عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات طويلة > روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة

روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة يمكنك قراءة جميع الروايات الكاملة والمميزة هنا

 
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #141  
قديم 03-01-2015, 09:10 PM
 
- 42 -

كليمات من القلب



حسناً..
اليوم... لن أبدأ برواية حكاية..
ولن أترك الفتاة تعترف قبلي.. لأني أريد أولاً أن أتحدث معكم قليلاً.. عن بعض القصص الأخيرة.. وعن ردود فعل بعضها..
وعندي كليمات دارت في عقلي وقلبي وأحببت أن تشاركوني بها..


يسألني الكثيرون دائماً هل هذه القصص التي تروينها حقيقية..؟

وأنا أقول.. كل قصصي هي من رحم الواقع.. من أرض الحياة الحقيقية.. لكنها ليست بالضرورة صوراً أصلية..
هذه الاعترافات هي لقطات من حياة حقيقية لطالبات وزميلات وصديقات.. قصص عايشت أطرافاً منها.. أو سمعتها شخصياً من أصحابها مباشرة.. ثم أضفت لها لمسة من خيال..
هي قصص ترتكز على جذع من الواقع.. وربما أضفت لها بعض الأوراق وشذبت لها بعض الأغصان..


أهدي قصصي لكل من تعني لها شيئاً.. وما أردت قوله دائماً هو.. أننا جميعاً عانينا ونعاني من الآلام في حياتنا..
ليس هناك من شخص يعيش السعادة الكاملة في هذه الدنيا..
السعادة الحقيقية هي في الإيمان بالله والرضا بواقعك مهما كان.. والأروع هو شكر الله وحمده بصدق على ذلك الواقع سواء أكان ابتلاء أم نعمة..


لن أطيل كثيراً..

فالحديث في غير القصة لا يروق لكن كثيراً.. أعرف ذلك.. لكن.. لا يزال هناك شيء هام أريد قوله اليوم..

قبل فترة.. كتبت قصتين عن حالات طلاق..
إحداهن.. (ذهبت ولن تعود)..
والأخرى.. (ليس ثمة بكاء تحت الباب)..
وقد تلقيت العديد من الرسائل حولهما..
الأولى عن زوج يشكو من سوء خلق زوجته وإهمالها.. يقول أنه كان على وشك طلاقها.. لكن قراءته للقصة الأولى جعلته يتخيل أن (منال) هي ابنته الصغيرة.. جعلته يتخيل ألمها ووحدتها وفراقها عن أمها حين تكبر..
ويقول أنه أبعد فكرة الطلاق عن رأسه تماماً بعدها.. وهو مستعد لتحمل كل شيء من أجل طفلته الصغيرة.. ويسأل الله أن يهدي زوجته العنيدة التي لا تحترم أحداً حسب قوله..


والرسالة الثانية.. هي من أب رحيم.. يتفطر قلبه على أبنائه الذين تركتهم أمهم لديه منذ عدة أشهر.. أشبه بالأيتام.. وهو لا يزال متردداً في اتخاذ قرار الطلاق حتى لا يهدم حياة أطفاله.. ويتمنى لو عادت أمهم إليهم.. لأنهم ضائعون دونها مهما حاول هو تعويضهم..
يقول.. بعد قراءتي للقصة أصبحت أنتبه حتى لطريقة تمشيطهم لشعورهم.. ولتعابير وجوههم.. وأخشى أن يتألموا كما تألمت (منال) في القصة دون أن أشعر بهم..


أما الحالة الثالثة فهي لفتاة يتفطر قلبها حزناً.. جاءتني وهي تبكي..
وتصف حال أختها كما هو في قصة (ليس ثمة بكاء تحت الباب).. والتي تركت بيتها وأولادها.. دون سبب يذكر.. وبتقصير كبير منها..
حيث إنها عنيدة ولا تقبل التفاوض في أي أمر.. وتريد تطبيق ما تريده دون نقاش..
تقول هذه الفتاة..
حين يأتي أبناء أختي كل أربعاء لزيارتنا نفرح بهم كثيراً.. لكن يوم الجمعة.. يصبح يوم البكاء والألم الأسبوعي.. الجميع يبكي.. أنا.. أمي.. أخواتي.. خاصة على الطفلة ذات الأعوام الخمس.. والتي تتشبث بأمها إلى آخر لحظة رافضة العودة لمنزل أبيها..
كلنا نبكي.. إلا أختي.. الأم..
تصوري!!..
إنها تبدي لا مبالاة عجيبة بأبنائها..
بل إنها تقول أنهم يذكرونها بوالدهم لذا فإنها لا تريد أن تتعاطف معهم!!
تخيلي أربعة أطفال يعيشون لوحدهم في البيت مع والدهم أكبرهم فتاة لم تجاوز الثالثة عشرة.. والصغيرة ذات خمس سنوات.. يعانون الألم والمسؤولية عن أنفسهم بلا أم.. ولا جدة ولا حتى خادمة..
ابنة أختي الصغيرة أصبح شعرها يتساقط بغزارة.. وحين نسألها لماذا يتساقط شعرك هكذا؟ تخيلي ماذا تجيب طفلة السنوات الخمس؟ إنها تقول.. شعري يتساقط من كثرة التفكير!!
طفلة لم تجاوز عامها الخامس تفكر؟
في ماذا يا حبيبتي تفكرين؟
فتجيب ببراءة.. أفكر في أمي.. وأبي.. ثم تبكي بكاء حاراً مثل الكبار..
والكل يبكي معها.. إلا أمها.. التي تجمدت مشاعرها تماماً.. ولم يعد يهمها سوى نفسها فقط.. ولا تريد تقديم أي تنازل أو تفاوض..


