عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيون الأقسام الإسلامية > نور الإسلام -

نور الإسلام - ,, على مذاهب أهل السنة والجماعة خاص بجميع المواضيع الاسلامية

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-19-2007, 01:17 AM
 
لمحة موجزة عن الأئمة الأربعة

الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله (80-150) ه [1]
نسبه:
هو الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الفارسي، كان جده من أهل كابل، أسر عند فتح بلاده ثم مُنّ عليه، وأبو حنيفة - وإن كان مولى - لم يجر عليه الرق ولا على أبيه، بل كان حر النفس أصيلاً.
مولده ونشأته:
ولد أبو حنيفة رحمه الله في الكوفة سنة ثمانين للهجرة على رواية الأكثرين، ونشأ وتربى بها، وعاش أكثر حياته فيها متعلماً ومعلماً.
ولد أبوه (ثابت) على الإسلام، ويُروى أنه التقى بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه صغيراً، فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته.
نشأ أبو حنيفة رحمه الله في بيت إسلامي خالص، وابتدأ حياته تاجراً، ثم لفته الشعبي فقيه الأثر -لما لمح فيه من مخايل الذكاء وقوة الفكر- إلى الاختلاف إلى العلماء مع التجارة، فانصرف إلى العلم دون أن يهمل التجارة.
طلبه للعلم:
أخذ أبو حنيفة رحمه الله يطلب العلوم الإسلامية التي كانت في عصره، فحفظ القرآن على قراءة عاصم، ودرس الحديث، وعرف قدراً من النحو والأدب والشعر، وجادل الفرق المختلفة في مسائل الاعتقاد وما يتصل به، ثم عدل إلى الفقه واستمر عليه واستغرق كل مجهوده الفكري فيه، وقد ذكر في اختياره للفقه قوله: «كلما قلبته وأدرته لم يزدد إلا جلالة... ورأيت أنه لا يستقيم أداء الفرائض وإقامة الدين والتعبد إلا بمعرفته، وطلب الدنيا والآخرة إلا به».
ثم اتجه أبو حنيفة رحمه الله إلى دراسة الفتيا على المشايخ الكبار الذين كانوا في عصره، فلزم شيخه حماد بن أبي سليمان مذ كان في الثانية والعشرين من عمره إلى أن مات شيخه وأبو حنيفة رحمه الله في الأربعين من عمره.
ومع ملازمة أبي حنيفة رحمه الله لشيخه حماد إلا أنه كان كثير الرحلة إلى بيت الله الحرام حاجاً، يلتقي في مكة والمدينة بالفقهاء والمحدثين والعلماء، يروي عنهم الأحاديث، ويذاكرهم الفقه، ويدارسهم ما عندهم من طرائق.
وكان يتتبع التابعين أينما وجدوا، وخصوصاً من اتصل منهم بصحابة امتازوا في الفقه والاجتهاد، وقال في ذلك: «تلقيت فقه عمر وفقه عبد الله بن مسعود وفقه ابن عباس عن أصحابهم».
وقد جلس الإمام أبو حنيفة في الأربعين من عمره في مجلس شيخه حماد بمسجد الكوفة، وأخذ يدارس تلاميذه ما يعرض له من فتاوى وما يبلغه من أقضية، ويقيس الأشباه بأشباهها والأمثال بأمثالها بعقل قوي مستقيم، ومنطق قويم، حتى وضع تلك الطريقة الفقهية التي اشتق منها المذهب الحنفي.
أخلاقه:
كان أبو حنيفة رحمه الله بالغ التدين، شديد التنسك، عظيم العبادة، صائماً بالنهار، قائماً بالليل، تالياً لكتاب الله، خاشعاً دائباً في طاعة الله، قام الليل ثلاثين سنة، وكان القرآن الكريم ديدنه وأنيسه.
ومن أخلاقه: السماحة والجود، فقد كانت تجارته تدر عليه المال الوفير رغم ورعه واكتفائه من الربح بالقدر اليسير، وكان ينفق أكثره على المشايخ والمحدثين، اعترافاً بفضل الله عليه فيهم.
قال فيه الفضيل بن عياض رحمه الله: «كان أبو حنيفة رجلاً فقيهاً معروفاً بالفقه، واسع المال، معروفاً بالإفضال على كل من يطيف به، صبوراً على تعلم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام، حتى ترد مسألة في حلال أو حرام فكان يحسن أن يدل على الحق، رهاباً من مال السلطان».
منزلته العلمية ومصادر علمه:
كان الإمام أبو حنيفة فقيهاً مستقلاً قد سلك في تفكيره مسلكاً استقل به وتعمق فيه، وقد بقيت أصوات الثناء تتجاوب في الأجيال تعطر سيرته، قال أحد العلماء: «أقمت على أبي حنيفة خمس سنين فما رأيت أطول منه صمتاً، فإذا سئل عن شيء من الفقه تفتح وسال كالوادي، وسمعت له دوياً وجهارة بالكلام». كما وصفه معاصره الورع التقي عبد الله بن المبارك بأنه مخ العلم، فهو قد أصاب من العلم اللباب، ووصل فيه إلى أقصى مداه.
صفاته:
اتصف أبو حنيفة رحمه الله بصفات جعلته في الذروة بين العلماء، صفات العالم الحق الثبت الثقة، البعيد المدى في تفكيره، المتطلع إلى الحقائق، الحاضر البديهة، الذي تسارع إليه الأفكار.
