عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات طويلة > روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة

روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة يمكنك قراءة جميع الروايات الكاملة والمميزة هنا

 
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 02-01-2017, 06:07 PM
 
الفصل الحادي عشر



عرين الأسد




توفيت السيدة مريم بعد مرور ساعات على بدء العملية .. أخذت نانسي تتذكر ما حدث بينما هي تقف أمام نافذة الشقة التي استأجرها لهن محمود .. والتي تقيم فيها مؤقتا برفقة لينا وحنان منذ 4 أسابيع
لقد كانت صدمتها عنيفة عندما أعلن الطبيب النبأ بأسف .. أمسكها محمود بقوة كي لا يختل توازنها وقد شحب وجهه .. ثم شدها إليه هي ولينا لتبكيا على صدره
تنهدت وهي تتأمل المدينة من النافذة .. محمود كان يتصل بها كل يوم ليسأل عنها وعن لينا . ويزورهن باستمرار .. ولم يفتح موضوع الزواج إلا الأسبوع الماضي .. لقد كان حازما وهو يتحدث عن أن الوقت قد حان لتركهن هذه الشقة وانتقالهن إلى منزله في العاصمة .. وأنهما يجب أن يعقدا قرانهما على الفور كي يتم تنفيذ مخططه .. ذلك اليوم حرضها وازع شيطاني على أن تأخذ شقيقتها وتختفي عن الأنظار هربا من قبضته و زواجها المرتقب منه .. ولكن الجزء العقلاني منها حدثها عن سهولة إيجاده لها ..وسألها بصراحة عما ستفعله وحدها في هذا العالم الواسع مع مراهقة صغيرة بحاجة إلى الاهتمام والحماية .. أما عن الجزء المتكبر والفخور فيها .. فقد ذكرها بأنها تدين للدكتور محمود بالكثير .. وأنها لن لن تهرب أبدا من وعد قطعته .. أو دين ترتب عليها ..
وهكذا .. مر عليها صباح اليوم التالي .. وأخذها إلى المحكمة لعقد قرانهما برفقة شاهدين من معارفه .. خمنت بأنهما يعملان لديه من لهجة الاحترام الطاغية على حديثهما معه
أعادها إلى الشقة دون أن يخاطبها بكلمة ... بل هو لم ينظر إليها حتى ترجلت من السيارة فقال لها قبل أن تخرج :- سأعود إلى العاصمة هذا المساء.. وسأعود لأخذكن قريبا إلى بيتكن الجديد
أومأت نانسي برأسها .. وراقبته وهو يبتعد ببساطة وكأنه لم يودع عروسه لتوه بعد نصف ساعة من زواجهما
لقد أصبحت زوجة محمود فاضل .. فركت نانسي ذراعيها وهي تفكر متوترة بأنه بالكاد كلمها خلال الأيام الماضية .. لم تختلف طريقة كلامه معها على الإطلاق بعد زواجهما .. ولكن ما الذي كانت تنتظره ؟
هذا الزواج المشؤوم ليس إلا صفقة بشعة ضمنت فيها الحصول على الأمان لأختها .. كما ضمن هو زوجة يرغبها
لن تنتظر منه عرضا للمشاعر لأن الدكتور محمود ليس من النوع المنافق .. لن يظهر لها مشاعر لا يحس بها مما يريحها .. فهو لن ينتظر منها في المقابل أن تتظاهر بحبه أو بالإعجاب به
طرقت لينا الباب وهي تقول :- نانسي .. لقد اتصل محمود منذ لحظات .. وقد طلب مني إخبارك بأنه علينا توضيب أغراضنا لأننا سنترك هذه الشقة صباح الغد
التفتت نانسي غليها بحدة قائلة :- إلى أين ؟
هزت لينا كتفيها قائلة :- لم يخبرني .. وأنا لم أجد داع لسؤاله .. فأنا أثق به كثيرا
لم يكن هذا حال نانسي التي اتجهت فورا نحو هاتفها .. وحاولت الاتصال بهاتفه دون فائدة .. وكأنه كان متوقعا لمحاولتها التحدث معه والجدال حول كل شيء فأقفل هاتفه تماما
شعرت بالغضب لمعاملته لها وكأنها بدون إرادة أو حقوق .. إن ظن بأن حياتهما معا ستسير على هذا الشكل فهو مخطئ تماما .. سألتها حنان بقلق :- هل أبدأ بحزم الأمتعة ؟
صاحت بحنق :- بالتأكيد .. وهل نجرؤ على مخالفة الأوامر
أخفت حنان ابتسامتها بصعوبة وهي تبدأ عملها .. صباح اليوم التالي .. وفي تمام الساعة التاسعة صباحا .. فتحت حنان الباب على إثر قرع الجرس لتجد شابا نحيلا يرتدي زيا رسميا .. قالت بحدة :- نعم .. هل من خدمة ؟
تنحنح قائلا :- أنا مأمون .. أعمل لدى السيد محمود وقد أرسلني إلى هنا لاصطحابكن إلى العاصمة ..
بدا الشك على وجه حنان وهي ترمقه بنظراتها الفاحصة .. بينما قالت نانسي بتوتر وقد أصبحت خلفها :- ماذا تعني بأنه قد أرسلك ؟ ألن يأتي بنفسه ؟
قال بحرج :- أعتقد بأنك هي السيدة نانسي .. احترامي لك سيدتي .. الدكتور محمود لم يستطع الحضور بنفسه بسبب انشغاله بأمور طارئة .. وقد أمرني بأن أوصلكن إلى منزله في العاصمة .. وسيقابلكن هناك
اقتربت منه وقد أعماها الغيظ عن التفكير :- هل تعلم بأن رئيسك لا يطاق ؟
ابتسم مسرورا وهو يقول :- بل أنا أظنه لطيفا يا سيدتي .. اعذريني للسؤال .. ولكن إن كان حقا لا يطاق فما الذي دفعك للزواج منه ؟
تجهمت وهي تنظر إلى وجهه الباسم ببرود .. قبل أن تقول بجفاف :- أخبرني يا مأمون .. هل تعمل حقا لدى الدكتور محمود ؟
قال بحيرة :- نعم .. أنا سائق لديه منذ سنتين
:- وتعرف بأنني زوجته الآن .. أي أنني من الآن فصاعدا سأكون ربة عملك
:- نعم
صاحت به عندها بحدة :- فلتفكر بكلامك إذن قبل أن تنطق به
استدارت إلى حنان قائلة :- أرشديه إلى الحقائب كي يحملها
ابتعدت أمام نظرات مأمون المذهولة .. بينما قالت حنان لجذل :- ها هي نانسي القديمة تعود من جديد .. اطمئن .. هي ليست بهذا السوء .. إنها حادة الطباع فحسب
طال الطريق لساعات قليلة قبل أن يصلا إلى العاصمة .. لاحظت نانسي التي جلست في المقعد الخلفي إلى جوار لينا .. بينما جلست حنان إلى جوار السائق .. بأن الأخير لم يدخل إلى قلب المدينة .. بل سار في منطقة الضواحي الريفية التي انتشرت فيها المنازل الضخمة .. التي تناثرت متباعدة على أرضها الخضراء .. سألت بتوتر :- إلى أين نحن ذاهبون ؟
قال بهدوء :- لا تقلقي يا سيدتي .. كدنا نصل
توقفت السيارة أخيرا أمام بوابة كبيرة توسطت سورا ضخما يحيط بمساحة كبيرة .. أعطى إشارة إلى الحارس الذي أسرع يفتح البوابة وهو يلقي التحية بحرارة .. مع نظرات فضولية تركزت نحو النافذة الخلفية .. دخل مأمون بالسيارة إلى طريق مرصوف بالأحجار .. وقد ارتصت على جانبيه شجيرات صغيرة مقلمة بعناية .. ذهلت نانسي وهي تتأمل المساحات الواسعة المحيطة بالسيارة .. كان المكان أشبه بالجنة وقد تزاحمت فيها الأشجار التي تعرت أغصانها من الأوراق.. توقفت السيارة أخيرا أمام المنزل الضخم المكون من 3 أدوار .. لا .. لم يكن منزلا .. بل قصرا منيفا .. من الواضح أن صاحبه قد أنفق عليه ببذخ كبير إذ كان الترف ينطق من كل زاوية فيه .. من كل قطعة حجر ثمينة بنيت بها .. ترجلت نانسي من السيارة دون أن تفيق من ذهولها .. لم تدرك أبدا بأن محمود بهذا الثراء .. لقد كان الطلاب يتناقلون الشائعات عنه منذ سنوات .. كانوا يختلقون القصص والحكايا حول ثرائه الكبير .. أو فقره المدقع .. وقد ذكر لها ماهر شيئا عن ثراءه في المستشفى .. ولكنها قطعا لم تتوقعه بهذا الثراء
وهي التي كانت تعامله في الكلية بازدراء ... بل وتغريه بالمال كي يمنحها دعمه .. بينما لا يحتاج هو حتى إلى عمله في الجامعة .. بل ربما يعتبره هواية كحب لينا للرسم مثلا
وجدت عند الباب الرئيسي الكبير سيدة حسناء في أواسط الأربعينات .. كانت تقف في استقبالها أعلى الدرجات القليلة التي فصلت نانسي عن الباب
كانت أنيقة جدا حيث ارتدت طقما أزرقا لائم قوامها المتناسق المناسب لعمرها .. ورفعت شعرها الأشقر المصبوغ فوق رأسها بوقار .. وإلى جوارها برزت فتاة شابة تكبر نانسي بسنوات قليلة .. كانت تملك سحرا خاصا بشعرها الأسود الناعم الطويل .. وبشرتها الوردية المتألقة .. وعينيها العسليتين وملامحها الناعمة .. كانت ترتدي فستانا ورديا جميلا .. وتضع قرطين ماسيين خطف بريقهما الأنظار
رغم جمالها الشديد .. فقد أطلت من عينيها نظرة باردة وهي تنظر إلى نانسي مما أثار داخلها رجفة خوف كبيرة .. هذه الفتاة التي تقابلها للمرة الأولى .. تكرهها
قدمت المرأة الأكبر سنا نفسها بهدوء قائلة :- أهلا وسهلا بك في منزلك الجديد يا نانسي .. أنا هي زوجة عم محمود .. وهو يناديني بالعمة منار .. يمكنك مناداتي بذلك أنت أيضا .. آسفة لأن محمود ليس موجودا لاستقبالك بنفسه .. ولكنه سيعود في وقت قريب
صافحتها نانسي بحذر .. زوجة عمه .. وما الذي تفعله زوجة عم محمود هنا ؟..
أشارت المرأة نحو الفتاة الشابة قائلة :- هذه ابنتي ريم .. أرجو أن تتفقا خلال فترة تواجدك هنا
نانسي كانت على وعي بكل ما يحدث حولها .. بدءا من تلميح السيدة منار بأن وجودها هنا لن يدوم طويلا .. وانتهاءا بعدم مصافحة ريم لها .. أو نطقها بأي كلمة ترحيب .. كان هذا كافيا لتدرك بأن هاتين المرأتين تصنفان ضمن أعدائها
قالت العمة :- تفضلي يا عزيزتي .. هذه الشابة الجميلة هي شقيقتك الصغرى على ما أعتقد .
. دخلت نانسي ورائها بتردد شاعرة بأنها تقتحم عرينا للأسود .. وأن أحدها سينقض عليها بين لحظة وأخرى
قادتهما إلى غرفة كبيرة ذات أثاث أنيق ومريح .. بينما اختفت حنان عن أنظارهما .. شعرت نانسي بالقلق وكأنها مقبلة على معركة .. ولكنها لن تسمح لهاتين المرأتين بأن تضعفا عزيمتها .. جلست على الأريكة الوثيرة واضعة إحدى ساقيها فوق الأخرى بأناقة وهي تسوي ثوبها الأسود البسيط .. تمنت لو ارتدت شيئا أكثر أناقة حتى تزيد ثقتها بنفسها .. قالت العمة وهي تجلس قريبا منها بهدوء :- اعذرينا يا عزيزتي لأننا لم نقم بالاستعدادات اللازمة لاستقبالك .. فقد فاجأنا محمود مساء الأمس بخبر زواجه من نانسي سلمان راشد
كبتت نانسي رجفة غضب عندما فهمت تعمد المرأة لذكر اسمها كاملا لتخبرها بأنها تعرف من تكون .. وابنة من هي .. أكملت السيدة منار قائلة :- في الواقع .. لقد تفاجأنا جميعا بزواج محمود .. إذ لم يتخيل أحد بأنه بعد عزوبيته الطويلة سيتزوج بهذه الطريقة .. بدون احتفال أو فرح .. حتى أنه لم يخبر عمه الذي يعتبره كوالد له .. ولكن ذوقه رفيع ولا ألومه على عجلته .. فأنت جميلة جدا
تكلمت ريم أخيرا ببرود :- لطالما كان لمحمود ذوقا رفيعا فيما يتعلق بالنساء .. بالتأكيد عندما يقرر الزواج أخيرا .. فهو لن يتزوج بامرأة قبيحة
إن كانت الأم حريصة على ألا تخطئ بكلمة .. فمن الواضح بأن ابنتها لم تكن كذلك .. استقبلت نانسي نظرات ا لازدراء المطلة من عينيها بهدوء وقالت مخاطبة السيدة منار :- أشكرك على الإطراء .. ولكن سبب زواجنا بهذه الطريقة هو وفاة والدتي الذي لم يمض عليه أكثر من شهر
قالت العمة بهدوء ك- وبالتأكيد بسبب وفاة أبيك أيضا .. لا أعتقد بأنه قد مر وقت طويل على وفاته ... أليس كذلك يا ريم ؟
قالت ريم ببرودها الذي لم يفارقها :- منذ 3 أشهر تقريبا .. هذا ما ذكرته الصحف
نهضت نانسي قبل أن تنهال على الفتاة المتعجرفة بالضرب وقالت :- إذا أذنتما لي فأنا أرغب بإفراغ حقائبي والراحة قليلا بعد سفري الطويل ..
نهضت السيدة منار قائلة :- ستفرغها لك إحدى الخادمات .. سترشدك نجوى وهي مدبرة المنزل إلى غرفتك .. وستلبي على الفور جميع رغباتك .. ربما بعد أن تأخذي قسطا من الراحة قد تحبين أن آخذك في جولة حول الحديقة وفي أرجاء المنزل
تمتمت نانسي بتهذيب :- شكرا للطفك
اصطحبتها نجوى .. وهي امرأة ممتلئة الجسم إلى الطابق الثاني .. حيث قادتها إلى غرفة فسيحة .. تأملتها نانسي بصمت .. لقد كانت غرفة أحلام أي عروس شابة .. بأثاثها الثمين المصنوع من الخشب الثقيل .. والسجادة الوثيرة التي غطت الأرضية اللامعة .. الستائر الرقيقة التي تهادت أمام النوافذ العريضة التي سمحت للشمس بغمر الغرفة بوفرة .. رأت حنان ترتب أغراضها داخل الخزانة الكبيرة .. فلاحظت الملابس الرجالية المرتبة داخلها .. وزجاجات العطر الغالية الثمن التي توزعت على منضدة الزينة .. وفي صدر الغرفة كان هناك باب مفتوحا ظهر من خلفه حمام مترف .. ارتعش جسدها توترا وهي تفكر بهذه الليلة التي ستشارك فيها زوجها غرفته لأول مرة
قالت نجوى :- هل أوصل الآنسة الصغيرة إلى غرفتها ؟
نظرت لينا إلى نانسي بتردد .. وكأنها تخشى أن تضيع إن افترقت عن أختها .. فأشارت لها نانسي بأن تلحق بالمرأة ..وفور أن أصبحت وحيدة في الغرفة مع حنان .. جلست على طرف السرير الكبير الذي غطاه مفرش أنيق مطرز
استدارت حنان نحوها قائلة :- لقد رتبت جميع أغراضك يا نانسي .. هل أنت بخير ؟
أطلقت السؤال عندما لاحظت شجوب وجه نانسي وتوترها .. أجابت نانسي قائلة :- لا أدري .. أنا خائفة يا حنان .. لم أتوقع بأنني سأنتقل للإقامة في قصر منيف يبدو إلى جانبه منزل والدي الكبير وكأنه عش عصافير .. أو للعيش برفقة أشخاص يكرهونني .. لم يخبرني محمود أبدا بأنه يقيم مع عائلة عمه ..
قالت حنان متفهمة :- لا أظنه قد وجد الوقت المناسب مع كل الأحداث التي طرأت .. أنا أيضا لم أرتح لتلك المرأة وابنتها المغرورة .. من الواضح أنهما ليستا سعيدتين بزواج محمود بك
ثم قالت بخبث :- ولكن ليس عليك التفكير بهما الآن .. بل بهذه الليلة .. وما ينتظرك يا عزيزتي
احمر وجه نانسي وهي تقول :- حنان .. اخرسي واذهبي لتفقد لينا .. أرغب بأن أرتاح قليلا
أطلقت حنان ضحكة عالية وهي تقول :- أمرك يا آنستي
انصرفت حنان تاركة نانسي وحدها .. فتكورت فوق السرير وهي تحاول السيطرة على اضطرابها .. بين ليلة وضحاها .. تغيرت حياتها بشكل كامل .. وأصبحت زوجة لرجل ثري غريب عنها .. لا تعرف عنه أي شيء .. وربما يتوقع منها الليلة أن تكون زوجته فعليا
لا إراديا سالت دمعة ساخنة على خدها .. وأخذت تلوم والدها على ما يحصل معها .. لو لم يفعل ما فعله .. لما أتيحت الفرصة لأي انسان لاستغلال ظروفها كما فعل محمود ويشتريها ..
تذكرت كلمات ماهر في المستشفى.. فانتابها غضب كبير من نفسها .. ومن محمود .. ومن والدها
وأقسمت بأنها لن تسمح لمحمود أبدا بأن يفرح بانتصاره .. ثم وبدون ان تشعر .. راحت في نوم عميق


