلة التي تحملها الطفلة بين ذراعيها .. ثم همس بصوت مصعوق يتخلله الخوف : "غير ممكن ! إذن .. فذلك.. "

"هل حسبت أنك نجحت في الهرب منا أيها الحقير ؟!"


توارت الطفلة خلف الشجرة و بأصابعها المرتجفة من الخوف شرعت تعبث بأزرار المسجلة في الوقت الذي التفت الفتى وراءه و قد أجفله صوت أرماندو الحاقد المشبع بالشماتة .. و ما كاد يستدير بشكل كامل حتى وافاه المغتال بطلقة ثقبت صدره .. اثنتان .. ثلاث .. أربع .. حتى سقط أرضا بلا حركة .. كانت لونا حينها تغطي أذنيها بيديها الصغيرتين المهتزتين و تجهش بالبكاء بصوت مخنوق.

نظر أرماندو و رفاقه بسعادة وحشية إلى الدماء الحارة التي تدفقت بغزارة من صدر الطفل و أغرقت جسده و الأرض الممدد فوقها.

و قبل أن تصدر منهم أي حركة عاد صراخ المرأة الإسبانية ليقطع الصمت ! كان الصوت أقرب بكثير من المرتين السابقتين : "ابتعد عني أيها المزعج و لا تلاحقني ثانية و إلا أبلغت الشرطة ، هل تسمع ؟!"

كان أرماندو إسباني الأصل الوحيد من بين رفاقه الذي استطاع أن يفهم كلام المرأة و قد نبهته كلمة "الشرطة" إلى ضرورة مغادرتهم بأقصى سرعة.

قال بعجلة و هو يستدير عائدا : "بسرعة ! يجب أن نغادر قبل وصول أحد !"

رمى جسد الصبي الغارق بدمائه بنظرة سريعة ثم هرول مع رفاقه هاربا.

بعدما سمعت أصوات خطاهم تبتعد حتى تلاشت تماما و عاد السكون المعتاد ليعم الغابة حملت الطفلة الخائفة نفسها على النهوض ، و مدت رأسها لتلق نظرة تستيقن منها خلو المكان .. دموع سخية مملوءة بالحزن و الخوف أغرقت خديها و عيناها البريئتان تنظران بفزع إلى الطفل الملقى على الأرض وسط بحيرة من الدماء.

كانت تشهق و الخوف يقطع أوصالها .. لكن قوة غريبة لم تعرف مصدرها اندفعت في أطرافها و صوت مجهول أخذ يصدح داخلها و يحثها بإلحاح على التحرك !

رفعت يديها و صفعت وجهها من الجهتين و هي تردد في نفسها : (كوني قوية ! كوني قوية !) و بعد أن أفلحت في نبذ ما يعيقها من تردد و خوف تركت جانب الشجرة و سارت مسرعة نحوه بلهفة شديدة و الأمل و اليأس يتناوبان في غزو أفكارها.


تباطأت خطاها.. حتى توقفت قربه.. قمعت دموعها بصعوبة شديدة و هي ترى لأول مرة وجهه عن قرب . كان ساكنا مسالما .. و غاية في الجمال لولا الدماء التي سالت من فمه و أفسدت ملامحه الجذابة.
مدت يدها بتردد و مسحت على خده برقة و عطف .. فغطى الخوف قسمات وجهها و لاحت الدموع في عينيها مهددة بالسقوط (يا إلهي إنه بارد !)

بمزيد من الخوف و اليأس أخذت يده الساكنة .. ابتلعت رمقها في خشية ثم وضعت إبهامها على موضع الشريان .. و أغمضت عينيها لتركز .. لتفتحهما سريعا و قد أفلتت من بين رموشها دمعتان (إنه ينبض ! ضعيف لكن ما زال هناك أمل !)

مسحت دموعها بظهر كفها ليختفي في لحظة كل ذلك القلق و التلكؤ و يحل محلهما قوة و عزيمة صلبة !
نظرت إليه للمرة الأخيرة و مسدت على شعره بحنان و هي تقول : "سأذهب لجلب المساعدة ، أرجوك ! اصمد حتى أعود !"











رد مع اقتباس
  #255  
قديم 08-15-2016, 08:48 PM
 
🌸**~~ **مرحـــــبـــــــا **~~**🌸
انا اسفــــــــة جدااااااااا على التأخر في الرد
لقد كان الإنترنت مقطوع ولم استطع الرد
أسفة جدا
على كلّنٍ البارتات رائعة و توضح الماضي الأليم
لكل من آلويس و لونا لقد عانا كثيرااا و لكن مازلت
مندهشة من دهاء آلويس و برودة أعصابه و أعجبني
كثيرا المجموعة التي أسسوها مع بعض فهم يكمّلون
بعضهم و لكن لم اعرف من تلك المرأة التي ادعت أنها
ابنة عم السيد هوغو
و من المضحك ان يكون أليكسي
على شكل طفلة خههههه
و انا آسفة ثانية على التأخير
انا انتظر البارت
🌸**~~** الى اللقـــــــــاء **~~**🌸
Mygrace likes this.
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 01:03 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011