لا مناص من الموت....ولا مفر من الفراق..تجرعت بعدكِ بُرَحَاء الهموم...وهفا قلبي بين الضلوع....أحبكِ ولا زلتُ أتذكر...أتتذكرين؟!
_
كان يمشي في ذلك الممر العشبي، وقد تدثرت الشمس بين الغيوم، بدا على جسده الخَوَر، وعيناه زائغتان وقد أحاط بهما السواد، أصابعه تُقرقِف من البرد، وهو يحمل طاقةً من الورود البهيَّة ولو أنَّها ذات عددٍ قليل...معطفه الزَّرِي لا يكادُ يقيه من شدة البرد، ومع ذلك لا زال يريدُ الوصولَ حيثُ وارت التراب ورآها لآخر مرة!
وصل إلى حيثُ قبرَها..وتوقف مرتعشًا، افترت شفتاه عن ابتسامةِ حنين، وانحنى واضعًا طاقة الورود وقد تلألأت الدموع في زاوية عينيه، غمغم هامسًا: اشتقتُ إليكِ يا زوجتي الحبيبة!
تربَّعَ أمام شاهد قبرها تغشِّيه غمامة الألم الدفين، هَمَسَ: حبيبتي! لا زلتُ أتذكر لقاءَنا الأول وقد جمعَنا في بهو أحدِ الأواوين، كانت النساء تقصفن وأنتِ تجلسين وحيدةً ترتدين ثوبًا من الديباج الأسود، يا إلهي كم أحببته عليكِ حينها!
وقد استجمعتُ شجاعتي طالبًا منكِ الرقص معي، وافقتِ وقد توردت وجنتاكِ خجلًا...أتتذكرين؟!
ولا زلتُ أتذكر، يومَ أصابني الوهن واشتدَّ بي المرض...ولم أجد سواكِ رفيقةً تسهرين...ترمِّدين نفسكِ...وتوقدين في النفس عشقًا...طفقتِ تجوبين المشافي وقد اعتراكِ القلق الشديد، وتكبدتِ لأْيَ رعايتي لحين أُشفى، أتتذكرين؟!
ولا زلتُ أتذكر حين اتخذتُ القرار بالتقدم لطلبِ يدكِ من أبيكِ، وافقَ فشعرتُ بالنشوة لأنكِ ستكونين رفيقة دربي على الدوام!
يومَ جاء زفافنا...أقبلتِ نحوي وقد كنتِ رفافة البشرة، رائقة الحسن، فتّانة الملامح، ترتدين فستانًا أبيض أنيق...تصبَّت القلوب حينها...ولكن ما كان لأحدٍ أن يظفر يقلبكِ سواي، وقد قبلنا على نفسنا أن نعيش معًا للأبد نتشارك الفرح والترح، الألم والسعادة، المرض والصحة
يومها تمكنتُ أخيرًا من مناداتكِ "زوجتي"...أتتذكرين؟!
بدأت الأمطار تهطلُ بغزارة إلا أنَّ ذلك لم يزعزعه من مكانه، أقبل حارس المقبرة يدعوه في عجلةٍ للرحيل، ولكنه تصامَّ عن كلامه وقد تعلّقت عيناه بقبرها، وقد أطلق العنان أخيرًا لدموعه تحرق وجنتيه حرقًا! وتوقظ في القلب الحسرات اللاذعة!
ساهم الوجه، كاسف البال... في دهاليز ذكرياته يجوب، وقد بدا بصيصًا من الأمل للقائها مرةً أخرى بعد عشرِ سنواتٍ من الفراق!!
لا زال يذكرُ ملاطفته لها...صوتها الشذي لا زال يتردد في نفسه...رذاذ عطرها الذي يملأ زوايا البيت العتيق...أتُراها لا زالت تتذكر؟!
توقف هطول المطر وانقشعت الغيوم!
بدأ شعاع الشمس يجوب الأرض من جديد...عندئذٍ كانت شفتاه قد افترتا عن ابتسامةٍ سعيدة...مغلقًا عينيه لآخر مرة!
أخيرًا سيتمكن من لقائها تارةً أخرى!!