عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات طويلة > روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة

روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة يمكنك قراءة جميع الروايات الكاملة والمميزة هنا

 
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #6  
قديم 12-18-2015, 12:33 AM
 
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:700px;background-image:url('http://up.arabseyes.com/uploads2013/17_12_15145035209314512.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]

[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:700px;background-image:url('http://up.arabseyes.com/uploads2013/17_12_15145035209314512.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]


- 5 -


أقبلت علينا امرأة طويلة تمشي بخفة. كانت تلبس قبعة بالية، و تنورة لا شكل
لها، و كنزة ثقيلة. و قالت صوفيا:

- إنها الخالة إيديث.

توقفت المرأة مرة أو مرتين لتنظر في أحواض الزهور، ثم جاءت إلينا فنهضتُ محيّياً.

- هذا هو تشارلز هيوارد يا خالتي – و التفتتْ إليّ – خالتي الآنسة دي هالفيلاند.

كانت إيديث دي هافيلاند امرأة في حدود السبعين من عمرها، شعرها رمادي
غير مرتب، ذات نظرات خارقة لاذعة. قالت:

- كيف حالك؟ لقد سمعت عنك و علمت أنك عدت من الشرق. كيف
حال أبيك؟

أجبتُها و قد تفاجأت:

- إنه بخير!

- أعرفه منذ كان صبياً، و أعرف أمه جيداً. أنت تشبهها. هل جئت لتساعدنا
أم من أجل أمرٍ آخر؟

قلت متضايقاً:

- أرجو أن أساعدكم!

- لعل بعض المساعدة تنفعنا. إن المكان يعجّ بالشرطة الذين يراقبوننا من كل
صوْب، و أنا لا أحب بعضاً منهم. لا ينبغي للولد الذي كان في مدرسة
محترمة أن يعمل في الشرطة. لقد رأيت ابن مويرا كينول أمس يدير إشارة
المرور في ماربل آرش... يجعلك تشعر كأنك في دوّامة!

و التفتت إلى صوفيا و قالت: إن الخادمة تسأل عنك يا صوفيا... السمك.

قالت صوفيا: يا إلهي! سوف أذهب و أتصل بالهاتف بخصوص ذلك.

أسرعتْ إلى البيت بخفة و تبعتها الآنسة دي هافيلاند ببطء، و سرتُ بجانبها. قالت:

- لا أعرف ماذا كنا سنفعل دون الخادمات؟ كل امرئ لديه خادمة عجوز.
إنهن يغسلن و يكوين و يطبخن و يُنجزن الأعمال المنزلية... مخلصات. لقد
اخترت هذه الخادمة بنفسي من سنين.

توقفتْ و اقتلعت نبتة من حوض زهور بقوة:

- نبتة كريهة، إنها اللبلاب، أسوأ نبتة: تلتف و تنعقد و لا نستطيع اقتلاعها
بسهولة، فهي تمتد في الأرض.

و سحقتْ بعضاً من اللبلاب بقدمها ثم نظرت إلى البيت قائلة:
ما أسوأ هذا العمل يا تشارلز هيوارد! ما هو رأي الشرطة؟ أخشى أنني تعديتُ
حدودي، يبدو أنه من الغريب الاعتقاد أن أريستايد قد تمسمم و مات! إنني
لم أحبه قطّ، لكني لا أستطيع الاعتياد على فكرة موته. إن هذا يجعل البيت
يبدو فارغاً!

و مضيتُ أصغي إلى إيديث دي هافيلاند و هي تروي ذكرياتها في البيت:
- لقد عشت دهراً طويلاً هنا، أكثر من أربعين عاماً. جئت إلى هذا البيت
عندما توفيت أختي. هو طلب مني ذلك.. سبعة أطفال أصغرهم له سنة واحدة
فكيف أتركهم للمربية؟ كان زواجهما مستحيلاً. كنت أشعر أن مارسيا قد
سُحرتْ به: أجنبي قبيح و قزم خسيس! أعترف أنه أطلق يدي في البيت في
إحضار المربيات و الخادمات و شؤون المدارس.

همستُ: و هل عشت هنا منذ ذلك الوقت؟

- أجل.. أمر عجيب! كنت أستطيع أن أغادر البيت عندما كبر الأطفال و
تزوجوا. كنت مهتمة بالحديقة ثم كان هناك فيليب. لو أن رجلاً تزوج ممثلة
فلا يمكنه أن يتوقع أن يحيا حياة عائلية. لماذا تنجب الممثلة أطفالاً؟ فحالما
يلدن أطفالهن يسرعن إلى التمثيل في مسرح ريبَرْتوري في إيدَنبرغ أو أي
مكان بعيد آخر. لقد أحسن فيليب عندما جاء إلى هنا... مع كتبه.

- و ماذا يفعل فيليب ليونايدز؟

- يؤلف الكتب. لا أعرف لماذا، فلا أحد يريد أن يقرأها، ليس فيها غير أخبار
تاريخية مجردة لم نسمع بها، أليس كذلك؟

- بلى.

- كان عنده مال كثير. يجب على الناس أن يخالفوا نزواتهم و يكسبوا عيشهم.

- أليست هذه الكتب مربحة؟

- قطعاً لا. فيليب يستحق أن يكون مرجعا عظيما في عصور معينة، لكنه لم
يكن مضظراً أن يجعل كتبه تدر عليه أرباحاً، فقد خصص له أريستايد ما
يقارب مئة ألف جنيه! و من أجل أن يجنب أريستايد أبناءه ضرائب الإرث بعد
موته جعل لكل واحد منهم نصيبه على حدة: روجر يدير مؤسسة للتجهيز
الغذائي، و صوفيا تتلقى دخلاً كبيراً جداً، و أموال الأطفال تحت الوصاية.

- إذن فلا أحد يستفيد بشكل خاص من وفاته.

نظرت إلي نظرة غريبة.

- نعم، إنهم يستفيدون جميعاً، يأخذون مزيداً من المال كلهم، و لو أنهم
طلبوه منه على أية حال لأعطاهم.

- هل عندك فكرة عمن سممه يا آنسه دي هافيلاند؟

ردت بطريقة مميزة:

- لا. لقد أزعجني ذلك كثيراً. ليس جميلاً أن تفكّر أن شخصاً كهذا يتجول
في البيت طليقاً. أظن أن الشرطة سوف يلصقون التهمة بالمسكينة بريندا.

- أليسوا على صواب في ظنهم هذا؟

- لا أدري. كانت تبدو لي دائماً شابة غبية تماماً مبتذلة... شابة عادية لا
أظنها يمكن أن تضع له السم. لكن إذا تزوج رجل قريب من الثمانين فتاة في
الرابعة و العشرين فلا شك أنها قبلت به من أجل المال. كنا نتوقع – حسب
الأحداث – أن تصبح أرملة غنية في القريب العاجل، لكن أريستايد كان
عجوزاً قوياً بصورة متميزة و لم يكن مرض السكريّ يؤثر على صحته، و ربما
كان سيعيش عشرين عاماً أخرى! أعتقد أنها سئمت الانتظار.

قلت: في تلك الحالة...

قالت الآنسة دي هافيلاند بحدة:

- في تلك الحالة يكون الأمر طبيعيا. الأقاويل مزعجة طبعاً، لكنها – على أية
حال – ليست من العائلة.

- أليس عندك أفكار أخرى؟

- و ما هي الأفكار الأخرى التي يمكن أن تكون عندي؟

تساءلت؟ كان عندي شك بأن هناك الكثير يدور في رأسها مما لا أعرفه و
فكرت أن وراء غرورها و كلامها غير المترابط عقلاً يعمل بدهاء شديد، و
قلت في نفسي: هل تكون الآنسة دي هافيلاند نفسها قد سممت أريستايد ليونايدز؟

لا تبدو الفكرة مستحيلة. و تذكرت كيف سحقت نبات البلاب بقدمها بقسوة
تدل على الحقد.

و تذكرت كلمة قالتها صوفيا..((القسوة)). و اختلست نظرة إليها من طرف
عيني. إنها تعطي سببا مقنعاً، لكن، ما الذي يبدو لإيديث دي هافيلاند سبباً مقنعاً؟

و للإجابة عن ذلك كان ينبغي أن أعرفها أكثر.





[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]

  #7  
قديم 12-18-2015, 01:12 AM
 
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:700px;background-image:url('http://up.arabseyes.com/uploads2013/17_12_15145035209314512.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]


[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:700px;background-image:url('http://up.arabseyes.com/uploads2013/17_12_15145035209314512.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]


- 6 -


انفتح الباب و دخلنا إلى قاعة رحبة على نحو مدهش فيها طقم
من خشب البلوط الداكن و عليها نحاسيات برّاقة. و قالت إيديث:

- هذا جناح زوج أختي من البيت، و في الطابق الأرضي يعيش فيليب و ماجْدا.

دخلنا من جهة اليسار إلى غرفة استقبال كبيرة، حيطانها
مدهونة بالأزرق الفاتح و أثاثها مغطى بقماش مطرز. و على
الحيطان كانت صور و رسومات الممثلين و الراقصين و صور
من المسرحيات معلقة. و كانت فوق رف الموقد صورة لراقصي
(الباليه)، و مزهريات كبيرة فيها زهور الأقحوان و القرنفل.
و قالت إيديث أيضاً:

- أظنك تريد رؤية فيليب؟

هل كنت حقاً أريد لقاءه؟ لا أدري! كنت فقط أريد رؤية صوفيا،
و هذا ما فعلته..

لقد ساهمتُ حقا في خطة الرجل العجوز، أبي، لكن صوفيا قد
انسحبت الآن و لا بدّ أنها في مكان ما تتصل هاتفياً لتطلب السمك.

و لم أعرف كيف أبدأ العمل؟ هل أتقرب من فيليب ليونايدز
كشاب يريد خطبة ابنته أم مجرد صديق عابر دخل البيت للزيارة
أم كرجل مرتبط بالشرطة؟ لم تعطني الأنسة دي هافيلاند أي
وقت لكي أفكر في سؤالها، الحقيقة أنه لم يكن سؤالاً بل كان
إصراراً. قالت:

- سنذهب إلى المكتبة.

قادتني خارج غرفة الاستقبال عبر ممر طويل، ثم دخلنا من باب
آخر. كانت غرفة فسيحة تملؤها الكتب، و لم تكن الكتب في
الخزائن التي وصلت حد السقف، بل كانت على الكراسيّ و
الطاولات و حتى على الأرض. و مع ذلك لم تكن في حالة فوضى.

