عرض مشاركة واحدة
  #115  
قديم 06-06-2016, 05:43 PM
 





الفصل الثاني و العشرون ج1
*وجه آخر*






إثر إنجازها إحدى المهمات البسيطة التي تكلف بها عادة أخذت ماريان تتجول في حديقة القصر الفسيحة حيث تشربت الأشجار الخضراء صفرة الخريف الباهتة .
كانت حديقة خلابة بزهورها المتنوعة ، و أشجارها المنسقة باحتراف ، و نوافيرها الرائعة ذات التماثيل المميزة !
كان هذا هو الجزء الظاهر منها و الذي يحيط بالقصر ، لكن كلما أخذ المرء بالتعمق فيها تتراءى له مناظر مختلفة ، حيث تتكاتف الأشجار الضخمة مع بعضها مشكلة ما يشبه غابة استوائية !

أثناء تنزهها في هذا الجانب للمرة الأولى لاحظت شجرة برتقال كبيرة جهزت تحت ظلالها سفرة صغيرة.
حثت خطاها نحو الخادمين المنشغلين بإعداد أكواب الشاي و ترتيب الأطباق .. و تساءلت قائلة : ما الذي تفعلانه هنا ؟!

قال أحدهما بينما يضع بحذر على المائدة قالبا من الكعك : نقوم بتحضير وجبة خفيفة للكونت .. إنه يحب الجلوس و شرب الشاي تحت ظل هذه الشجرة ! <التفت إلى رفيقه قائلاً : لقد انتهينا تماماً اذهب لاستدعاء الكونت ! إنه يأخذ قيلولة في غرفته كالمعتاد !

و لم يكد المعني يستدير حتى أمسكت به ماريان من ذراعه قائلة : لا شك أنك متعب لذا استرح وأنا سأذهب لإيقاظ الكونت !

قال الخادم بتوتر : لكنني لست..

قاطعته ماريان بنظراتها المرعبة و قالت كأنها تنومه مغناطيسياً : لا أنت متعب ، و يجب أن تستريح !

تجمد الخادم في مكانه قائلا بصوت مرتجف : ح.. حسناً !

تبسمت ماريان بنشوة و رضا ، و انطلقت تعدو فوق العشب بسعادة !

دنا الخادم الآخر من رفيقه وخاطبه قائلاً : ما بك ؟! لم الخوف يلف وجهك ؟!

قال الثاني : إنها...

"هذه هي نظرات التنين قبل أن ينقض على فريسته !"

التفت الخادمان إلى المتكلم و على الفور صرخا فزعين : آليكسي ابتعد عن الكعكة ! إنها من أجل الكونت !

زم المعني شفتيه و قال بخيبة كبيرة : يا للخسارة ! كعكة البرتقال هذه تبدو لذيذة جدا !

تحدث سيباستيان الواقف بجواره مؤنبا : كان عليك أن تدرك أنها للكونت منذ أن وقع بصرك عليها ، فالجميع يعلم أن نكهة البرتقال هي المفضلة لديه !

أضافت إلسا بشيء من الاستغراب : هذا صحيح.. إنه يحب البرتقال كثيراً ! حتى أنه معتاد على الجلوس يومياً و احتساء الشاي تحت ظلال شجرة البرتقال هذه !


وصلت ماريان أخيراً إلى غرفة الكونت الواقعة في أعلى طابق في القصر ، رفعت يدها لتطرق الباب ، لكنها ترردت لشعورها بتوتر شديد.. كانت دقات قلبها تتسارع و وجهها يتلون بالحمرة ، غير أنها حزمت أمرها في النهاية ، حبست أنفاسها ثم طرقت الباب !

وقفت تنتظر .. لكن رداً لم يأتها ، فتجرأت و طرقت مرة ثانية .. ألصقت ذنها بالباب آملة سماع أي صوت او حركة .. لكن لا شيء أبدا ! هدوء مطبق و صمت تام !
طرقت مرة ثالثة كمحاولة أخيرة .. و مجددا لا إجابة !
لذلك استجمعت كل ما تملك من شجاعة ، و أحاطت مقبض الباب بكفها و فتحته ببطء..