__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر
  #12  
قديم 02-01-2017, 06:37 PM
 
منقولة من منتدى غرام~ عندما تنحني الجبال~

الفصل الثاني عشر

زوجي الغامض



فتحت نانسي عينيها بخمول .. ثم توترت مرة واحدة عندما احست بانها لم تعد وحيدة في الغرفة .. انتفضت جالسة وهي تنظر إلى محمود الذي كان جالسا على الأريكة يراقبها .. اضطربت وهي تلاحظ نظراته الثاقبة .. فامتدت يدها لا إراديا لتتأكد من إحكام إغلاق أزرارها .. التقطت عيناه على الفور حركنها هذه .. ولكن تعابير وجهه بقيت هادئة وهو يقول :- أرجو أن تكوني أفضل حالا الآن
مررت يدها عبر شعرها الفوضوي محاولة ترتيبه قائلة باضطراب :- ما كان عليك تركي نائمة كل هذا الوقت
:- كان التعب واضحا عليك .. فلم أشأ إزعاجك
اعتدلت في جلستها بارتباك .. إنها المرة الأولى التي يراها فيها مستيقظة من النوم .. فاقدة لكل دفاعاتها وعاجزة عن الكلام .. قال بهدوء :- آسف لأنني لم أكن موجودا لاستقبالك .. فقد اضطررت للذهاب إلى الجامعة لأمر طارئ .. عرفت بأنك قد قابلت العمة منار .. وريم
قالت ساخرة :- قابلتهما بالتأكيد .. ولأكن صادقة معك .. لم يبدو عليهما السرور للقائي
عقد حاجبيه وكأن طريقة كلامها لم تعجبه .. فقال :- لقد كانتا متفاجئتين .. فلم يعلم أحد بزواجنا قبل الأمس
قالت بحيرة :- ولماذا أخفيت زواجنا عن عائلتك ؟ ألم تخبرني بأن عمك هو بمثابة والدك ؟
قال باقتضاب :- هو كذلك .. ولكن زواجي أمر يخصني وحدي .. وأنا لست بحاجة كي آخذ إذنا من أي أحد لأتزوج
حاولت أن تستوعب الأمر فلم تستطع .. ففكرت بأن محمود قد خمن بأن عائلته لن توافق على زواجه منها هي .. ففضل مفاجئتهم .. طرحت أخيرا السؤال الذي أقلقها كثيرا :- لماذا لم تخبرني بأنك تعيش مع عائلة عمك ؟
قال ببرود :- أنا لا أعيش مع عمي .. بل عمي هو من يعيش معي
ثم فسر قائلا :- لقد بنى والدي هذا المنزل قبل وفاته بسنوات .. لقد كان منزل أحلام والدتي .. وقد بنياه معا .. اختارا كل حجر بني به .. وعندما توفيا .. ما كان من الممكن لمراهق في الثامنة عشرة بأن يعيش وحده في مكان كهذا .. فانتقل عمي مع عائلته للإقامة معي .. وحتى الآن .. هم عائلتي الوحيدة .. وهو سيبقى دائما بمثابة الأب لي
ساد صمت ثقيل لاحظت نانسي خلاله شيء من القسوة يسكن داخل عيني محمود .. هل سيأتي ذلك اليوم الذي يكشف فيه محمود عن غموضه لها
قال فجأة :- هل قابلت جدتي ؟ .. والدة أمي ؟
قالت بدهشة :- جدتك ؟
قال باستهزاء :- أتصور بأن زوجة عمي لم تحاول حتى الإشارة إليها .. أحيانا ينسى سكان البيت وجودها بسبب اعتزالها عن الجميع في غرفتها .. سأعرفك إليها بعد الغداء .. هيا بنا .. الجميع في انتظارنا لنأكل معا
قالت باضطراب :- سأبدل ملابسي أولا ثم أوافيك
نهض قائلا :- سأسبقك إذن إلى الأسفل .. لا تتأخري
تركها مغادرا الغرفة .. فزفرت بقوة وهي تشعر بأعصابها المشدودة ترتخي .. إن وجوده معها في مكان واحد يسبب لها اضطرابا كبيرا .. ويختل توازنها ..فلا تكون أبدا نانسي .. بل شخص آخر .. وكأنه يسلب بسلطته بقايا كيانها القديم ويصنع منها شخصا آخر لا تحبه .. لم تعجبها أفكارها هذه .. وقررت بأنها إن كانت ستسايره .. فإنها أبدا لن تكون طوع بنانه
قامت لتبدل ملابسها حريصة على أن تكون في أبهى طلة .. على الأقل ليختفي الضعف المفاجئ الذي لم تعرف قبلا بوجوده .. ارتدت فستانا بسيطا انما أنيق يجمع بين اللون الأسود والرمادي .. فلم يحن بعد وقت التخلي عن اللون الأسود .. وضعت بعض الزينة الخفيفة على وجهها .. وصففت شعرها ثم نزلت
كان الكل في انتظارها .. حتى لينا التي فوجئت بها نانسي تتحدث بانهماك مع شاب صغير لم يتجاوز الثامنة عشرة .. قدم نفسه على أنه فراس .. شقيق ريم الأصغر .. كان يشبه ريم كثيرا باستثناء قامته الكطويلة والنحيلة .. قام رجل مسن يحييها ببشاشة .. فأدركت بأنه عم محمود .. قال لها :- يمكنك مناداتي بالعم طلال
ابتسمت بدبلوماسية وهي تقول :- سأفعل بالتأكيد
كان السيد طلال رجلا بشوشا ومرحا .. استمر طوال فترة تناولهم الغداء حول المائدة الطوية في غرفة الطعام في توجيه الكلام إليها .. ورواية المواقف الطريفة التي حدثت معه .. حتى أنه أضحك نانسي أكثر من مرة .. بالرغم من هذا .. كان هناك بريق أخافها في عينيه عندما كان ينظر إليها متفحصا في غفلة منها .. لم تفهمه جيدا أو تدرك معناه .. ثم قررت بأنها تتوهم بالتأكيد .. فالسيد طلال كان الشخص الوحيد المرحب بها في هذا المكان .. بعكس زوجته المتحفظة بغرور .. وابنته التي لم تتوقف عن تزجيه نظرات الحقد إليها
قال محمود بعد الغداء :- أستأذنكم جميعا .. سأخذ نانسي لأعرفها إلى جدتي
اصطحبها إلى الطابق الثالث فقالت :- ظننت بأنني سأقابلها أثناء الغداء
قال بهدوء :- أخبرتك بأنها لا تخرج أبدا من جناحها
لم تسأله عن السبب وهو ما عرفته بنفسها فور أن فتح لها أحد الأبواب ودعاها إلى الدخول .. لترى امرأة مسنة ااغاية تجلس على فراشها .. بينما تقوم ممرضة خاصة بمساعدتها في الأكل .. بنظرة واحدة .. عرفت نانسي بأن هذه المرأة عمياء
شعرت الجدة بهما فقالت بحنان :- أهو أنت يا محمود ؟ ادخل يا حبيبي
قال :- لست وحيدا يا جدتي
رفعت المرأة حاجبيها الأبيضين وهي تقول :- أهي هنا معك ؟ اقتربي يا عزيزتي .. واجلسي إلى جانبي ... لا يمكن أن تتخيلي سعادتي بزواج محمود أخيرا .. لقد حان الوقت ليستقر ويكون عائلته الخاصة
جلست نانسي على مقعد قريب من السرير وهي تتأمل وجه المرأة الذي كسته التجاعيد .. وشعرها الفضي الناعم الذي تربطه خلف رأسها .. وأطلت من عينيها الباهتتين نظرة حنون .. قالت :- اسمك نانسي .. إنه اسم غريب
وضحت نانسي بحرج :- لقد اختارته لي أمي .. فقد ولدت أمها في مدينة نانسي الفرنسية .. ولم تتوقف طوال حياتها عن الحديث عن طفولتها هناك .. فأطلقت أمي علي الإسم إكراما لوالدتها التي لم يكن قد مضى على وفاتها أشهر عندما ولدت
ابتسمت الجدة قائلة :- لقد حدثني عنك محمود كثيرا .. ووصفك لي بشكل جعلني واثقة بأنك بارعة الجمال
تمتمت نانسي :- لست جميلة إلى هذا الحد
لطالما كانت نانسي واثقة من جمالها المميز .. ولكنها الآن بعد كل مصابها .. لم تعد واثقة بأنها تحلت يوما بأي جمال داخلي
:- أنت طالبة لدى محمود .. كم هذا مثير للخيال .. أن يقع حفيدي في حب تلميذته .. كيف وقعتما في الحب .. هل تستطيعين إخباري ؟
احر وجهها وهي تلاحظ محمود الذي انتظر إجابتها دون أن يحاول إنقاذها .. فقالت بارتباك :- حسنا .. لقد بدأ الأمر بشجار
بدت الدهشة على وجه الجدة وهي تردد :- شجار !
قالت نانسي بحرج :- كنت أنا تلميذة مغرورة .. وكان هو أسيتاذا متعجرفا .. وكان من الطبيعي أن نتشاجر
ابتسمت الجدة برقة :- فهمت الآن .. لقد حدث الشيء نفسه مع والدي محمود .. ابنتي كانت طبيبة ماهرة وواثقة من نفسها .. وعادل والد محمود كان مريضا شقيا إذ كسر ساقه ذات مرة ودخل المشفى .. كانت ابنتي وفاء تعود بعد كل مراجعة له غاضبة وحانقة على المريض المدلل الذي لا يكف عن الانتقاد .. وبعد فترة .. دخلت إلى البيت بلا إنذار سعيدة ومشرقة وهي تخبرني بأن مريضها المشاكس قد خطبها
كرت سحابة حزن على وجه الجدة وهي تقول :- لقد كانت مليئة بالحيوية .. وعادل كان رجل أعمال عنيد .. أظن بأن محمود قد أخذ عن أبيه صلابته .. ومن أمه رقته وحنانه
ضحك محمود قائلا :- أحذرك بأن جدتي إن بدأت في تعداد مميزاتي .. فهي لن تتوقف قبل ساعات
ضحكت جدته قائلة :- لست بحاجة لأن أفعل .. من الواضح بأن نانسي تعرف جميع مزاياك ما دامت قد وقعت في حبك .. ألي كذلك يا عزيزتي ؟
ساد صمت طويل التقت خلاله عيناها بعيني محمود الذي نهض قائلا :- سأتركك قليلا مع نانسي يا جدتي .. هناك ما أرغب بمحادثة عمي به
غادر الغرفة تاركا نانسي في اضطراب تحاول جاهدة تهدئة دقات قلبها .. قالت الجدة بهدوء :- أعتقد بأنك قد قابلت منار زوجة عم محمود وابنتها ريم
:- نعم
قالت الجدة :- لا تهتمي في حال استقبلتاك ببرود .. فهما لم تتصورا أبدا أن محمود قد يتزوج بغير ريم
هكذا إذن .. نظرات ريم الحاقدة لم تكن بدون سبب .. لقد كانت مغرمة بالرجل الذي تزوج بها
قالت الجدة :- وماذا عن طلال ؟ كيف استقبلك ؟
:- لقد كان بشوشا ومرحبا
:- متأكدة بأنه قد انزعج كثيرا لأن محمود لم يخبره بزواجه .. فقد اعتاد بعد وفاة والدي محمود على أن يحاول إدارة حياة محمود بنفسه .. وعندما كبر محمود شجعه على أن يسلك طريق الدراسة والتعليم حتى يستمر هو في السيطرة على حياته وعلى أعمال أبيه على هواه .. ولكن محمود لم يكن ابن أبيه بدون فائدة .. لقد أصر على استلام جميع أعمال وأملاك والده حتى مع انشغاله بالتحصيل العلمي .. ثم عمله بالجامعة .. تمكن من فرض شخصيته سواء في العمل أو في هذا المنزل الذي ظنت السيدة منار بأنها سيدته حقا .. إنها صفعة قاسية أن يحضر محمود من تستلم هذه المكانة بعد والدته
قالت نانسي بقلق وقد وجدت في الجدة الطيبة صدرا واسعا تستطيع الثقة به :- في الواقع أنا لم أهيء نفسي لوضع كهذا .. فمحمود لم يتحدث كثيرا عن عائلته
:- لابد أنه لم يجد الوقت المناسب ليفعل .. لقد أخبرني بوفاة والديك .. وأقدر شعورك بالغربة والخوف من الفترة القادمة .. محمود سيوفر لك الأمان ويحميك .. أما عن عمه .. فمحمود يقدره ويحبه كوالده بالضبط .. لطالما كانت عائلة عمه عائلته .. أما الآن .. فلديه أنت
صمتت للحظات ثم قالت :- ما الذي أعجبك بولدي ؟ أعني ما الذي دفعك لحبه ؟
أجفلت نانسي لهذا السؤال .. بماذا تجيب ؟ لا يمكنها إخبارها بأنها لا تطيقه .. وأن شيئا لا يعجبها به .. ولمنها عادت وفكرت بأن هذا غير صحيح .. فقد سبق وكسب محمود احترامها بحزمه ووقوفه إلى جوار عائلتها .. تمتمت :- هناك الكثير مما فيه يحيرني ويثير الاضطراب في نفسي .. ربما هذا التناقض في شخصيته .. أحيانا هو قاسي وصارم .. وأحبانا يكون حنونا ومهتما
بدا على الجدة أنها تنتظر من نانسي أن تسترسل في الكلام فأكملت :- ربما وقاره وكبرياءه هما ما يجذبني غليه .. ربما لأنه الشخص الوحيد الذي لا أستطيع الاعتداد بنفسي أمامه
سهمت وقد نسيت وجود المرأة أمامها وهي تقول مفكرة :- إنه لطيف مع أختي.. وكان عطوفا مع والدتي .. كان نبلا منه أن يمنح أشخاصا لا يهمونه بعضا من وقته ويشعرهم بأنه واحد منهم
قالت الجدة بحنان :- كيف لا يهمونه إذا كنت أنت منهم ؟
ابتسمت نانسي بضعف دون أن تجيب .. فسألتها الجدة فجأة :- هل هو وسيم ؟
دهشت نانسي وسألت :- ماذا ؟
أوضحت الجدة بهدوء :- لقد فقدت بصري منذ عشر سنوات ... لا يمكنك تصور اشتياقي إلى رؤيته .. هل تسمحين لي برؤيته من خلال عينيك ؟
شعرت نانسي بالأسف على هذه السيدة العاجزة عن رؤية أحب الناس إليها .. تمتمت :- إنه وسيم
أسندت المرأة رأسها إلى الخلف وقالت :- صفيه لي .. أرجوك
تمتمت نانسي :- إنه طويل جدا .. يتجاوز طوله الثمانين سنتيمترا .. شعره قاحم السواد .. كثيف ومتماوج .. لون بشرت قمحي جذاب لوحته الشمس .. عيناه بلون السكر المحروق .. يطل منهما تعبير متسلط .. وكأن الكون يدور من حوله ولأجله فقط
ضحكت الجدة قائلة بحنان:- إنهما عينا والده .. كانت وفاء تقول دائما بأن عينيه هما سر نجاحه في عمله .. إذ يستطيع بهما السيطرة على ما يريد .. والحصول على ما يريد
ابتسمت نانسي بارتباك بينما قالت الجدة :- أكملي أرجوك .. صفي لي ملامحه
أكملت نانسي :- أنفه مستقيم بزاوية حادة .. فمه واسع بشفتين تميلان إلى الامتلاء .. ذقنه بارزة بعض الشيء .. تمنح ملامحه قوة تضاهي قوة شخصيته
احمر وجه نانسي وهي تسرد هذه التفاصيل .. متى تأملت وجهه عن قرب لتعرف دقائقه بهذا الشكل ؟
قالت الجدة برقة :- تحبينه .. أليس كذلك ؟
قبل أن تفكر حتى بجواب .. لاحظت محمود الواقف عند الباب المفتوح وقد علت عينيه نظرة غريبة .. خفق قلبها بقوة .. منذ متى وهو يقف هنا ؟ هل سمع شيئا مما قالته عنه ؟
قالت الجدة وقد أحست بوجوده :- محمود .. هل أنت هنا ؟
قال بهدوء :- نعم يا جدتي .. جئت آخذ زوجتي لأنك بحاجة إلى الراحة
قالت برقة :- زوجتك رائعة يا محمود .. أتمنى أن تنجبا لي الأحفاد بسرعة
انحنى يقبل جبينها ثم يدها قائلا :- سيحدث هذا قريبا يا حبيبتي
اعتذرت نانسي من الجدة .. وسارت معه خارجا .. قال بهدوء :- أعتقد بأنني قد جئت في وقت مناسب لأمنعك من تدمير جدتي عندما تجيبين على سؤالها .. أليس كذلك ؟
