عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 08-26-2008, 10:00 PM
 
رد: خطبة الحرمين ليوم الجمعة 21/ 8/ 1429ﻫ

المحافظة على العلاقات الأسرية
الحمد لله خلق الخلق تفضلاً، واصطفى من عباده رسلاً بعثهم مبشرين ومنذرين؛ ليهلك مَنْ هلك عن بيِّنةٍ، ويحيى من حيي عن بينةٍ. أحمده سبحانه وأشكره، وأساله المزيد من فضله وكرمه، وأعوذ به من أسباب سخطه ونقمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزَّه عن الأشباه والأنداد، وتقدَّس عن الصاحبة والأولاد. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدالله ورسوله، جاء بالصدق، وصدع بالحق، صلى الله وسلم وبارك عليه، أقام للتوحيد منائر وأعلامًا، وهدم للشرك أوثانًا وأصنامًا، وعلى آله وأصحابه كانوا للمتقين إمامًا، والتابعين ومَنْ تبعهم بإحسانٍ، وسلم تسليمًا كثيرا أبدًا دوامًا.

أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجلَّ - فاتقوا الله - رحمكم الله - فأفضل الأعمال أداء ما افترضه الله، والورع عمَّا حرَّم الله، وصدق النيَّة فيما عند الله، طوبى لمَنْ أيقن بالبعث والحساب وخاف سوء المنقلب والمآب، ومن عصى الله فقد حاربه، وكلما عظم الذنب - عياذًا بالله - اشتدَّت المحاربة؛ قال بعض السلف: "إذا نطقت فاذكر مَنْ يسمع، وإذا نظرت فاذكر مَنْ يرى، وإذا عزمت فاذكر مَنْ يعلم".

{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 9 – 11].

أيها المسلمون:
يشكو هذا العصر وأهله من التفكك في الأُسَر، والعنف في التعامل، وارتفاع نسب الطلاق والفُرْقة في البيوت، والنفرة بين الأقارب.

إن مَنْ يشاهد ألوان الاضطراب وأنواع التنازع لا يجد له مردًّا سوى الأنانية الضيقة، والعادات المرذولة، والأعراف السيئة، والثقافات الوافدة الفاسدة، مع غيابٍ ظاهرٍ عند هؤلاء لآداب الدين وأخلاق الإسلام وأحكام الشرع.

لقد نشروا ثقافة الصراع (الذُّكوري – الأنثوي)، وأوسعوا الفجوة بين الرجال والنساء في تحوير وتزوير وتصحيف وتحريف وتضخيم وتكوين مسخٍ للحقائق، وبُعْدٍ عن العدل والرحمة والسَّكَن والمودَّة.

أيها المسلمون والمسلمات:
ليست الحياة الأسرية أن تأمر وتنهى، وترغب وتتمنَّى، وتتوعَّد وتتهدِّد، وكأن الأمر أن المرء لا يفكر إلا في نفسه ولا يغضب إلا لخاصَّته.

العلاقات الأسرية ليست أوامر صارمة، وأحكامًا حازمة، وتجاذباتٍ حادَّةٍ جامدة.

الذين يشكون القلق في بيوتهم، والاضطراب في علاقاتهم، والتردُّد في قراراتهم، والغبش في رؤيتهم، أين يتجهون؟ وبماذا ينصحون؟!

غريبٌ أن يكون هذا مشكلاً في ديار المسلمين، وفي أقوامٍ كتاب الله بين أيديهم، وسنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم – بين ظهرانيهم.

أيها الإخوة والأخوات في كل مكان:
مَنْ يشكو قلقًا في بيته، أو اضطرابًا في أسرته، أو مشكلات في أحواله وشؤونه - عليه التمسك بركاب النبوَّة والهداية المحمدية، فنبيّنا محمد - صلَّى الله عليه وسَلَّم – هو القدوة المُثْلَى والمثل الأعلى، ذو الخلق العظيم، مأمورون جميعًا أن نأخذ بكل ما جاء به: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

النبي الحبيب المصطفى، ذو المسؤوليات الجسام، والهموم الكبرى، والمشاغل الجمَّة في الدِّين والدَّعوة والدولة - كل هذه المسؤوليات والهموم لم تزاحم مسؤولية البيت وحق أهل البيت؛ بل كأن ليس له همٌّ إلا همّ البيت، وليس له مسؤوليةٌ إلا مسؤولية البيت الطاهر، وهو القائل: ((إن لنفسك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، فأَعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه))؛ قسمةٌ غفل عنها الكبار قبل الصغار.

فتعالوا - رحمكم الله - لتتأمَّلوا هذه السيرة النبوية، والمسيرة المصطَفَويَّة في هذا البيت الذي تُتلى فيه آيات الله والحكمة، هذا البيت الذي أذهب عنه الله الرِّجْس وطهره تطهيرًا.