هذه أول مرة تدخل فيها غرفة الكونت ! كانت واسعة ، فارهة ، تفوح منها عطور زاكية ، و يغلفها جو من الرهبة و الفخامة ، بأثاثها الفاخر الذي تبدو كل قطعة منه تحفة فنية ، والسجاد الفارسي الراقي يكسو أرضيتها الذهبية البراقة ، كانت تتألق كما لو كانت حجرة ملوك القرن السابع عشر في قصر فرساي !
و الشيء الوحيد الذي ينقصها لتكتمل هذه الصورة الملكية هو الملك نفسه ! فالغرفة عند دخول ماريان كانت خالية تماماً من أي شخص !

تنهدت في خيبة أمل واضحة : إنه ليس هنا .. أين ذهب يا ترى ؟!

و بينما تستدير خارجة لفت نظرها شيء غريب.. كان دخيلا لا يتلاءم مع ديكور الغرفة الملكي مما جعله يبرز أكثر من أي شيء آخر في هذه الغرفة !

توقفت أمامه و قالت محدقة فيه باندهاش و استياء في آن واحد : لا أصدق أن الكونت ما زال محتفظا بهذا الشيء ؟!!

"نعم هذا غريب جداً ! فدب الباندا هذا يناقض شخصية الكونت الجدية الناضجة !"

تراجعت ماريان للخلف في فزع ثم صرخت بغضب شديد : لقد أجفلتني أيها الغبي ! ألن تكف عن تصرفاتك الصبيانية هذه ؟!

ضحك إنزو بخبث ، و انضم إليهما إيريك و دلف داخل الغرفة يتساءل قائلا : ما الذي تتحدثان عنه ؟!!

أشارت ماريان بسبابتها إلى الدب الذي يحتل رفا بكامله .. اندهش إيريك و تمتم ممعنا النظر فيه : غريب حقاً ! لم يقتني الكونت غرضاً طفوليا كهذا ؟!!

عدل إنزو نظارته : آه أنت لا تعرف بالطبع فأنت لم تكن معنا ذلك اليوم !

ردد إيريك مستفهما : ذلك اليوم ؟!!

كانت ماريان من أجاب : اليوم الذي عاد فيه الكونت إلينا بعد إختفائه عشرة أيام !

فكر إيريك لنصف دقيقة بعدها هتف قائلاً : آه تقصدان بعد إنتشار خبر مقتله ؟!

رد إنزو : نعم ، لقد كنت برفقة جدك -كما أمرك الكونت- لذلك لم تتمكن من رؤيته عند عودته !

- آه .. بلى .. لقد مررنا بوقت عصيب جداً بعد أن سمعنا بموته ! كنا ضائعين تماماً لا نعرف ما نفعل ! فهو كان المخطط و العقل المدبر لمجموعتنا ، و لم نكن نتحرك خطوة واحدة دون استشارته !

أضاف إنزو بشرود : نعم ، و رجوعه إلينا بتلك الطريقة المفاجئة كان معجزه حقيقية !

- ألم يخبركم بما حصل معه في فترة غيابه و كيف نجى ؟!!

هز إنزو رأسه نافيا و قال متجهما : لا .. لم يتطرق لذلك الموضوع حتى !
لا زلت حتى هذه اللحظة أذكره جيداً..
في تلك التلة البعيدة حيث مكان اجتماعنا المعتاد .. تلاقينا أنا ، ماريان ، غلبيرت ، سيباستيان ، و آليكسي .. لم نكن نشك في موته خصوصا بعد انقطاع أخباره تماماً ، لكننا واصلنا الالتزام بأوامره و حافظنا على سريتنا و تخفينا..
هناك .. وجدناه جالساً بسكون في مكانه المحبب أعلى التلة ، يتكأ بظهره إلى جذع شجرة كبيرة و يتصفح كتاباً بين يديه !
ركضنا نحوه مذهولين لا نكاد نصدق ما تراه أعيننا !
<التفت نحو ماريان و أضاف باسما : لا أستطيع أن أنسى تلك اللحظة أبداً و كيف طارت قلوبنا لرويته مرة أخرى ، لقد بكيت كثيرا يا ماريان ، و لا زلت أذكر بوضوح كيف ربت على رأسك بلطف ! لقد دهشنا جميعنا أيما دهشة !