كانت الغرفة باردة كأن أحداً لم يدخلها، و كانت رائحة عفن
الكتب العتيقة و شمع العسل تخرج منها. و بسرعة أدركت أن
الغرفة تفتقر إلى رائحة التبغ، لم يكن فيليب مدخناً!

و عندما دخلنا نهض فيليب من وراء طاولته كان رجلاً طويلاً
أنيقاً في حوالي الخمسين من عمره.

كان الناس يذكرون كثيراً قبح أريستايد ليونايدز، فتوقعت أن
يكون ابنه قبيحاً مثله، و لم أكن مستعداً لرؤية رجل كامل
الأوصاف: الأنف المستقيم، الخط المتصدع في فكه، الشعر
الأشقر الذي خطه الشيب و المصفف إلأى الخلف، و الجبهة الجميلة.

قالت إيديث:

- هذا تسارلز هيوارد يا فيليب.

- ها! كيف حالك؟

لا أدري إن كان فيليب قد سمع بي من قبل؟ فقد صافحني برود
و لم يكن وجهه فضولياً، وقف دون اهتمام. و سألته إيديث:

- أين رجال الشرطة البغيضون؟ هل جاؤوا إلى هنا؟

- أظن أن رئيس المفتشين – و نظر في بطاقة على الطاولة –
تافيرنر قادم ليتحدث معي في الحال.

- أين هو الآن؟

- لا أدري يا خالتي إيديث، أظن أنه بالطابق العلوي.

- مع بريندا؟

- لا أعرف.

عندما تنظر في وجه فيليب ليونايدز لن تصدق أن جريمة وقعت
قريباً منه. سألته إيديث:

- أماتزال ماجدا فوق؟

- لا أعلم، في العادة لا تذهب هناك قبل الحادية عشرة.

قالت إيديث:

- هذا الصوت يشبه صوتها.

الصوت الذي كان يشبه صوت السيدة ماجدا كان صوتاً عالياً
يتحدث بسرعة كبيرة و يقترب بسرعة. و انفتح الباب من خلفي
بقوة و دخلت امرأة كأنها ثلاث نساء لا واحدة!

كانت تدخن لفافة في مِمْسك طويل، و تلبس ثوبا فضفاضاً طويلاً
من الساتان قرنفلي اللون تمسك به بيد واحدة، و كان شعرها
الغزير المتموج مسترسلا على ظهرها، وجهها بلا مساحيق كأنه
لوحة زيتية، و عيناها زرقاوين جاحظتين، و كانت تتكلم بسرعة
و ينطلق لسانها بصوت جذاب قوي و نطق واضح! قالت:

- حبيبي فيليب، لا أستطيع احتمال ذلك، ألم تفكر في البلاغات؟
إنها لم تظهر في الصحف بعد و لكنها ستنتشر حتما. و لا
أعرف ماذا ألبس في التحقيق؟ لن ألبس ثوباً أسود، ربما ثوبا
أرجوانياً. و لم يبقى عندي كوبونات، لقد أضعت عنوان ذاك
الرجل البغيض الذي يبيعها لي! إن الموقف قريب من شارع
شيفتْسْبوري، و لو ذهبت هناك بالسيارة فإن الشرطة سيتبعونني
و ربما يسألونني أسئلة سمجة، أليس كذلك؟ ماذا أقول لهم؟ ألا
نستطيع أن نترك هذا البيت الكريه الآن؟ حرية. حرية! آه! إنه
عمل غير لطيف. العجوز المسكين! نحن لم نتركه يوماً حين
كان حياً. و كان يحبنا رغم كل المشاكل التي حاولت أن تثيرها
تلك المرأة في الطابق الأعلى! إنني متأكدة أننا لو ذهبنا و
تركناه لها لقطع عنا كل شيء. لو لم تكن امرأة مرعبة فظيعة
لما وقفتْ كل العائلة في وجهها حين دخلت حياته و هو على
باب التسعين! فيليب، أظن أن الفرصة الآن رائعة لنؤدي
مسرحية ((لإيديث تومبسون))، هذه الجريمة ستعطينا الكثير
من الدعاية مقدماً. لقد قال بيلدين ستين أنه يستطيع أن يجعل
هذه المسرحية الشعرية الحزينة عن عمال المناجم ناجحة في أي
وقت. إنه دور رائع! أعرف أنهم يقولون أنني يجب أن أقوم
دائما بالأدوار الهزلية بسب شكل أنفي، لكنك تعلم يا فيليب أن
في مسرحية ((إيديث تومبسون)) كثيراً من المشاهد
الكوميدية. لعل المؤلفة لم تدرك ذلك. الكوميديا تزيد عنصر
التشويق. إنني أعلم كيف أقوم بهذا الدور مبتذلاً و سخيفاً و
كاذباً من أوله إلى آخره، و من ثم...

و مدت ذراعيها، فسطقت اللفافة من الممسك على طاولة فيليب
المصنوعة من الماهوغاني المصقول و جعلت تحرقه، فأمسكها
فيليب بهدوء و ألقاها في سلة المهملات.

همست ماجدا و قد استسعت عيناها فجأة و تشنج وجهها:
- ثم يأتي الرعب!

بقيت علامات الخوف الشديد بادية على وجهها قليلاً، ثم انبسط
وجهها و تجعد، و أصبحت مثل طفلة متحيرة توشك أن تبكي. و
فجأة زال كل الانفعالات و سألتني بنبرة رسمية و قد التفتت إلي:

- ألا تعتقد أن هذه هي طريقة عرض مسرحية ((إيديث تومبسون))؟

وافقتُها. في تلك اللحظة استطعت أن أتذكر بغموض شديد إيديث
تومبسون، لكني كنت مهتماً أن أبدأ بداية جيدة مع والدة صوفيا.
قالت ماجدا:

- إيديث تشبه بريندا، أليس كذلك؟ هل تعرف أنني لم أفكر بذلك
أبداً. انه مشوق جدا، هل يجب أن أوضح هذا للمفتش؟

قطب الرجل الجالس وراء المكتب حاجبيه قليلاً ثم قال:

- لا حاجة يا ماجدا أن تَريْه على الإطلاق. يمكنني أن أخبره
بكل شيء يريد معرفته.

ارتفع صوتها: لا أراه؟ بل يجب أن أراه. إنك يا حبيبي ضيق
الخيال لا تفهم أهمية التفاصيل. سوف يرغب في معرفة كيف و
متى حدث كل شيء بالضبط و سائر التفاصيل الصغيرة التي
رأيناها و تعجبنا منها آنذاك.

قالت صوفيا و هي تدخل من الباب المفتوح:

- أمي، لا نريدك أن تخبري المفتش كثيراً من الأكاذيب.

- صوفيا، حبيبتي!

- أعرف أنك قد أعددت كل شيء و أنك تهيأت لأداء دور جميل
جداً، لعلك حفظتِهِ بطريقة خاطئة. خاطئة تماماً!

- هراء.. أنت لا تعرفين.

- إنني أعرف. يجب أن تمثلي هذا الدور على شكل مختلف
تماماً: تكونين متحفظة قليلة الكلام، تكبحين جماح لسانك و
تحرصين على حماية العائلة.

ظهرت على وجه ماجدا ليونايدز حيرة طفلة ساذجة. قالت:

- حبيبتي، هل تظنين حقاً..؟

- أجل، أظن ذلك، احترزي في الكلام، هذه هي الفكرة.

ابتسمت الأم بسمة رضى عندما أضافت صوفيا قائلة:

- لقد صنعت لك بعض الشُكُلاته، إنها في غرفة الاستقبال.

- ها! جيد! أكاد أموت جوعاً.

وقفت عند الباب و قالت:

- ما أجمل أن يكون لك ابنة!

و لم أدرِي هل كانت تخاطبني أم تخاطب رف الكتب الذي فوق
رأسي؟ ثم خرجت من الغرفة، فقالت الآنسة دي هافيلاند تخاطب صوفيا:

- الله أعلم بما ستقول أمك للشرطة!

- ستكون على ما يرام.

- قد تقول شيئاً!

- لا تقلقي. ستؤدي الدور كما يريد المنتج، و أنا المنتج.

و خرجت صوفيا وراء أمها ثم التفتت لتقول:

- هاهو رئيس المفتشين جاء يراك يا أبي. لن تمانع أن يبقى
تشارلز هنا، أليس كذلك؟

أظن أنني لمحت بعض الحيرة على وجه فيليب ليونايدز، ربما،
لكنه همس بصوت غامض:

- أوه بالتأكيد... بالتأكيد.

دخل رئيس المفتشين تافيرنر و قد بدا الحزم على ملامحه، أما
سلوكه فكأنه كان يقول سنتحمل بعض المكاره ثم نخرج من
البيت و لا نعود أبداً، و لن يكون أحد أكثر سروراً مني بذلك..
أؤكد لك أننا لم نأت لنتسكع.

لا أدري كيف فهمنا ما فعله من كلمة واحدة سوى أنه سحب
كرسياً إلى الطاولة. و جلست غير متطفل بعيداً قليلاً. قال
فيليب:

- نعم حضرة المفتش؟

قالت الآنسة دي هافيلاند فجأة:

- هل تريدني يا حضرة المفتش؟

- ليس الآن يا آنسة دي هافيلاند، ربما، من بعدُ، أتحدث معك قليلاً.

- بالطبع، سأكون في الطابق العلوي.

و خرجت دي هافيلاند و أغلقت الباب وراءها. و قال فيليب مرة ثانية:

- حسنا يا حضرة المفتش؟

- أعلم أنك رجل أعمال منشغل جداً و لا أريد أن أعوّقك كثيراً،
لكن شكوكنا ربما تصير من بعدُ مؤكدة. إن أباك لم يمت ميتة
طبيعية، بل مات من جرعة زائدة من مادة سامة:
((فايسوستجماين)) و هي معروفة عادة ((الإيسيرين)).
هل يوحي لك هذا شيئاً؟

- و ماذا يوحي؟ إن رأيي أن أبي لابد قد أخذ السم دون قصد.

- هل تعتقد ذلك حقيقة سيد ليونايدز؟

- نعم، هذا يبدو لي ممكناً تماماً؛ لأنه كان قريبا من التسعين و
بصره ضعيف!

- لذلك فرغ محتويات زجاجة قطرة العين في زجاجة الأنسولين.
هل يبدو هذا اقتراحاً معقولاً يا سيد ليونايدز؟

لم يُجبه فيليب حتى أن وجهه أصبح خالياً من التعبير. و أكمل تافيرنر:

- لقد وجدنا زجاجة و القطرة فارغة في سلة المهملات و ليس
عليها بصمات، و هذا شيء غريب بحد ذاته، ففي الأحوال
الطبيعية كان يجب أن يكون هناك بصمات أصابع، قد تكون
بصمات أبيك أو بريندا أو الخادم...!