قالت بجفاف :- بل أنقذتني أنا لأنني كنت على وشك الكذب عليها
قال مستغربا :- وهل كنت ستكذبين ؟
هزت كتفيها :- لقد أحببت جدتك كثيرا .. ولن أستفيد شيئا من ذكر الحقيقة لها سوى بجعلها تتألم
قال متهكما :- هذا جيد .. لديك قلب يهتم بالآخرين .. انت تتطورين
كبتت غيظها وهي تقول :- ما الذي أردته مني ؟
:- أن أطوف بك المكان قبل أن أغادر إلى عملي .. كي تعرفي أين تتحركين بالضبط أثناء تجوالك فيه ..
أشار لها حوله إلى الطابق الثالث قائلا .. هذا الطابق مخصص لإقامة المستخدمين .. اختارت جدتي الإقامة فيه لتبتعد عن الضوضاء .. ولأنها لا تغادر غرفتها أبدا .. بل هي بالكاد تغادر سريرها بسبب التهاب المفاصل .. ولكنني أزورها باستمرار وأخصص لها ممرضة للاهتمام بها .. كما يزورها الطبيب بشكل دوري للاطمئنان عليها
تابع تجواله بها عبر الطابق الثاني حيث غرف النوم .. وصالة فسيحة للجلوس .. ثم إلى الطابق الأرضي الذي احتوى على غرف الاستقبال والطعام .. والمكتبة .. كانت تستمع إليه وهي تتأمل الجدران العالية المزينة باللوحات الجميلة .. والأثاث الثمين الملائم للديكورات الحديثة الطراز ... ما زالت غير قادرة على تقبل ثراء محمود الشديد .. بدلا من أن يريحها هذا ويسعدها أشعرها بالخوف من المستقبل الذي ينتظرها مع رجل بسطوته قامت هي بإهانته أكثر من مرة
أخذها في النهاية إلى غرفة مكتبه التي احتلت مكتبة كبيرة جدارا كاملا ضمت أكبر مجموعة كتب رأتها في حياتها .. ثم مكتب ضخم مصنوع من الخشب الثقيل مرتب بعناية علاه جهاز كومبيوتر حديث الطراز .. وسجادة بألوان مشرقة غطت جزءا كبيرا من الأرضية الرخامية .. قال بهدوء :- هنا أقضي معظم أوقاتي
تحسست الكتب بأناملها وهي تقول بذهول :- هل قرأت كل هذه الكتب ؟
ابتسم قائلا :- لقد جمعت أمي جزءا كبيرا من هذه الكتب .. فقد كانت مولعة بالقراءة .. وأنا من بعدها اقتنيت مجموعة كبيرة
نظر إلى الكتب ذات الأطر الأنيقة وقال :- ولكن إجابتي عن سؤالك هي النفي .. لم أقرأها كلها .. فهناك كتب لا توافق ذوقي
أدركت بأنه يقصد ما يعود إلى غيره من سكان المنزل .. تأملت قسما ضم روايات رومانسية نسائية الطراز .. وكتب عن الجمال والموضة .. من الواضح أن هذه الكتب تخص ريم
قال :- يمكنك استعمال هذه الغرفة أثناء دراستك
لاحظ تغير ملامحها بسبب التوتر فقال :- أنت تذكرين اتفاقنا يا نانسي .. أريدك أن تعودي إلى الجامعة منذ صباح الغد .. ومأمون سيكون تحت أمرك .. سيكون عمله الاهتمام بتنقلاتك .. إلا في حال كنت أنا موجودا فسأوصلك بنفسي
لم ترد عليه .. فأدارها إليه قائلا بحزم :- لا أريد ترددا .. لن يجرؤ أحد على التعرض لك بالكلية .. أعدك
ابتلعت ريقها باضطراب .. كيف عرف بما يخيفها .. ثم تذكرت بأنه كان شاهدا على اضطهاد الطلاب لها أكثر من مرة .. قالت بعصبية :- أنا لست قلقة .. فليجرؤ أحدهم على الاقتراب مني وسيناله ما لا يعجبه
ابتسم وهو يقول مداعبا :- يا إلهي .. لقد بعثت الخوف في نفسي .. هذا ما أريده منك .. أن تعودي إلى الكلية محملة بقوتك القديمة .. التي لا يجرؤ أحد على مواجهتها
لم تبتسم .. فقد كان القلق يعصف في كل خلاياها من العودة إلى ذلك المكان بعد هجوم جابر لها .. ومن لقاءه مجددا وإن كان قد حكى لأحد عما فعله بها ..
عندما شاهدت جميع أنحاء المنزل أخذها في جولة في الحديقة قائلا :- في الربيع يصبح هذا المكان رائعا
تمتمت وهي تنظر إلى الجمال المحيط بها :- أستطيع تخيل هذا
استدار نحوها قائلا :- سأذهب الآن يا نانسي .. كنت أرغب بالبقاء معك في أول يوم لك هنا .. ولكن العمل يناديني
تمتمت :- هل ستتأخر ؟
ها هي تستجوبه كأي زوجة تقليدية تفتقد زوجها .. الناقص هو أن ترتمي عليه وترجوه ألا يذهب .. نظر إلى وجهها متفحصا وهو يقول :- في الواقع نعم .. سأتأخر قليلا
اقترب منها وربت على وجنتها قائلا :- تذكري بأن هذا هو بيتك الآن
أومأت برأسها دون أن تقول شيئا .. ظنت بأنه سيضيف شيئا إلا أنه قال أخيرا :- أراك لاحقا
راقبته يبتعد .. ويستقل سيارته .. فتنهدت وهي تعود إلى داخل المنزل .. كانت في طريقها إلى غرفة لينا عندما أتاها صوت ريم قادما من خلف أحد الأبواب .. كادت تتابع طريقها لو لم تسمع اسمها فتوقفت .. وسمعت ريم تبكي وهي تقول :- ما الذي أعجبه بها ؟ .. ليست أكثر جمالا مني .. إنها ابنة لص حقير وستحرجه أينما ذهب
توتر جسد نانسي بغضب .. سمعت صوت منار تقول :- لا تقلقي يا حبيبتي .. لن تمر فترة طويلة حتى يمل منها .. ويرميها في الشارع كما فعل مع غيرها
لم تستطع نانسي أن تسمع المزيد .. وإلا كانت ستقتحم الغرفة وتنهال على الإثنتين ضربا .. دخلت إلى غرفة لينا لتجدها جالسة على طرف السرير ساهمة .. جلست إلى جانبها وهي تقول برقة :- ما الأمر ؟.. تبدين وكأن المكان لا يعجبك .. إنه أكبر وأجمل من منزلنا القديم
قالت لينا بخفوت :- بالتأكيد ؟ ولكن ما الفائدة إذا كان سكانه لا يحبوننا
عقدت نانسي حاجبيها قائلة :- لماذا تقولين هذا ؟
قالت لينا بغضب :- تلك المتعجرفة ريم .. إنها تعاملني وكأنني أحد الخدم
قالت نانسي بهدوء :- لا تهتمي لأمرها يا لينا .. كما أن فراس يبدو لطيفا معك
أشرق وجهه لينا وهي تقول :- بالفعل .. فراس طيب جدا ويحب الموسيقى والرسم .. لقد تحدثنا كثيرا .. إنه معجب بمحمود كثيرا ويحترمه .. وقد قال عنك بأنك جميلة جدا
ابتسمت نانسي بخبث قائلة :- فقط أنا ؟
احمر وجه لينا دون أن تجيب فضحكت نانسي برقة .. ثم قالت بجدية :- اسمعيني جيدا يا لينا .. من المؤكد بأن المرحبين بنا في هذا المنزل قلائل .. ولكننا لن نستسلم لريم ولأمها .. لا تنسي بأن محمود معنا .. وهو لن يسمح لأي أحد بأن يزعجنا
لم تكن متأكدة حقا مما تقول .. ولكن الراحة التي ارتسمت على وجه لينا استحقت تلك الكذبة .. قالت لينا فجأة :- هل تحبينه يا نانسي ؟
أجفلت نانسي وهي تقول :- ماذا ؟
:- أنا أعرف لماذا تزوجت بمحمود .. لقد سمعتك تتحدثين مع حنان
وعندما لم تجبها نانسي قالت :- أنا لست صغيرة يا نانسي .. أنا أعرف بأنك لن تتمكني من العيش معه إن كنت تكرهينه
قالت نانسي بهدوء :- أنا لا أكرهه
تمتمت لينا :- محمود شخص رائع .. أنا أحبه كثيرا .. وأتمنى أن تحبيه أنت أيضا
ربتت نانسي على شعر أختها الناعم وقالت :- لا تشغلي رأسك بهذه الأمور .. أنا سأكون بخير
ذلك المساء لم يحضر محمود وقت العشاء .. وحول المائدة .. انتقلت عينا نانسي عبر الوجوه الضاحكة وهي تشعر بالأسى الشديد لغيابه .. فشعورها بالغربة وسط أشخاص لا تثق بهم كان قويا .. تركزت نظرات ريم عليها وقد أطل منها الحقد .. فتذكرت نانسي الحديث الذي سمعته سابقا .. هل سيمل منها محمود حقا ويرميها في الشارع ؟ .. هل سبق وفعل هذا مع غيرها من النساء ؟
تذكرت الشائعات الغامضة التي سمعتها دائما عنه في الكلية .. من الواضح أنها لم تكن قادمة من فراغ .. وأن محمود فعلا كان له العديد من الصديقات قبل الزواج .. وربما ما زال
فاجأها الغضب الذي اعتراها .. لماذا تزوج منها إذن إن كان يعبث هنا وهناك ؟ لقد كان واضحا عندما قال بأن الوقت قد حان ليستقر وينجب الأطفال .. أهذا هو السبب الذي دفعه لربط نفسه بها ؟ أم لتكون ستارا لمغامراته المتعددة ؟
لا .. لا يبدو على محمود أنه من هذا النوع .. كان دائما وقورا ومتزنا .. ولطالما عاملها بتحفظ دون أن يقلل من احترامها يوما ..
خطرت على بالها فكرة أخرى أذهلتها .. هل يعود السبب إلى أنه قد عرف بأنها ليست من النوع المستهتر .. فقرر بأن الوسيلة الوحيدة للحصول عليها هي الزواج ؟
لم تستطع البقاء أكثر برفقة الآخرين بعد انتهاء العشاء .. فاعتذرت وغادرت غرفة الجلوس .. وبينما هي تصعد الدرج متجهة إلى غرفتها .. لحقت بها ريم لتقول وهي تقف أسفل الدرج :- لا تبدين بخير
ردت نانسي وهي تنظر إليها :- أنا متعبة فقط .. سأخلد إلى النوم
قالت ريم بهدوء :- لا أظنك تعانين من التعب .. ربما من القلق
نزلت نانسي حتى واجهت ريم قائلة ببرود :- ولماذا علي أن أكون قلقة ؟
هزت ريم كتفيها قائلة بلؤم :- ربما تتسائلين عن مكان محمود .. وعن موعد عودته
:- محمود في عمله .. لقد سبق وأخبرني بأنه سيتأخر
ضحكت ريم باستهزاء قائلة :- أ مازال محمود يستعمل هذه الخدعة ؟
عقدت نانسي حاجبيها دون أن تعلق فأكملت ريم :- عليك أن تكوني حذرة يا نانسي .. فمحمود ولد وحوله جيش من النساء .. وليس من السهل أن يتخلى عن كل هذا لمجرد أنه قد تزوج
ردت نانسي بصلابة :- أنا أثق بزوجي ثقة عمياء
أطلقت ريم ضحكة صغيرة وهي تقول ساخرة :- لا تنسي بأنه يعمل مع والدي .. ووالدي ماكان ليتركه ويعود باكرا تاركا محمود وحده غارقا في العمل
اقتربت من نانسي قائلة :- هل تعرفين بأن لمحمود شقة في المدينة .. شقة فاخرة مجهزة بجميع وسائل الراحة .. لقد اعتاد أن يقضي فيها الكثير من لياليه .. فهو قطعا لن يحضر صديقاته إلى هنا .. وأنا واثقة بأنه لم يخبرك بها ولن يفعل .. كي تبقى شقة العزوبية جاهزة دائما لأي موعد طارئ
بالرغم من توتر جسد نانسي وتأثير كلمات ريم السامة عليها .. قالت بمرح :- أنت محقة .. فهو لم يخبرني بها
منحتها ابتسامة لعوب وهي تقول :- لقد أخذني إليها ... أين تتوقعين بأننا قد قضينا الوقت بعد زواجنا وقبل حضوري إلى هنا ؟
اقتربت لتنظر إلى عينيها العسليتين الغاضبتين وقالت :- أما عن صديقاته اللاتي تتحدثين عنهن .. فأنا واثقة بأن العديد منهن تمنين الزواج به .. بل ربما انتظرنه طيلة حياتهن .. وهذا لا يهمني إطلاقا .. لأنه عندما قرر الزواج أخيرا .. اختارني أنا
منحتها ابتسامة حلوة وهي تقول :- تصبحين على خير يا ريم
صعدت إلى غرفتها .. ومنعت نفسها بصعوبة من صفق الباب بقوة .. تمتمت بغضب :- الحقيرة
ثم نظرت إلى صورة صغيرة له على منضدة الزينة وقالت بغل :- أيها المزيف الحقير
بدلت ملابسها وارتدت منامة حريرية بيضاء .. ثم دست نفسها في السرير وهي تتساءل .. هل كانت ريم تكذب عليها .. أم أن محمود يمتلك مثل تلك الشقة في قلب المدينة ؟
تقلبت في الفراش وهي تفكر كالمحمومة .. هل سيشاركها محمود هذه الليلة فعلا ؟ .. هل سيشاركها السرير ويحاول أخذ حقوقه منها ؟
التدفئة المركزية كانت تعمل بأقصى طاقاتها .. ولكنها كانت تعرف بأن الحرارة التي كانت تجتاحها نابعة من أعماقها هي .. كان مجرد التفكير في محمود يلمسها تثير جنونها .. كيف ستسمح له بهذا بينما تأخذها الأفكار حوله في كل مكان .. أخذت تقسم بأغلظ الأيمان بأنه لو حاول لمسها فسينال منها ما يستحق .. ستقاومه وتركله .. تترك الغرفة إن اضطرت مهما كان وضعها سيكون مذلا أمام ريم ..
أخفت وجهها في الوسادة بإرهاق .. لقد أخبرها صراحة بأنه يريدها .. وهو ليس بالرجل الذي يقبل بسهولة ألا يحصل على عروسه بعد أسبوع من زواجهما .. تذكرت نظراته في كل مرة كان يوضح لها نواياه ... فارتجفت ..
إن حصوله عليها في ظروف زواجهما الاستثنائية سوف يشعرها بمزيد من الذل والهوان .. ويؤكد لها على بيعها لنفسها له .. بالضبط كما قال ماهر ..
لم تدر كم مر من الوقت وهي تتقلب عاجزة عن النوم .. حتى شعرت بوصوله
أدرات ظهرها متظاهرة بالنوم في لحظة دخوله إلى الغرفة .. كانت حركاته هادئة وصامتة وهو يتجول في الغرفة .. سمعته يفتح الخزانة .. ثم سمعت حفيف ثيابه وهو يبدلها .. شعرت بالعرق يبلل جسدها ووجهها من فرط التوتر والترقب .. شعرت به يزيح البطانية الثقيلة والدافئة ففاجأها التيار البارد الذي تسرب إلى جسدها الدافئ .. استقر إلى جانبها بصمت .. فأحست بدفئه رغم المسافة الفاصلة بينهما.. واستنشقت عبير عطره الرجولي الزكي .. لم يلمسها .. أو حتى يحاول الاقتراب منها .. وخلال دقائق .. سمعت صوت انتظام أنفاسه .. لقد استغرق في النوم
رغم استرخاء أعصابها أخيرا .. إلا أن مزيجا من السخط والحيرة اجتاحا فكرها .. الحيرة من تصرفه .. والسخط من حرمانه لها من فرصة رفضه ومقاومته .. ما الذي يهدف إليه بالضبط ؟ .. هل أدرك فجأة بأنه لا يريدها حقا كما كان يظن ؟ .. أم أنه يهدف إلى إثارة أعصابها وإهانتها برفضه هو لها ؟
مهما كانت أسبابه .. فقد جنب نفسه الكثير من المشاكل .. وعندما نامت أخيرا .. كانت قد استغرقت وقتا طويلا لتفعل مانعة نفسها بصعوبة من إلقاء أي نظرة عابرة نحو الرجل الذي تزوجها
لا .. بل الرجل الذي اشتراها