توردت وجنتاها و ارتسمت على وجهها ابتسامة رقيقة كانت من النادر أن تمر بملامحها ..
قال إيريك متفاجئا : حقاً ؟! لم أره أبداً يفعل شيئاً مثل ذلك !

وافقه إنزو : نعم و لا أنا أيضاً ! لا شك أنه كان مختلفاً كثيراً في ذلك الوقت ، و أكثر ما جعلنا نلاحظ ذلك هو دب الباندا هذا و الذي كان يضعه بقربه حينها ! كنا نظن أنه هدية لآليكسي.. لذلك تقدم ذلك الهر الصغير والتقط الدب قائلا : شكراً .. لكن تمنيت لو أحضرت لي حلوى بدلاً من هذا الدب !
فأخذ الكونت الدب منه برفق و قال مبتسماً : آسف لتخييب ظنك لكنه ليس لك !
كان وجه آليكسي مضحكاً للغاية حين تصلب من الصدمة ! ثم أتت المسكينة ماريان و هي تتوقع أنه يكون من نصيبها و سألت بخجل : لمن هو إذن ؟!
و اتسعت ابتسامة الكونت و قال بنظرة تحدي : ليس لأي واحد منكم .. إنه لي أنا !

عقدت ماريان ساعديها و قالت بحنق شديد : لا أفهم سبب تمسكه بشيء كهذا كل هذه المدة ؟!!

ضحك إنزو و قال ساخراً : هل تشعرين بالغيرة من الباندا ؟!

رمقته ماريان بنظرة غضب : اصمت !

و فكر إيريك قائلاً : بالنظر لشخصية الكونت .. لا أظنه من الممكن أصلاً أن يشتري مثل هذا الدب فكيف بالاحتفاظ به بهذا الاعتزاز و الحرص ؟!!

قال إنزو بجدية : هناك سبب واحد يبرر ذلك و هو أن يكون هدية من شخص عزيز عليه ! <أردف و هو يرمق ماريان بابتسامة خبيثة : كحبيبته مثلاً !

التفت نحوه بنظرات سوداء تثير الرعب ، فتراجع و هو يضحك !

عارض إيريك فكرة رفيقه قائلا : لا أظن أنه من حبيبته <إن كانت لديه واحدة أساساً> فمن الغير معقول أن تهدي فتاة الرجل الذي تحبه دبا كهذا !

أشرق وجه ماريان و هتفت مؤيدة : أجل بالطبع أنت ذكي يا إيريك !

ضحك إنزو ملء فمه : أصبح ذكياً لأن تفكيره يوافق أهواءك هاه ؟!! حسنا.. أنت محق يا إيريك ! الراجح و الأكثر منطقية أن صاحب الهدية .. مجرد طفل !

قطب إيريك جبينه و قال متشككا : نعم .. لكن هذا أيضاً يظل شيئاً غريباً !

قالت ماريان محاولة إغلاق هذا الموضوع : إنه طفل و لا يهم أن نعرف أكثر ! و الآن هيا لنخرج بسرعة قبل عودة الكونت ! <سألت إنزو : صحيح ألا تعرف أين ذهب ؟!!

هز المعني كتفيه : و كيف لي أن أعلم ؟! إنه دائما ما يخرج دون أن يعلمنا بوجهته أو حتى موعد عودته !


⭐⭐⭐


خرج نواه من منزله متأففا بعد أن كاد الملل يقتله.. و أخذ يتجول في الشوارع و الأحياء حتى يرفه عن نفسه لكن دونما جدوى ، فقد كانت حاجته تتمثل في شخص يحادثه و يفهم مشاعره !
والداه كانا يحبانه كثيرا بلا ريب لكنهما لا يستطيعان استيعاب طريقة تفكيره أو فهم المغزى من كلامه و تصرفاته ، و كذلك شقيقه الأكبر الذي كان خفيا تقريباً فهو لا يفعل أي شيء مهم أو مؤثر ، بل يكتفي بالجلوس صامتا حتى غدا وجوده و عدمه سواء !