رفع فيليب بصره:

- الخادم؟ ماذا عن جونسون؟

- هل ترى أن جونسون هو المجرم؟ إن لديه فرصة بالتأكيد.
لكن عندما نصل إلى الدافع يكون الأمر مختلفاً. كان من عادة
أبيك أن يدفع لجونسون مكافأة كل عام، و في كل سنة كانت
المكافأة تزيد؛ لأن جونسون يعلم أن تلك المكافآت هي بدل من
نصيبه في الوصية. و الآن بعد سبع سنين، بلغت المكافأة من
الخدمة مبلغاً كبيراً يأخذه كل عام و ما زالت تزيد. و من
مصلحة جونسون أن يعيش أبوك طويلاً، كما أنهما كانا متحابّين
كثيراً، و سجل جونسون من خدمته السابقة لا يرقى إليه
الاتهام. إنه خادم ماهر جداً و مخلص! إننا لا نشك فيه.

- فهمت.

- و الآن يا سيدي، هل تعطيني وصفاً مفصلاً لتحركاتك في
اليوم الذي حدثت فيه وفاة والدك.

- أجل يا حضرة المفتش: كنت هنا في هذه الغرفة طوال اليوم
باستثناء أوقات وجبات الطعام.

- ألم تَرَي والدك على الإطلاق؟

- قلت له: ((صباح الخير)) بعد الإفطار، و هي عادتي.

- هل كنتما وحدكما عندئذ؟

- كانت... كانت زوجة أبي في الغرفة.

- و هل كان طبيعياً كالعادة؟

أجاب فيليب بسخرية مبطنة:

- لم يظهر عليه أنه سيقتل ذلك اليوم.

- هل جناح أبيك منفصل تماماً عن هذا الجناح؟

- أجل، لا مدخل إليه إلا من باب القاعة.

- و باب القاعة هل يظل مغلقاً؟

- لا. لم أعلم أنه يغلق.
- هل يستطيع أي واحد أن ينتقل بحرية بين ذلك الجناح و هذا؟

- أجل. لقد كان مفصولاً من أجل راحة أهل المنزل.

- كيف بلغك أول مرة نبأ موت أبيك؟

- أخي روجر هو الذي يسكن الجناح الغربي من الطابق الذي
فوقنا جاء هرولة ليخبرني أن أبي قد انتابته نوبة مفاجئة، و قال
أنه يتنفس بصعوبة و أنه يبدو مريضاً جداً...

- فماذا فعلت؟

- اتصلت بالطبيب، حيث بدا لي أن أحداً لم يفكر في استدعائه.
و كان الطبيب خارجاً فتركت له بلاغاً لكي يأتي من فوره ثم
صعدت إلى الطابق الأعلى..

- و بعدها؟

- أبي كان في حال خطيرة. لقد مات قبل أن يصل الطبيب!

لم يكن في صوته أي انفعال، كان بيانا بسيطا عن الحقيقة!

- أين كان بقية أفراد العائلة؟

- زوجتي كانت في لندن و عادت بعد موته بوقت قصير، و أظن
أن صوفيا كانت غائبة هي الأخرى. أما يوستيس و جوزيفين
فقد كانا في البيت.

- أرجو أن لا تخطئ فهمي يا سيد ليونايدز لو أنني سألتك:
كيف يؤثر بالضبط موت أبيك في وضعك المالي؟

- أقدر تماماً أنك تريد الحقيقة. لقد جعلنا مستقلين مادياً منذ
سنين عدة. فقد جعل أخي رئيساً و مساهماً في شركة لتجهيز
الأغذية، و هي أكبر شركة له، و وضع إدارتها تحت يده.
و لقد خصص لي ما أعتبره مبلغاً مساوياً: مئة و خمسين ألف
جنيه على شكل سندات مالي مختلفة، و كان بإمكاني أن أستثمر
رأس المال كيف أشاء. كما خصص نصيباً كبيراً أيضاً لشقيقتيّ
اللتين توفيتا بعد ذلك.

- و رغم ذلك ظل رجلاً غنياً جداً؟

ابتسم فيليب لأول مرة ابتسامة باهتة و قال:

- لا، فقد احتفظ لنفسه بدخل متواضع نسبياً لكنه بدأ بمشاريع
جديدة فصار أغنى من ذي قبل!

- لقد جئت أنت و أخوك للعيش هنا. هل كان ذلك بسبب
صعوبات مالية؟

- كلا بالتأكيد، بل من أجل الراحة. كان أبي يرحب بنا دائماً
لنعيش عنده، و لأسباب مختلفة كنت أرغب هذا. كنت أحب أبي
كثيراً. جئت هنا مع أسرتي عام 1937. لا أدفع أجرة لكني
أدفع نسبة من الضريبة.

- و أخوك؟

- أخي جاء هنا هارباً من الغارة الجوية التي دمرت بيته عام
1943 في لندن.

- و الآن يا سيد ليونايدز، هل لديك أية فكرة عن محتويات
وصية والدك؟

- فكرة واضحة جداً. لقد أعاد أبي كتابة وصيته عام 1946.
لم يكن والدي كتوماً و كان يهتم بأفراد العائلة، فعقد اجتماعاً
خاصاً للأسرة حضره محاميه الذي شرح لنا بنود الوصية، و
أظنم أنك اطلعت عليها فلاشك أن السيد جيتْسْكيل قد أبلغك بها.
لقد أوصى بمئة ألف جنيه خالية من الضرائب لزوجته ناهيك
عن ((هبة الزواج)) السخية التي حصلت عليها. ثم جعل
أملاكه ثلاث حصص: واحدة لي، و الثانية لأخي، و الثالثة تحت
الوصاية لأحفاده الثلاثة. إن البيت كبير لكن ضريبة الإرث
ستكون كبيرة.

- و هل أوصى بشيء للخدم أو المؤسسات الخيرية؟

- لا. إن الرواتب التي تدفع للخدم كانت تزاد سنويا ما داموا في
الخدمة.

- هل أنت – و عذراً لسؤالي هذا يا سيد ليونايدز – في حاجة
ماسّة للمال؟

- ضريبة الدخل – كما تعرف يا حضرة المفتش – كبيرة، لكن
دخلي يكفي حاجتي و حاجة زوجتي أيضاً. أضِفْ إليه أن والدي
كان دائم العطايا، و إذا طرأت لنا حاجة كان يسدّها فوراً! تأكدْ
أنْ ليس عندي أي ضيق مالي يدفعني إلى الرغبة في موت أبي
يا حضرة المفتش.

- أنا آسف جداً يا سيد ليونايدز لا أعني هذا لكنّ علينا أن
نحصل على جميل الحقائق. أخشى أنه يجب أن أسألك بعض
الأسئلة الحرجة... هل كان والدك و زوجته سعيدين معاً؟

- حسب ظني كانا سعيدين تماماً.

- ألم تحدث بينهما مشاجرات أو خلافات؟

- لا أظن ذلك.

- ألم يكن بينهما فرْق كبير في السن؟

- بلى.

- اسمح لي: هل وافقت على زواج أبيك الثاني؟

- لم يطلب موافقتي على ذلك.

- هذا ليس جوابا يا سيدي.

- مادمت تصر فإنني أقول أن زواجه كان عملاً غير حكيم.

- و هل تنازعت معه من أجل ذلك؟

- عندما سمعت به كان الزواج تمّ و انقضى الأمر!

- هل صدمك الخبر؟

لم يُجبْه فيليب.

- هل غضبت من زواجه؟

- كان والدي حراً يفعل ما يشاء.

- كيف كانت علاقتك مع السيدة ليونايدز؟

- عادية.

- هل أنت على علاقة ودية معها؟

- إننا لا نكاد نلتقي.

غير تافيرنر موضوعه:

- هلا أخبرتني بشيء عن السيد لورنس براون؟

- أخشى أنني لا أستطيع! والدي هو الذي وظفه.

- لكنه كان يعلّم أطفالك أنت يا سيد ليونايدز.

- صحيح. كان ابني مصاباً بشلل الأطفال إصابة بسيطة و قد
نصح الأطباء ألا نرسله إلى مدرسة حكومية، فأشار أبي أن
نعيت له معلماً يعلمه هو و ابنتي الصغيرة جوزيفين، و كان
الخيار في ذلك الوقت محدوداً؛لأن المعلم كان يجب ألاّ يكون
مطلوباً للخدمة العسكرية آنذاك. كانت أوراق هذا الشاب مرْضية،
و كان أبي و خالتي التي تعتني بالأطفال راضييْن عنه فأذعنت
لهما، و أنا لم أجد عيبا في طريقة تعليمه، فقد كان مخلصا و
يفي بالمطلوب.
- كان يسكن في جناح أبيك و ليس هنا، أليس كذلك؟

- في الطابق العلوي غرف كثيرة.

- أرجو ألا يسوؤك هذا السؤال: هل لاحظت ما يدل على علاقة
غرامٍ بين لورانس براون و زوجة أبيك؟

- لم تتهيأ لي فرصة حتى ألاحظ شيئاً مثل هذا.

- ألم تسمع كلاماً أو ثرثرة في هذا الأمر؟

- أنا لا أصغي إلى الثرثرة يا حضرة المفتش.

- هذا جدير بالإكبار! إذن فأنت لم تسمع سوءاً و لم تر سوءاً و
لا تريد أن تنطق بسوء، أليس كذلك؟

- إن كنت تريد أن تفهمها كذلك، فلك ما تريد يا حضرة المفتش.

نهض تافيرنر و قال:

- حسناً، شكراً لك يا سيد ليونايدز.

و تبعته دون فضول خارج الغرفة فسمعته يقول:

- إنه رجل فاتر.




[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]


التعديل الأخير تم بواسطة زيزي | Zizi ; 12-18-2015 الساعة 03:31 PM
  #8  
قديم 12-18-2015, 03:48 PM
 
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:700px;background-image:url('http://up.arabseyes.com/uploads2013/17_12_15145035209314512.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]



-7-


قال تافيرنر:

- و الآن سنذهب لنتحدث مع السيدة فيليب. اسمها الفنّي هو ((ماجدا ويست)).