__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر
  #13  
قديم 02-01-2017, 06:41 PM
 
الفصل الثالث عشر



هل أغار ؟؟



هتفت حنان باستنكار :- لم يحدث شيء !
قالت حنان وهي تمشط شعرها بعصبية :- لقد أخبرتك بأنه قد وصل متأخرا ونام دون أن يوجه لي أي كلمة .. لقد كان يظنني نائمة في الواقع
فكرت حنان قليلا ثم قالت بحزم :- هذا يدل على نبل أخلاقه
نظرت إليها نانسي باستنكار فأوضحت حنان :- لابد أنه يقدر عدم تجاوزك بعد لوفاة والدتك .. ويترك لك المجال لتتأقلمي مع وضعك الجديد كزوجته
تجهمت نانسي .. قطعا هي لم تفكر بهذه الطريقة .. هل كان هذا هو هدف محمود ؟ ألا يجبرها على شيء ليست مستعدة له بعد ؟ .. لم تعرف هل تقدر فيه فعله هذا أم تحقد عليه لأنه يثبت لها من جديد بأنه أفضل منها .. ولكن الحقيقة هي أن صورته داخلها قد تغيرت قليلا .. ما الذي توقعته ؟ الدكتور محمود أستاذ جامعة قدير .. وليس رجل غابة متوحش .. تنهدت وهي تقول :- من الأفضل أن أذهب إلى الجامعة قبل أن أتأخر
ارتدت ملابس داكنة اللون بالطبع شديدة الأناقة .. مع زينة خفيفة على وجهها لم تنقص شيئا من جمالها ورقي مظهرها ..
إن كانت ستعود إلى الجامعة .. فستتسلح بأقوى أسلحتها .. الأناقة
أوصلها مأمون إلى بوابة الجامعة .. وهناك سألها :- متى أعود لاصطحابك يا سيدة نانسي
نظرت إلى ساعتها قائلة :- في الساعة الثانية والنصف
ترجلت من السيارة بساقين مرتعشتين .. وبصعوبة استطاعت اختراق الجامعة وهي تعتنق روحها القديمة .. المشبعة بالثقة والكبرياء .. أدهشها رد الفعل الذي وجدته إذ أسرعت زميلاتها نحوها مرحبات بها ببشاشة .. بعبارات العتاب للغياب الطويل .. ثم أطلقت إحداهن تعليقا خبيثا عن الدكتور محمود .. هكذا إذن .. لقد أدركن بأنها الآن أصبحت زوجة أستاذهن .. بل هي زوجة رجل مهم في المجتمع .. مما يعني أن إغضابها ليس من مصلحتهن .. لدهشتها لم تكن نانسي سعيدة لهذا .. فهي لا ترغب بأن يعود مجدها القديم القائم على المصالح والذي أثبت هشاشته من خلال تجربتها .. لم ترغب بمودة تختفي عند حدوث أي مشكلة معها .. إلا أن هذا يبقى أفضل بكثير من عدائهم واضطهادهم لها
تساءلت عن مصدر معرفتهم بخبر زواجها .. وعندما انتهت محاضرتها الأولى .. خرجت لتجد ماهر في انتظارها.. نظرت إليه ببرود وهو يتجه نحوها قائلا :- صباح الخير يا نانسي .. تسعدني عودتك
تمتمت بهدوء :- أشكرك
قال بخفوت :- أعتذر عما بدر مني في المستشفى يا نانسي .. لم يكن من حقي مخاطبتك أو الحكم عليك بهذه الطريقة .. لقد عرفت بوفاة والدتك .. والدكتور محمود هو أفضل من يهتم بك ويحميك وقد خلت حياتك من أي معين
رفعت عينيها إليه قائلة :- هل أنت من أخبر الطلاب بزواجي من الدكتور محمود ؟
:- كان لابد أن أمهد لعودتك .. وقد توقعتها .. الآن لن يجرؤ أحد على الاقتراب منك أو الخطأ في حقك
ثم قال وقد ظهر القلق في عينيه :- هل تسامحينني يا نانسي ؟
ابتسمت قائلة :- أنت صديقي الوحيد يا ماهر .. لو لم تأت إلي لأتيت أنا إليك
تبادلا بعض الأحاديث قبل أن يفترقا ليلتقيا بعد المحاضرة الثانية
لم تر نانسي محمود في الكلية ذلك النهار .. بل هي لم تره على الإطلاق ذلك الصباح إذ استيقظت لتجد جانبه من السرير فارغا مما أشعرها بالراحة والإسترخاء
أوصلها ماهر إلى حيث يقف مأمون بالسيارة في انتظارها وهو يقول :- ان احتجت لأي مساعدة فلا تترددي في سؤالي .. وسأحضر لك كل ما تحتاجينه من أوراق ومحاضرات فاتتك
:- أشكرك يا ماهر
ترددت قبل أم تطرح عليه السؤال الذي كان يقلقها منذ الصباح .. وعندما طرحته قال بدهشة :- جابر ؟ ما الذي ذكرك به الآن ؟ لقد طرد من الكلية منذ فترة طويلة .. ربما بسبب إحدى فضائحه الأخلاقية
هدأت أعصاب نانسي التي أمضت يومها تتلفت يمينا ويسارا خوفا من مصادفته في الكلية .. عندما وصلت إلى البيت .. بدلت ملابسها ثم تفقدت لينا التي كانت ترسم في غرفتها .. قضت معها بعض الوقت .. ثم قررت النزول إلى المطبخ والبحث عما تأكله وقد شعرت بالجوع الشديد بسبب وصولها متأخرة عن موعد تقديم الغداء ..
توقفت جميع العاملات عن العمل على إثر دخولها إلى المطبخ .. ونظرن إليها بدهشة .. أسرعت نجوى نحوها وهي تقول بارتباك :- سنعد لك الغداء فورا يا سيدتي
قالت نانسي بهدوء :- أخبريني أين أجد كل شيء وسأخدم نفسي بنفسي
موقفها كان مفاجئا حتى لحنان التي أبت إلا أن تساعدها في وضع الطعام داخل المايكروويف وتسخينه .. ورغم اعتراضها لم تقبل نجوى أبدا إلا أن تقدم لها الطعام في غرفة المائدة وبطريقة لائقة
وعندما بدأت بالأكل سألت نجوى :- هل يأكل السيد محمود كثيرا خارج المنزل ؟
أجابت نجوى :- نادرا ما يتناول غداءه هنا .. ولكنه غالبا ما يعود وقت العشاء
أنهت نانسي طعامها بهدوء .. ثم سألت فور انتهائها :- هل الجدة مستيقظة ؟
:- لا أعتقد يا سيدتي .. فهي تنام دائما في هذا الوقت
تساءلت نانسي عما تفعله .. فقررت الدخول إلى مكتب محمود والبحث عما تقرأه .. دخلت لتجد ريم هناك تجلس على إحدى الأرائك الجلدية باسترخاء وتتصفح إحدى المجلات .. اعتذرت نانسي قائلة :- أنا آسفة .. لم أعرف بوجود أحد هنا
أجابت ريم ببرود :- كما ترين .. أنا هنا ولا أحب أن يقاطعني أحد أثناء مطالعتي
كبتت نانسي غضبها وهي تقول :- في هذه الحالة عليك إيجاد مكان آخر لمطالعتك .. فأنا بحاجة إلى كتاب
نهضت ريم بغضب .. ولكن قبل أن تنطق بـأي كلمة .. ارتفع صوت محمود يقول :- مرحبا أيتها الفتاتين
استدارتا نحوه فاقترب من نانسي قائلا :- كيف حالك يا حبييبتي ؟
وكي يفاجئها .. انحنى ليطبع على وجنتها قبلة سريعة جعلت قلبها يخفق بقوة .. ولكنها فاجأته بدورها وهي تقول برقة شديدة :- بخير يا حبيبي .. لقد اشتقت إليك كثيرا
ارتفع حاجباه بدهشة بينما استرقت نانسي النظر نحو ريم الساخطة .. والتي قالت بحنق :- بالإذن
ما إن خرجت حتى ابتعدت نانسي عنه وهي تقول بجفاف :- أهلا دكتور .. لم أتوقع عودتك باكرا
قال ساخرا :- كما لم اتوقع عند عودتي عرضا غراميا أمام ابنة عمي .. ما هو هدفك بالضبط ؟
قالت ببرود :- ربما انا لا أحب أن يدرك أي من سكان المنزل حقيقة زواجنا المخزي .. وريم تنتظر كالصقر الجائع أقل لمحة عن ذلك .. لا تحاول التظاهر بأنك لم تعرف بان ابنة عمك مغرمة بك
قال ببرود مماثل :- اتركي ريم في حالها .. وأنصحك أن تهتمي بأمورك الخاصة في هذا المنزل .. وبدلا من إجهاد نفسك في مشاكسة الآخرين .. تذكري كيف وصلت إلى هنا
قبل أن تتمكن من منع نفسها هتفت بغل :- أنا أكرهك
وضح حقيبة اوراقه على المكتب وهو يقول :- وهل ظننتني متيم في هواك ؟
استدار نحوها يسألها فجأة :- كيف كان نهارك في الجامعة .؟
هزت كتفيها قائلة :- جيد
نظر إلى وجهها متفحصا وكأنه كان في انتظار جواب أكثر إسهابا .. سألها :- هل قابلت ماهر؟
:- طبعا قابلته .. هل نسيت بأنه صديقي ؟
تجهم وجهه دون أن يعلق .. قال مغيرا الموضوع :- جهزي نفسك هذه الليلة .. فنحن مدعوان للعشاء
قالت بدهشة :- نحن ؟
:- نعم .. أحد شركائي وأعز أصدقائي عرف بزواجنا ودعانا للعشاء احتفالا به .. يجب أن تتوقعي الكثير من هذه الدعوات .. فأنا لدي الكثير من المعارف
لاحظ ترددها فسألها :- هل من مشكلة يا نانسي ؟
لم ترغب حقا بقول ما يشغل بالها .. ولكنها تجاوزت كرامتها وقالت بانزعاج :- ليس لدي ما أرتديه
دهش وكأن هذا كان آخر ما توقعه منها .. وقال :- عرفت بأنك قد أحضرت معك الكثير من الحقائب الممتلئة بالملابس
قالت بحدة :- أنت لا تفهم .. ملابس السهرة لدي قديمة وقد لبستها أكثر من مرة .. كما أنها لا تناسب امرأة متزوجة
نظر إليها طويلا ... قبل أن يبتسم لدهشتها بحنان قائلا :- علي إذن أن أعتذر منك يا زوجتي العزيزة .. لم تحصلي على زفاف لائق كغيرك من العرائس .. أو حتى على جهاز مناسب .. كان علي التفكير بهذا مسبقا .. أنا آسف
فغرت فمها ذاهلة عندما قال :- يمكنك أخذ مأمون والذهاب إلى السوق وشراء كل احتياجاتك .. واحتياجات لينا أيضا .. ما يهمني هو أن تكوني جاهزة في تمام الساعة الثامنة لنلحق بموعدنا .. هل يناسبك هذا ؟
أفاقت من دهشتها .. ورفعت رأسها قائلة بشموخ :- لا بأس
ضحك وهو يقترب منها .. وينظر إليها برقة قائلا :- أنت طفلة صغيرة يا نانسي .. مهما حاولت التظاهر بالقوة والنضوج .. فأنا أستطيع بسهولة رؤية تلك الطفلة المختبئة هنا
أشار إلى صدرها .. قبل أن يداعب أنفها بخفة ويتركها مغادرا المكتب .. عقدت ساعديها أمام صدرها محاولة إبعاد تأثير لمسته العابرة وهي تفكر بعناد .. إن كان يظن بأنه قد اشتراني .. فهو لن يدفع ثمنا بخسا لي .. من واجبه أن يوفر لي كل ما أرغب به .. أليس كذلك ؟
في تمام الساعة الثامنة .. كانت نانسي تضع لمسات الزينة الأخيرة أمام المرآة .. وبطرف عينها كانت تراقب محمود وهو يحكم وضع ربطة عنقه .. ملاحظة وسامته وجاذبيته الصارخة في الملابس الرسمية .. حتى الآن لم تستطع التأقلم مع إقامتها في غرفة واحدة معه .. كانت تشعر بالتوتر في كل مرة ينفردان فيها .. نهضت قائلة :- أنا جاهزة
نظر مطولا إلى ثوبها الأسود الجميل .. الذي غطى بطوله كاحليها .. وناسب جسدها بشكل تام .. كان عاري الكتفين وقد زين صدره دبوس على شكر نمر ماسي صغير بعينين من الزمرد كان من بقايا مجوهرات والدتها
تأمل شعرها الذي رفعته بشكل بديع أظهر عظام وجنتيها الجميلة وعنقها الناعم الرشيق .. فابتسم قائلا :- مدهشة
توترت تحت أنظاره المتأملة .. راقبته وهو يرتدي سترته قائلا :- ولكن هناك شيء ناقص
عبست قائلة :- ماذا ؟ ما هو ؟
استدارت تنظر إلى المرآة بقلق .. لقد تبرجت بإتقان فظهر لون عينيها الأخضر الفيروزي .. وفمها بدا أكثر جمالا وامتلاءا بعد أن طلته بلون وردي فاتح .. راقبته يقترب منها بهدوء ويخرج شيئا من جيبه .. حبست أنفاسها عندما فتحها لترى محبس الزواج الذهبي مرفقا بخاتم ماسي يخطف الأنظار ببريقه .. تمتمت باضطراب :- ما هذا ؟
قال بهدوء :- زوجة فاضل محمود لن تتجول امام الناس بلا خاتم زواج يليق بها