تمتم بحزن بينما يسير على الرصيف الشبه خالي : إلى أين سأذهب ؟! ليت لونا كانت هنا.. لم يكن أحد يسمعني غيرها !

واصل مشيه منكس الرأس في غم .. حتى بلغ ملعبا صغيرا لكرة القدم..
توقف ليشاهد الأطفال و هم يلعبون .. و إذا بأحدهم يلتفت نحوه و يصيح : إنه أنت يا نواه ! تعال لتلعب معنا !

كان هذا آلفونس صديق نواه !
و رغم أن كرة القدم لم تكن من الرياضات التي يفضلها الفتى الضجر إلا أنه وافق على مضض ، فلم يكن لديه شيء آخر يشغل به نفسه !

و كما كان متوقعا لم يلعب نواه بشكل جيد كما لم يفعل من قبل ! فهو لم يكن سريعاً و مرناً في حركاته كصديقه آلفونس.
و ها هو ذا يركض بأسرع ما لديه نحو مرمى الخصم ليسجل أول هدف لفريقه في هذا الشوط ، و حينما اقترب بمسافة مناسبة ركل الكرة بقوة مسددا إياها نحو المرمى غير أن تصويبه كان سيئاً لدرجة أن الكرة طارت بعيداً عن الملعب !

ضحك لاعبو الفريق الخصم بصوت عال بينما صفق آلفونس بسخرية وقال : أحسنت نواه ! رمية ممتازة تستحق عليها لقب ميسي الفرنسي !

مط الفتى شفتيه بإنزعاج و خرج من الملعب بخطوات محتدة ليحضر الكرة التي هبطت على الرصيف !
نظر حوله .. لكنه لم يجد شيئاً.. فتمتم في سخط : أين ذهبت تلك الكرة اللعينة ؟!!

"هل هذا ما تبحث عنه ؟!"

هذا ما قاله رجل يحمل الكرة بيده اليسرى !
قال نواه بامتنان و هو يأخذها منه : أجل سيدي شكراً لك !

حين رفع رأسه و التقت عيناه بعيني الرجل تصلب وجهه لثوان .. لكنه فجأة عاد إلى طبيعته و انطلق مسرعاً نحو أصدقائه !
أكملوا الشوط الثاني ثم انتهت المباراة بفوز الفريق الخصم كما كان متوقعا !

خطى نواه خارج الملعب وهو يلهث بخطوات بطيئة فقد أنهكه الركض كثيراً ، و لم يكد يلتقط أنفاسه حتى أحس بشيء قذف باتجاهه ! أمسكه نواه في آخر لحظة ثم نظر إلى الشيء في يده و قال متعجبا : عصير برتقال ؟!!

التفت نحو الرجل الذي رماه إليه .. كان جالساً على أحد المقاعد ينظر إليه بابتسامة ودودة !
ركض الفتى نحوه بسعادة غامرة .. ثم جلس على المقعد الخشبي بجواره !

تحدث الرجل بلطف : كانت مباراة جيدة .. لقد بذلت كل جهدك فيها !

قال نواه وهو يدخل القصبة في علبة العصير : لا زلت لاعبا سيئا ً! لكن هذا لا يهمني فلست أحب كرة القدم أصلاً !

تبسم الرجل برزانة : أنت حسبما يبدو تحب الألعاب التي تتطلب الذكاء و سرعة البديهة و ليس التي تعتمد على المرونة الجسدية والنشاط الحركي.. صحيح ؟!!

أومأ نواه مسرورا ثم أضاف : كنت أرغب في التحدث إلى شخص ما لكنني لم أجد أحداً يمكن أن يفهمني.. لذلك فقد سررت كثيراً برؤيتك ! < ثم سأل بقليل من الحرج : هل.. أستطيع التكلم معك قليلاً ؟!!

- بالطبع ! لست مشغولاً في الوقت الحالي..