- و هل تفيدنا؟ أعرف اسمها، و لقد رأيتها في مسرحيات عدة لكن لا أذكر متى و أين؟

- إنها واحدة من فرقة ((الأعمال الناجحة))، مثلتْ دور
البطولة مرة أو مرتين في غربي إنكلترا، و قد نجحت و
اشتهرت في المسارح الثقافية الرفيعة و أندية الأحد. أظن أنها
لم تكن تعتمد على المسرح في كسب الرزق. كانت تستطيع أن
تختار المسرحية التي تعجبها و تذهب حيث تشاء، و من وقت
لآخر كانت تدفع المال من أجل عرضٍ فيه دور أحبته، و لم تكن
ترضى بأي دور. النتيجة أنها تراجعت قليلاً إلى مرتبة الهواة
أكثر من كونها ممثلة محترفة! إنها ممثلة جيدة لا سيما في
الكوميديا لكن المخرجين لا يحبونها كثيراً، يزعمون أنها لا تلتزم
بالقيود و تثير المتاعب و المشاجرات و تستمتع بإثارة
المنزعات بين الناس. لا أعرف مدى صحة هذا، لكنها غير
محبوبة من قبل زملائها الفنانين.

خرجت صوفيا من غرفة الاستقبال و قالت:

- والدتي هنا يا حضرة المفتش.

تبعتُ تافيرنر إلى غرفة الاستقبال الكبيرة. في البداية لم أستطع
معرفة المرأة التي جلست على الأريكة المطرزة. كان شعرها
يرتفع عالياً فوق رأسها بتسريحة من العهد الإدواردي، و كانت
تلبس معطفاً أخضر أنيقاً و تنورة و قميصاً بنفسجياً باهت اللون
مثبتاً عند الرقبة بدبوس صغير من الحجر الكريم.

أدركت لأول مرة سحر أنفها المائل الذي ذكّرني بأثين سيلر، و
لم أصدق أن هذه المرأة كانت هي ذات المرأة العنيفة في الثوب
المخملي الفضفاض! قالت:

- المفتش تافيرنر؟ هلا دخلت و جلست؟... هل تدخن؟ هذا عمل
فظيع جداً! إنني أشعر الآن بالنفور من التدخين!

كان صوتها خافتاً و خالياً من العاطفة، صوت امرئٍ عازم على
ضبط النفس مهما يكن الثمن، و قالت:

- أرجو أن تخبرني: هل أستطيع مساعدتك بشيء؟

- شكراً لك سيد ليونايدز: أين كنت يوم المأساة؟

- كنت قادمة في سيارتي من لندن حيث تناولت الغداء في ذلك
اليوم في مطعم إيفي مع صديقة لي، ثم ذهبنا لنشاهد عرض
أزياء و شربنا القهوة مع بعض الأصدقاء في بيركلي، و بعد
ذلك انطلقتُ راجعة إلى البيت و حين وصلت رأيت كل شيء مضطرباً...

و ارتعش صوتها قليلاً و هي تقول: وجدت حماي قد أصابته
نوبة فجأة... كان ميتاً!

- أكنت تحبين حماك؟

رفعت صوتها:

- كنت أحب...

ارتفع صوت ماجدا، و في تلك اللحظة مدّت صوفيا يدها بهدوء
فعدّلت لوحة معلقة فوق الموقد، و في الحال انخفض صوت ماجدا:

- كنت أحبه كثيراً. كنا جميعاً كذلك.لقد كان طيباً جداً معنا!

- هل كانت علاقتك جيدة مع السيدة ليونايدز؟

- لم نكن نرى بريندا كثيراً.

- و لم كان ذلك؟

- لم تكن بيننا أشياء كثيرة مشتركة. مسكينة بريندا! لا بدّ أن
حياتها كانت صعبة في بعض الأحيان.

مرة أخرى عبثتْ صوفيا باللوحة فوق الموقد.

- حقاً؟ و كيف؟

هزت ماجدا رأسها و ابتسمت بسمة حزينة قصيرة:

- آه! لا أدري.

- هل كانت السيدة بريندا سعيدة مع زوجها؟

- أظن ذلك.

- ألم تحدث بينهما مشاجرات؟

مرة أخرى هزت رأسها و هي تبتسم ابتسامة لطيفة:

- الحق أنني لا أعرف يا حضرة المفتش، فجناحهما من البيت
منفصل عنا تماماً.

- ألم تكن هي على صداقة حميمة مع السيد لورنس براون؟

عبست ماجدا ليونايدز، فتحت عينيها تنظران إلى تافيرنر نظرة
توبيخ، و قالت بوقار:

- ما كان ينبغي لك أن تسألني أسئلة كهذه. كانت بريندا محبوبة
عندنا جميعاً، كانت امرأة لطيفة جداً!

- هل أنت راضية عن السيد براون؟

- إنه رجل هادئ لطيف، لكنك لا تحس بوجوده. أنا لم أره كثيراً!

- أأنت راضية عن تدريسه؟

- أظن ذلك، لا أعرف. و لكن كان فيليب يبدو راضياً.

جرّب تافيرنر أسلوب الصدمة:

- آسف لسؤالي هذا: هل كان هناك برأيك أي علاقة حب بين
السيد براون و السيدة ليونايدز؟

نهضت ماجدا مثل سيدة من النبلاء و قالت:

- لم أرى أي دليل على شيء من هذا، و أحسب – يا حضرة
المفتش – أنه ليس من حقك أن تسألني مثل هذا السؤال،
فبريندا كانت زوجة حميّ.

استحسنت جوابها هذا. أما تافيرنر فقد وقف قائلاً:

- هل أستطيع أن أسأل الخدم هذا السؤال؟

لم تُجبْه ماجدا، فتابع: شكراً لك يا سيدة ليونايدز.

و خرج المفتش، فقالت صوفيا لأمها بحرارة:

- لقد أديت ذلك بشكل جميل يا حبيبتي.

فتلت ماجدا خصلة من الشعر وراء أذنها اليمنى و نظرت وجهها
في المرآة. قالت:

- نعم... نعم. أعتقد أنني أديت عملي بالطريقة الصحيحة.

نظرت صوفيا إليّ و سألت:

- أما كان يجب أن تخرج وراء المفتش؟

- اسمعي يا صوفيا، ما الذي ينبغي لي...؟

سكت لساني. لم أستطع سؤالها صراحة أمام أمها عن دوري
الذي يجب أن أقوم به؛ لآن ماجدا لم تُبدِ – حتى الآن – أقل
اهتمام بي. لعلي كنت في نظرها صحفياً أو مستشاراً عند ابنتها!
ربما أكون صحفياً أو عيناً للشرطة أو حتى ناحوتياً، إذْ كل هذه
الأشياء عند ماجدا واحدة؛ فالشرطي و الصحفي و الحانوتي
كلهم عندها ((جمهور))! قالت ماجدا و هي تنظر إلى قدميها بسخط:

- هذا الحذاء تافه!

استجبتُ لحركة متعجرفة من صوفيا و أسرعتُ خارجاً وراء
تافيرنر. لحقت به في الصالة الخارجية و هو يلج الباب إلى الدرج، قال:

- سأصعد لأرى الأخ الأكبر.

أوضحت له مشكلتي دون ضجة مستفسراً:

- أرجوك اسمعني يا تافيرنر! ماذا يفترض أن أكون؟

اندهش:

- ماذا يفترض أن تكون؟

- أجل، ماذا أفعل هنا، في هذا البيت؟ إن سألني أحدٌ فماذا أقول؟

فكر المفتش لحظة و قال:

- ها! فهمت... – و ابتسم –.. و هل سألك أحدٌ شيئاً؟

- لا.

- إذن فلِمَ لا تترك الأمر هكذا؟ لا تشرح أبداً. هذا أسلوب جيد، لا سيما
في بيت مضطرب كهذا البيت: كل منهم شغلتْه مشاكله
الخاصة و مخاوفه فلا أحسَبُه يفكر في أمرك. سوف يرضوْن
بوجودك ما دمت تبدو واثقاً من نفسك. إن قول أي شيء خطأ
عظيم ما دمت لا توجد ضرورة لذلك. و الآن هيا إلى الدرج، لا
شيء مغلقاً هنا. أنت تفهم طبعاً أن هذه الأسئلة التي أسألها
كلها هراء. إن الأسئلة عمن كان في البيت و من لم يكن غير
هامة، أو: أين كانوا جميعاً في ذلك اليوم؟

- إذن فلماذا..؟؟
- لأنها فرصة لأنظر إليهم جميعاً فأكوّن انطباعاتي و أسمع ما
يريدون قوله، ربما يعطيني أحدهم – بالمصادفة المخصة –
مؤشراً مفيداً..

و صمت قليلاً ثم همس: أُقْسِمُ أن ماجدا ليونايدز يمكنها أن
تكشف أشياء كثيرة لو أرادت ذلك.

- و هل تعتمد على كلامها هذا؟

- لا، لن يُعتمد عليه، لكن لعله يرشدنا إلى وجهةٍ ما في التحقيق!
كل أحدٍ في هذا البيت الملعون له وسائله و فرصته. ما أسعى
إليه هو الدافع.

عند رأس الدرج كان ثمة باب يسد الممر الأيمن و كان عليه
مطرقة نحاسية. طرق المفتش الباب كما ينبغي ففتحه رجل بدت
في وجهه علامات الدهشة و المفاجأة. لا بد أنه كان يقف وراء الباب!

كان رجلاً عملاقاً لك كتفان قويان و شعر أسود جعد ووجهه
قبيح إلى أبعد حدّ غير أنه وجه لطيف.

نظر إلينا ثم ردّ بصره بسرعة بتلك الطريقة المتحيرة ينظر بها
الرجل الصادق الحييّ، و قال:

- تفضلا. نعم. أرجوكما! كنت أنوي الخروج لكن هذا لا يهم.
تفضلا إلى غرفة الجلوس. سأنادي كليمنسي... ها! انت هنا يا حبيبتي؟
إنه رئيس المفتشين تافيرنر... هل عندنا تبغ؟ أرجوك انتظر لحظة.

اصطدم بِسُورٍ و قال مرتبكاً:

- أرجو المعذرة!

ثم خرج من الغرفة كالنحلة الطنانة التي تترك وراءها صمتاً!

كانت زوجته واقفة بجانب الشباك. أسرتني شخصيتها الجذابة و
شدّت انتباهي الغرفة التي كنا نقف فيها. كانت الحيطان
مصبوغة باللون الأبيض. الأبيض الحقيقي، غير العاجيّ و لا
المائل إلى الصُّفرة، و لم يكن عليها من الصّور سوى واحدة
فوق رف الموقد كانت عملاً هندسياً غير تقليدي: مثلثات رمادية
داكنة و سفينة زرقاء!