عقد لسانها .. ولم تستطع النطق بكلمة وهي تتأمل الخاتم الجميل .. أمسك يدها .. وأحاط بنصرها الأيسر بالخاتمين دون أن يتوقف عن النظر إليها ..ثم رفع يدها إلى شفتيه ليطبع قبلة طويلة على بشرتها الناعمة مما جعل رجفة خفيفة تسري في أوصالها .. قال بعمق :- لقد سبق وقلت بأن هذه الأصابع الناعمة قد خلقت لأجل ارتداء الخواتم الثمينة
تسارعت أنفاسها وقد أحست بشيء كالشلل يلفها عندما قربها منه بنعومة هامسا في أذنها .. أنت تشبهين هذا النمر النائم على صدرك يا نانسي .. بعينيه الخضراوين .. واستعداده للقفز بعيدا عند أول لمسة
وكأنها كانت في انتظار كلمته لتصحو من غيبوبتها وتهتف بذعر :- لقد تأخرنا
انسلت من بين يديه وتناولت حقيبة يدها قائلة :- ألن نذهب ؟
ظهر شيء من الفوضى في عينيه وهو يقول :- بلى .. سنذهب .. هيا بنا
ارتدت معطفها وهي تحاول تهدئة نبضات قلبها العنيفة .. يا إلهي ساعدني .. ثم غادرا معا
التقت في المطعم الفاخر بشريك محمود وزوجته .. كان رجلا متوسط العمر .. وزوجته كانت ثلاثينية حسناء .. بدا من حرارة استقبالهم لمحمود شدة إعجابهم به .. وبعد أن عرفها إليهما وبالعكس قالت الزوجة إيناس :- أخيرا تزوجت يا محمود .. لم أظن أبدا بأن هذا اليوم سيأتي قط
قال محمود باسما وهو ينظر إلى نانسي :- لابد ان يتخذ الرجل القرار الحاسم عندما يجد الشخص المناسب
تورد وجه نانسي وهي تتحاشى النظر إليه بينما قالت لها إيناس :- عندما نلتقي ينشغل عصام ومحمود دائما في أحاديث العمل .. فأشعر بالملل الشديد .. الآن لا امانع ان يتحدثا في العمل طوال الأمسية .. فقد حصلت على صديقة جديدة
منحتها نانسي ابتسامة صادقة وقد أعجبت بها .. بينما قال زوجها مفكرا :- أنت من عائلة راشد .. بالتأكيد لا يمت إليكم سلمان راشد بأي صلة صحيح ؟.. إنه ذلك الرجل الذي اتهم بالقيام بأعمال غير مشروعة .. والذي مات في السجن .. لقد عرفته شخصيا قبل أن يتم اتهامه .. لقد كان شخصا جيدا .. ما زلت غير مصدق للاتهامات التي وجهت إليه .. هل تعرفينه ؟
شحب وجه نانسي في الوقت الذي قال فيه محمود باهتمام :- لقد أخبرني عمي بأنك قد طرحت عليه موضوع الأرض هذا الصباح .....
تمكن محمود من تغيير الحديث بمهارة حيث التفت الرجل لحديثه باهتمام .. بينما مالت زوجته نحوها قائلة :- لم أتخيل يوما ان أرى محمود متزوجا .. لقد بدا لفترة طويلة عازفا عن الزواج .. وقد كرس نفسه لعمله في شركاته وفي الجامعة .. أما عن زواجكما دون ضجة فهذا لم يدهشني .. لطالما كان محمود كارها للمظاهر الزائفة
ابتسمت نانسي قائلة :- يبدو أنك تعرفينه جيدا
قالت إيناس بمرح :- لقد كنت زميلته في الجامعة .. محمود كان شابا مجتهدا في دراسته .. وذا شخصية لامعة بين زملاءه .. ولا أخفي عنك مدى شعبيته بين الفتيات .. فقد كن يحمن حوله كالنحل حول وعاء العسل .. أي منهن لم تكن مميزة بالنسبة إليه
تساءلت نانسي إن كانت هذه المرأة أيضا إحدى المعجبات القديمات به .. وكأنها قد قرأت أفكارها قالت :- لو لم أكن مغرمة بعصام ابن خالتي منذ الطفولة لأغرمت بمحمود كأي فتاة طبيعية أخرى .. فهو يمتلك جميع المقومات التي تجعله مرغوبا .. ولكنني دائما أحببت عصام 00 تزوجنا بعد تخرجي مباشرة .. ولدينا الآن 3 أطفال بارعي الجمال
كانت سهرة لطيفة للغاية .. فقد قضت نانسي وقتا ممتعا بصحبة الزوجين المرحين .. بل واكتشفت بأن زوجها البارد قادر أيضا على أن يكون مرحا بدوره عندما يرغب .. كادت الأمسية أن تكون كاملة لو لم تقترب فتاة سمراء من طاولتهما وهي تقول بسعادة :- محمود .. يا لها من صدفة سعيدة .. مضى وقت طويل منذ لقائنا آخر مرة
وقف محمود لتحية الفتاة التي أسرعت ترمي نفسها عليه معانقة إياه فقال بهدوء وهو يبعدها عنه بلطف :- مرحبا هديل ..
التفتت هديل إلى الآخرين قائلة بمرح :- عذرا أيها السادة .. محمود صديق قديم ... لا يظهر إلا لماما .. فكان علي استغلال رؤيته لتبادل بعض الحديث معه
عادت تعاتبه قائلة :- أين أنت يا رجل ؟ منذ تلك الحفلة التي أقامها والد نسرين لن نرك في أي مناسبة .. اسمع .. أرغب بأن أراك في ...
قاطعتها نانسي قائلة ببرود :- ألن تعرفني بصديقتك يا محمود
انتبهت الفتاة في تلك اللحظة إلى رفيقة محمود التي شملتها بنظرات ازدراء شديدة .. فتنحنح محمود وهو يقول :- أقدم لك زوجتي يا هديل .. نانسي .. هديل صديقة قديمة
الصدمة العنيفة بدت جلية على وجه الفتاة وهي تنقل نظرها عبر الوجوه وكأنها تنتظر من يضحك في وجهها معلقا بأنه محمود يمزح .. بينما بدا القلق على وجه إيناس .. وانزعاج في وجه محمود الذي لم يخف ضيقه من هذا اللقاء غير المتوقع
تمتمت هديل قائلة :- أنا آسفة .. لم أعرف
قالت نانسي بفتور :- بالتأكيد لم تعرفي .. لقد تزوجنا حديثا جدا
استدارت الفتاة نحو محمود قائلة :- هل عرفت نسرين بذلك ؟
قال بهدوء :- سيعرف الجميع عاجلا أم آجلا .. تفضلي وشاركينا السهرة
قالت ببرود :- أشكرك .. أنا مضطرة للذهاب .. سعدت بلقائكم
منحت نانسي نظرة قاسية وكأنها تستثنيها من كلامها .. ثم ابتعدت
قضت نانسي بقية السهرة صامتة بالرغم من محاولة إيناس الترويح عنها ..وعندما ذهبتا إلى استراحة السيدات وجدت إيناس الفرصة لتقول لها :- كل الرجال لديهم قصص ومغامرات قبل الزواج .. أنا واثقة بأن هذه الفتاة كغيرها لم تعد تعني شيئا لمحمود
قالت نانسي بهدوء :- بالتأكيد
لم تتفوه بحرف طيلة الطريق إلى البيت .. وعندما دخلت إلى غرفة النوم كان أول ما فعلته هو انتزاع خاتمي الزواج من إصبعها ورميهما فوق منضدة الزينة .. دخل محمود خلفها وهو يقول :- أفهم من هذه التصرفات الطفولية بأنك غاضبة
استدارت إليه وهي تقول بانفعال :- غاضبة .. هذه هي أقل كلمة قد تصف مشاعري في هذه اللحظة .. أعرف بأنك لا تهتم بمشاعري مثقال ذرة .. ولكن إياك أن تهزأ بكرامتي في العلن يا دكتور محمود .. إياك أن تظهرني أمام الناس بمظهر الزوجة المخدوعة الحمقاء وأنت تتباهى بتاريخك العظيم مع النساء
قال بغضب :- الفتاة لم تكن تعرف بزواجنا يا نانسي
صاحت :- وأنت لم ترغب بإيذاء مشاعرها ففتحت لها ذراعيك
ضيق عينيه وهو يقول :- هل أفهم من هذا بأنك تغارين ؟
احمر وجهها من هذه الحقيقة التي لم تخطر على بالها .. ولكنها قالت بعصبية :- أنا لا أغار عليك .. بل على كرامتي وكبريائي .. ومظهري أمام الناس .. كيف سيكون رد فعلك لو تركت أنا زميلا لي يحتضنني أمام معارفك
قال بخشونة مفاجئة :- كنت قتلتك
أجفلت لعنفه المفاجئ والبريق الوحشي الذي أطل من عينيه وهو ينظر إليها بطريقة جعلتها تخاف حقا .. تمتمت بتوتر :- هاقد فهمت وجهة نظري
قال ببرود :- الزوجة الحقيقية هي التي تبذل جهدها لتمنع زوجها من النظر إلى غيرها بدلا من الانفجار غضبا كلما اقتربت منه امرأة
راقبته متوترة وهو يبدأ بتبديل ملابسه فقال :- ما الذي تفعله ؟
قال وهو يحل أزرار قميصه :- كما ترين .. أبدل ملابسي
توقف فجأة وهو يلاحظ وجهها المحتقن فقال :- ما الأمر ؟ هل تكرهين أن أفعل هذا أمامك ؟
قالت بصوت مختنق :- نعم
نظر إليها من رأسها حتى أخمص قدميها بطريقة جعلتها ترتعش .. ثم قال :- هل نسيت بأنك زوجتي يا نانسي ؟ وأن ما يحق لي هو أكثر بكثير من تغيير ملابسي أمامك
شعرت بالذعر وهي تراه يقترب منها .. تراجعت وهي تقول بقلق :- ما الذي تفعله ؟ إياك والاقتراب مني
ولكنه استمر في الاقتراب فتراجعت حتى التصقت بزجاج النافذة الكبيرة وهي تصيح بذعر :- إياك أن تلمسني .. أحذرك بأنني سأصرخ عاليا .. سأركلك .. سأضربك
أغمضت عينيها بقوة عندما مد يده نحوها .. ثم فتحتهما بدهشة وهي تدرك بأنه لم يلمسها .. بل مد يده إلى النافذة خلفها يحكن إغلاقها قائلا ببرود :- الجو بارد في الخارج .. تأكدي في المرة القادمة من إحكام إغلاقها
تراجع وهو يحمل ملابسه ويدخل إلى الحمام مغلقا الباب خلفه .. فزفرت بقوة وهي تحاول استعادة هدوئها .. إنه يعبث بها وبأعصابها .. ولكنها تعرف بأنه عندما يقرر بأن الوقت قد حان لامتلاكها فإن أي من اعتراضاتها لن تجدي .. وهذا اليوم لن يكون بعيدا .. لقد قرأت هذا في عينيه بوضوح .. بدلت ملابسها بسرعة ودست نفسها في السرير .. سمعته يخرج من الحمام ويستقر إلى جانبها .. ساد صمت طويل في الغرفة المظلمة إلا من ضوء الأباجورة المجاورة لطرفه من السرير ..
قال فجأة بينما هي تدير ظهرها له :- لم أقصد جرح مشاعرك يا نانسي .. لم يكن بيني وبين هديل أي علاقة في أي وقت مضى .. لطالما كانت مجرد صديقة لا أكثر
أرادت أن تتجاهله .. ولكنها قالت دون أن تنظر إليه بجفاف :- من الواضح أنها لم تعتبرك صديقا على الإطلاق
:- هذا شأنها هي .. إن آخر ما قد أرغب بفعله هو إهانتك أمام الآخرين
استدارت نحوه مترددة .. فاستطاعت رؤية بريق عينيه القاتمتين .. بينما غطت الظلال معالم وجهه تمتمت :- أشكرك لأنك وقفت إلى جانبي عندما تحدث السيد عصام عن أبي
قال بحنان فاجأها :- أنت زوجتي يا نانسي ... وقد وعدتك يوما بأنني سأحميك
فكرت بأنها لا تتذكر هذا الوعد .. إلا ان حنانه جعلها تشعر بالضعف فجأة وبالرغبة بالبكاء .. منذ متى لم تشعر نانسي بالحماية ؟ أحست بان هذا الشعور بعيد جدا عنها .. فتمتمت بصوت اجش :- تصبح على خير
وادارت له ظهرها كي لا يتمكن من رؤية دموعها .. فأطفأ هو نور الأباجورة .. وساد الظلام في المكان .. فراحت نانسي في النوم بعد فترة قصيرة
بعد حلم مريع .. استيقظت نانسي مذعورة عندما سمعت صوت محمود ينادي باسمها .. لاحظت بأن وجهها مغطى بالدموع .. وأن شهقاتها تتلاحق بسرعة وكأنها تبكي قال محمود وهو يمسح الدموع عن وجهها :- اهدئي يا نانسي .. إنه مجرد كابوس
تمتمت بكلمات غير مترابطة :- لقد رأيت أبي .. ورأيت أمي أيضا .. ولينا كان تغرق
ضمها إليه بقوة وهو يقول بصوت حنون :- لم يحدث شيء .. ولن يحدث لك أي مكروه
ارتعدت وهي تشعر بذراعيه القويتين تحيطان بها .. وبصدره الصلب يحتويها .. استنشقت عبيره الرجولي الذي كان له أكبر التأثير على أعصابها .. بينما هو يهدهد لها كالأطفال هامسا :- لن أسمح لأحد بأن يؤذيك يا نانسي .. أنت ستكونين بأمان .. أعدك
انتابها شعور غريب وهي تستمع إلى هذه الكلمات وإلى نبرة صوته .. ثمة شيء مألوف لم تستطع تمييزه .. ولكنها سرعان ما نسيت كل شيء وهي تغفو على صدره