انفرجت أسارير الطفل فيما تحدث الرجل بإعجاب صادق : لقد كنت ذكياً حقاً حينما تظاهرت بعدم معرفتي و أكملت اللعب مع أصدقائك !

- كان يتوجب علي فعل ذلك ، فلو أني أنا الذي ليس من عادتي التحدث إلى الغرباء تركت المباراة لأجل التكلم معك كان هذا سيثير شكوكهم و بعد ذلك سيمطرونني بوابل من أسئلة لا نهاية لها !

قال الكونت فجأة و هو يمعن النظر في نواه الذي شرب العصير عن آخره : لقد شربت العصير بسرعة و دون تردد ! ألا يمكن أن أكون قد دسست فيه شيئاً ؟!!

أجاب الطفل بثقة كاملة : هذا لا يتلاءم مع شخصيتك و ذكائك ! نحن لسنا وحدنا هنا و لو أنك قتلتني أو اختطفتني فسيقبض عليك رجال الشرطة فورا ً! فأنا واثق أن كل من رآك سيتذكرك ، فلست شخصاً عادياً يمر مرور السلام على الذاكرة !

تبسم الكونت ابتسامة عريضة ثم ربت على رأس نواه برفق ، و قد رقت تعابير وجهه بشكل ملفت حين قال : إنك تذكرني بشخص عرفته يوماً ما !

أشرق وجه نواه و سأل بحماس : حقاً ؟!! و أي نوع من الأشخاص كان هو ؟!!

رفع الكونت رأسه للسماء .. و بعينين سارحتين و صوت حنون جاء رده : لم يكن كأي أحد ! كان فريدا بحق ، و لا شبيه له إلا نفسه ! كالقمر متألق ينير كل ما حوله بنوره المشرق ، و مهما اختفى أو بعد يعاود الظهور بضيائه السني الأخاذ !

قال نواه بانبهار : يبدو رائعا حقاً ! لكن ما الذي جعله فريدا بالضبط ؟!!

قال الكونت بشيء من المرح : حسناً .. إنه فريد بطريقة تفكيره العجيبة و تركيبة شخصية الهجينة ! ذكي و أبله ، مغرور و متواضع ، قاس و حنون.. هكذا كان !

فتح نواه عينيه مذهولا : كيف يمكن أن يكون بهذا التناقض ؟!! هل هو بشري أم كائن فضائي ؟!!

ضحك الكونت و قال مازحا : لست متأكداً تماماً إن كان بشريا أم أخطبوطا من المريخ ! لكنه كان بهذه الصفات فعلاً و لا أظنك ستفهم ما أعنيه ما لم تره بأم عينك !

قال نواه و عيناه تلتهبان حماسة : هل يمكنك إطلاعي على مظهره الخارجي و صفاته المميزة ؟!! أتوق للقائه بشدة !

رفع الكونت سبابته قائلاً : سأخبرك شيئاً واحداً فقط من عاداته المميزة ! و التي لم أر بشراً يفعلها قبله !

ركز نواه بكل جوارحه وأحاسيسه إذ كان تواقا جداً لمقابلة الشخص الفريد الذي شبهه الكونت به !



فتح الباب ببطء مصدراً صريرا خافتا ثم دخل الكونت ذو الثلاثة عشر ربيعاً إلى مكتبة المنزل الذي كان يقيم فيه ذلك الوقت..
خطى بتمهل نحو الرفوف المكتظة بمختلف أنواع الكتب ، و بينما يطالع عناوينها باحثاً عن ضالته ، لمح بطرف عينه شخصاً جالساً على الطاولة في زاوية الغرفة.. كان طفلاً جميلاً بحق !

بخطوات صامتة حذرة تسلل الكونت .. و توارى خلف أحد الرفوف القريبة ، فلم يرد أن يقاطع قراءته.. نظر إلى عنوان الكتاب بين يديه.. كان رواية "الحديقة السرية" و قد بلغ الطفل آخر صفحة منها !

تبسم الكونت بدفء بينما يراقبه من مخبئه ذاك ... لكن ابتسامته .. فجأة .. تجمدت من هول الصدمة.. و أغلق فمه بيده بإحكام كيلا تفلت ضحكته المدوية !
تمتم بصعوبة : ذلك الطفل .. لا يصدق !