دعونا نتأمل قليلاً..

هذه الطفلة من يهتم بها؟ من يرحمها إن لم تفعل أمها؟
وأختها الكبرى.. هل ترحمها معلمتها القاسية.. هل تشفع لها إن لم تنجح بسبب سهرها مع أختها المريضة طوال الليل..؟
هل ترحمها مديرة المدرسة؟ هل تقدم لها خدمة معنوية أو لمسة حانية؟ بل هل تعرف بوضعها أصلاً؟


أربعة أطفال يعيشون الألم والوحدة وجفاف المشاعر من الأبوين.. من يقدم لهم لمسة حنان؟

أعرف أننا نقف عاجزين أمام الكثير من الآلام التي نراها في حياتنا..
لكن أيضاً أمامنا الكثير لنفعله..


يبدو أني انتقلت من موضوع لآخر.. لكني أدعو كل فتاة أن تفكر ملياً قبل اتخاذ قرار الزواج.. لأن هذا القرار مصيري.. وعليها تحمل نتائجه لأنه لا يرتبط بمصيرها فقط بل مصير أبنائها الأبرياء.. وأن تعلم أنها لا تدخل نزهة في حديقة وتقرر الخروج منها متى شاءت بكل بساطة..

أدعو كل أم أن تفكر ألف بل مليون مرة قبل اتخاذ قرار الطلاق.. وأن تجرب كل الطرق ووسائل الإصلاح والإقناع والتغيير قبل أن تقرر.. وأن تحسب سلبيات وإيجابيات القرار جيداً.. بما في ذلك ما ستسببه لحياة أبنائها من تدمير وآلام لن يمسحها الزمن..

أدعو كل أم أن تعلم بناتها قيمة الحياة الزوجية.. وكيفية احترامها وتقديرها.. وفن التغاضي عن العيوب والهفوات والبحث عن الإيجابيات في شخصية كل زوج بدلاً من النبش في سلبياته..

أدعو كل معلمة ومربية أن تجعل التربية والإصلاح همها الأول قبل دفتر التحضير وتقييم المشرفة.. أن تمنح طالباتها الحب والحنان قبل المعلومة.. أن تمنحهم الدفء والأمان قبل الدرجات.. وأن تحتسب الأجر في ذلك..

أدعو كل معلمة أن تنظر في وجوه طالباتها.. وتبحث عن المتألمة.. الكسيرة.. الحزينة.. المحتاجة لمسحة على الرأس أو الكتف.. فبينهن اليتيمة.. والوحيدة.. والمسؤولة.. والمتألمة..

لا أعرف ما الذي دفعني لكتابة هذا الكلام..
هي كلمات فقط أحببت أن أشارك قارئاتي الحبيبات بها..


دعونا نمنح الحب لمن حولنا.. لنكن أكثر اهتماماً.. ولنراعي مشاعر الآخرين.. لا أنفسنا فقط..
  #142  
قديم 03-01-2015, 09:14 PM
 
- 43 -

مشهد .. كل ليلة



كنت في السابعة أو ربما الثامنة من عمري.. نعم.. أتوقع في الثامنة - كنت قد أنهيت الصف الثاني الابتدائي- حين أجريت لأبي عملية خطيرة في القلب..
أصيب بعدها بمضاعفات.. وجلطة مفاجئة في جانب من الدماغ..

أذكر.. حين.. دخلت مع أمي لغرفته.. في العناية المركزة..
أذكر الأجهزة.. رائحة المعقمات..
الصوت المرعب لنبضات القلب على الجهاز..