كانت السيدة روجر تختلف عن السيدة فيليب تماماً. ماجدا
ليونايدز قد تكون في دور ست نساء مختلفات، لكن كليمنسي
ليونايدز – هو ما كنت متكأداً منه – لا يمكن أن تكون أبداً
واحدة أخرى غير ذاتها: كليمنسي ليونايدز. كانت امرأة ذات
شخصية حادة واضحة.

أظن أنها في الخمسين. شعرها رمادي قصير لكنه يزيد رأسها
الصغير الجميل جمالاً! ووجهها رقيق يدل على الذكاء، و عيناها
رماديتان تدلان على قوة غريبة حادة. و كانت تلبس ثوباً خمرياً
من الصوف يناسب قوامها النحيف تماماً.

و شعرتُ فوراً أنها امرأة مذعورة؛ لأن مستوى المعيشة الذي
تعيشه لم يكن ذلك الذي تعيشه امرأة عادية، و فهمت لماذا
استخدمت صوفيا تعبير القسوة حين وصفتْها. ارتعشت قليلاً
بسبب برودة الغرفة، و قالت كليمنسي بصوت هادئ و لسان مهذب:

- اجلس من فضلك يا حضرة المفتس! هل عندك أخبار جديدة؟

- كان موته بسب الإيسيرين يا سيدة ليونايدز.

قالت متأملة:

- إذن فهذا يجعل الأمر جريمة قتل! ألا يمكن أن تكون حادثاً من أي نوع؟

- لا يا سيدتي.

- أرجو أن تكون لطيفاً مع زوجي يا حضرة المفتش، فهذا الأمر
يؤثر فيه كثيراً. لقد كان يحب أباه كثيراً و هو مرهف الإحساس
عاطفي إلى أبعد الحدود.

- هل كنتما على علاقة حسنة مع حماك يا سيدة ليونايدز؟

- نعم، علاقة حسنة تماماً. ثم أضافت بهدوء: و لكني لم أكن
أحبّه كثيراً.

- لماذا؟

- لا تعجبني أهدافه في الحياة و لا أسلوبه في تحقيقها.

- و السيدة بريندا؟

- بريندا؟ لم أكن أراها كثيراً.

- هل تظنين أن من الممكن وجود علاقة بينها و بين السيد
لورانس براون؟

- تقصد علاقة حب؟ لا، لكني لم أكن أعلم شيئاً من ذلك.

بدا من صوتها أنها غير مهتمة.

رجع زوجها روجر مسرعاً بنفس حركته الطنانة المزعجة و قال:

- لقد تأخرت... مكالمة هاتفية. حسنا يا حضرة المفتش، ماذا
هناك؟ حسنا، هل لديك أخبار؟ ما الذي سبب وفاة والدي؟

- كانت الوفاة بسبب التسمم بالإيسيرين.

- حقاً؟ يا إلهي! إذن لابد أنها تلك المرأة! لم تستطع الانتظار!
لقد أخرجها من حياة الفقر، أهكذا جزاؤه؟ قتلته بدم بارد! يا إلهي!
إن دمي يغلي عندما أفكر بهذا.

- هل لديك سبب محدّد يجعلك تعتقد ذلك؟

كان روجر يُراوح جيئة و ذهاباً و هو يشد شعره بيديه:

- سبب؟ لِمَ؟ من يمكنه أن يفعل ذلك غيرها؟ لم أكن أثق بها
يوماً. لم أحبها ألبتة.لا أحد منا يحبها. لقد فزِعتُ أنا و فيليب
حين دخل علينا والدي يوماً من الأيام و أخبرنا أنه تزوج! في
مثل عمره؟ ذاك جنون... جنون! كان أبي رجلاً مدهشاً يعجبك
يا حضرة المفتش. كان عقله مدبّراً كأنه في سن الأربعين. إن
كل شيء أملِكُه هو من خيره و فضله. لقد فعل كل شيء من
أجلي. لم يخذلني يوماً بل أنا الذي خذلته! إني كلّما ذكرتُ ذلك...!

و ألقى بنفسه على الكرسي بقوة، و جاءت إليه زوجته:

- كفى يا روجر! لا تجهد نفسك!

أمسك بيدها و قال:

- أعرف يا عزيزتي. أعرف، و لكن كيف أقعد هادئاً؟
كيف أتمالك نفسي؟

- يجب أن نبقى جميعاً هادئين. إن السيد المفتش يريد
مساعدتنا.

- هذا صحيح يا سيدة ليونايدز.

صاح روجر:

- هل تعلم ما أود أن أفعل؟ لو أنني أخنق تلك المرأة بيديّ
كلتيهما! لقد ظنّتْ على ذلك العجوز بضع سنين من الحياة! يا
ليتني أمسك بها!... – وقف روجر و هو يرتعش من الغيظ، و
مدّ يديه المرتعشتين – أجل، كنت سألوي عنقها... ألوي عنقها.

زجرته كليمنسي:

- روجر!

نظر إليها خَجِلاً:

- آسف يا عزيزتي.

ثم التفت إلينا قائلاً: أسف فعلاً، لقد غلبتني مشاعري. إنني... اعذروني.

و خرج من الغرفة ثانية، و قالت زوجته في ابتسامة باهتة:

- الحقيقة أنه لا يستطيع أن يؤذي ذبابة!

قبِل تافيرنر كلمتها بأدب ثم شرع في أسئلته الروتينية.

- أين كنتما يوم مات السيد ليونايدز؟

- كان روجر في لندن في بوكْس هاوْس – و هو مركز شركة
التجهيز الغذائي – ثم عاد في وقت مبكر من المساء و أمضى
بعض الوقت مع أبيه، و هذه عادته. أنا كنت – كالعادة – في
معهد لامبِرْت في شارع غورو حيث مكان عملي، و رجعتُ إلى
البيت قبل السادسة.

- أرأيت حماك؟

- لا. كنت قد رأيته آخر مرة في اليوم الذي سبق وفاته و
شربنا القهوة معه بعد العشاء.

- ألم تريْهِ يوم وفاته؟

- ذهبت – في الحقيقة – إلى جناحه من البيت لأن روجر
حسِب أن ترك غليونه عند والده في غرفة نومه... غليون ثمين
جداً، لكنني وجدته على طاولة الصالة هناك فلم أرغب أن أزعج
العجوز. كان غالباً ينام نوماً خفيفاً في حوالي السادسة.

- متى بلغك نبأ مرضه؟

- جاءت بريندا مسرعة. كان ذلك بعد السادسة و النصف بدقيقة أو اثنتين.

لم تكن هذه الأسئلة هامة كما علمت، لكني أدركت كيف يحرص
المفتش تافيرنر أن يمعن النظر في المرأة التي كانت تجيب عن اسئلته.

سألها بعض الأسئلة عن طبيعة عملها في لندن فقالت أنه يتعلق
بالتأثير الإشعاعي للتفجير النووي.

- إذن فأنت تعملين في حقل القنبلة الذرية، أليس كذلك؟

- عملي لا يمسّ القدرة التدميرية للقنبلة الذرية، فالمعهد ينفذ
تجارب في التأثير العلاجي.

و عندما نهض تافيرنر أبدى رغبته في رؤية جناحهما الخاص
من البيت فتفاجأت قليلاً لكنها أظهرت له استعدادها الكامل.

ذكرتني غرفة النوم بسريرها المزدوج ذي الأغطية البيضاء
بالمستشفى أو بصومعة ديْرِ من الأديرة! أما الحمام فكان بسيطاً
لا ترى فيه أي أداة رفاهية و لا مواد تجميل، و كان المطبخ
خالياً من الأثاث نظيفاً و مجهزاً تجهيزاً جيداً بأدواتٍ من النوع
العملي. ثم جئنا إلى باب فتحته كليمنسي قائلة:

- هذه غرفة زوجي الخاصة.

قال روجر:

- أدخلوا. تفضلوا.

أحسست بالطمأنينة... هاهو شيء من البساطة في مكان آخر
من هذا البيت الأعوج الذي يثير في نفسي الكآبة.

كان في غرفته الشخصية مكتب كبير تبعثرت عليه الصحف و
الغليونات القديمة و رماد التبغ، و كانت فيه كراسيّ كبيرة
عتيقة. و السجّادُ العجمي يغطي البلاط، و على الحيطان صور
باهتة لجماعات مدرسية و جماعة ((كالريكيت)) و الفصائل
العسكرية، و رسومات بالألوان المائية للصحراء و المنارات و
القوارب المبحرة و البحر و غروب الشمس. كانت غرفته
صافية، غرفة رجل محب حنون و حلو المعشر.

كان روجر يصب لنا الليمون بطريقة غير بارعة من زجاجة و
هو يُبعد الكتب و الصحف عن أحد الكراسي. قال:

- الغرفة فوضى! كنت أفرغ الغرفة و أتخلص من الصحف
القديمة... قدم لنا الليمون ثم تابع كلامه ملتفتاُ إلى تافيرنر:

أرجو أن تسامحني... لقد فقد السيطرة على مشاعري.

و نظر حوله كأنه يشعر بالذنب، و لم تكن كليمنسي ليونايدز
معنا في الغرفة ثم تابع.

- إنها رائعة، أعني زوجتي. رغم كل الذي جرى فهي رائعة! لا
تدري كم أنا معجب بها! فقد عاشت وقتاً عصبياً مخيفاً قبل أن
نتزوج أحب أن أخبرك عنه. لقد كان زوجها الأول رجلاً عظيماً
– أقصد أنه ذو عقل عظيم – لكن جسمه كان ضعيفاً من مرض
السل، و كان ينجز بحثاً قيماً في علم البلوريات، و كان راتبه
قليلاً مع أنه كان متفوقاً في عمله. لكنه لم يستسلم، و قد كدحتْ
من أجله فلم تجعله يعلم أن كان يموت، و لم تشتكِ بتاتاً و لم
تتذمر، و كانت تبدو دائماً سعيدة!

ثم مات فحزنتْ عليه كثيراً، و أخيراً رضيتْ بالزواج مني، و
كنت سعيداً جداً لأنني كنت قادراً أن أمنحها السعادة و الراحة. و
قد رجوتها أن تترك العمل لكنها عرفت بالطبع أن العمل في
الحرب كان واجباً عليها و ما تزال تشعر أنها يجب أن تستمر
في عملها... زوجة رائعة! لقد كنت محظوظاً! كنت سافعل كل
شيء من أجلها.