كان رحمه الله ضابطاً لنفسه، مستولياً على مشاعره، لا تعبث به الكلمات العارضة، ولا تبعده عن الحق العبارات النابية، كان يقول: «اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له». وقد أوتي استقلالاً في تفكيره جعله لا يخضع في رأيه إلا لنص من كتاب أو سنة أو فتوى صحابي.
كان مخلصاً في طلب الحق مما نور قلبه وأضاء بصيرته، فكان لا يهمه إلا الحق سواء كان غالباً أو مغلوباً، وكان لإخلاصه لا يفرض في رأيه أنه الحق المطلق، بل يقول: «قولنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا».
هذه جملة الصفات التي جعلت من أبي حنيفة رحمه الله فقيهاً انتفع بكل غذاء روحي وصل إليه.
شيوخه والموجهون الذين التقى بهم وأثروا فيه:
التقى الإمام أبو حنيفة بعدد من الذين عمروا من الصحابة، منهم أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفى، وسهل بن سعد رضوان الله عليهم، ولكنه لم يرو عنهم؛ إذ كان في سن لقائه بهم صغيراً، ولكن أجمع العلماء على أنه التقى بكبار التابعين وجالسهم ودارسهم وروى عنهم وتلقى فقههم.
وقد قال: «كنت في معدن العلم والفقه، فجالست أهله ولزمت فقيهاً من فقهائهم».
وهذا يدل على أنه عاش في وسط علمي، وجالس العلماء وعرف مناهج بحثهم، ثم اختار من بينهم فقيهاً وجد فيه ما يرضي نزوعه العلمي، وهو حماد بن أبي سليمان الذي انتهت إليه مشيخة الفقه العراقي في عصره، فلزمه ثماني عشرة سنة.
وكان حماد قد تلقى معظم فقهه على إبراهيم النخعي فقيه الرأي، كما تلقى عن الشعبي فقيه الأثر، وهما اللذان انتهى إليهما فقه الصحابيين الجليلين عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وكانا قد أقاما بالكوفة وأورثا أهلها تراثاً فقهياً عظيماً.
ومن شيوخه عطاء بن أبي رباح الذي أخذ خلاصة علم ابن عباس رضي الله عنهما عن مولاه عكرمة، وكان أبو حنيفة رحمه الله يلازمه ما دام مجاوراً لبيت الله الحرام.
ومنهم نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما، وقد أخذ عنه أبو حنيفة رحمه الله علم ابن عمر وعلم عمر رضي الله عنهما.
وهكذا اجتمع للإمام أبي حنيفة علم عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم عن طريق من تلقى عنهم من تابعيهم رحمهم الله أجمعين.
ولم يقتصر الإمام أبو حنيفة على الأخذ عن هؤلاء الفقهاء؛ بل تجاوز ذلك إلى أئمة آل البيت فأخذ عنهم ودارسهم، ومنهم الإمام زيد بن علي زين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، وعبد الله بن الحسن بن الحسن.
محنته ووفاته:
عاش أبو حنيفة رحمه الله عصراً مليئاً بالمشاحنات والتيارات، فقد أدرك دولتي بني أمية وبني العباس، ولما طلب منه ابن والي الأمويين على الكوفة أن يعمل معه امتنع، فسجن وعذب، ثم هرب ولجأ إلى مكة، واتخذها مقاماً ومستقراً له من سنة (130-136) للهجرة، فعكف على الفقه والحديث يطلبهما بمكة التي ورثت علم ابن عباس رضي الله عنهما.
ولما استتب الأمر للعباسيين عاد إلى الكوفة وأعلن ولاءه لهم، وتابع حلقات درسه في مسجد الكوفة، واستمر على ولائه للدولة العباسية، إلا أنه على ما يظهر انتقد موقف الخليفة المنصور من بعض آل البيت من أبناء علي رضي الله عنه، وكان حول الخليفة كثيرون يحسدون أبا حنيفة رحمه الله ويوغرون صدر المنصور عليه، فكان أن عرض عليه الخليفة المنصور منصب القضاء امتحاناً لإخلاصه، فاعتذر الإمام عن قبول المنصب، تحرجاً من الوقوع في الإثم؛ لأنه يرى القضاء منصباً خطيراً لا تقوى نفسه على احتماله، فتعرض لمحنة قاسية بسبب رفضه؛ إذ وجد الخليفة المنصور الفرصة مواتية للنيل منه، فسجن وعذب، ثم أخرج من السجن على أن يفتي، فكان يُرْجِعُ المسائل ولا يفتي فيها بشيء، فسجن من جديد، ثم أخرج ومنع من الفتوى والناس والخروج من المنزل، فكانت تلك حاله إلى أن توفي رحمه الله سنة (150) للهجرة على أصح الأقوال، وقيل: إنه مات مقتولاً بالسم في سجنه رحمه الله.
وكان قد أوصى أن يدفن بأرض الخيزران فحمل إليها، وقدر عدد من شيع جنازته وصلى عليها بخمسين ألفاً، وقد صلى المنصور نفسه عليها، إقراراً منه بعظمة دينه وتقواه، وقال: "من يعذرني منك حياً وميتاً؟!" فرحم الله الإمام أبا حنيفة، ورضي عنه وأرضاه.


الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة([2])
« 93 - 179ه »
نسبه:
هو إمام دار الهجرة، أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن جثيل بن عمرو بن الحارث الأصبحي.
نشأته:
نشأ الإمام مالك في بيت مجد من بيوت العلم، فجده مالك بن أبي عامر كان من كبار التابعين وعلمائهم، وشارك هذا الجد المبارك في مهمة دينية رسمية، وهي مهمة كتابة المصاحف في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، فكان مالك الجد ممن كتبوها، في حين لم يكن يندب في ذلك العهد لهذه المهمة إلا أشخاص بارزون.
وكان النضر -أخو الإمام مالك- ملازماً للعلماء، يتلقى عليهم، حتى إن مالكاً حين لازمهم كان يعرف بأخي النضر، فلما ذاع أمر مالك بين شيوخه، صار يُذكر بأن النضر أخو مالك.
ولقد كانت البيئة العامة للبلد الذي عاش فيه توعز بالعرفان وتنمي المواهب، إذ هي مدينة الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، موطن الشرع ومبعث النور ومعقد الحكم الإسلامي الأول، ومرجع العلماء في العصر الأموي الأول، حتى إن ابن مسعود كان يُسأل عن الأمر في العراق فيفتي، فإذا رجع إلى المدينة ووجد ما يخالفه لا يحط عن راحلته حتى يرجع فيخبر من أفتى.
في ظل هذه البيئة الخاصة والعامة نشأ مالك، فحفظ القرآن في صدر حياته، ثم اتجه بعد ذلك إلى حفظ الحديث، وجالس العلماء.
طلبه للعلم ومنزلته العلمية:
كان الإمام مالك رحمه الله دءوباً على طلب العلم وصرف نفسه إليه في جد ونشاط وصبر، يترقب أوقات خروج العلماء من منازلهم إلى المسجد، وقد حدث الإمام مالك عن نفسه فقال: «إنه انقطع إلى ابن هرمز سبع سنين لم يخلطه بغيره»، وإنه كان يلازمه من بكرة النهار إلى الليل، وقد رأى فيه ابن هرمز النجابة وتنبأ له بمستقبل زاهر، فقد قال لجاريته يوماً: من بالباب؟ فلم تر إلا مالكاً، فقالت: ما ثم إلا ذاك الأشقر، فقال: «ادعيه؛ فذلك عالم الناس».
كما كان مالك رحمه الله لا يستجم في وقت تحسن فيه الراحة إن وجد في ذلك الوقت فرصة للطلب لا يجدها في غيره، قال رحمه الله: «شهدت العيد، فقلت: هذا يوم يخلو فيه ابن شهاب، فانصرفت من المصلى حتى جلست على بابه، فسمعته يقول لجاريته: انظري من بالباب، فسمعتها تقول له: هو ذاك الأشقر مالك. قال: أدخليه. فدخلت، فقال: ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك؟ قلت: لا، قال: هل أكلت شيئاً؟ قلت: لا، قال: أتريد طعاماً؟ قلت: لا حاجة لي فيه. قال: فما تريد؟ قلت: تحدثني، قال: هات، فأخرجت ألواحي، فحدثني بأربعين حديثاً، فقلت: زدني، قال: حسبك، إن كنت رويت هذه الأحاديث فأنت من الحفاظ، قلت: قد رويتها، فجذب الألواح من يدي، ثم قال: حدث، فحدثته بها، فردها إلي وقال: قم، أنت من أوعية العلم».
وأخذ الإمام أيضاً عن نافع مولى ابن عمر فانتفع بعلمه كثيراً، يقول الإمام مالك في ذلك: «كنت آتيه نصف النهار وما تظلني شجرة من شمس أتحين خروجهُ، فإذا خرج أدعه ساعة كأني لم أره، ثم أتعرض له فأسلم عليه، حتى إذا دخل، أقول له: كيف قال ابن عمر في كذا وكذا؟ فيجيبني».
وهكذا نجد أن مالكاً لم يدخر جهداً في طلب العلم كما أنه لم يدخر في سبيلهِ مالاً، حتى لقد قال تلميذه ابن القاسم: «أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه، ثم مالت عليه الدنيا من بعد».
ولما نضج فكر مالك رحمه الله واستوت رجولته جلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للدرس والإفتاء، وذلك بعد أن استوثق من رأي شيوخه فيه وإقرارهم بأنه لذلك أهل، ولقد قال رحمه الله: «ما جلست للحديث والفتيا حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضع لذلك - ومنهم الزُهري وربيعة -». وكان يردد كلمته الرائعة: «لا خير فيمن يرى نفسه في حال لا يراه الناس لها أهلاً».
وكان رحمه الله إذا سُئل عن مسألة لا يعلمها يقول: «لا أدري»، وقد أخذ هذه الكلمة عن شيخه ابن هرمز رحمه الله، فقد حدث عن شيخه فقال: «سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي أن يورِّث العالم جلساءه قول: لا أدري، حتى يكون ذلك أصلاً في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سُئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري».
وقد نال مالك رحمه الله من ثناء العلماء حظاً وافراً، فقال في حقه الإمام أبو حنيفة رحمه الله: «ما رأيت أسرع منه بجواب ونقد تام».
وشهد له بالفضل أبو يوسف فكان يقول فيه: «ما رأيت أعلم من ثلاثة: مالك وابن أبي ليلى وأبي حنيفة»، إذ كان الأخيران شيخيه فوضع مالك في مرتبتهما.
وقال في شأنه تلميذه الإِمام الشافعي رحمه الله: «مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين، ومالك أستاذي، وعنه أخذت العلم، ومالك معلمي، وما أحد أمنّ عليّ من مالك، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله».
وقال الإمام أحمد بن حنبل فيه: «مالك سيد من سادات أهل العلم، وهو إمام في الحديث والفقه، ومن مثل مالك؟ متبع لآثار من مضى، مع عقل وأدب».
وقد تأول التابعون وتابعو التابعين في الإمام مالك رحمه الله بأنه العالم الذي بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإِبل يطلبون العلم، فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة)([3]).
محنته:
نزلت بمالك رحمه الله المحنة في العصر العباسي، في عهد أبي جعفر المنصور، حين اعتدى عليه بالضرب والي المدينة المنورة، وكان ابن عم للخليفة المنصور، وكان الوشاة قد وشوا بالإمام مالك سنة (146ه)، وقالوا له: إن مالكاً يفتي بأنه لا يمين على مستكره، وهذا معناه أن ما أبرمتموه من بيعة الناس بالاستكراه ينقضه الإمام مالك بفتواه. فأمر الوالي بإحضاره، وضربه سبعين سوطاً، أرهقته وأضجعته.
ولمكانة الإمام مالك في قلوب المسلمين اهتزت جنبات المدينة المنورة، وثار الناس وهاجوا، فخاف الخليفة ثورة أهل الحجاز، فأرسل للإمام مالك يستقدمه إلى العراق، فاعتذر الإمام مالك، فطلب إليه الخليفة أن يقابله في منى في موسم الحج، فلما دخل الإمام على الخليفة، نزل المنصور من مجلسه إلى البساط، ورحب بالإمام وقربه، وقال يعتذر إليه عن ضربه وإيذائه: «والله الذي لا إله إلا هو يا أبا عبد الله! ما أمرت بالذي كان، ولا علمته قبل أن يكون، ولا رضيته إذ بلغني. يا أبا عبد الله! لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم، وإني إخالك أماناً لهم من عذاب الله وسطوته، ولقد رفع الله بك عنهم وقعة عظيمة، وقد أمرت أن يؤتى بجعفر - الوالي - عدو الله من المدينة على قتب، وأمرت بضيق محبسه، والمبالغة في امتهانه، ولا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه».
فرد الإمام مالك رحمه الله: «عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه، قد عفوت عنه؛ لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابته منك».
كتبه:
كان المجتهدون في عصر الصحابة يمتنعون عن تدوين فتاويهم؛ ليبقى المدوَّن من أصول الدين كتابُ الله وحده، ثم اضطر العلماء لتدوين السنة وتدوين الفتوى والفقه، إلا أن هذه المجموعات لم تكن كتباً بل كانت أشبه بالمذكرات الخاصة، وكان أقدم مؤلف هو موطأ الإمام مالك رحمه الله.
وهو كتاب ألفه الإِمام مالك جمع فيه الصحاح من الأحاديث والأخبار والآثار، وفتاوى الصحابة والتابعين، وذكر الرأي الذي يراه. وقد ألفه في أربعين سنة، وذلك ما يدلنا على مدى مجهوده فيه، وبحسب كتاب الموطأ أن يقول فيه الإِمام الشافعي رحمه الله: «ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صواباً من موطأ مالك»، وقال الإِمام النسائي: «ما عندي بعد التابعين أنبل من مالك ولا أجل منه ولا أوثق، ولا آمن على الحديث، ولا أقل رواية عن الضعفاء».
مرضه ووفاته:
لقد شاء الله تعالى أن يمرض الإمام مالك بسلس البول، فنقل درسه من الحرم النبوي إلى منزله. وواصل العلم والحديث والدرس والإفتاء إلى نهاية أجله المبارك. والأكثرون على أنه مات في الليلة الرابعة عشرة من ربيع الآخر سنة (179ه) بعد أن مرض اثنين وعشرين يوماً لزم فيها الفراش.
ولم يخبر رحمه الله أحداً بمرضه وسبب انقطاعه عن الحرم النبوي إلا يوم وفاته، فقد قال لزواره: «لولا أني في آخر يوم ما أخبرتكم بسلس بولي، كرهت أن آتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير وضوء، وكرهت أن أذكر علّتي فأشكو ربّي».
رحم الله مالكاً، ورضي عنه، وأكرم مثواه. فقد كان كما قال عنه ابن عُيينة: «مالك سراج هذه الأمّة».

الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ([4])
« 150 - 204 ه »
نسبه:
هو الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، جدُّ جدِّ النبي صلى الله عليه وسلم، وشافع هذا صحابي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوه السائب الذي أسلم يوم بدر، وأمه يمانية من الأزد، كانت من أذكى الخلق فطرة.
مولده ونشأته:
ولد الإمام الشافعي في غزة من أرض فلسطين سنة خمسين ومائة للهجرة، وهي سنة وفاة الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وليست غزة موطن آبائه، وإنما خرج أبوه إدريس إليها في حاجة، فولد له محمد ابنه ومات هناك.
توفي والده وهو صغير لا يتجاوز العامين، فذهبت به أمه إلى مكة، وقد آثرت أن تهجر أهلها الأزد في اليمن وتحمل طفلها إلى مكة مخافة أن يضيع نسبه وحقه في بيت مال المسلمين من سهم ذوي القربى، وكانت هذه أول رحلة في حياة هذا الطفل التي كانت كلها رحلات.
نشأ الشافعي في مكة وعاش فيها مع علو وشرف نسبه عيشة اليتامى والفقراء، والنشأة الفقيرة مع النسب الرفيع تجعل الناشئ يشب على خلق قويم ومسلك كريم، فعلو النسب يجعله يتجه إلى معالي الأمور، والفقر يجعله يشعر بأحاسيس الناس ودخائل مجتمعهم، وهو أمر ضروري لكل من يتصدى لعمل يتعلق بالمجتمع.
طلبه للعلم ومنزلته العلمية:
حفظ الشافعي القرآن وهو ابن سبع سنين، وجوّده على مقرئ مكة الكبير إسماعيل بن قسطنطين، وأخذ تفسيره من علماء مكة الذين ورثوه عن ترجمان القرآن ومفسره عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم اتجه بعد حفظه القرآن لاستحفاظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أولع منذ حداثة سنه بالعربية، فرحل إلى البادية يطلب النحو والأدب والشعر واللغة، ولازم هُذيلاً عشر سنوات يتعلم كلامها وفنون أدبها، وكانت أفصح العرب، فبرز ونبغ في اللغة العربية وهو غلام.
قال الأصمعي -ومكانته في اللغة مكانته-: «صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له: محمد بن إدريس» وفي مكة كان يتردد على المسجد يسمع من العلماء بشغف شديد، وكان في ضيق العيش بحيث لا يجد ثمن الورق الذي يدون عليه، فكان يعمد إلى التقاط العظام والخزف والدفوف ونحوها ليكتب عليها، وكان يقول: «ما أفلح في العلم إلا من طلبه في القلة، ولقد كنت أطلب ثمن القراطيس فتعسر علي».
وكان العلماء والفقهاء في ذلك العصر يشدون الرحال إلى المدينة ليروا عالمها المشهور مالك بن أنس رحمه الله، وكان مالك صاحب مجلس في الحرم النبوي، لم يطرق الخلفاء بابه، ويحسبون حسابه، وطرقت أخبار الإمام مالك أسماع عالمنا الشافعي، فاشتاق لرؤيته، وتلهف لسماع علمه، فحفظ كتابه الموطأ ورحل إلى يثرب، وهناك لم يستطع أن يظفر بالوصول إلى باب مالك إلا بعد لأي وجهد، فنظر إليه مالك، وكانت له فراسة، فقال له: «يا محمد! اتق الله واجتنب المعاصي، فسيكون لك شأن من الشأن»، وفي رواية: «إن الله عز وجل ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعاصي»، ثم قال له: «إذا ما جاء الغد تجيء ويجيء من يقرأ لك» قال الشافعي: «فقلت: أنا قارئ، فقرأت عليه الموطأ حفظاً، والكتاب في يدي، فكلما تهيبت مالكاً وأردت أن أقطع، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي، فيقول: يا فتى! زد، حتى قرأته عليه في أيام يسيرة. وقال: إن يك أحد يفلح فهذا الغلام»، وبعد أن قرأ على مالك موطأه، لزمه يتفقه عليه ويدارسه المسائل التي يفتي بها الإمام الجليل، وتوطدت الصلة بينه وبين شيخه، فكان مالك يقول: «ما أتاني قرشي أفهم من هذا الفتى»، وكان الشافعي يقول: «إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمن علي من مالك».
عبادته وأخلاقه:
كان رحمه الله كثير العبادة، فكان يقسم الليل إلى ثلاثة أقسام: ثلث للعلم، وثلث للنوم، وثلث للعبادة. وكان يقف بين يدي ربه فيصلي ويقرأ، وعيناه تفيضان بدمع غزير خشية التقصير. وقد كان رحمه الله يرى نفسه -لشدة تواضعه- من أهل المعاصي، وفي ذلك يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من بضاعته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة

يقول هذا وهو الذي يصفونه بأنه: «لم تعرف له صبوة».
وقد اختص الله تعالى عالمنا بالعناية، فكان له صوت عميق التأثير، يخرج من قلب منير، زادته العبادة المتواصلة والمحبة الشديدة نوراً وتأثيراً وسحراً، وكان مولعاً بالقرآن وصحبته، فكان يختم في كل نهار وليلة ختمة، وفي رمضان كان يختم كل نهار ختمة وكل ليلة ختمة. وكان إذا قرأ القرآن بكى وأبكى سامعيه، روى أحد معاصريه: «كنا إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض: قوموا بنا إلى هذا الفتى المطلبي نقرأ القرآن، فإذا أتيناه استفتح القرآن حتى تتساقط الناس بين يديه، ويكثر عجيجهم بالبكاء، فإذا رأى ذلك أمسك عن القراءة».
وكان رحمه الله مستقيماً على الشرع إلى أقصى الحدود، وكان كريماً ذا مروءة وخلق رفيع، شأنه شأن آل البيت، سخياً يقبل على الفقراء ويعطي عطاء من لا يخاف عيلة، وفي هذا تروى الأعاجيب عنه.
ومن أقواله: «للمروءة أربعة أركان: حسن الخلق، والسخاء، والتواضع، والنسك». ومما تميز به شدة حيائه وخجله، حتى نقل عنه أنه كان يحمر وجهه حياء إذا سئل ما ليس عنده.
محنته:
اتهم الشافعي رحمه الله بالتشيع، وحيكت له المؤامرات في قصر الخليفة هارون الرشيد، حتى بعث في طلبه، وسيق وهو في الرابعة والثلاثين من عمره في أقياده مع تسعة من العلويين إلى الرشيد، وهناك ضربت رقاب العلوية التسعة أمام الشافعي واحداً بعد آخر، حتى جاء دوره، وكان محمد بن الحسن القاضي عند هارون الرشيد حاضراً، واستطاع الشافعي بذكائه وسرعة خاطره أن يستميل إليه قلب الخليفة وعقله، وأن يقنعه ببراءته، وأسلمه الخليفة للقاضي محمد بن الحسن، وكان العلم رحماً بين أهله، ودافع عنه القاضي وساهم في خلاصه، وقال فيه: «وله من العلم محل كبير، وليس الذي رفع عليه من شأنه»
وبرئت ساحة المتهم، وأمر له الرشيد بعطاء قدره خمسون ألفاً، أخذها الشافعي وانثالث كلها من بين يديه عطايا على باب الرشيد.
مرضه ووفاته:
كان رحمه الله كثير الأوجاع والأسقام، وكان يشكو البواسير خاصة، ولقد بلغت منه في أواخر أيامه مبلغاً عظيماً، فكان ربما ركب فسال الدم من عقبيه، وكان يطرح الطست تحته وفيه لبدة محشوة يقطر فيه دمه، وما لقي أحد من السقم مثل ما لقي، ولكن هذا لم يكن ليصرفه عن الدروس والأبحاث والمطالعات، وليس هذا غريباً على مثله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال عندما سئل عن أشد الناس بلاء: (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)([5])، ولما كان في مرضه الأخير دخل عليه تلميذه المزني فقال له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله عز وجل وارداً، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنئها، أم إلى النار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما

وفي آخر ليلة من رجب سنة أربع ومائتين للهجرة انتقلت روحه الطاهرة إلى ربها، عن أربع وخمسين سنة.
وفي عصر اليوم التالي خرجت مئات الألوف تنقل الشافعي إلى مثواه الأخير في القرافة بمصر، وذهل الناس بوفاة الشافعي، وخيمت الكآبة على وجوه العلماء، وهيضت أجنحة تلاميذه، وطويت صفحة مشرقة من صفحات تاريخنا الرائع، وغاب نجم من النجوم التي سطعت في سماء البشرية، فأضاءت المشرق والمغرب.
رحم الله الشافعي ورضي عنه، وأكرم مثواه؛ فقد كان كما قال عنه الإمام أحمد رحمه الله: «كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، فانظر هل لهذين من خلف، أو عنهما من عوض».

الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله([6])« 164-241ه »
نسبه:
هو الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيباني الذهلي، وهو شيباني في نسبه لأبيه وأمه، واسمها صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك الشيباني من بني عامر.
فقد انحدر الإِمام أحمد من قبيلة عربية أصيلة غير أعجمية ولا مهجنة، والتقى نسبه الشريف مع النبي صلى الله عليه وسلم في نزار بن معد بن عدنان.
وقد ورث أحمد رحمه الله عن أسرته الكريمة عزة النفس وقوة العزم والصبر واحتمال المكاره، والإيمان الراسخ القوي، وكان ذلك كله ينمو كلما شب وترعرع، ويتبين في سجاياه كلما عركته الحوادث، وأصابته نيران الفتن.
مولده ونشأته:
ولد أحمد رحمه الله في ربيع الأول سنة (164ه)، جيء به حملاً من مرو، وولد في بغداد، توفي أبوه شاباً، فقامت أمه على تربيته في ظل الباقي من أسرة أبيه، وكان أبوه قد ترك له عقاراً ببغداد يسكنه، وآخر يغل له غلة قليلة لا تقوم بنفقات الأسرة، فنشأ على الصبر والقناعة والكفاف.
طلبه للعلم ومنزلته العلمية:
اتجه أحمد رحمه الله إلى طلب العلم الذي وجهته أسرته إليه، واستقام ذلك التوجيه مع نزوعه الخاص، وبذلك تلاقت ميوله مع الوجهة التي وجه إليها، وكانت بغداد آنذاك حاضرة العالم الإسلامي، فاختار الإِمام أحمد في صدر حياته رجال الحديث ومسلكهم، فاتجه إليهم أول اتجاهه، ويظهر أنه قبل أن يتجه إلى المحدثين راد طريق الفقهاء الذين جمعوا بين الرأي والحديث، فيروى أن أول تلقيه كان على القاضي أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، فقد قال: «أول من كتبت عنه الحديث أبو يوسف». ولكنه مال من بعد إلى المحدثين الذين انصرفوا بجملتهم للحديث، وبقي يتلقى الحديث بغداد من سنة (179ه) إلى سنة (186ه)، ولزم عالماً كبيراً من علماء الحديث والآثار ببغداد أربع سنوات، وهو هشيم بن بشير بن أبي حازم الواسطي (المتوفى سنة 183ه)، وكانت سنه عند الملازمة حوالي ست عشرة سنة، وكتب الإِمام أحمد عنه كتاب الحج وبعضاً من التفسير وكتاب القضاء وكتباً صغاراً.
صفاته:
اتصف أحمد رحمه الله بصفات كانت هي السبب في هذه الشهرة التي اكتسبها، وفي ذلك العلم الغزير الذي خلفه من بعده.
أول هذه الصفات: الحافظة القوية الواعية، وهي صفة عامة المحدثين، وأهل الإمامة منهم بشكل خاص، ولقد شهد بقوة حفظه وضبطه معاصروه حتى عدَّ أحفظهم.
والصفة الثانية، وهي أبرز صفات أحمد رحمه الله، وهي التي أذاعت ذكره: صفة الصبر والجلد وقوة الاحتمال، وهي مجموعة من السجايا الكريمة، أساسها قوة الإرادة، وصدق العزيمة، وبعد الهمة، وهذه الصفة هي التي جعلته يحتمل ما يحتمل في طلب العلم، غير وانٍ ولا راضٍ بالقليل منه.
- أما الصفة الثالثة من صفات الإمام أحمد التي امتاز بها فهي: النزاهة بأدق معانيها، ولقد دفعته عفة النفس ونزاهتها أن يترك بعض الحلال، وأن يمتنع عن قبول عطاء الخلفاء، مع تصريحه لبعض أولاده بأنه حلال يصح الحج منه، وأنه يتركه تنزيهاً للنفس لا تحريماً.
وبهذا التضييق الذي سلكه في شأن نفسه، كان لا يأكل إلا من كسب يده، أو من غلة عقار ورثه، ويلقى في سبيل ذلك العناء الشديد، والحرمان من كثير من طيبات الحياة، ولهذا كان زاهداً، ولكنه زهد ليس أساسه الرغبة عن طيبات الحياة؛ بل أساسه طلب الحلال، ولكن لا يطلبه من مال فيه شبهة؛ بل من مال يناله من غير أن تصاب النفس في نزاهتها أو عزتها، ومن غير أن يلجأ في ذلك إلى أحد من العباد.
وقد كان يضطر في بعض الأحيان أن يؤجر نفسه للحمل في الطريق وهو إمام المسلمين يومئذ.
وقد ابتلي في أيام المتوكل بالإقبال والصلات والجوائز، كما ابتلي في أيام المعتصم بالتعذيب والصرم والقسوة، وكان في كليهما صابراً عفيفاً نزيهاً، وكانت الأولى أشد عليه من الأخرى، وقد ثبت على عفافه وزهده وعزوفه عن أموال السلطان، وله في ذلك أخبار غريبة.
ويروى أن وزير المتوكل كتب إليه: «إن أمير المؤمنين قد وجه إليك جائزة، ويأمرك بالخروج إليه، فالله الله أن تستعفي، أو ترد المال، فيتسع القول لمن يبغضك»، فيضطر أحمد رحمه الله ليبدد ظلمات السعاية إلى القبول، ولكنه لا يمسه، ويأمر ولده صالحاً أن يأخذه ثم يوزعه في اليوم التالي على أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم من أهل التحمل والحاجة، وكأنه يرى أنهم أولى بمال المسلمين منه، وقد حرموا عطاءهم.