ذلك لأن الطفل إثر إنهائه الرواية و قبل إغلاقه الكتاب .. مزق الصفحة الأخيرة.. ثم التهمها !!
شرع يمضغها باستمتاع بينما يردد : ليست سيئة مع أنها أكثر ملوحة من سابقتها ! الكتب الجديدة مذاقها أشهى من القديمة ذات الملوحة الزائدة !

فكر الكونت في نفسه و ضحكاته تكاد تغدر به : (يا الهي ! هل هو معتاد على التهام الكتب ؟!!)

واصل الطفل و هو يشبك يديه كأنما يؤدي شيئاً من الصلوات و قال : فرانسيس هودسون برنيت ! الذكاء و الإبداع الذي تملكينه يجري في دمائي الآن ! شكراً لك !

تشبث الكونت بأحد الرفوف كيلا يقع أرضاً ! غير أنه عن طريق الخطأ أسقط كتاباً وضع على حافة الرف !
تحرك سريعا ليبتعد عن المكان لكن الطفل سبقه بسرعته الخاطفة غير متوقعة ! فوجئ لرؤية الكونت في هذا المكان لكن دهشته سرعان ما اختفت وحل محلها استياء و إحراج طفيف ! وجه نحوه سبابته في اتهام قائلا : لم أنت هنا ؟!! هل يعقل أنك كنت تتجسس علي ؟!!

نفى الكونت بشدة قائلاً : لا إطلاقاً .. جئت فقط للبحث عن كتاب أقرؤه !

ثم تبسم ببراءة ليقول الطفل معاتبا : و لماذا أتيت إلى هنا بنفسك ؟!! ألم يطلب إليك الطبيب المكوث في فراشك و عدم القيام بأي نشاط غير ضروري ؟!! كان عليك أن تطلب ذلك مني بدل أن ترهق نفسك !

قال الكونت بصدق : ظننتك تلعب على الشاطئ كما تحب أن تفعل في الغالب !

تنهد الطفل و قال بعدما استعاد هدوءه : أنا لا أفعل ذلك في الوقت الحالي فلدي مريض علي العناية به !
قال الكونت مشيرا إلى نفسه : و الذي هو أنا صحيح ؟!!
وضع الطفل يديه حول خصره قائلاً : طبعا !

- ليس عليك البقاء بجانبي دائماً ، فالممرضة موجودة في حال احتجت إلى شيء !

صاح الطفل في وجهه قائلاً : أحمق ! أنا أبقى ليس لأنني مجبر على ذلك بل لأنني أحب الجلوس معك و أستمتع فيه أكثر من أي شيء آخر !

رسم الكونت على وجهه ابتسامة دافئة .. بعدها سأل الطفل وهو يكافح نفسه حتى لا يضحك : لا أقصد التطفل على خصوصياتك ولكن ما هذا الذي فعلته قبل قليل ؟!!

نظر الطفل إليه مطولا .. ثم صار يلوح بيديه و يقفز حول الكونت مؤدياً حركات غريبة بشكل مضحك .. ضحك الكونت في سره و قال : هل هذه هي رقصة الهنود الحمر ؟!!

توقف الطفل و قال بجدية : لا.. أنا أحاول محو ذاكرتك !

أفلتت ضحكة قصيرة من الآخر فقال محاولا أن يصلح الأمر : لكن يبدو أنها لا تعمل اليوم جيداً ! فأنت لم تتناول غداءك بعد !

هتف الطفل مقتنعا : صحيح.. أنت محق !

- كما أنه ليس عليك فعل ذلك فأنت تثق بي صحيح ؟!!

تردد الطفل قليلاً لكنه حزم أمره و قال : أظن هذا !

اتسعت ابتسامة الكونت و أضاف : حسناً إذا كان الأمر كذلك ألن تخبرني بما كنت تفعل ؟!!

تنهد الطفل و قال معتزا : لا بأس لأنك أفضل أصدقائي سأخبرك بأعظم سر لدي ! يجب أن تكون فخوراً لكونك أول من يعرف بأمره !