أجابه تافيرنر جواباً مناسباً ثم عاد إلى أسئلته السابقة من جديد:

متى بلغك أن أباك مريض؟

- أسرعت بريندا تناديني، قالت إن نوبة مرضية ما أصابت أبي،
و كنت أجلس مع العجوز العزيز قبل ذلك بنصف ساعة فقط، و
كان في صحة تامة! أسرعت إليه و كان يلهث و وجهه أزرق.
نزلت مسرعاً إلى فيليب فاتصل بالطبيب. إنني... إننا لم نستطع
أن نفعل شيئاً! لم أتخيل قطعاً و لا لحظة واحدة بأن هناك عملاً
غريباً. غريب؟ هل قلت: غريب؟ يا إلهي يالها من كلمة استخدمتها.

و ببعض الصعوبة خلصنا أنفسنا أنا و تافيرنر من الجو العاطفي
لغرفة روجر ليونايدز، و وجدنا أنفسنا خارج الباب مرة أخرى
عند أول الدرج. قال تافيرنر:

- إنه مختلف تماماً عن أخيه... أشياء و غرف غريبة، هذا
يخبرك كثيراً عمن يعيشون فيها.

- أجل.
- و غريبون هؤلاء الناس، و زواجهما غريب أيضاً أليس كذلك؟

لم أكن أعلم أكان يقصد كليمنسي و روجر أم فيليب و ماجدا؟
كانت كلماته تنطَبق على الزواجين لكن الزواجين كلاهما سعيد،
كان زواج كليمنسي و روجر سعيداً حتماً. ثم سألني:

- هل يمكن أن يكون مجرما يضع السم؟ هل تقول عنه ذلك؟ لا
أحسبه رجلاً خشناً. أما زوجته فالاحتمال لديها أكبر. إنها من
صنف النساء عديمات الرحمة، و ربما كان بها مس من الجنون!

- لكني أظن أنها لن تقتل أحداً من الناس لمجرّد أن هدفه و
أسلوب حياته غير مرضيين بالنسبة لها. ربما كانت تكره
العجوز حقاً، و لكن هل تُرتكب جريمة بسب الكراهية الخالصة؟

- قليلاً جداً، و أنا لم أصادف حالة كهذه. لا. أظن أننا في حال
أكثر أماناً لو اشتبهنا في السيدة بريندا، لكن أين الدليل؟




[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]


التعديل الأخير تم بواسطة زيزي | Zizi ; 12-18-2015 الساعة 04:12 PM
  #9  
قديم 12-18-2015, 04:20 PM
 
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:700px;background-image:url('http://up.arabseyes.com/uploads2013/17_12_15145035209314512.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]


- 8 -


فتحت الخادمة باب الجناح المقابل و أصابها الخوف حين رأت تافيرنر و إن كانت
مسحة من الإزدراء ظاهرة عليها. قالت:

- لعلك تريد أن ترى السيدة؟

- نعم، من فضلك.

و تقدمتنا إلى غرفة الجلوس الكبيرة و خرجتْ.

كان أثاثها يشبه ذاك الموجود في غرفة الاستقبال في الطابق الأرضي: قماش الريتون
ملوناً بألوان زاهية، و ستائر حريرية مخططة، و لوحة فوق رف الموقد لفتت
انتباهي، ليس من اليد البارعة التي رسمتها فحسب، بل أيضا بسبب الوجه الآسر
لصاحب الصورة.

كانت رسماً لرجل ضئيل. عيناه داكنتان خارقتان، على رأسه قلنسوة من المخمل
الأسود، و قد التصق رأسه بكتفيه. لقد كانت حيوية الرجل و قوته تشعّ من اللوحة،
و بدا أن العينين اللامعتين أذهلتاني! قال تافيرنر:

- هذا هو. رسمها أوغسطس جون. إن شخصيته قوية، أليس كذلك؟

- بلى.

و فهمتُ معنى قول إيديث دي هافيلاند إذ قالت أن البيت يبدو يدونه خالياً. ما اغرب
هذا الرجل الصغير المنحني: الذي بنى البيت الصغير المائل، فلما غاب فَقَد البيت
الصغير المائل معناه! قال تافيرنر:

- و تلك زوجته الأولى هناك. رسمها سارجِنت.

أمعنتُ النظر في الصورة المعلّقة على الحائط بين الشبّاكين. كان فيها وحشية ما مثل
كثير من رسوم سارجنت، و قد رُسِم الوجه بشكل مبالَغ فيه فظهر كأنه وجه فرس.
كانت رسمة لسيدة إنكليزية تقليدية من الريف لا من طبقة النبلاء، أنيقة لكنك لا تلمح
فيها معنى الحياة، سيدة لم تكن تبتسم، بل كانت مستبدة قوية!

انفتح الباب و دخل الرقيب لامب قائلاً:

- لقد عملت اللازم يا سيدي، استجوبت الخدم جميعاً و لكني لم أحصل على أي شيء.

تنهد تافيرنر في حين أخرج الرقبيب لامب دفتره من جيبه و رجع بعيداً ثم جلس.
و انفتح الباب مرة أخرى و دخلت زوجة أريستايد ليونايدز الثانية.

كانت تلبس ثوبا أسوداً فاخراً ستر بدنها كله. كان وجهها معتدل الجمال، و شعرها
بنياً جميلاً مصففاً بإتقان، و على صدرها عقد لآلئ كبيرة، و كان في إحدى يديها خاتم
من الزمرد و في الأخرى خاتم كبير من الياقوت.

نظرت إلى وجهها المزيّن فعرفتُ أنها كانت تبكي، و لاحظت أنها خائفة. و خاطبها
تافثيرنر بلطف:

- صباح الخير يا سيدة ليونايدز، إنني آسف لإزعاجك مرة أخرى.

قالت بصوت فاتر:

- يبدو أنك مضطر لذلك.

- إن كنت ترغبين في دعوة محاميك يا سيدتي فهذا يوافق النظام تماماً، أليس كذلك؟

تسائلت إن كانت قد فهمتْ مدلول هذه الكلمات؟ من الواضح إنها لم تفهم. عبست و قالت:

- لا أحب السيد جيتْسْكيل و لا أريده.

- يمكنك أن تحضري محامياً خاصاً لك يا سيدة ليونايدز.

- هل يجب علي ذلك؟ أنا لا أحب المحامين، إنهم مزعجون.

تبسم تافيرنر و قال:

- الأمر إليكِ، إذن فهل نواصل؟

أمسك الرقيب لامب بقلمه و جلست بريندا ليونايدز على الأريكة في مواجهة تافيرنر و سألته:

- هل وجدتم شيئاً.

لاحظت أن أصابعها كانت تعبث بعقدة في فستانها باضطراب.

- نقول جازمين بأن زوجك قد تسمم بالإيسيرين و مات.

- تقصد أن قطرة العين تلك قد قتلته؟

- من المؤكد أن السيد ليونايدز حين حُقن بتلك الإبرة الأخيرة تسمم؛ لأن ما فيها كان
إيسيريناً لا أنسوليناً.

- لم أكن أعلم ذلك. لا علاقة لي بهذا يا حضرة المفتش! حقيقة لم تكن لي أي علاقة!

- إذن فلا بد من أن أحداً غيّر الأنسولين عمداً و عبأ الزجاجة بالقطرة.

- يا له من عمل شرير! هل تظن أن أحداً قد فعلها عمداً أم أنه قد أخطأ؟ لا ينبغي
المزاح هنا، أليس كذلك؟

- لا نظن أنها كانت مزاحاً يا سيدتي.

- لعله أحد الخدم...

لم يرد تافيرنر عليها.

- لا بد... لا أرى شخصاً آخر يمكن أن يفعل ذلك.

- هل أنت متأكدة؟ فكري يا سيدة ليونايدز، أليس عندك فكرة تفسر ما حدث؟ ألم يكن
في البيت مشاعر غير ودّية؟ مشاجرات؟ أحقاد؟

حدقت إليه بعينين واسعتين جريئين، ثم قالت:

- ليس عندي أية فكرة.

- هل قلت إنك كنت في السينما ذلك المساء؟

- نعم، عدت في الساعة السادسة و النصف، وقت إبرة الأنسولين. حقنته الإبرة
بهدوء ثم أصابته حالة غريبة. ارتعبت. اسرعت إلى روجر...

و علا صوتها و جعلت تتكلم كأن الهستيريا أصابتها: لقد قلت لك كل هذا آنفاً،
هل عليّ أن أعيد كل هذا مرة تلو الأخرى؟

- أسف يا سيدتي! و الآن هل أستطيع أن أكلم السيد براون؟

- لورانس؟ لماذا؟ إنه لا يعرف شيئاً في هذا الشأن.

- لكني أريد أن أكلمه.

حدقت فيه بارتياب:

- إنه يدرّس يوستيس اللغة اللاتينية في غرفة الدرس، أتريده أن يأتي هنا؟

- لا، سوف نذهب إليه.

خرج تافيرنر من الغرفة سريعاً و تبعته أنا و الرقيب. قال الرقيب لامب:

- لقد أرعبتها يا سيدي!

و صعدنا بضع درجات ثم سرنا في ممر و دخلنا غرفة كبيرة تُشرف على الحديقة و
فيها طاولة. جلس وراء الطاولة شاب أشقر الشعر وسيم في الثلاثين من عمره، و
فتى أسمر في السادسة عشرة.

دخلنا عليهما فرفعا بصرهما إلينا. يوستيس، أخو صوفيا، نظر إلي، و نظر لورانس
براون إلى رئيس المفتشين نظرة خوف. لم أرَي في حياتي رجلاً مشلولاً من الخوف
مثله! وقف ثم جلس مرة أخرى. قال بصوت كأنه صرير:

- أوه! صباح الخير يا حضرة المفتش.

كان تافيرنر فظاً:

- صباح الخير. هل أستطيع التحدث إليك؟

- نعم، بالطبع، يسرني ذلك.

نهض يوستيس و قال بمرح:

- هل أمضي أنا يا حضرة المفتش؟

قال المعلم:

- سوف... سوف نواصل دروسنا فيما بعد.

خرج يوستيس مختالاً و عندما وصل الباب وقعت عينيه عليّ فتبسم ثم أغلق الباب
وراءه. قال تافيرنر:

- حسنا يا سيد براون. إن بيان المختبر جازم تماماً: الإيسيرين هو ما قتل السيد ليونايدز.

- إنني... هل تقصد... أن السيد ليونايدز قد تسمم؟ كنت آمل...

قال المفتش بغلظة:

- لقد سُمِّم. شخص ما استبدل بالأنسولين قطرة الإيسيرين اللعين.

- لا أصدق. لا أصدق!

- من الذي أقدم على فعل ذلك؟

صرخ الشاب:

- لا أحد. لا أحد بتاتاً.