-والصفة الرابعة من صفات الإمام أحمد هي: الإخلاص، والإخلاص في طلب الحقيقة ينقي النفس من أدران الغرض، فتستنير البصيرة، ويستقيم الإدراك، ويشرق القلب بنور المعرفة وهداية الحق، ولهذا كان أحمد رحمه الله يتجنب الرياء ويبالغ في الابتعاد عنه، وكان يؤثر أن لا يسمع به أحد، فكان يقول: «أريد النزول بمكة ألقي نفسي في شعب من تلك الشعاب حتى لا أعرف».
-أما الصفة الخامسة التي امتاز بها الإمام أحمد، وجعلت لدروسه وكلامه موقعاً من نفوس سامعيه لا تزول، فهي: الهيبة؛ فقد كان مهيباً وقوراً، وكان الناس مدفوعين إلى إجلاله وتهيبه، شأن (من تواضع للّه رفعه الله) يقول أحد معاصريه: «دخلت على إسحاق بن إبراهيم، وفلان وفلان من السلاطين، فما رأيت أهيب من أحمد بن حنبل، صرت إليه أكلمه في شيء، فوقعت علي الرعدة حين رأيته من هيبته».
محنته:
بدأت المحنة سنة (218ه) بورود كتاب المأمون على عامله في بغداد أن يجمع العلماء من قضاة وخطباء، ويسألهم عن القرآن، فمن لم يقل إنه مخلوق عزله، وامتثل الوالي أمر الخليفة، فجمع العلماء، فأقروا جميعاً إلا أربعة منهم، فلجأ إلى الشدة، وأمر بوضعهم في الحبس وإثقالهم بقيود الحديد، فوافق اثنان، وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح، فأمر المأمون بحملهما إليه، فشدهما الوالي في الحديد ووجههما إليه، وتوفي المأمون قبل أن يصلوا إليه، وهو بالرقة، كما توفي ابن نوح في الطريق، فبقي أحمد رحمه الله وحده.
وولي المعتصم، وكان رجلاً قوي الجسم، يستطيع أن يصارع أسداً، ولكنه كان ضعيف العلم لا يستطيع أن يناظر أحداً، وكان يجلّ أخاه المأمون ويراه مثله الأعلى، فسار على طريقته.
لبث الإمام أحمد في السجن، وبلغ به الضعف كل مبلغ، ومع ذلك فقد كان دائم العبادة، حاضراً مع الله، حدث ابنه بأن الإمام أحمد قرأ عليه كتاب الإرجاء وغيره في الحبس، وبأنه رآه يصلي بأهل الحبس وعليه القيد، فكان يخرج رجله من حلقة القيد وقت الصلاة والنوم.
وبعث المعتصم علماءه وقواده يناظرونه، فكان يرفض الدخول في المناظرة ويأبى الموافقة إلا بدليل من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمل إلى حضرة المعتصم، وجرت المناقشة أمامه، فكان يصر على هذا الرد ويقول: «أعطوني شيئاً من كتاب الله أو من سنة رسوله»، وجربوا أنواع الترغيب بالعطايا والمناصب، وأنواع الترهيب بالتعذيب الشديد، فلم يؤثر ذلك فيه أثراً.
وبعثوا إليه بالعلماء يأتونه من باب التقية، فكان يقول لهم: «إن من قبلنا كانوا ينشرون بالمنشار فلا يرجعون»، وأظهر مرة أنه لا يخاف السجن، ولكن يخاف الضرب، يخشى أن لا يحتمل فتهزم فكرته، فقال له أحد اللصوص وكان معه في السجن: «أنا ضربت عشرين مرة، يبلغ مجموعها آلاف الأسواط، فاحتملتها في سبيل الدنيا، وأنت تخاف أسواطاً في سبيل الله، إنما هما سوطان أو ثلاثة ثم لا تحس شيئاً»، فهوَّن ذلك عليه.
ولما عجز المعتصم نصب آلة التعذيب ومدوه عليها وضربوه، فانخلعت كتفه من الضربة الأولى، وانبثق من ظهره الدم، فقام إليه المعتصم يقول: يا أحمد! قل هذه الكلمة وأنا أفك عنك بيدي وأعطيك وأعطيك، وهو يقول: هاتوا آية أو حديثاً.
فقال المعتصم للجلاد: شد قطع الله يدك. فضربه أخرى فتناثر لحمه.
وقال له المعتصم: لماذا تقتل نفسك؟ مَن مِن أصحابك فعل هذا؟
وقال له أحد العلماء وهو المروزي: ألم يقل الله تعالى: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) [النساء:29] [النساء:29] فقال أحمد رحمه الله: يا مروزي! فانظر أي شيء وراء الباب، فخرج إلى صحن القصر فإذا جمع لا يحصيهم إلا الله معهم الدفاتر والأقلام، فقال: أي شيء تعملون؟ قالوا: ننظر ما يجيب به أحمد فنكتبه. فرجع، فقال: يا مروزي! أنا أضلّ هؤلاء كلهم؟ أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء كلهم!
ولمَّا عجز المعتصم قال لجلاديه: اضربوا وشدوا. فكان يجيء الواحد فيضربه سوطين، ثم يتنحى ويأتي الآخر، حتى خلعت كتفاه، وغطَّى الدم ظهره كله، حتى أشرف على الموت، وخاف المعتصم أن يثور الناس إن مات، فرفع عنه الضرب وسلمه لأهله.
مرضه ووفاته:
قال المروزي: «مرض أبو عبد الله ليلة الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول، ومرض تسعة أيام، وكان ربما أذن للناس فيدخلون عليه أفواجاً، يسلمون عليه ويرد عليهم بيده... وكان يصلي قاعداً، ويصلي وهو مضطجع، لا يكاد يفتر، ويرفع يديه في إيماء الركوع، وأدخلت الطست تحته فرأيت بوله دماً عبيطاً ليس فيه بول، فقلت للطبيب، فقال: هذا الرجل قد فتت الحزن والغم جوفه، واشتدت علته يوم الخميس، ووضأته فقال: خلل الأصابع، فلمَّا كانت ليلة الجمعة ثقل، وقبض صدر النهار، فصاح الناس وعلت الأصوات بالبكاء، حتى كأن الدنيا قد ارتجت وامتلأت السكك والشوارع».
قال المروزي: «أخرجت الجنازة بعد منصرف الناس من الجمعة»، قال عبد الوهاب الوثاق: ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية والإسلام مثله، حتى بلغنا أن موضعاً مسح وحزر على الصحيح فإذا هو نحو من ألف ألف، وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب ينادون من أراد الوضوء.
رحم الله الإمام أحمد رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وجمعنا به في مستقر رحمته.