إنه النبي المجتبى، والرسول المصطفى، الزوج الرحيم، والجليس المؤانِس، والناصح الأمين، والمشير الصدوق، يمازح أهله في السرَّاء، ويواسيهم في الضرَّاء، يسمع الشكوى، ويكفكف الدموع، لا يؤذي بلسانه، ولا يجرح بكلامه، يتحمَّل منهم ما لا يتحمَّل غيره، ما ضرب بيده امرأةً قط، لا يتصيَّد الأخطاء، ولا يتتبَّع الأفراد، ولا يضخِّم الزلاَّت، ولا يُكْثِر اللوم والعتاب، يتحمل الهفوة، ويتغاضى عن الكبوة، قليل الملامة، كثير الشكر، وهو القائل: ((لا يَفْركُ مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كره منها خلقًا رضي منها آخر))؛ رواه مسلم.

لقد تمثَّل المصطفى - عليه الصلاة والسلام - المعاشرة بأسمى معانيها، وجسَّد القوامة في أصدق صورها، وهو القائل: ((خيركم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي))؛ رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وإسناده صحيحٌ على شرط الشيخين.

إن في معاملة النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم – لأزواجه وأهل بيته منهاجًا للمسلمين، وسنَّةً للمؤمنين؛ إنها معالم الهدي المحمدي في الأسرة، ونظامها، وعلاقاتها، وتدبيرها، وإداراتها.

يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "وكان هديه صلَّى الله عليه وسَلَّم في أهل بيته أقوم الهدي، وكان في سيرته حسن المعاشرة وحسن الخُلُق، وكان يسرِّب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها، وكانت إذا هويت شيئًا لا محذور فيه تابعها، وكانت إذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه موضع فمها وشرب، وكانت إذا تعرَّقت عِرْقًا – وهو العظم الذي به لحم – أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتكئ في حجرها ويقرأ القرآن، وسابقها في السَّيْر على الأقدام مرتين؛ سبقها مرَّة وسبقته مرة! وتدافعا في خروجها من المنزل مرة".

نعم أيها الإخوة والأخوات في الله، المزاح والمداعبة والملاعبة تطيِّب القلوب، وتزرع المودَّة، وترسِّخ الألفة، وها هم الأحباش يرقصون بالحراب؛ فسمع رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم – ضوضاء الناس والصبيان، وكان جالسًا فقام ثم قال: ((يا عائشة، تعالي فانظري))، قالت - رضي الله عنها -: "فوضعتُ خدي على منكبه، فجعل يقول: ((عائشة، ما شبعتي؟)) فأقول: لا؛ لأنظر منزلتي عنده!!".

هذه طبيعة الأنثى، في رقَّتها وطَبْعِها، تفصح عنها أمنا عائشة - رضي الله عنها - لنتعلم ونتفقَّه ونقدِّر لكل شيءٍ قدره، كما نقدِّر لكل سنٍّ قدره.

ثم تقول - رضي الله عنها -: "ولقد رأيتُه يراوِح بين قدمَيْه"؛ يعني من طول المدة؛ لأنه تركها حتى تشبع في رؤيتها لهؤلاء الذين يرقصون.

وفي رواية في "الصحيحين": "يقوم من أجلي، حتى أكون أنا الذي أنصرف"، كم تمتلئ هذه الصورة في بيت النبوة من اللطف العالي، والتعامل الراقي، والقصد إلى إدخال السرور على الأهل، إن إدخال السرور، ونشر السعادة، وبثّ روح الأنس والهدى والرحمة - لا ينبغي أن يغيب عن كل فرد من أفراد الأسرة، يجب أن يعيش أهل البيت جميعًا في ظلال الرحمة والرضا والاهتمام والعناية.

أما العنف والشدة والقسوة - معاشر المسلمين والمسلمات - فما خُيَّر رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم - بين أمرين قط إلا كان أحبَّهما إليه أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عن الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه حتى تنتهك حرمات الله فينتقم لله.

وما ضرب رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم - بيده خادمًا ولا امرأةً قط، وحين جاء نسوة إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم - يشكون أزواجهم - قام - عليه الصلاة والسلام - معلنًا وموجِّهًا: ((لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهم، ليس أولئك بخياركم، ليس أولئك بخياركم))؛ رواه أبو داود بسند صحيح.

وعن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدِّه، قال: قلت: يا رسول الله، نساؤنا؛ ما نأتي منها وما ندع؟ قال: ((حَرْثُكَ أنَّى شئت، غير أن لا تقبح الوجه ولا تضرب، وأطعمها إذا طعمت، واكسها إذا اكتسيت، ولا تهجرها إلا في بيتها، كيف وقد أفضى بعضكم إلى بعض، إلا بما أحلَّ الله)).