- هل تريد حضور محاميك؟

- ليس لي محامٍ... لا أريد محامياً. لا شيء عندي أخفيه... لا شيء!

- ألا تعلم أن أقوالك تُدوّن؟

- أنا بريء، أقسم إنني برئ!

- لم أقل بأنك مجرم.

سكت تافيرنر قليلاً ثم أضاف قائلاً:

- كانت السيدة ليونايدز أصغر من زوجها بستة عقود، أليس كذلك؟

- أظن ذلك... أقصد: نعم، هذا صحيح.

- لا بد أنها كانت تضجر من الوحدة أحياناً؟

ظل لورانس صامتاً و لم يُجبه، فقط مرّر لسانه على شفتيها الجافتين.

- إن وجود رفيق لها أصغر منها أو أكبر قليلاً يعيش هنا كان أمراً مناسباً، أليس كذلك؟

- إنني... لا، إطلاقاً... أقصد: لا أدري!

- يبدو لي أنه من الطبيعي أن تنشأ بينكما علاقة.

احتج الشاب بعنف:

- كلا، لم يكن، لا شيء من ذلك. أعرف ما تفكر به، و لكنك واهم. كانت السيدة
بريندا كريمة جداً معي و كنت أكنُّ احتراماً عظيماً لها، لا شيء أكثر من هذا. أؤكد لك
ذلك، إنه أمر بشع أن تقول هذا! بشع! لم أقتل احداً، و لم أعبث بالزجاجات! إن
مجرد فكرة القتل عندي كابوس رهيب. لو دخلتُ المحكمة فسوف يتفهّمون أن لدي
دوافع دينية تمنعني أن أقترف القتل!
لقد كنت أشتغل في المستشفيات و كنت قبلها أذكي النار في مراجل القطارات و هو
عمل شاق لم أتحملْه، لكن الجيش أذن لي بالتعليم. لقد بذلت ما بوسعي من أجل
يوستيس و جوزفين الطفلة الذكية و الصعبة، و كان كل واحد لطيفاً معي إلى أبعد
حد: السيد ليونايدز و زوجته و الآنسة دي هافيلاند! و الآن يقع هذا الأمر الرهيب و
أنت تشك فيّ، فيّ أنا... أنني قتلته؟

حملق المفتش تافيرنر إليه باهتمام و قال:

- أنا لم أقل هذا.

- لكنك تفكر فيه. أعلم أنك تفكر فيه، و هم جميعاً يفكرون فيه. إنهم ينظرون إلي...
إنني لا أستطيع مواصلة حديثي معك! إنني متعب و متوتر الأعصاب!

و ناطلق خارجاً من الغرفة. التفت تافيرنر إليّ:

- حسنا؟ ماذا ترى فيه؟

- لقد خاف كثيراً!

- نعم أعرف، لكن هل هو القاتل؟

قال الرقيب لامب:

- أتدري يا سيدي؟ إنني أراه جباناً لا يجرؤ على ذلك أبداً.

وافقة رئيس المفتشين:

- إنه لن يضرب أحد على رأسه و لن يطلق رصاصة من مسدس. لكن ما عساه أن
يفعل في هذه الجريمة السهلة؟ يعبث بزجاجتين فحسب، يُعِين رجلاً عجوزاً على
الخلاص من هذه الدنيا بطريقة غير مؤلمة نسبياً.

- القتل الرحيم يا سيدي!

- ثم بعد ذلك، ربما بعد زمنٍ، يكون الزواج من امرأة ترث مئة ألف جنيه معفاة من
الضريبة و لديها مئة ألف أخرى و كومة كبيرة من الياقوت و الزمرد – و تنهد
تافيرنر – لكن هذا كله ظنون و تخمين. لقد نجحتُ في ارهابه، و لكن هذا لا يثبت
أي شيء؛ لأنه كان سيخاف حتى لو كان بريئاً. و على أية حال فأنا لا أجزم أنه فعل
ذلك، أرى أن امرأة هي التي فعلتها، و لن لماذا لم تَرْميِ قنينة الأنسولين بعيداً أو تغسلْها؟

و التفت إلى الرقيب يخاطبه: ألا يوجد دليل من الخدم؟

- الخادمة زعمت أنهما كانا يحبان بعضهما.

- و ماذا جعلها تزعم هذا؟

- نظراته إليها و هي تصب القهوة له.

- هذا أمر لا تستند إليه محكمة، ألا توجد أحداث واقعية؟

- لم يلحظ أحد شيئاً من ذلك.

- لو كان بينهما شيء لرآه الخدم. أتدري؟ لقد بدأت أعتقد أنْ لا شئ بينهما!

و نظر تافيرنر إليّ ثم قال: ارجِعْ إليها و تحدثْ معها، أريد أن أعرف انطباعك عنها.

ذهبت و أنا شبه كاره رغم أنني كنت متشوقاً لذلك.






[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]

  #10  
قديم 12-18-2015, 08:12 PM
 
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:700px;background-image:url('http://up.arabseyes.com/uploads2013/17_12_15145035209314512.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]


- 9 -

وجدت بريندا ليونايدز تجلس حيث تركناها، و لدى دخولي رفعت بصرها بحدة
و سألتْ:

- أين المفتش تافيرنر؟ هل سيعود؟

- ليس بعد.

- من أنت؟

أخيراً سمعت السؤال الذي كنت أتوقعه طوال الصباح، و أجبتها بصراحة:

- أنا مرتبط بالشرطة، لكنني صديق للعائلة أيضاً.

- العائلة؟ إني أكرههم جمبعاً.

نظرت إليّ و فمها يتحرك و بدت عابسةً خائفةً و غاضبةً.

- كانوا دائماً يعاملونني بحقارة، منذ البداية. قالوا: لماذا أتزوج أباهم العزيز؟ و ماذا
يهمهم من ذلك؟ لقد أعطاهم المال، لم تكن لديهم عقول لكي يجمعوا المال بأيديهم –
و نظرت إليّ بجرأة - : لماذا لا يتزوج الرجل ثانية حتى لو كان كبيراً؟ إنه لم يكن
طاعناً في السن، و قد أحببته كثيراً!

- فهمت. فهمت.

- لعلك لا تصدقني، لكنها الحقيقة. لقد سئمت الرجال. كنت أرجو بيتاً و عائلة و رجلاً
يحنو علي و يقول قولاً جميلاً. أريستايد كان يؤنسني، و كان مرحاً، و ذكياً و كان
يبتدع كل أسلوب حتى يجتنب كل هذه القوانين السخيفة! لقد فجعتُ بموته.

أسندت ظهرها إلى الأريكة و ابتسمت بسمة غريبة تدل على البلادة:

- كنت هنا سعيدة و آمنة، كنت أذهب إلى الخياطين المهرة الذين كنت أقرأ عنهم، و
اريستايد قد أعطاني أشياء جميلة – و مدت يدها و هي تنظر إلى ياقوتة فيها – و
كنت طيبة معه في المقابل.

رأيت يدها الممدودة كأنا مخلب القط، و سمعت صوتها الهادر، قالت و ما زالت تبتسم:

- ما العيب في ذلك؟ لقد كنت لطيفة معه و جعلته سعيداً!

و مالت إلى الأمام: هل تعلم كيف التقينا؟

و لم تنتظر جوابي:

- كان لقاؤنا في معطم شامروك. طلب بيضاً مقلياً على خبز توست، و عندما أحضرتُه
له كنت أبكي. قال لي: ((اجلسي، و أخبريني مالي يحزنك)) فقلت له: (( لا
أستطيع محادثتك لأنهم سيفصلونني من العمل إن فعلت)) فقال: ((لا، لن يفصلك
أحد فأنا صاحب هذا المكان))! نظرت إليه. فكرت... إن الذي أمامي هو عجوز
ضئيل الحجم غريب، لكن له شخصية جذابة!
و قصصت عليه الأمر كله! و أظنك ستسمع التفاصيل منهم ليقولوا لك بأنني سيئة،
لكني لم أكن كذلك... لقد تربيت تربية حسنة، و كان لنا دكان رائع فيه أشغال و
مطرزات. لم أكن يوماً من الفتيات اللاتي يتخذن أصحاباً من الشبان، أو يبيعن
أنفسهن، لكن تيري كان مختلفاً... إيرلندي يسافر إلى ما وراء البحار، و لم يكن
يكاتبني أبداً. كم كنت حمقاء!
و هكذا كان، وقعت في مشكلة تماماً مثل ما يصيب خادمة بائسة!... إريستايد كان
رائعاً، وعدني أن أكون آمنة، قال إنه وحيد و أننا نستطيع أن نتزوج فوراً. و كان
ذلك عندي كالحلم!
ثم عرفت أنه السيد ليونايدز العظيم الذي يمتلك أعداداً ضخمة من المحلات و المطعام
و الأندية الليلية. كان ذلك مثل القصة الخيالية، أليس كذلك؟

قلت بتحفظ: نوع من القصص الخيالية.

- تزوجنا في كنيسة صغيرة في المدينة، ثم سافرنا للخارج. عاهدت نفسي أن أكون
زوجة صالحة. كنت أطلب له كل أصناف الطعام التي يشتهيها، و ألبس له الملابس
التي يحبها، و أسعى دوماً إلى رضاه! و كان هو سعيداً. لكننا لم ننْجُ من عائلته،
كانوا يأتون إليه فيعطيهم. العجوز دي هافيلاند كان يجب أن ترحل عندما تزوج، و أنا
قلت هذا لكن أريستايد قال: ((إنها تعيش هنا منذ زمن طويل، البيت الآن
بيتها)). كان زوجي يحب أن يكونوا حوله جميعاً و رغم أنهم كانوا يسيئون إليّ
فلم يكن يلحظ ذلك أو يهتم به. إن روجر يكرهني! هل رأيت روجر؟ كان
دائما يكرهني. إنه غيور. و فيليب كان متعجرفاً جداً و لم يكلمني ألبتة. و
الآن يزعمون أنني قتلته و أنا لم
أفعل، لم أفعل! أرجوك صدقني! أنا لم أقتله!

أثارت شفقتي. كان ازدراؤهم لها و تمنيهم أن تلتصق بها الجريمة يبدو في هذه
اللحظة سلوكاً غير إنساني حتماً. كانت وحدها دون مدافع و لا حول لها و لا قوة. قالت:

- و إن لم يكن القاتل أنا، فهم يطنون أنه لورانس.