([1]) مستفاد من كتاب: (أبو حنيفة حياته وعصره - آراؤه وفقهه) للإمام محمد أبو زهرة.

([2]) مستفاد من كتاب: (مالك حياته وعصره - آراؤه وفقهه) للإمام محمد أبو زهرة، وكتاب: (ملامح من حياة مالك بن أنس) د. أحمد طه ريان.

([3]) أخرجه الترمذي في الجامع (2680) من حديث أبي هريرة.

([4]) مستفاد من كتاب: (الشافعي) لمحمد أبو زهرة، وكتاب (حاشية البجيرمي).

([5]) أخرجه الترمذي في الجامع ( 2398) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

([6]) مستفاد من كتاب: (أحمد بن حنبل) للشيخ محمد أبو زهرة.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-19-2007, 01:45 AM
 
رد: لمحة موجزة عن الأئمة الأربعة



وبارك الله فيكم على الموضوع القيّم
أخوكم في الله
فارس السنّة
__________________
يقول شيخ الإسلام إبن تيميه (رحمه الله)
في طريق الجنّة لامكان للخائفين وللجُبناء
فتخويفُ أهل الباطل هو من عمل الشيطان
ولن يخافُ من الشيطان إلا أتباعه وأوليائه
ولايخاف من المخلوقين إلا من في قلبه مرض
(( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ))
الزمر : 36
ألا أن سلعة الله غالية ..
ألا ان سلعة الله الجنة !!
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 09-19-2007, 04:31 AM
 
رد: لمحة موجزة عن الأئمة الأربعة

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة fares alsunna مشاهدة المشاركة


وبارك الله فيكم على الموضوع القيّم
أخوكم في الله

فارس السنّة
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ملف شامل لجميع انواع الحلويات الشرقية والغربية مرح أطباق شهية 205 09-12-2016 08:46 PM
ملف هاااااااائل للشوربات ..أرجو التثبيت. بسمة فوق شفاه ناعمة أطباق شهية 51 07-28-2015 07:24 AM
الخلطات السرية للمطاعم fafa11 أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 3 08-02-2007 01:34 PM
ملف كاااااااامل لأجمل وأروع الحلويات...ادعولي بسمة فوق شفاه ناعمة أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 5 05-27-2007 06:20 PM


الساعة الآن 11:54 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011