- بالتأكيد !

أخذ الطفل نفساً عميقا ثم قال بتفاخر : إذن .. سر ذكائي الخطير الذي يتساءل الجميع عنه .. هو أكلي للكتب ! مع كل ورقة ألتهمها يزداد نبوغي و عبقريتي !

كتم الكونت ضحكته ببراعة و سأل مبديا اهتماما مقنعا : لكن ألا يكفي أن تقرأها فقط ؟!!

نفى الطفل ذلك بشكل قاطع قائلاً بحماس : لا ، القراءة و الحفظ وحدهما غير كافيين ! يجب أن تأكلها ليتشرب دمك الفن و الإبداع فيها ، و لتجعل تلك الكلمات و العبارات الملهمة تجري في عروقك طيلة حياتك !



قال الكونت باقتضاب وعلى وجهه ابتسامة جميلة : كان يأكل الكتب !

تلاشت حماسة الصغير في لحظة و زم شفتيه قائلاً بخيبة : هذا ؟!! هناك الكثير من المدمنين على قراءة الكتب ممن يدعون ب"ديدان الكتب" هذه الأيام !

أكد الكونت كلامه بقوله : لا كان يلتهم الكتب فعلاً و ليس مجازا !

ففغر الصغير فاه في دهشة : يا له من مخلوق عجيب ! لكن ما الذي أشبهه فيه ؟!!

- حسناً .. هناك بعض الصفات المشتركة أولها تجاوز عقله لمرحلته العمرية و عدم قدرته على الانسجام بشكل كامل مع أقرانه من السن ذاتها ! هناك الجمال أيضاً و لا ننسى غرابة الأطوار و الأفكار !

زم نواه شفتيه فقد ساءه قليلاً وصفه بغريب الأطوار ، قال : هكذا إذن.. < ثم سأل بفضول : أنت تحب ذلك الشخص أليس كذلك ؟!! لقد شعرت بهذا من طريقة كلامك عنه !

ساد صمت ثقيل .. بعدها قال الكونت بابتسامة غامضة : نعم .. كثيراً !

سأل الفتى تلقائياً : و أين هو الآن ؟!

تلاشت ابتسامته كأنما ابتلعتها حفرة لا قعر لها من الحزن والألم و قال : لم يعد موجوداً !

راود الصبي شعور مؤلم كوخز الإبر في قلبه فاعتذر بقوله : أنا آسف حقاً .. لطرحي سؤالا كهذا بلا احتراس أو مراعاة لمشاعرك..

- لا بأس لم يضايقني ذلك..

و سكت نواه لحظات قبل أن يسأل بذكاء : ألهذا السبب اخترتني لتلك المهمة من بين كل الأطفال ؟!! لأني أشبه ذلك الشخص ؟!!

لم ينطق الكونت بشيء و لم يكن في حاجة لذلك فسكوته كان خير جواب.

هم نواه بقول شيء ما .. لكن أتاهم صوت متسائل لطفلة يقول : "نواه ماذا تفعل هنا ؟! و من يكون هذا الرجل ؟!!"

التفت نواه بإنزعاج و قال متعجبا حين رأى الطفلة : سيلين !

تقدمت سيلين نحوه و قالت : لقد أرسلني آلفونس لأدعوك إلى منزلنا ! لقد صنعت أمي قالب حلوى لذيذا !

قال نواه بارتباك : ليس.. الآن ! اذهبي و سألحق بك بعد قليل !

أمالت سيلين رأسها الصغير إلى الجانب و سألت للمرة الثانية : من يكون هذا الرجل يا نواه ؟!!

التمعت عينا نواه بفكرة فقال : إنه من أصدقاء أبي ، و هو يعمل مع الشرطة !

قالت سيلين مرعوبة : الشرطة ؟!! أنا لا أحب الشرطة أبداً ! حسناً سأذهب الآن ! لا تتأخر يا نواه !