- و ماذا عن لورانس؟

- أنا آسفة كثيراً لأجله!... رجل لطيف لا يستطيع أن يقاتل، ليس جباناً لكنه رقيق
المشاعر! و قد اجتهدت أن أساعده و أجعله يشعر بالسعادة. عليه أن يعلّم الأطفال
الفظيعين. يوستس يهزأ به كثيراً، و جوزفين. هل رأيت جوزفين؟ لو رأيتها فستعرف حقيقتها.

- لم أري جوزفين بعد.

- أحيانا يكون عقلها غير طفولي. إن لها طرقاً حقيرة جداً، و هي تبدو غريبة
الأطوار، إنها ترعبني أحياناً!

لم اكن أريد الحديث عن جوزفين فرجعتُ إلى موضوع لورانس براون و سألتها:

- من هو و من أين جاء؟

قالت بخجل:

- إنه ليس شخصا محدداً. إنه مثلي تماماً. أي حظٍ هذا الذي يجعلهم يعدوننا؟

- ألا ترين أنك أصبحت في حالة هستيرية بعض الشيء؟

- لا، لا أعتقد. هم يريدون أن يُعلنوا أن الفاعل هو أنا أو لورانس، و قد كسبوا ذاك
الشرطي إلى صفّهم فأية فرصة لي إذن؟

- إهدئي... إنك تثيرين نفسك كثيراً.

- لم لا يكون الفاعل واحداً منهم؟ أو يكون القاتل شخصاً من الخارج أو خادماً من الخدم؟

- و لكن أين الدافع؟

- أوه! دافع؟ أيدافع لديّ أو لدى لورانس؟

شعرت بعدم الارتياح و أنا أقول:

- أظنهمو يعتقدون أنك أنت... و... لورانس... تحبان بعضكما، و أنكما تريدان الزواج.

نشزتْ كالسهم:

- هذا قول فظيع! ليس صحيحاً! إننا لم نقل كلمة من ذلك لبعضنا. كنت فقط أشعر
بالأسف لأجله و حاولت أن أساعده فحسب، هذا كل ما في الأمر. انت تصدقني...
أليس كذلك؟

أكدت لها بأنني أصدقها حقاُ، و أظن أنها و لورانس ليسا إلا صديقين، لكني كنت أشك
أنها كانت تحبه فعلاً.

نزلت إلى الطابق السفلي لأرى صوفيا و في رأسي تلك الفكرة. و بينما أنا على وشك
دخول غرفة الاستقبال أطلت صوفيا برأسها من أحد الأبواب في الممر و قالت:

- مرحباً! أنا أساعد ناني في إعداد الغداء.

كنت سأنضم إليها لكنها خرجت إلى الممر و أغلقت الباب وراءها و قادتني إلى غرفة
الاستقبال و هي تمسك بذراعي، و كانت الغرفة خالية، فقالت:

- هل رأيت بريندا؟ ما قولك فيها؟

- بصراحة؟ إني مشفق عليها!

ضحكت صوفيا و قالت:

- فهمت. لقد كسبتك في صفها!

أحسست بالانفعال قليلاً و قلت: أرى الأمر من جانبها و من الواضح أنك لا تستطيعين
رؤية ذلك.

- ماذا من جانبها؟

- قولي بأمانة يا صوفيا: هل كان أحد من العائلة لطيفاً معها أو يعاملها بعدل منذ
جاءت إلى هنا؟

- كلا، لم نكن لطفاء معها، و لماذا نكون كذلك؟

- إن لم يكن من أجل شيء فمن أجل الوازع الأخلاقي.

- أنت تتحدث عن الأخلاق يا تشارلز؟ لابد أن بريندا قد أحسنتْ دورها جيداً!

- ماذا أصابك يا صوفيا؟

- هذا هو الصحيح. لقد سمعتَ بريندا، و الآن فلتسمعني: أنا أبغض المرأة الشابة
التي تخترع قصة حظها العاثر و تتزوج عجوزاً ثرياً اعتماداً على هذه القصة. لا أحب
هذا الصنف من النساء و لا أتظاهر بأنني أحبها بتاتاً. و لو قرأت أنت الحقائق مجردة
في ورقة مكتوبة لما أحببت هذا الصنف أيضاً.

- و هل كانت قصة مخترعة؟

- ربما، هذا ما أعتقده أنا على الأقل.

- و هل ساءكِ أن جدك قد انخدع بهذه القصة؟

ضحكتْ صوفيا و قالت:

- جدي لم يكن مخدوعاً، لا أحد يستطيع خداع جدي العجوز! كان يريد بريندا. أراد
أن يظهر في دور المنقذ لهذه الخادمة المتوسلة و هو يعلم تماماً ما يفعله، و قد
تحقق ذلك على نحو جميل وفق خطة ما. إن الزواج – عند جدي – قد نجح نجاحاً
كاملاً مثل سائر أعماله الأخرى.

سألتها ساخراً:

- و هل كان توظيف لورانس براون معلماً هو نجاحاً آخر من نجاحات جدك؟

قطبتْ صوفيا جبينها:

- لست متأكدة... لعله كذلك. أراد جدي أن يُسعد بريندا و يسليها. ربما كان يظن أن
الجواهر و الثياب لم تكن تكفِ، و لعله قدّر أن شاباً مثل ليورانس براون – و هو
رجل مروَّض في الحقيقة – سيقوم بعمل هذه الحيلة: الصداقة الجميلة المفعمة
بالعاطفة المشوبة بالاكتئاب ستمنع بريندا من عشق رجل غريب، أظن أن جدي قد
حقق شيئاً بهذا الفتى، لقد كان عجوزاً شيطاناً! و لم يستطع التنبؤ أن ذلك سيقتله! –
و صار صوتها عنيفاً – و أنا في الحقيقة أستبعد أنها فعلت ذلك، فلو كانت خططت
لقتله أو اتفقت مع لورانس لعرف جدي ذلك و كشفه. أنت أيضاً تستبعده ، أليس كذلك؟

- نعم، أعترف بذلك.

- أنت لا تعرف جدي حقاً. لم يكن ليتغاضى عن مسألة قتله.
- بريندا خائفة يا صوفيا، خائفة جداً!

- أمِنْ رئيس المفتشين تافيرنر و رجاله العفاريت؟ نعم، هم مرعبون! ألا ترى
لورانس في حالٍ هستيرية؟

- أمر طبيعي. لقد تصرّف أمامنا بشكل سخيف. أتساءل ما الذي يعجب هذه المرأة فيه؟

- ألا تفهم يا تشارلز؟ إن لورانس – في الحقيقة – جذاب!

قلت غير مصدق:

- رجل ضعيف كهذا!

- عجباً للرجال! لماذا تظنون أن رجل الكهف وحدَه هو الذي يجذب النساء ليس غير؟
- و نظرت صوفيا إليّ – إني أرى بريندا قد اصطادتك لا شك.

- لا تكوني شخيفة. إنها ليست حسناء. و هي حتماً ليست...

- ليست مغرية؟ بريندا ليست حسناء و لا هي ذات ذكاء حقيقة، لكنها تتمتع بصفة
واحدة هي: القدرة على توليد المشكلات! و ها هي قد ولّدت مشكلة بيني و بينك!

- صوفيا!

انصرفت صوفيا إلى الباب:

- انسَ الأمر يا تشارلز. لابد أن أُتمّ إعداد الغداء.

- سأقوم معك لأساعدك.

- لا، ابقَ هنا. إن وجود رجل في المطبخ سوف يزعج ناني.

و خرجت فناديت:

- صوفيا!

- ماذا؟

- أسألك عن الخدم: لماذا ينقصُ الطابق الأرضي هنا خادمة، و الطابق العلوي فيه
خادمة تلبس المريلة و تفتح لنا الباب؟

- كان عند جدي طاهية و مدبرة منزل و خادمة استقبال و خادم. كان يحب الخدم و
يُعطي كثيراً لكي يجلبهم. أما كليمنسي و روجر فعندهما خادمة في النهار فقط لأعمال
التنظيف فهما لا يحبان الخدم، أو أن كليمنسي لا تحبهم، و لو لم يكن روجر يأكل
وجبة مشبعة في المدينة كل يوم لمات من الجوع؛ لآن كليمنسي لا تعرف من الطعام
إلا الخسّ و الطماطم و الجزر. أما نحن فأحياناً يكون عندنا خدم ثم تصيب أمي إحدى
نوباتها العصبية فيتركون المنزل! و عندنا خدم يعملون في النهار فترات قصيرة ثم
يذهبون. ناني هي الدائمة عندنا و هي تنسجم مع حالات الطوارئ. و الآن قد عرفت
كل شيء.

خرجت صوفيا. و جلستُ على مقعد مظرز أفكر.. في الطابق العلوي رأيت جانب
بريندا من المسألة، و هنا – في الطابق الأرضي – رأيت جانب صوفيا منها فأدركت
عدالة قول صوفيا – و هو ما اسميه نظرة أسرة ليونايدز – بأنهم يكرهون الغريبة
التي دخلت البيت بوسيلة خسيسة. كانوا على حق تماماً كما قالت صوفيا: ((على
الورق لا تبدو وجهة نظر حسنة))...

لكن فيها الجانب الإنساني، الجانب الذي رأيته أنا و لم يروه، فقد كانوا أغنياء
يعيشون في برجٍ عاجي لو يذوقوا غصة المعاناة. بريندا ليونايدز كانت تريد الثروة و
الأمان، و زعمت أنها – بالمقابل – جعلتْ زوجها العجوز سعيداً. لقد تعاطفت معها و
أنا استمع إليها فهل أتعاطف معها الآن كذلك؟

للقضية جوانب و أبعاد مختلفة فأيها هو الصحيح؟

كنت قد نمتُ قليلاً جداً في ليلة الأمس، و قد استيقظت مبكراً لأرافق تافيرنر. و الآن،
في هذا الجو الدافيء الذي تعبق فيه رائحة الزهور في غرفة استقبال ماجدا ليونايدز،
استرخى جسدي فوق المقعد الكبير و سقطت جفوني. تبددت أفكاري و أنا أفكر في
بريندا و صوفيا و صورة الرجل العجوز، ثم نمت.






[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]

 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الجرائم الابجدية abc ~ اجاثا كريستي زيزي | Zizi روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة 25 07-19-2017 06:13 PM
من روايات وقصص اجاثا كريستي.. عاشقة لان أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 19 06-06-2011 03:54 PM
نبذة عن الكاتبة اجاثا كريستي Kairis kingdom أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 24 12-02-2010 08:57 PM
رواية ( البيت المائل) آغاثا كريستي ***peer dagher*** أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 5 07-26-2007 04:17 AM


الساعة الآن 10:18 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011