وقفت مع أمي عند طرف السرير.. وهناك كان أبي ممدداً عاري الصدر ألصقت عليه المجسات والأسلاك، وثمة أنابيب مؤلمة في أنفه..
شعرت بالخوف منه.. لم يكن أبي الذي أعرفه..
نظر إلي بطرف عينيه بصعوبة.. هيئ إلي أنهما كانتا تدمعان.. حرك إصبعين من كفه الأيسر ليشير إلي
بالاقتراب..
شعرت بالخوف..
أمسكت عباءة أمي والتصقت بها..
- هذا أبوك.. حنين.. روحي بوسي إيده..
- أخااااف..!
لم تكن أمي قادرة على حملي ورفعي لأنها كانت حاملاً في شهرها الأخير.. سحبتني بقوة وهي تكتم عبراتها.. وحملتني بمشقة..
- هذا بابا حبيبتي.. شوفيه زين..
دفعتني عند رأسه لأراه جيداً.. لعلي أقبله..
نظرت إليه.. كانت عيناه تدمعان.. وهو ينظر إلي بشوق..
أفلت بقوة من يد أمي وأسرعت أختبئ خلفها.. وألتف بعباءتها.. وأخذت.. أبكي..
- أخااااف ما أبي..!
أخذت أمي تمسح على رأسي وتهدئني.. وصوتها يرتعش بالعبرات..
- خلاص حبيبتي ما يصير تصيحين.. هذا بابا.. شفيك؟
في تلك اللحظة.. كنت أحبه أكثر من أي لحظة مضت.. كنت أتمنى لو أقفز على صدره كما أفعل دائماً وأقبله..
أبي الحبيب..
لكني رأيت في عينيه شيئاً مخيفاً..
رأيت.. الموت.. فخفت منه..
لم أستطع أن أقترب من أبي وهو في لحظات ضعفه هذه..
كان شيئاً مخيفاً جداً لطفلة السنوات الثمانية.. أن ترى والدها بهذا الضعف..
قريباً من شيء مخيف.. كالموت.. هذا ما لم يفهمه أحد ممن كان حولي..


غضبت الممرضة وأمرتنا بالخروج حتى لا نؤثر على مشاعر أبي وقلبه الضعيف..

ارتعشت أمي.. اقتربت من أبي همست في أذنه بكلمات.. وقبلته على رأسه.. ومسحت على شعره..
وخرجنا..
كانت متماسكة نوعاً ما حتى خرجنا..
حين خرجنا من الغرفة وفي الممر مباشرة.. انهارت أمي.. أسندت أمي ظهرها إلى الجدار وأخذت تبكي بقوة..
كانت تنشج كما كنت أفعل حين أطلب شراء لعبة غالية..
فوجئت بالمنظر المؤلم.. أمي تهتز.. ببطنها الكبير... وهي تبكي بقوة.. وتتأوه بحسرة..
- ماما خلاص.. ماما حبيبتي..
طوقتها بطنها بذراعي..
لم تكن تسمعني.. فقط أمسكتني وحضنتني بشدة وهي تبكي...
وكأن بكاؤها يتردد صداه في أذني حتى هذه اللحظة.. ذكراه تحرق قلبي..


الآن فقط فهمت مشاعر امرأة شابة مع طفلين صغيرين.. وجنين في بطنها..
دون أب.. ولا أم..
ومع زوج على حافة الموت..


كان خالي ينتظرنا في البهو الكبير للمستشفى..
حين وصلنا إليه لم يكن يبدو على والدتي أي أثر غير طبيعي..
استطاعت أن تتماسك بسرعة وتبتلع ما بقي من دموعها..


ركبنا معه في السيارة.. وطوال الطريق كان يحاول إقناع أمي بأن تأتي لتسكن لديه ريثما يشفي أبي..
لكنها رفضت وأصرت على أن نبقى في بيتنا..
- لكنك حامل.. وقد تلدين في أي لحظة.. يجب أن يكون قربك رجل.. لا يصح هذا يا نهلة..
- لا تخف علي.. أستطيع أن أتصل عليك عندما أحتاج لذلك.. لا تخف يا أخي..


لم تغب صورة أبي بصدره العاري والأسلاك تغطي جسمه عن ناظري طوال الأيام التالية.. بل طوال أيام عمري الباقية كلها.. أصبحت روتيناً ليلياً..
فقد كانت آخر صورة له..
إذ لم أر أبي بعدها أبداً..
توفي خلال أيام..
غاب عنا..


نساء كثيرات جئن لبيتنا..
بكت أمي كثيراً.. بكت.. حتى خشيت أن تموت.. قلت لها ذلك..


وبقينا في بيتنا.. لم نذهب إلى أي مكان آخر كما أصر الجميع علينا..

* * *

ذات صباح.. استيقظت على صوت أمي وهي تطلب مني أن أغير ملابسي بسرعة..
كان هناك شيء غير طبيعي.. صوتها يرتعش بقلق..