تنهد الفتى في ارتياح حين رآها ترحل ..
و ابتسم الكونت بطريقة غامضة و قال : لا أظن أن والدك سيسعد بهذه الصداقة !
قال نواه متجهما : أبي لا يفهم شيئاً ! إنه لا يزال يعدك مجرما رغم أنك أنقذت حياتي !
و لدهشته قال الكونت : ربما كان محقاً !

قال نواه مشدوها : ما الذي تقصده ؟!!

إتكأ الكونت إلى الخلف : أعني أنه لا يمكنك الجزم بشيء ! مهما ظننت أنك تعرف الناس من حولك يبقى هناك دوماً جانب فيهم لا تستطيع رؤيته أو الوصول إليه !

أطرق الصبي رأسه و قال بيأس : في هذه الحال.. لا يمكنني أن آمن أياً من البشر !

ثنا الكونت ذراعيه و قال : اسمع يا نواه ! أنت تعيش في عالم مختلف عن عالمنا نحن ، و ليس عليك أن تدفع نفسك بالقوة للولوج فيه ! أنت لديك عائلة تحبك ، تقدر حياتك ، وتعبر وجودك بينهم نعمة عظيمة ! لذا لا تتصرف بأنانية و فكر فيهم قليلاً !

قال نواه باضطراب : لكنهم .. لا يفهمونني !

نظر الرجل في عيني نواه الحائرتين : ليس أنهم لا يفهمونك بل يخشون عليك من تلك الأفكار التي من الغريب أن يظهرها طفل مثلك !

- قد تكون أفكاري مستهجنة بالنسبة لهم .. لكن هذا هو الواقع في حقيقته ! <قام من مكانه ليقف أمام الكونت مباشرة و يقول : أنا.. أريد أن أكون مثلك حينما أكبر ، وأن أمحو سائر المجرمين من الوجود !

حل صمت غريب في أثنائه كان الكونت يتفحص الطفل الذي أمامه بنظراته الساكنة دون أن ترمش عيناه !
فجأة.. وقف على قدميه و قال : قلت تمحو المجرمين ؟!! حسناً في هذه الحالة عليك إبادة.. البشرية بأسرها !!
كلنا مجرمون ! و لكن جريمة عن أخرى تختلف ! هناك جرائم غير القتل و السرقة لا يقرها القانون ولا سلطة له على مرتكبيها !
إن كنت تمقت السيئين فلا تكن واحداً منهم ! فأفضل وسيلة للقضاء عليهم وجعل العالم أفضل هي.. أن تكون شخصاً جيدا !

أدار ظهره للصبي المصدوم وقبل أن يذهب أضاف للمرة الأخيرة كلاماً سيظل محفورا في قلب نواه حتى آخر عمره : امتلاك أجنحة لا يعني بالضرورة قدرتك على الطيران ! حين تبتلعك دوامة الظلام فالذكاء وحده ليس كافياً لإخراجك منه ! هناك شروط أخرى يجب توافرها فيك لتحقق ذلك ! و هذا هو الفرق بيننا ! أنا ابن الظلام ! ولدت فيه و كان أول ما أبصرته في هذه الدنيا ، ترعرت في زواياه المعتمة و ألفت روحي سواده الحالك !
لذلك فأنا أعرف طريقي جيداً و أدرك السبيل الذي علي قصده والوجهة الآمن لأبلغ أهدافي و مساعي ! أما أنت فشأنك مختلف ! سيحل بك مثل ما حل "به" ! ستظل تتخبط في الظلمات بلا هدى أو دليل ، و في النهاية لن ترى إلا حلا واحداً لخلاصك.. و هو إنهاء حياتك التعيسة !!


مكث نواه واقفاً في محله يراقبه و هو يبتعد شيئاً فشيئا و علامات الدهشة لم تفارق وجهه .. تمتم متسائلا : هل كان هذا .. خيراً أم شراً ؟!! شيطانا أم ملاكا ؟!! مجرما أم منقذا ؟!! لا يمكنني أن أعرف أبداً.. من يكون !
لكن.. من الذي قصد بقوله "مثل ما حل به" ؟!! هل يمكن أنه يعني.. ذلك الشخص الذي شبهني به ؟!!











رد مع اقتباس