__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر
  #14  
قديم 02-01-2017, 06:43 PM
 
الفصل الرابع عشر



وماذا بعد ؟


رفعت نانسي عينيها عن كتابها لتبتسم في وجه لينا التي دخلت عليها وهي تقول بلهفة :- نانسي .. لقد دعاني فراس لحضور حفلة موسيقية يقيمها المعهد الذي يدرس فيه مساء اليوم.. هل أستطيع الذهاب ؟
نظرت نانسي إلى فراس الذي وقف عند الباب بحرج ثم ابتسمت قائلة :- بالتأكيد
أطلقت لينا صيحة سعادة وهي تعانقها بامتنان ثم تستدير نحو فراس قائلة :- سأبدل ملابسي وأوافيك
ركضت خارجة بينما اعتدلت نانسي التي كانت تجلس مسترخية على أريكة جلدية احتلت موقعا تحت نافذة غرفة المكتب .. قال لها فراس :- شكرا لسماحك للينا بمرافقتي
قالت بلطف :- بل شكرا لك لأنك تعاملها بلطف
نظر إلى كتابها قائلا :- انت تدرسين الاقتصاد كابن عمي محمود .. لقد رغبت دائما بأن أكون مثله .. ولكن هوايتي الموسيقية قد غلبتني
قالت :- أنا متأكدة بأنك ستصبح موسيقيا بارعا
صمت لثواني قبل أن يقول :- على عكس والدتي وريم أنا سعيد لزواج محمود بك .. ما كان ليسعد مع ريم
قالت بحذر :- لماذا تعتقد هذا ؟
قال وهو يهز كتفيه :- لقد كانا صديقين دائما .. وقد خرجا معا مرارا .. ولكنه لم يشعر نحوها يوما بما يتجاوز الأخوة .. كما أنه وريم غير متلائمين .. ريم لا تناسبه أبدا
تمتمت :- أنت تحب محمود كثيرا
قال بصدق :- لطالما كان قدوتي الأولى
بعد دقائق نزلت لينا بعد أن تأنقت .. ورافقت فراس إلى الخارج .. فخلعت نانسي حذائيها ورفعت قدميها فوق الأريكة وعادت تحاول متابعة الدراسة
استغرقت في القراءة حتى أنها لم تشعر بمحمود وهو يدخل إلى الغرفة ويقف متأملا إياها لتوان قبل أن يتنحنح كاشفا عن وجوده .. فارتبكت عندما رأته وحاولت الاعتدال فقال مسرعا :- ابقي كما أنت
اقترب وهو ينظر إلى كتابها قائلا :- أنت تدرسين .. هذا جيد .. إن أردت أي مساعدة في الدراسة أخبريني
قالت بقلق :- إن رغبت باستعمال المكتب .. يمكنني أن أخرج
قال :- لا تقلقي .. لدي بعض المحاضرات لأجل الغد أرغب بمراجعتها .. ولن يزعجني وجودك
جلس خلف المكتب .. وأخرج حاسوبه المحمول من حقيبته الجلدية .. وأخذ يعمل بصمت .. وجدت نانسي نفسها تنسى كتابها وترمقه بطرف عينها .. هي لم تره منذ يومين .. كان يستيقظ مبكرا قبل نهوضها .. ثم يعود متأخرا بعد أن تنام .. وقبل هذا .. كان دائما يعاملها بلطف حيادي .. يشبه لطفه مع لينا أو أقل .. ولكنه كاف ليدفعها لافتقاده خلال الأيام التي لم تره فيها
رف رأسه إليها سائلا :- هل من شيء يزعجك ؟
احمر وجهها وهي تقول :- لا شيء
اعتدل قائلا :- كيف لا شيء .. لقد كنت تنظرين إلي بتركيز وكأنك ترغبين بالحديث معي
كانت مضطرة لاختلاق شيء ما .. فقالت :- كنت أتساءل كيف استطعت دراسة كل هذه الكتب الضخمة والوصول إلى المراتب العالية بينما أعجز أنا عن فك طلاسم كتاب واحد
ضحك قائلا :- هل تجدين أي صعوبة في الدراسة ؟ كل ما عليك فعله هو أن تحبي ما تدرسينه
قالت :- لم أستطع يوما أن أحب الاقتصاد أو أن أستوعبه
:- لماذا تدرسينه إذن ؟
هزت كتفيها :- لم يكن لدي طموحا مختلفا .. ولا هواية مميزة كحب لينا للرسم
ابتسم وهو ينهض ليتجه نحوها .. جلس إلى جانبها على الأريكة الكبيرة فاعتدلت باضطراب .. تناول كتابها من بين يديها قائلا :- لكل إنسان هواية أو ميول معينة .. فكري جيدا .. لابد من وجود عمل تحبين القيام به
فمرت قليلا ثم قالت بتردد :- ألن تضحك ؟
ابتسم فجأة لسؤالها الطفولي فقالت بسخط :- لن أخبرك إذن
لم تدرك نانسي إلى أي حد كانت تبدو طفولية بالتنورة الزرقاء القصيرة والقميص الأبيض المقلم .. وشعرها المعقود على شكل ذيلي حصان خلف عنقها .. أطلت نظرة رقيقة من عينيه وهو يداعب شعرها قائلا :- لن أضحك .. أعدك
رغبت بإبعاد يده عنها ولكنها خشيت ان يدرك الاضطراب الذي تسببه لها لمسته .. تمتمت :- أحب الطبخ
رفع حاجبيه دون أن يعلق .. فأوضحت :- عندما عملت لفترة في المخبز .. انبهرت بشدة وأنا اجد موادا بسيطة تتحول بشكل سحري إلى انواع مختلفة من الخبز والفطائر .. شعرت بالفضول لمعرفة ما تفعله حنان لتحضر لنا الأطعمة الشهية التي كنا نأكلها .. فبدأت أساعدها .. كنت أستمتع فعلا بهذا
قال مبتسما ..:- ما الذي يمنعك من استمرار المحاولة .. انا متأكدة بان الطباخة لن تمانع اقتحامك للمطبخ ..أحب أن أتذوق شيئا من صنعك .. حتى لو مت بعدها تسمما
تأوه عندما ضربت ذراعه بقبضتها .. ثم ضحكا معا .. قالت بحرج :- الأشياء الاخرى التي أحبها ليست مهمة .. اعني بانها تافهة نوعا ما .. أحب كل ما يتعلق بالملابس والزينة والرياضة .. باختصار أحب كل ما يجذب فتاة أفسدها الدلال
رسمت ابتسامة إحباط على شفتيها .. فقال بهدوء :- ليس من المعيب ان تهتمي كغيرك من الفتيات بهذه الامور .. كما أنك لست فتاة أفسدها الدلال
نظرت إليه مصدومة فقال باسما :- أنت مغرورة .. ومتعجرفة .. ولكن لو كنت مدللة حقا لما تمكنت من الصمود في وجه الظروف السيئة التي واجهتك
أمسك يدها الرقيقة .. ونظر إلى عينيها قائلا :- أنت قوية يا نانسي .. ويجب أن تبقي قوية
التقت عيناهما طويلا قبل أن تتورد وجنتاها وهي تقول :- أشكرك يا دكتور محمود
قال بحزم :- توقفي عن مناداتي بالدكتور
بدا عليها الارتباك فأمسك ذقنها بين سبابته وإبهامه .. وأجبرها على النظر إليه وهو يقول :- هيا .. أسمعيني اسمي مجردا
تمتمت بحرج :- محمود
:- مرة أخرى
قالت بحيرة :- محمود
لمحت بريقا غريبا في عينيه وهو يقول :- إياك أن تناديني بهذه الطريقة بالجامعة وإلا فقد هيبتي أمام التلاميذ
اقترب منها فجأة وهو يقول بصوت أجش :- وقبلتك أمام الجميع بلا تردد
ارتعدت وهي تشعر بأنفاسه قريبة منها وهمست :- محمود
:- عفوا
اعتدل محمود على الفور وابتعد عنها بسرعة عندما دخلت ريم إلى الغرفة .. وعبست وهي تنظر إليهما قائلة بجفاف :- لم أدرك بأنك لست وحيدا يا محمود .. لقد كان أبي يبحث عنك
نهض قائلا بهدوء وكأن اللحظة الرقيقة التي مرت بينهما لم تكن :- هل وصل ؟ سأوافيه حالا
خرج ليترك الفتاتين وحدهما .. وضعت نانسي إحدى ساقيها فوق الأخرى وهي تقول بكسل :- ما الأمر يا ريم ؟ لا تقولي بأنك قد صدمت .. فأنت تعرفين بأن ما يحدث بيني وبين محمود أكثر بكثير من هذا
لرت ريم فمها قائلة بمكر :- لم أصدم يا نانسي .. بل تذكرت المرات التي ضبطت فيها أنا ومحمود في وضع كهذا
شعرت نانسي بطعنة أليمة في صدرها .. وبذلت جهدا خرافيا كي تخفي تأثير كلمات ريم المسمومة عليها .. قالت ببرود :- لقد سبق وعرفت بأنك كنت مولعه بزوجي يا ريم .. ما من داعي لتلميحاتك الرخيصة هذه
نهضت واتجهت نحو الباب .. وقبل أن تخرج استدارت نحو ريم قائلة :- تذكري دائما يا ريم بأنني المرأة التي تزوجها محمود .. وأن ماضيه بما يحتويه من مغامرات لا يهمني بما أنه قد انتهى
وبينما هي تغادر سمعت ريم تقول من ورائها بخبث :- المهم أن تتأكدي بأنه قد انتهى
أقفلت نانسي الباب ورائها بهدوء شديد .. بينما كانت النار تتأجج داخلها كالبركان الثائر .. إنها تكذب .. تكذب .. لا يمكن أن يكون محمود على علاقة بها .. إنه ليس موجودا طوال اليوم .. وعندما يتقابلان تكون هي موجودة دائما .. ولكن ريم أيضا تكون غائبة طوال النهار .. هل يتقابلان خارجا ؟ .. هل يلتقيان في تلك الشقة التي تحدثت عنها ريم ؟
ما الذي حدث لها ؟ لماذا تشعر بغضب شديد وبنيران تستعر في صدرها .؟ هل تغار ؟ .. لا .. هي لا تغار .. كما أن ريم تكذب بالتأكيد .. إنها تحاول إغضاب نانسي لا أكثر
في البهو وجدت السيدة منار توبخ إحدى الخادمات بعنف وقسوة .. وقفت لتعرف الحكاية وقد أشفقت على الفتاة المسكينة التي أجهشت في البكاء وهي تقف وسط شظايا ما كان يوما إناءا أثريا
كانت السيدة منار تقول :- هل تدركين ما فعلته بالضبط ؟ .. لقد حطمت تحفة فنية عمرها يعود إلى العديد من السنوات.. لن تبقي في هذا المنزل لحظة واحدة .. اجمعي أغراضك وارحلي من هنا
أخذت الفتاة تتوسل إليها .. بينما المرأة مصرة على موقفها .. اقتربت نانسي وهي تقول بهدوء :- لا أجد أي داعي لإجراء قاسي كهذا يا سيدة منار
عبست منار قائلة :- ليس هناك داعي أكبر مما فعلته هذه المهملة
:- ما زلت أجد بأن الفتاة لا تستحق الطرد بسبب خطأ بسيط قد يحدث مع أي منا
قالت منار بخشونة :- كان عليها أن تكون أكثر حذرا أثناء التنظيف .. لقد اتخذت القرار ولا رجعة فيه
ألقت نانسي نظرة سريعة على الفتاة المنهارة .. ثم قالت بحزم :- الأمر لم ينته يا عمتي .. الفتاة لن تخرج من هذا المنزل .. بل هي لن تعاقب على ما فعلته دون قصد منها
صاحت منار بغضب :- ومن الذي قرر هذا
قالت نانسي :- أنا
ساد صمت طويل نظرت خلاله كل منهما نحو الأخرى بتحدي وغضب .. استدارت نانسي نحو محمود الذي أقبل مع عمه على إثر الضجة .. قال السيد طلال :- ما الذي يحدث هنا ؟
قالت منار بغضب :- لقد حطمت هذه المهملة تحفة غالية الثمن .. ونانسي ترفض معاقبتها
عقد محمود حاجبيه ونظر إلى نانسي التي قالت بصرامة :- لم تقصد تحطيمها .. خطأ كهذا لا يستحق أن تطرد لأجله .. مهما كانت التحفة غالية الثمن .. فهي لا تستحق أن يقطع رزق إنسان لأجلها
استمر محمود في صمته وهو يستمع إليها .. فقالت :- كل إنسان معرض إلى الخطأ .. وهذه الفتاة عملت هنا منذ سنوات كما علمت .. أي أنها فعليا أصبحت جزء من العائلة .. وقد عملت لفترة طويلة على خدمة سكان هذا البيت وراحتهم .. وليس من العدل أن تلقى في الشارع بسبب خطأ بسيط .. إن حدث هذا فلن يشعر أي موظف في هذا المنزل بالأمان بعد الآن .. وبالتالي لن يكون مخلصا
قال محمود بهدوء :- هل تؤمنين بهذا حقا ؟
قالت بحزم :- بالتأكيد
نظر إلى عمه وزوجته قائلا :- مادامت نانسي ترى هذا فليحدث ما تريد .. إنها سيدة هذا المنزل على أي حال .. من حقها وضع القوانين كما تشاء
بدت منار وكأنها قد تلقت صفعة قوية على وجهها .. بينما أظلمت عينا عمه .. شعرت نانسي بالامتنان لمحمود لوقوفه إلى جانبها .. بل كانت أكثر ذهولا من الآخرين .. أسرعت الخادمة الشابة تشكرها بحرارة .. فأوقفتها نانسي قائلة بحزم :- عودي إلى عملك
خلال وجبة العشاء .. ساد صمت ثقيل بين الجالسين .. كانت صدمة كبيرة للسيدة منار أن يعلن محمود وبوضوح سحب البساط من تحت قدميها .. وتقديمه لنانسي على انها سيدة المنزل الجديدة .. لم تتح الفرصة لنانسي لأن تشكره كما يجب إذ استأذن ليدخل إلى مكتبه وبقي فيه لساعات .. بينما دخلت هي إلى المطبخ كعادتها بحثا عن حنان .. صديقتها الوحيدة في هذا المنزل .. ففوجئت بالترحيب الكبير من العاملات هذه المرة .. أعدت لها نجوى شرابا ساخنا احتسته نانسي وهي تجلس على طاولة كبيرة توسطت المطبخ .. جلست نجوى أمامها بعد أن استأذنت .. وأخذت تشكرها لما فعلته وتحكي لها عن السيدة منار وتصرفاتها المتعجرفة مع الخدم .. قالت :- ليس هناك من يحسن معاملتنا سوى السيد الصغير .. فراس .. أما أخته ريم فهي تتصرف منذ سنوات على أنها سيدة المنزل المستقبلية
سألتها نانسي بتردد :- ومحمود ؟
: - من النادر أن يحتك السيد محمود بالخدم .. إنه يتعامل بهدوء ووقار مع الجميع .. حتى مع أفراد عائلته
قالت حنان التي كانت تساعد في تجفيف الأطباق :- السيدة نانسي كانت دائما مخدومة مثالية .. كانت مخيفة في بعض الأحيان .. ولكنها لم تظلم أبدا أي أحد
ضحكت نانسي قائلة :- مخيفة ! .. هذه الكلمة لا تصف حقا ما كنت عليه
ابتسمت حنان قائلة :- أفضل استخدامها كي لا أغضب مخدومتي
نهضت نانسي قائلة :- سعدت للجلوس معكن
أسرعت نجوى تقول :- هل تحتاجين إلى أي شيء يا سيدة نانسي ؟
قالت بدهشة :- لا .. أشكرك
خرجت من المطبخ وهي تدرك بأنها قد احتوت كل خدم البيت إلى جانبها
قضت بعضا من الوقت إلى جانب الجدة ثم صادفت محمود وهي نازلة .. سألها مبتسما :- كيف حال دتي ؟
ابتسمت بدورها قائلة :- بخير 00 وترغب برؤيتك
قال وقد بدا عليه الإرهاق :- سأحدثها قليلا ثم أذهب إلى النوم .. ماذا عنك ؟
قالت بارتباك :- سأنتظر لينا .. فهي لم تعد بعد
استأذنته ونزلت إلى الطابق السفلي .. جلست في غرفة الجلوس إلى جوار النافذة تراقب الظلام الشديد .. لقد تأخرت لينا .. غفت دون أن تشعر .. لتصحو على صوت لينا تقول :- نانسي .. لقد عدت
فتحت نانسي عينيها .. ثم قالت عابسة :- لقد تأخرتما كثيرا
قال فراس الواقف إلى جوار لينا :- أنا أعتذر يا نانسي .. لقد دعوت لينا إلى العشاء
اعتذر وصعد إلى غرفته .. بينما أخذت لينا تحكي لها عن اليوم الرائع الذي قضته مع فراس .. ونانسي كانت تستمع إليها وعلى شفتيها ابتسامة باهتة .. كانت تود لو تحذر أختها من صداقتها لفراس .. إن فراس فتى طيب ومن الواضح أنه لا يشبه أخته في شيء .. ولمنه يبقى أحد أفراد هذه العائلة المريبة التي تكرهها وتتحين الفرص للنيل منها .. ولكن بريق السعادة الظاهر في عيني لينا منعها .. مر وقت طويل منذ وجدت نانسي أختها بهذه السعادة
أدركت بأن الوقت متأخر عندما نظرت إلى ساعتها .. فأوصلت لينا إلى غرفتها .. ثن فتحت باب غرفتها وتسللت بهدوء إلى الداخل .. كانت الغرفة مظلمة إلا من نور الأباجورة الصغيرة إلى جانب محمود الذي بدا واضحا استغراقه في النوم .. بدلت ملابسها بهدوء .. ثم تسللت إلى الفراش .. تقلبت كثيرا دون أن تتمكن من النوم وهي تتذكر كلام ريم .. هل كانت تكذب حقا عندما تحدثت عن علاقتهما ؟ .. لا .. لو كان محمود يحب ريم لتزوجها هي .. كما أنها لم تلحظ على محمود أي إشارة في وجود ريم تدل على وجود مشاعر بينهما .. ولكن ماذا عن الشقة المزعومة ؟ هل هي موجودة أم من نسج خيال ريم ؟ تذكرت هديل والصدمة على وجهها عندما عرفت بزواجه .. من الواضح أنها كانت تتوقع بطريقة ما أن يختارها هي .. أو تلك المدعوة نسرين .. لقد سألته إن عرفت نسرين بزواجه أم لا .. وهذا يعني بأن نسرين هذه كانت تعني له شيئا ..
زفرت بقوة وهي تتقلب فوق السرير .. الحيرة والغضب داخلها يفاجئانها .. عليها أن تعترف بأن ثمة غيرة تشتعل داخلها .. تذكرت الحديث الذي دار بينها وبين محمود في المكتب .. لقد كان رقيقا .. وحنونا .. ومتفهما .. لم يحدث أن تبادلا الحديث بهذا الشكل الودي من قبل .. وعندما كاد يقبلها شعرت بالخوف الكبير .. والفضول الشديد اتجاه تلك القبلة التي لم تحصل عليها .. لا تستطيع أن تتجاهل مشاعرها التي اجتاحتها وهو يميل نحوها .. لقد رغبت في تلك القبلة .. خافت منها .. ولكنها رغبت بها .. عللت لنفسها بانفعال أن اثنين لن يتجادلا حول جاذبية محمود .. وأنها إن مالت إليه فإن أحدا لن يلومها ..
عادت تتقلب وهي تفكر بأن محمود يشاركها السرير منذ أسابيع .. ولكنه لم يحاول يوما أن يلمسها .. بقدر ما سبب لها هذا من الراحة .. بقدر ما أزعجها .. أن ينام هو قرير العين إلى جانبها بينما تقضي هب الليل كله متوترة ومتحفزة تصارع وحدها تلك المشاعر المتضاربة داخلها .. انتابها قلق مفاجئ حول انجذابه نحوها .. ثم ذكرت نفسها بأنه قد تزوجها لهذا السبب بالذات ..
أدركت بأنها لن تتمكن من النوم حتى تطفئ نور الأباجورة الأصفر المستفز .. عل النعاس يعرف طريقه غليها ويسكت وساوسها وأفكارها .. اعتدلت .. وألقت نظرة على محمود الذي كان ينام على جانبه الأيمن حيث كان ظهره مواجها لها .. مدت يدها من فوقه محاولة الوصول إلى المصباح فلم تصل .. مدت جسدها بحذر بحيث لا تلمسه .. ومدت يدها .. إلا أنها وقبل أن تصل إلى المصباح شعرت بذراعه تلتف حول خصرها .. فصرخت بذعر عندما سحبها لتجد نفسها خلال لحظة ممددة على ظهرها وهو فوقها مكبلا حركتها
خفق قلبها وهي تجد عينيه اللامعتين تحدقان فيها عبر الضوء الخافت .. وأنفاسه الحارة تلفح وجهها المتورد اللاهث ... همست بصوت مرتعش :- محمود .. أنا ..
وقبل أن تكمل عبارتها .. أطبق شفتيه على شفتيها بقبلة طويلة .. متسلطة متملكة .. ارتعد جسدها بعنف عندما شعرت بملمس شفتيه القاسيتين .. وبقبلته تزداد حرارة وتملكا .. تمكنت بصعوبة من انتزاع نفسها من بين أحضانه وهي تهتف :- محمود .. أرجوك
أفلتت منه .. وقفزت من فوق السرير .. فالتصقت بالجدار وهي ترتجف بقوة وعنف .. اعتدل جالسا وهو يقول بانزعاج :- إلى متى يا نانسي ؟
منعت بصعوبة دمعة خوف من الفرار من عينيها .. بينما وقف وهو يقول بحزم :- لقد تركت لك كل الوقت اللازم لتتأقلمي مع وضعك الجديد يا نانسي .. لقد مضت فترة طويلة على وفاة والدتك .. وإن ام تتجاوزي بعد حزنك عليها فأنت في مشكلة
عندما لاحظته يقترب منها .. انكمشت على نفسها وهي تقول متلعثمة :- ليس الآن .. أرجوك .. لست جاهزة
عندما اقترب أكثر ركعت على الأرض مغمضة عينيها وهي تحيط جسدها بذراعيها صارخة بذعر :- أرجوك
سمعته يزفر بقوة وهو يقول بانزعاج :- اعتدلي يا نانسي .. أنا لن أهاجمك
رفعت رأسها إليه فوجدت انزعاجا حقيقيا في عينيه .. قال ببرود :- سأمنحك فرصة أخرى يا نانسي .. ولكن لا تتوقعي مني الكثير من الصبر
عاد إلى السرير من جديد دون أن يلقي نحوها نظرة أخرى .. فما كان منها إلا أن ارتدت روبها بيد مرتعشة .. وخرجت جريا من الغرفة
في غرفة المكتب .. حاولت أن تجد كتابا تقرأه فلم تستطع .. فجسدها لم يتوقف بعد عن الارتعاش ... لقد كانت تتساءل منذ دقائق فقط عن شعورها في حال قبلها .. ألا يقول المثل احذر مما تتمناه ؟
تذكرت قبلته .. ولمساته المتملكة .. الخوف الذي أصابها كان بسبب المشاعر الغريبة والمتضاربة التي انتابتها عندما قبلها .. لم تتخيل أبدا بأنها ستتأثر إلى هذا الحد .. لقد أصاب جسدها ما يشبه الشلل والضعف الشديد بحيث كادت تعجز عن مقاومته ... لا .. لن تعود إلى الغرفة .. ليس قبل أن ينام .. حتى أنها لا تثق به وهو نائم .. بل لا تثق بنفسها إن لمسها مجددا .. وبينما كانت تتخبط بين أفكارها .. راحت في نوم عميق
__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر
  #15  
قديم 02-01-2017, 06:52 PM
 