عباد الله، إماء الله:
"إن زوجات رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم – أمهات المؤمنين، كن يراجعن نبي الله في الحديث، حتى يبلغ الحال بالواحدة منهن أن تهجره يومًا كاملاً إلى الليل"؛ متفقٌ عليه.

وكان هو الصبور المتحمِّل لا ينتصر لنفسه؛ لأنه يرسم القدوة والأسوة في إدارة البيت وحل المشكلات.

تأملوا - رحمكم الله - هاتين الحادثتين في بيت النبوة:
الأولى: استأذن أبو بكر - رضي الله عنه - على النبي - صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسَلَّم - فسمع عائشة وهي رافعةٌ صوتها على رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم - فأذن له فدخل، فقال: يا ابنة أم رومان - وتناولها ليلطمها - أترفعين صوتك على رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم -؟! قال: فحال النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم – بينه وبينها. قال: فلما خرج أبو بكر جعل النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم – يقول لها – يترضَّاها -: ((ألا ترين أني قد حُلْتُ بين الرجل وبينك!)). قالت: ثم جاء أبو بكر فاستأذن عليه، فوجده يضاحكها، فأذن له فدخل، فقال أبو بكر: يا رسول الله، أشركاني في سِلْمِكُما كما أشركتماني في حقِّكما؛ فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((قد فعلنا، قد فعلنا))؛ أخرجه أحمد في "المسند"، وأبو داود والنسائي، وإسناده حسن.
أما الصورة الثانية: فقد كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم - عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بقصعة فيها طعام فضربت التي هو في بيتها يد الخادم، فسقطت القصعة فانكسرت، فأخذ النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم، بأبي هو وأمي - أخذ الكسرتين، وضمَّ إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام ويقول: ((غارت أمكم! غارت أمكم!!)). وقال للقوم: ((كلوا))، وحبس الخادم حتى جاءت الأخرى بقصعتها، فدفع القصعة الصحيحة إلى الخادم التي كُسرت قصعتها، وترك المنكسرة للتي كُسِرَت. والحديث في "صحيح البخاري" وغيره، برواية أنس بن مالك - رضي الله عنه.

بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام - يقدِّر الطِّباع، ويلتمس الأعذار، ويُحسن المعاملة، ويعالِج بالتي هي أصلح وأحكم وأرأف.

حُسْنُ الخُلُق - حفظكم الله - ليس بكفِّ الأذى وحده؛ بل باحتمال الأذى، والحِلْم عند الغضب، وضبط النفس عند الطيش، وكظم الغيظ عند الانفعال.
لابد في التعامل الأُسَرِيِّ من الصبر والمداراة والتحمُّل من أجل الفوز بحسن المعاشرة، فلا تقف عند صغيرة تكبر، وكل ابن آدم خطَّاء، وكل ابن آدم يغفل وينسى، وكل ابن آدم يضعف ويجبن، فلابد من غضِّ الطرف، ولابد من العفو والصفح، فمن ذا الذي ما سقط؟!

المطلوب - أحسن الله إليكم - استمالة النفوس، وتأليف القلوب، وسياسة الرد بالحكمة والرحمة والعدل والإحسان.

إنها من القوارير في الصفاء والرقَّة واللُّطف ودقيق العناية ورفيق الرعاية - الزوجة موضع السرِّ وموضع المودة، وإليها السَّكَن وفيها السكينة.

وبعد عباد الله:
فالألفاظ الحسنة، والكَلِم الطيِّب، والدعاء، والشكر والثناء، والعتاب بالجميل، والمبادرة بالفضل، وتبادل الهدايا من غير مبالغة، وإظهار الاهتمام بالبرامج والهوايات الحسنة، والمشاركة في الحديث، والمشاورة في الرأي، والتشاور في معالجة المشكلات، والإنصات الجيِّد، وعدم الاحتقار والازدراء، والاعتذار عن الأخطاء والأغراض، والتواصل في حال الغياب بالمراسلة والمهاتفة والوسائل المتاحة - كل ذلك طريقٌ للحياة الكريمة والسعادة المنشودة.

فليست السعادة ألاَّ توجد في البيت مشكلات، ولا ألاَّ تحصل خلافات واختلافات؛ ولكنَّ الحياة السعيدة: الإيمان بالله، والقيام بما افترض الله، والأخذ بحكم الشرع وأدب الدِّين.

ولينفق ذو سعةٍ من سعته؛ فالكرم يستر العيوب، ويداوي كسر القلوب، وما أُسرت القلوب بشيءٍ أعظم من الإحسان.