الفصل الخامس عشر





أكرهك



عندما استيقظت نانسي من النوم وجدت نفسها في سريرها .. تساءلت وهي تتثاءب عن كيفية وصولها إلى هنا .. لم تجد محمود إلى جوارها فأدركت بأنه قد غادر مبكرا .. تذكرت ما حدث ليلة الأمس وخمنت بأن محمود هو من حملها صباحا إلى هنا .. فهي لا تذكر أبدا عودتها إلى الغرفة .. بل هي ما كانت لتعود بإرادتها أبدا .. ارتعشت وهي تتذكر قبلته .. من الواضح أن الوقت الذي منحها إياه قد انتهى .. وأنه يريد أن يتمم آخر شروط اتفاقهما .
طرقت حنان الباب ودخلت قائلة ببشاشة :- صباح الخير
نهضت نانسي من السرير قائلة :- صباح الخير يا حنان
كانت قد اعتادت قضاء بعض الوقت مع حنان كل صباح قبل ذهابها إلى الجامعة .. فعليا .. حنان كانت صديقتها الوحيدة .. بينما هي تمشط شعرها بعد أن غسلت وجهها .. حكت لها باختصار ما حدث ليلة الامس .. فقالت حنان :- هذا متوقع يا نانسي .. لقد مضى على زواجكما أسابيع .. قالت نانسي متوترة :- لقد نجوت بنفسي هذه المرة .. أما في المرة القادمة فلن أعرف ما أفعله
قالت حنان بحدة :- ما عليك فعله ! .. هل نسيت بأنك زوجته ؟ إن طالب بك يا عزيزتي فهذا من حقه
عبست نانسي بينما أكملت حنان :- إن لم تمنحي زوجك ما يريد فسيضطر للبحث عمن ترضي رغباته في مكان آخر
وضعت نانسي بعض اللون الوردي على وجنتيها بعصبية .. إن لم يكن يفعل هذا منذ الآن
قالت باقتضاب :- سأذهب إلى الجامعة .. هلا أخرجت لي الكنزة الزرقاء ؟
في الطريق إلى الجامعة قال لها مأمون :- لقد طلب مني السيد محمود ألا آتي لاصطحابك يا سيدتي .. قال بأنه سيوصلك بنفسه اليوم
نضى اليوم بسرعة .. لم تر خلاله ماهر إلا أثناء المحاضرة التي كان محمود سيلقيها .. جلس إلى جانبها على المقعد الأخير الذي اعتادا الجلوس عليه وهو يقول :- أنا آسف لتأخري
منحته ابتسامة سريعة .. سرعان ما اختفت عندما دخل محمود إلى القاعة ملقيا التحية .. بحث عنها بعينيه حتى وجدها ..
عقد حاجبيه وهو ينظر إلى ماهر .. بدأ بإلقاء المحاضرة بأسلوبه المعتاد السلس والحازم .. كانت لديه طريقة خاصة في جذب الطلاب إلى ما يقوله .. وبث الحماس داخلهم .. لاحظت بانتباه الفتيات اللاتي احتللن الصف الأول ويراقبنه بانبهار .. لوهلة انتابها شعور بالفخر لأن هذا الرجل هو زوجها .. لم ينظر إليها أبدا خلال المحاضرة .. وعندما انتهى الوقت .. خرج جزء من الطلاب وتجمع جزء آخر حوله يطرح عليه الأسئلة .. بينما تسللت هي إلى الخارج برفقة ماهر .. وفي الخارج خاطبتها إحدى زميلاتها قائلة :- كيف هي الأحوال مع الدكتور محمود يا نانسي ؟ لا تبدوان لي كعروسين في شهر العسل
قالت نانسي بهدوء :- هل توقعت أن نتبادل الغول في العلن ؟
هزت الفتاة كتفيها قائلة :- على كل حال .. فلتعلمي بأن هناك العشرات من الحاقدات عليك لاختطافك أكثر عزاب الكلية جاذبية
ابتسمت نانسي قائلة بلؤم :- أنا لا أستحق ما هو أقل .. كما أنني لم أختطفه .. محمود هو من اختطفني
نجحت في أداء دورها ببراعة .. فهي لن تسمح لأي كان بأن يفكر بأنها لم تعد نانسي القديمة .. القوية المقاتلة والمتباهية لمجرد أنها قد تزوجت محمود
سألها ماهر :- هل ستصعدين إلى الكافيتريا
:- ليس اليوم يا ماهر .. سأوافي الدكتور محمود فهو ينتظرني في مكتبه لنذهب معا
صعدت الدرج بخفة نحو مكتب محمود .. كانت تعرف أين يقع بالضبط فقد سبق ودخلته مرة من قبل .. عندما وقع شجارها الأول مع محمود .. طرقت الباب بهدوء حتى سمعت صوته يأذن لها بالدخول .. لم تجده وحيدا .. بل كانت معه الآنسة ديمة .. إحدى الأستاذات في الكلية .. نظرت الآنسة ديمة إليها من خلال نظاراتها الأنيقة تتفحصها بفضول .. بينما قال مححمود :- ادخلي يا نانسي .. أنت تعرفين بالتأكيد الآنسة ديمة .. هذه زوجتي نانسي
كانت الآنسة ديمة متوسطة الجمال طويلة القامة بجسد نحيل .. ترتدي ملابس أنيقة وعملية .. تذكرت نانسي الاشاعات التي كان الجميع في الكلية يتناقلونها عن وجود علاقة بينهما .. وأن الأستاذة التي لا تصغره بكثير كانت تجد فيه العريس المناسب .. ابتسمت نانسي وهي تقول :- أهلا يا آنسة ديمة .. عفوا فأنا لم أعرف بأن محمود ليس وحيدا
نظرت إليه قائلة بدلال :- ما الأمر يا دكتور محمود ؟ ألم يكن من المقرر أن تقلني إلى البيت ؟
رفع حاجبيه بطريقة دلت على تعجبه وقال بهدوء :- طبعا سأفعل
نهضت ديمة قائلة بحرج :- أستأذن .. سنكمل حديثنا فيما بعد يا دكتور محمود
راقبتها نانسي وهي تخرج .. قطعا لن تفكر بعد الآن بالنظر إلى زوجها .. نظرت إلى محمود فرأته عابسا يقول :- أنت لن تتغيري أبدا
تناول معطفه الطويل وارتداه فوق بذلته الرمادية الأنيقة قائلا بجفاف :- تفضلي أمامي
أقفل باب المكتب .. وسار معها خارجا من الكلية .. شعرت نانسي بأنظار الجميع تتجه نحوهما .. فأدركت بأنها الآن تنتمي إلى محمود .. وأن تقدير الجميع لها يعود لهذا السبب .. ’لمها هذا بشدة .. هي تحت حماية محمود الآن .. ولم تعرف لماذا تسبب لها هذه الحقيقة الغضب ..
طوال الطريق إلى البيت لم يتحدثا بكلمة .. فأدركت بأنه ما يزال غاضبا لما حدث ليلة الأمس .. هل مان يتوقع منها أن تفتح لها ذراعيه وتستقبله بالأحضان ؟ .. انتظر منها أن تترجل من السيارة عندما وصلا .. فقالت مترددة :- ألن تنزل ؟
قال باقتضاب :- لا .. لدي عمل
وعندما لاحظ ظلال الاحباط على وجهها خفت حدة صوته وهو يقول :- لن أتأخر .. سأعود بعد ساعتين
ترجلت وراقبته يبتعد وهي تتساءل إن كان سيأتي ذلم اليوم الذي يصبحان فيه زوجين طبيعيين .. في داخلها .. رغبت بهذا كثيرا .. ولكنها لسبب ما شعرت بأن أمنيتها هذه بعيدة المنال
غيرت ملابسها .. ثم نزلت إلى المطبخ لتبحث عما تأكله .. سألت عن لينا فعلمت بأنها قد خرجت مع فراس مما أغضبها بشدة .. وقررت بأن حديثا طويلا ينتظر لينا .. لينا يجب أن تعود إلى المدرسة
صعدت إلى جدة محمود حيث كانت الممرضة تقرأ لها الجريدة .. عرضت مبتسمة أن تقوم هي بهذه المهمة .. وما إن جلست مكان الممرضة حتى سألتها الجدة :- أصدقيني القول يا نانسي.. هل أنت ومحمود سعيدين ؟
قالت كاذبة :- طبعا يا جدتي .. لا يمكن أن نكون أكثر سعادة
قالت الجدة بقلق :- ثمة شيء غير طبيعي في علاقتكما .. ربا كوني عمياء يجعلني أكثر حساسية للصوت .. لم يبد لي محمود طبيعيا هذا الصباح .. وأنت أيضا لست كعادتك
تمتمت نانسي :- لا شيء غير قابل للإصلاح .. صدقيني يا جدتي .. ما من داعي للقلق
قرأت لها قليلا .. ثم انسحبت من الغرفة عندما حان موعد قيلولة الجدة .. فكرت بأن تنام بدورها قليلا .. ولكنها لم ترغب بأن يأت محمود ويجدها نائمة .. نزلت إلى غرفة الجلوس .. فوجدت ريم هناك تتحدث هاتفيا إلى إحدى صديقاتها .. فجلست نانسي على إحدى الأرائك واضعة إحدى ساقيها فوق الأخرى .. ما من عمل تقوم به سوى مشاكسة ريم .. إنها تحب هذا
أنهت ريم مكالمتها .. وأخذت تنظر إلى نانسي مليا .. سألتها نانسي :- أين العمة منار ؟
:- ليست في البيت .. أي مكان هو أفضل من التواجد معك
قالت نانسي بحلاوة :- حقا .. ولماذا أجدك هنا ؟
اعتدلت ريم محاولة كبت غضبها .. ثم قالت :- هل تعرفين مع من كنت أتحدث ؟
هزت نانسي كتفيها قائلة :- ولماذا قد أهتم ؟
تجاهلت ريم كلامها وقالت :- لقد كنت أتكلم مع نسرين .. هل يعني لك الاسم شيئا ؟
لم ترد نانسي .. ولكن التوتر والحذر نبها جميع حواسها .. قالت ريم بخبث :- إنها خطيبة محمود
شعرت نانسي وكأنها قد تلقت صفعة على وجهها وهي تنزل ساقها قائلة باضطراب :- تعنين خطيبته السابقة
ابتسمت ريم متهكمة وهي تقول :- بل هي ما زالت خطيبته كما يعلم الجميع .. لقد كان من المقرر أن يتزوجا قريبا .. إلا أن محمود اختفى فجأة عن الأضواء .. وتوقف عن الاتصال بنسرين .. ولم تسمع عنه أي شيء إلا خبر زواجه المفاجئ .. وممن ؟
رمقتها بازدراء شديد وهي تقول :- من أين التقطك محمود ؟ .. هل وجدك عند بوابة السجن .. تبكين أباك الذي مات ذليلا في أحد جحوره بعد فضيحته ؟
تمتمت نانسي :- أيتها الأفعى
أطلقت ريم ضحكة عالية ساخرة وهي تقول :- هل تحاولين الهرب من الحقيقة يا نانسي ؟ لقد تزوجك محمود إما شفقة عليك .. وإما لأنه لم يستطع الحصول عليك بطريقة أخرى .. ولكن أتعلمين ؟
بدت في عينيها نظرة حقد شديد وهي تقول :- ربما اختارك لأنك أرخص من غيرك .. والرخيصة دائما ما تكون مرغوبة من الرجال .. ولكن ليس لفترة طويلة .. ماهي إلا شهر أو اثنين حتى يما منك .. ويرميك في الشارع .. ثم يبحث بعدها عن المرأة الملائمة له .. والتي تستحق أن تحمل أطفاله .. واسمه إلى الأبد
نهضت نانسي ببطء .. ثم فالت بهدوء مخيف :- منذ متى ؟
رددت ريم بحذر :- متى ماذا ؟
:- منذ متى وأنت تركضين خلف محمود وتتوسلين إليه أن يتزوج بك دون فائدة ؟ ربما منذ طفولتك انتابتك تلك الأحلام والطموحات بأن تصبحي زوجته .. وأن تسودي هذا البيت أنت وأمك .. كم من المؤسف ألا تتحقق أحلامك .. وأن تراقبي محمود وهو يتزوج بأخرى
اقتربت منها وهي تقول بقسوة :- يجب أن تدركي يا ريم بأنني أنا زوجة محمود .. سواء كان هذا مؤقتا أم لا .. فأنا زوجته الآن .. وسيدة هذا المنزل .. وحين تتحدثين إلي بهذه الطريقة مجددا .. قد تكون النتيجة رميك أنت وعائلتك خارج هذا البيت
امتقع وجه ريم .. ولم تجد ما ترد به على نانسي التي شعرت فجأة بمن يراقبها .. استدارت لتجد محمود واقفا عند الباب وفي عينيه نظرة غضب شديدة .. تجاهلته وهي تقول لريم باستعلاء :- عن إذنك
غادرت الغرفة بوقار مرورا من أمامه .. وما إن اختفت عن أنظار ريم حتى صعدت جريا إلى غرفتها علما منها بأنه سيلحق بها .. أغلقت الباب خلفها . ثم جلست أمام منضدة الزينة تتظاهر بتمشيط شعرها بيد مرتعشة .. محاولة التظاهر بالهدوء .
دخل إلى الغرفة وصفق الباب خلفه بقوة .. فقالت بلا مبالاة :- لقد عدت باكرا اليوم
قال ببرود :- أشكر الله على عودتي باكرا لأكتشف الطريقة التي تعاملين بها عائلتي يا نانسي
نهضت لتواجهه وهي تقول بحدة :- أنت لم تكن موجودا في بداية الحديث ..
صاح بغضب :- مهما كان دافعك فلا شيء على الاطلاق يمنحك الحق في إهانة عائلتي ومعاملتهم كأنهم أشخاص من الدرجة الثانية
كانت هذه هي المرة الاولى التي تجد فيها محمود غاضبا بهذا الشكل .. لقد احتقن وجهه واطلت نظرة مخيفة من عينيه .. أكمل صائحا :- لقد ظننت بأنك ربما تغيرت بعد كل ما حدث لك .. ولكن لا .. ما ولت كما أنت الفتاة المتعجرفة والمغرورة .. الأنانية التي لا تحب إلا نفسها
أخذ نفسا عميقا وهو يقول بصرامة :- إياك أن تنسي حقيقة وضعك يا نانسي قبل أن تتعالي على الآخرين .. تذكري فقط كيف وصلت إلى هذا المنزل ؟ .. وأنك لو لم أتزوج بك .. لربما كانت نهايتك كوالدك .. فتاة مثلك قد تفعل المستحيل حتى تحافظ على مستوى معيشتها .. قد تسرق كما فعل والدك .. وقد تبيع نفسها كما فعلت أنت
قبل ان تفكر .. سقطت يدها على وجهه بصفعة دوى صوتها عاليا .. وقبل أن تفيق من ذهولها لفعلتها .. كان قد هوى على وجهها بصفعة عنيفة جعلتها تصرخ بألم وتتراجع إلى الخلف متعثرة فوق منضدة الزينة مما سبب سقوط بعض الأغراض على الأرض .. جذبها من شعرها ليقربها منه وهو يقول بلهجة مخيفة :- إياك أن تفعليها مجددا يا نانسي .. وتذكري بأنني لن أكون أبدا أحد العبيد الذين كانو يسعون تحت قدميك طلبا لرضاك .. وإن فعلتها مجددا .. فأنا أعدك بأن ردي لن يكون سهلا أبدا .. بل لن تتخيلي حتى في أسوأ كوابيسك كيف سيكون
دفعها بعيدا عنه وخرج صافقا الباب خلفها .. أطلقت صرخة ألم وغضب وهي تستدير لتمسك بصورته وتقذف بها على الأرض بكل قوتها .. وتنهال عليها بحذائها .. ولم تتوقف حتى أصبح زجاجها فتاتا
ومع هذا لم تستطع أن تهدأ.. كانت دموعها تسيل بغزارة وهي تتحسس موضع صفعته الذي كان ما يزال مخدرا.. الوغد .. الحقير .. لم يسبق لها أن صفعت من قبل أي أحد من قبل .. بأي حق يسمح لنفسه بإهانتها وجرح كبريائها .. بصفعها لأجل .. لأجل ريم
أخذت تتحرك في الغرفة كالنمر الحبيس .. شعرت بأن أنفاسها تضيق داخل الجدران التي بدت لها وكأنها تميل لتطبق على أنفاسها .. يجب أن تخرج من هذا المكان وإلا فإنها ستموت اختناقا
تناولت حقيبة يدها وخرجت لا ترى أمامها .. لمحت محمود يتحدث هاتفيا من خلال الباب المفتوح لغرفة المكتب .. فتجاهلته وتابعت طريقها .. خرجت لتجد مأمون يمسح السيارة .. فدخلت إلى المقعد الخلفي دون أن توجه له أي كلمة .. فأسرع بارتباك يحتل مكانه خلف المقود قائلا :- إلى أين يا سيدتي ؟
قالت باقتضاب :- انطلق ولا تسأل
انطلق بالسيارة صامتا .. فأرخت رأسها على المقعد وهي ما تزال تخفي وجهها بكفها حتى لا يرى مأمون أثر الصفعة على خدها .. أوقفته في منتصف المدينة .. نزلت وصفقت الباب خلفها دون أن ترد على مأمون الذي هتف :- متى أعود لأخذك يا سيدتي ؟
سارت دون توقف وهي تحاول إخماد النار المشتعلة داخلها .. كانت تشد قبضتيها بقوة وكأنها في أي لحظة ستنهال على أو عابر إلى جوارها ضربا .. كانت ما تزال تشعر بالإهانة والغضب .. بل هو أكبر بكثير من الغضب .. شيء دفعها للتفكير بطرق خيالية للانتقام من محمود .. ولكن كيف ؟ كيف ؟
توقفت فجأة عند متجر للأدوات المنزلية .. شردت لحظات وهي تتأمل الواجهة ثم دخلت وهي تقول للبائع :- أريد هذه الدزينة من الأكواب الزجاجية
منحها ابتسامة عريضة وهو يقول :- يسعدني أن أعرض عليك ما لدي يا سيدتي .. توجد ألوان مختلفة وأنواع ..
بتر عبارته عندما لا حظ الشر المطلق في عينيها وأسرع يلبي رغبتها
خلال دقيقة كانت قد اشترت الأكواب وخرجت من المتجر.. سارت قليلا حتى وجدت زقاقا ضيقا لا يعبره الكثير من الناس .. أخرجت الأكواب وبدأت ترميها الواحدة تلو الأخرى نحو أحد الجدران لتراقبها وهي تتحطم متخيلة أن الجدار هو رأس محمود .. شعرت بوجود من يراقبها فاستدارت لترى امرأة بدينة مسنة .. وشاب صغير على بعد خطوات ينظران إليها بدهشة .. صاحت بخشونة وهي تلوح بالكوب الأخير :- ما الأمر ؟ أهذه أول مرة تريان فيها مجنونة ؟
ابتعدا بذعر عن مرمى الكوب .. وعندما حطمته بدوره زفرت بقوة .. الآن هي أحسن حالا
وجدت نفسها بعد دقائق من مواصلة السير في وسط السوق.. ضاعت بعد ذلك وسط الزحام ..والناس الساعين بين المتاجر .. أخذت تتأمل الواجهات بتمعن .. لو كانت في مزاج مختلف لأفرغت كل مافي حقيبتها من أموال ولكنها الآن تفكر في أمر مختلف .. كيف ستستمر في العيش مع محمود بهذه الطريقة ؟ .. شجارات وصدامات .. وفي النهاية يصفعها لأجل ريم .. الحقير .. حتى والدها لم يرفع يده عليها يوما .. فكيف جرؤ هو ؟ أي نعم لقد سبق وتلقت علقة ساخنة من جابر .. ولكن لا مجال للمقارنة .. فمحمود زوجها .. من حقها عليه أن يحميها من سموم ريم .. لو أنه استمع إلى ما قالته لقدر سبب تصرفها .. ولكنه حتى لم يسألها عما دفعها لقول ما قالته .. وكأنه قد تحين الفرصة لإهانتها وتذكيرها بوضعها .. بأنه قد اشتراها .. لقد تأكدت الآن بأن ماهر لم يكن يكذب .. فهي بالنسبة لمحمود زوجة اشتراها في موسم التخفيضات .. ولا أحد يعرف متى سيمل منها .. ويرميها كما قالت ريم بالضبط
جلست في إحدى المقاهي المطلة على الشارع .. واحتست بشرود فنجان القهوة الذي طلبته .. دفاعه المحموم عن ريم يؤكد شكوكها .. فقد جمعت بينهما علاقة فيما مضى قد سبق وأكدها فراس .. أما ما تأكدت منه الآن هو أن هناك شيء ما زال مشتعلا بينهما .. أغضبها هذا بشدة .. وانتابها شعور بان محمود يجب أن يكون لها وحدها .. ثم عادت تشتم نفسها .. هي لم تعد تريده .. بل هي لم ترده يوما .. فلم كل هذا الغضب .. على كل حال .. إذا ظن محمود بأنه بصفعته سيوقفها عن إثارة جنون ريم فإنه مخطئ .. ارتفع رنين هاتفها المحمول فنظرت بغل نحو اسم زوجها .. ثم أقفلت الهاتف بلا تردد .. كان الوقت قد تأخر .. والظلام بدأ يخيم على المدينة .. لابد أنه يتساءل بجنون عن مكانها .. ليس اهتماما وقلقا بقدر ما هو غيرة على إحدى ممتلكاته التي دفع فيها ثمنا باهظا .. هي لن تعود إلى البيت حتى تكون جاهزة لرؤية وجهه دون أن تقتلع عينيه .. يجب أن تحافظ على هدوئها وألا تسمح لسكان ذلك المنزل المجانين بإثارة غضبها .. لن تنجح العصبية في منحها الانتصار الذي تنشده .. بل المكر .. مكر النساء .. ابتسمت بخبث وهي تفكر بالطرق المختلفة التي تستطيع فيها إثارة جنون محمود .. ثم دفعت ثمن فنجان القهوة .. ونهضت تكمل جولتها
بعد فترة طويلة كانت نانسي قد بدأت تشعر بالتعب ..وعندما بدأت السماء تزخ بهدوء قررت بأن الوقت قد حان لتعود إلى المنزل .. وقفت على الرصيف تراقب السيارات بتردد .. إن أخذ سيارة أجرة إلى تلك المنطقة البعيدة لمخاطرة كبيرة .. وهي تعترف بأنها منذ هجوم جابر عليها أصبحت أكثر خوفا وحذرا .. بينما هي مستغرقة في التفكير لم تشعر بالصبي الذي اقترب منها بحذر .. وإذ به يختطف حقيبة يدها الصغيرة ويندفع راكضا .. صحت من صدمتها سريعا واندفعت تركض خلفه وهي تصيح بذعر :- لص .. أمسكوا اللص
لكن الفتى كان أسرع منها بكثير .. بينما أعاقها حذائها ذو الكعب العالي .. عبر الفتى الشارع فجأة فلحقت به دون تفكير .. وإذ بأصوات السيارات تصرخ منبهة .. وعندما توقفت أخيرا كانت إحدى السيارات تحاول جاهدة تفاديها .. لينتهي الأمر بها تصطدم بحافة السيارة وتسقط على الأرض متدحرجة فوق الإسفلت بقسوة .. فتحت عينيها بصعوبة لتجد عشرات الرؤوس تطل عليها بقلق وذعر .. صاح شاب بدا من شحوب وجهه أنه سائق السيارة :- هل أنت بخير يا آنسة ؟
نهضت بصعوبة وهي تشعر بالألم في كل جزء من جسدها .. وقفت تحاول الحفاظ على توازنها فسألها الشاب :- هل أنت بخير ؟ هل أوصلك إلى المستشفى : هل أتصل بعائلتك ؟
كان واضحا بأن خوفه كان من توريطها له في المشاكل أكثر م سلامتها .. فقالت بعصبية :- أنا بخير تماما
لاحظت بانزعاج الوحل الذي لطخ ثيابها .. تنورتها التي تمزقت بخط طولي من الأسفل حتى منتصف فخذها .. يا إلهي .. إنها تبدو مريعة .. ابتعدت عن الزحام والاعين الفضولية وهي تعرج بسبب تحطم أحد كعبي حذائها وكأن المصائب لا تأتي إلا دفعة واحدة .. ازدادت الأمطار حدة لتغرقها تماما من رأسها حتى أخمص قدميها .. وقفت على الرصيف .. ولفت نفسها بذراعيها وهي ترتعش من البرد وقد نسيت معطفها في غمرة غضبها وعجلتها .. كيف ستعود إلى البيت ؟ .. ليتها لم تصرف مأمون دون أن تطلب منه العودة
وقفت إلى جانب الرصيف في مكان لا تصله سيول الأمطار ووقفت خافضة رأسها تفكر بحل دون فائدة .. كان الناس يعبرون إلى جانبها دون أن يمتنعوا عن النظر إليها .. الغريب أنها بالرغم من بؤس حالتها .. فقد كانت تبدو جذابة وجميلة بشكل غريب .. بشعرها المبلل الذي التصق بعنقها وجبينها .. وملابسها التي التصقت بجسدها .. كانت أنظار الناس تختلف من شخص إلى آخر .. بعضهم كان ينظر إليها بشفقة .. والبعض الآخر ازدراءا ظنا منهم أنها إحدى الفتيات اللاتي ينتظرن من يتودد إليهن .. وآخرون كانوا يتأملونها بوقاحة علهم يحصلون على دعوة منها
سرعان ما خلت الشوارع في هذا الجو الماطر .. ووجدت نفسها وحيدة .. شعرت بالخوف والتعب .. والألم يصرخ من كل جزء منها .. استندت إلى الجدار بإرهاق سامحة للدموع بأن تسيل من عينيها بغزارة
.. لم يكن أمامها حل سوى الاتصال بمحمود .. مهما كان الأمر مذل لها .. فقد كانت تفضل الموت بردا على الاتصال به .. وبما أنها قد فقدت هاتفها المحمول مع حقيبتها .. فعليها الاتصال به من أي هاتف قريب ..
.. وما إن خطت خطوتين حتى توقفت سيارة إلى جانب الطريق مصدرة ضجيجا عاليا .. تعرفت إلى السيارة فور نظرها إليها بطرف عينها .. وإلى صاحبها الذي ترجل منها وهو يصفق الباب خلفه بعنف .. بالرغم من دموع السعادة التي سالت من عينيها إلا أنها تظاهرت بأنها لا تراه وقد لاحت ذكرى صفعته أمام عينيها .. تابعت سيرها .. شهقت عندما أمسكت يده بذراعها وجذبتها لتستدير نحوه بقسوة .. صاح بغضب :- أنا أبحث عنك منذ ساعات أيتها الغبية بينما تتسكعين هنا كال....
توقف عن الكلام عندما لاحظ دموعها التي ملأت وجهها اشاحب .. وملابسها التي اتسخت .. عقد حاجبيه قائلا بانزعاج :- ما الذي حدث لك ؟
دون أن تجيبه ترنحت وكادت تسقط لو لم يمسك بها بين ذراعيه .. خلع معطفه وأحاطها به وقادها إلى السيارة حيث أجلسها في المقعد الأمامي.. ودار حول السيارة ليجلس خلف المقود .. ما إن انطلقت السيارة حتى أخرج هاتفه المحمول وسمعته يتحدث إلى شخص ما ويقول :- لقد وجدتها .. أوقفوا البحث
هل كان يبحث عنها طوال هذ الوقت ؟.. كان الإرهاق واضحا على وجهه إن كانت قد سببت له القلق فهي ليست آسفة .. أنهى المكالمة ونظر إليها صائحا بغضب :- أنت فتاة عديمة المسؤولية .. لقد خصصت لك سيارة وسائق فقط لأجل تنقلاتك .. كدت أفصل مأمون اليوم عندما أخبرني ببساطة بأنك صرفته دون أن تحددي له موعدا للعودة .. هل تعلمين بأنني ما إن بدأ الوقت يتأخر حتى بحثت عنك في المستشفيات ومخافر الشرطة .. وأرسلت من يبحث عنك في كل مكان وأنا أتصور مكروها قد أصابك .. لقد جن جنوني وأنا أجوب الشوارع بحثا عنك وأنا أعرف بألا مكان تلجئين إليه
كانت أعصابها مرهقة إلى حد دفعها للصراخ بانفعال :- توقف .. أتوسل إليك أن تتوقف .. لست قادرة على سماع المزيد من التوبيخ والإهانات
خفت حدة صوته وهو يقول :- لماذا لم تعودي إلى البيت ؟ .. لماذا ظللت تجوبين الشوارع حتى هذا الوقت المتأخر دون أن تتعبي نفسك بالإجابة عن اتصالاتي ؟
سالت دموعها وهي تقول بصوت مرتجف :- لم أستطع .. لقد سرقت حقيبة يدي .. وفقدت معها هاتفي وكل ما أحمل من مال
لم يكن الوقت مناسبا لتخبره بأنها تعمدت تجاهل اتصالاته معظم الوقت
صمت للحظات ثم قال :- كان بإمكانك أخذ سيارة أجرة وتأجيل الدفع حتى وصولك إلى البيت
خرج صوتها أقرب إلى النشيج وهي تقول :- لقد حاولت .. ولكنني خفت .. خفت من سلك ذلك الطريق البعيد والمهجور في سيارة غريبة
صمت للحظات وقد بدا في عينيه تعاطف غريب .. تمتم :- لماذا لم تحاولي الاتصال بي ؟
تركت دموعها تسيل مجددا فقال بحدة :- تبا لك يا نانسي .. بالطبع كرامتك وكبريائك المجروح منعاك من الاتصال بي .. كنت تفضلين الموت هناك على قارعة الطريق من البرد والجوع والتعب على أن تتنازلي وتتصلي بي
أرخت رأسها على النافذة غير قادرة على الرد .. فقال وقد خفت حدة صوته :- لقد قلقت عليك كثيرا .. ولينا أيضا قلقة .. فأنت لم يسبق أن تأخرت بهذا الشكل .. لقد أخبرتها بأنك تزورين إحدى صديقاتك .. ولكنني أشك بأنها قد صدقتني
أغمضت عينيها .. كيف لم تفكر بلينا ؟ لابد أنها جزعة الآن .. وتتذكر المرة الوحيدة التي تأخرت فيها عندما هاجمها جابر .. لم تعد قادرة على التركيز قفد كانت مرهقة للغاية .. واهتزاز السيارة ساهم في جعلها تغرق في نوم مضطرب
فتحت ينيها جزعة عندما فتح الباب المجاور لها .. فقالت باضطراب :- ماذا حدث ؟
أطلقت صيحة قصيرة عندما انحنى محمود ليحملها واضعا إحدى يديه تحت ركبتيها والأخرى خلف ظهرها .. صرخت باحتجاج وضعف طالبة منه أن ينزلها .. فتجاهلها وهو يدخل إلى البيت .. ليرى حنان في انتظارهما قائلة بقلق :- ما خطب السيدة نانسي ؟
قال :- متعبة قليلا .. أتبعيني إلى الغرفة
صعد بها الدرج بينما استسلمت نانسي لحمله لها .. بل أسندت رأسها على صدره باسترخاء وقد شعرت بأنها بين ذراعيه محمية تماما .. بينما لحقت بهما حنان راكضة .. عندما دخل محمود إلى الغرفة قال بحزم :- جهزي لها الحمام وبعض الملابس الدافئة
أسرعت حنان تنفذ أمره بينما أوقف هو نانسي في منتصف الغرفة فانزلق معطفه من فوق كتفيها على الأرض .. تماسكت بصعوبة مانعة نفسها من السقوط من فرط التعب .. فوجئت به يمد يديه نحو قميصها يحل أزراره بسرعة .. فقاومت يديه وهي تصيح بذعر :- ماذا تفعل ؟
قال عابسا :- أنزع عنك هذه الملابس المبللة حتى لا تصابي بالمرض
استمرت في إبعاد يديه قائلة :- سأنزعها بنفسي
أنت بالكاد تستطيعين رفع يديك
سرعان ما سحب القميص بعيدا عنها فأسرعت تخفي جسدها بذراعيها بسرعة ودموعها تسيل من عينيها بحرج .. أخذت ترتعش من الخوف والبرد إلا أن نظراته إليها لم تكن على الاطلاق نظرة رجل إلى امرأة .. صاح بانزعاج وهو يرى الكدمات والجروح التي توزعت على ظهرها وكتفيها :- ما هذا ؟
أخذ يتحسس الكدمات فتأوهت بألم .. قال بقلق :- كيف أصبت بهذه الكدمات ؟
نظر إلى تنورتها الممزقة والتي لم يلاحظها حتى الآن ..:- ما الذي حدث لك بالضبط ؟
قالت بضعف :- لقد صدمتني سيارة وأنا ألحق باللص الذي سرق حقيبتي
هتف من بين أنفاسه :- رباه
أمسك كتفيها وهو يقول بعنف :- لقد كدت تقتلين نفسك يا نانسي .. هل تدركين هذا ؟
أخذ يهزها بقوة مما جعلها تصرخ بألم .. وتفقد قدرتها على الوقوف .. أمسك بها بقوة وضمها إلى صدره الصلب ليمنعها من الوقوع .. خرجت حنان في تلك اللحظة وهي تقول بارتباك :- الحمام جاهز يا سيدي
حملها بين يديه وأدخلها إلى الحمام فأسرعت حنان تقول :- لا تتعب نفسك يا دكتور محمود .. سأساعدها أنا
تردد للحظات قبل أن ينزلها أرضا ويتركها لحنان مغادرا المكان تماما .. بعد الحمام ساعدتها حنان على ارتداء ملابسها وهي تقول :- لو لم أتدخل .. لأصر الدكتور محمود على مساعدتك بنفسه في الحمام .. ترين هنا بأنك تدينين إلي بالكثير يا عزيزتي
كانت نانسي أكثر إرهاقا من أن ترد على مداعبة حنان التي أكملت :- لقد كان الدكتور محمود قلقا عليك .. لم يترك أحدا إلا وسأله إن علم بوجهتك .. لقد بدا كالوحش الكاسر وهو يتخيل مكروها أصابك
ساعدتها بحذر على التمدد على السرير .. فدخل محمود في هذه اللحظة وهو يقول :- يمكنك الانصراف الآن يا حنان
أمسكت نانسي بيدها متوسلة لها بعينيها أن تبقى .. ولكن حنان ربتت عليها مطمئنة .. ثم خرجت .. اقترب منها محمود قائلا بوجوم :- كيف تشعرين الآن ؟
تمتمت بإرهاق :- بخير .. ما دمت بعيدا عني
لم يعلق على كلامها .. ولكنه قال باقتضاب :- لقد أحضرت مطهرا لجروحك
جلس إلى جانبها على طرف السرير وأزاح الغطاء عنها متجاهلا احتجاجها الضعيف .. رفع قميص نومها ليكشف عن فخذها الأيمن حيث وقع بصره على الجرح الكبير السطحي إنما مخيف الشكل .. وقال بانزعاج :- أنت محظوظة لعدم إصابتك بكسور خطيرة
حاولت أن تنزل القميص فمنعها .. ثم راقبته وهو يبلل قطعة قطن بالسائل .. ثم يمررها على الجرح فأغمضت عينيها متألمة وهي تقول :- أنت عنيد .. أليس كذلك ؟ تحصل على ما تريد بسهولة
قال بهدوء :- كما ترين
كانت قد بدأت تتحدث دون وعي وقد استولى عليها الإرهاق :- أكره عنادك .. أكره عجرفتك .. اكره إهاناتك المستمرة لي
قال بصبر :- أنا لا أحب أن أهينك يا نانسي .. أنت من يضطرني بتصرفاتك الرعناء
أدارها لتتمدد على جانبها .. وكشف عن الجروح التي سبق ورآها في كتفيها وذراعيها .. وأخذ يطهر الجروح بينما كانت تقول بمرارة :- أنت شرير .. أنت لا تختلف عنهم .. أنت مثلهم بالضبط
سالت دموعها بينما سألها بتوتر :- من تقصدين ؟
لم تسمعه .. بل أكملت :- هم أرادو أذيتي .. أرادو إهانتي وإذلالي .. وأنت أيضا
تحت ملمس يديه الرقيقتين بدأت تشعر بالراحة والاسترخاء .. فأغمضت عينيها باستسلام لسلطان النوم ... إلا أنه أدارها إليه وهو يقول متوترا :- من هم يا نانسي ؟
قالت بنعاس :- لماذا تجلس معي هنا ؟ اذهب إلى صديقاتك .. هن يناسبنك أكثر مني .. على الأقل أنت تكن لهن بعض الاحترام والتقدير ..ولا تكرههن كما تكرهني
تنهد قائلا :- أنا لا أكرهك يا نانسي
:- اذهب إلى ريم .. بل إلى نسرين .. أليست خطيبتك ؟
ردد عاقدا حاجبيه :- نسرين
فتحت عينيها .. ونظرت ناعسة إلى وجهه الغامض .. ثم رفعت يدها تتحسس ذقنه الخشنة وهي تهمس :- أنت وسيم جدا
لمست أناملها شفتيه .. ثم انزلقت إلى عنقه قبل أن تسقط إلى جوارها وقد غرقت تماما في النوم .. زفر بقوة وهو يصارع المشاعر المتضاربة داخله .. دثرها جيدا بالبطانية الناعمة .. ثم أزاح خصلة من الشعر عن جبينها وهو يتمتم :- أنت أيضا جميلة يا نانسي


__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر
 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
بودنج الشوكلاتة مقادير بودنج الشوكلاتة2013 حلى بودنج الشوكلاتة2013 هبه العمر أطباق شهية 0 04-04-2012 10:48 PM
تورتة بودنج الشكولاتة entsaar أطباق شهية 4 04-18-2007 04:35 PM


الساعة الآن 01:18 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011