فاجتهدوا - أحسن الله إليكم – بكل وسيلة دينية أو دنيوية مباحة؛ تجنون السعادة وتبنون البيوت الكريمة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد - صلَّى الله عليه وسَلَّم - وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله المبدئ المعيد، الفعَّال لما يريد، أحمده سبحانه وأشكره، وأسأله من فضله المزيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة الإخلاص والتوحيد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدالله ورسوله أفضل الرسل وأشرف العبيد، صلَّى الله وسَلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأكرمين المكرمين بالتأييد والتسليم، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسار على النهج الرشيد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:
فاعلموا - رحمكم الله - أن الميثاق الغليظ ورد في موطنين من كتاب الله:
الأول: في أصل الدين، ودعوة الرسول، والميثاق على الأمم؛ في مثل قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 7 - 8].
أما الميثاق الثاني: ففي العلاقة بين الزوجين، وفي كلمة الله بعقد النكاح؛ يقول - عزَّ شأنه -: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21].

وأما في سنَّة النبي محمد - صلَّى الله عليه وسَلَّم –؛ فقد خطب - عليه الصلاة والسلام - في الموقف العظيم في حجَّة الوداع، في أكبر تجمع إسلامي على الإطلاق، وبَلَّغَ البلاغَ المبين، فذكر أركان قيام الأمة: من أصل الدين، والعصمة من الضلال بالتمسك بالكتاب والسنَّة، وحذَّر من الفرقة التي يرجع فيها الإسلام كفارًا، يضرب بعضهم رقاب بعض، ثم ضمَّ إلى هذه الأصول العظام قوله - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((واستوصوا بالنساء خيرًا؛ فإنهنَّ عَوانٌ عليكم في أيديكم، أخذتموهنَّ بأمان الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله.. )) الحديث؛ رواه مسلم.

إن مقياس الرجولة والخيرية والفضل يتجلَّى في حسن المعاملة لأهل البيت: ((خيركم خيركم لأهله)).

الحياة الأسرية ليست أجسامًا متقاربة تستبطن أرواحًا متباعدة، ليست نفقةً وفراشًا، ولكنها رحمةٌ وسَكَنٌ ومودَّةٌ.

تأملوا - رحمكم الله - هذا الأدب الرفيع في التعامل واحترام الخصوصية وإعطاء الفرصة؛ يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا قَدِمَ أحدُكم ليلاً فلا يأتينَّ أهلَه طُروقًا، حتى تستحدَّ المَغِيبَةُ وتمتشطُ الشَّعِثَةُ)). وفي رواية: "نهى أن يطرق أهله ليلاً؛ يتخوَّنهم أو يتطلَّب عثراتهم".

ما أعظم هذا الخُلُق! وما أعظم القصد إلى زرع الثقة المتبادلة والأمن الأسري والأمان البيتي!!!

واعلموا أن في آداب نبيكم وتوجيهات دينكم ما تستقيم به حياتكم وتصلح به بيوتكم، وها أنتم في استقبال شهرٍ كريمٍ وموسمٍ عظيم؛ فأروا الله من أنفسكم خيرًا.

احفظوا أوقاتكم، وانصحوا لأنفسكم وأهليكم؛ فقد كان نبيُّكم محمد - صلَّى الله عليه وسَلَّم – يجتهد في هذا الشهر ما لا يجتهد في غيره، وكان أجود ما يكون في رمضان؛ كان يحيي ليله، ويوقظ أهله، ويقول: ((أيقظوا صواحب الحجرات)). فاتقوا الله - رحمكم الله.

ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبيُّكم محمد رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربكم؛ فقال - عزَّ من قائل عليم - في محكم تنزيله قولاً كريمًا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك، نبينا محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والخُُلُق الأكمل، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشِّرْك والمشركين، واحْمِ حَوْزَة الدين، وانصر عبادك المؤمنين.

اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمَنْ خافك واتَّقاك واتَّبع رضاك يا رب العالمين.

اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعزَّه بطاعتك، وأَعْلِ به كلمتك، وانصر به دينك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين. اللهم وفِّقه وإخوانه وأعوانه لما تحب وترضى، وخُذْ بنواصيهم للبرِّ والتقوى. اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمد - صلَّى الله عليه وسَلَّم - واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.

اللهم وأضرب لأمة الإسلام أمر رشدٍ، يعزُّ فيه أهل الطاعة، ويُهدى فيه أهل المعصية، ويؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر؛ إنك على كل شيء قدير.

اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.

اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، والرضاء بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ونسألك نعيمًا لا ينفذ، وقرَّة عينٍ لا تنقطع، ونسألك لذَّة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، في غير ضرَّاء مضرَّة ولا فتنة مضلَّة.

الله زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين، لا ضالِّين ولا مُضلِّين.

اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، ونسألك قلوبًا سليمةً وألسنةً صادقةً، ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم.

اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين.

{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

{رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].
رد مع اقتباس