أخذتني أنا وحمودي عند بيت خالي.. وقالت أنها ستذهب في مشوار مع خالي وتعود..

شعرت بالخوف في بيت خالي..
كنت أجلس وحدي أنا وأخي.. لا نفعل شيئاً..


فقد كانت زوجة خالي من النوع الغاضب دائماً.. صراخها الحاد على أبنائها وبناتها كفيل بجعلي – أنا وأخي - لا نغير أماكننا خوفاً من صرخة منها..
عرفت جيداً لماذا لم ترغب أمي في أن نسكن معهم..


شعرت بالملل طويلاً من الجلوس وحدي حتى نمت على الكنبة وأنا أشاهد التلفاز.. ونام حمودي قربي..
وبعد ذلك بمدة.. استيقظت.. وعلمت أن أمي أنجبت طفلاً صغيراً..
لم أفرح كثيراً.. كنت مهتمة بأمي قبل ذلك..
- وأمي أين هي؟ متى تعود؟
- أمك في المستشفى يا حنين..
شعرت بمغص في بطني.. كرهت المستشفى.. تذكرت شكل أبي.. لا.. لا أريدها أن تذهب هناك.. أخشى ألا تعود كما حصل مع أبي.. بكيت.. وبكيت.. ولا أحد يعرف سر بكائي..


عادت أمي تحمل جنينها..
وذهبنا مباشرة إلى بيتنا وأحمد الله أننا لم نجلس في بيت خالي كما حاول إقناعنا..


تعبت أمي بعد ذلك.. كانت مسؤولية البيت والأطفال لوحدها كبيرة عليها.. لكني كنت أساعدها قدر استطاعتي..

ربتنا أمي أفضل تربية.. تعبت علينا كثيراً.. وتعذبت كثيراً في تربية أخويّ..
لا أزال أذكر تلك الليالي التي كانت أمي تدور فيها بقلق في أرجاء البيت حين كان محمد يتأخر فيها في السهر..
ولا زلت أذكر الليلة التي بتنا فيها جميعاً نبكي حين غضب عبد الله وخرج من البيت آخر الليل.. لا نعرف إلى أين ذهب.. وبقينا نبكي بخوف أنا وأمي حتى ساعات الصباح ننتظر رجوعه..


كانت أمي تتحرج من الاتصال بخالي ليتدخل في كل صغيرة وكبيرة..
وكانت مسؤولية صعبة.. أن تواجه المشاكل وحدها..


أصيبت بالقولون.. ثم بالضغط.. ثم.. بالتهاب المفاصل..
أصبحت حركتها صعبة وهي لا تزال صغيرة..


كان أثر الهم والمسؤولية بادياً على جسدها النحيل ووجها الحزين..

ورغم آلامها ومرضها..
كانت حريصة على قيام الليل كل ليلة.. تدعو الله لنا أن يصلحنا ويهدينا - كما أسمعها كثيراً.. وتدعو الله أن يرحم والدي ويجمعها به في
الفردوس الأعلى..


* * *

رغم التعب والآلام.. والسنوات المتعبة التي عاشتها.. بدأت أمي تقطف ثمار جهدها يوماً بعد يوم..
تغير حال أخوي بعد أن كبرا بفضل الله..
رزقهما الله الهداية وصلاح الخلق..
تخرجا.. عملا..
تزوج كل منهما..
وأنا لا زلت أنتظر نصيبي.. مع أني مستمتعة بالحياة مع أمي الحبيبة.. ولا أتخيل نفسي بدونها..


* * *

الليلة.. وكل ليلة..
كلما وضعت رأسي على الوسادة.. أرى مشهد أبي الأخير على سريره.. عاري الصدر.. بالأسلاك والأجهزة.. وصوت نبضات القلب..
أتذكر حركة إصبعيه وهو يشير إلي أن أقترب..
عيناه الدامعتان..
أتذكر بكاء الأم الشابة..
فأدعو الله له بالمغفرة والرحمة من كل قلبي..
وأن يجمعه الله بأمي في جنات
النعيم..

  #143  
قديم 03-01-2015, 09:17 PM
 
- 44 -

ليتني أعود .. صفحة بيضاء

تبدأ الجروح كبيرة.. دامية..
ثم تصغر.. تجف..
تلتحم..
لكن.. يبقى مكانها بعض الألم.. وتبقى آثارها مهما مر الزمن..
مكان بلا جرح.. ليس مثل مكان جُرح..
حتماً ليسوا سواء..
إنها الحقيقة مهما حاولنا تجاهلها..
كنت أقف عند نافذة غرفتي.. أطل على إخوتي الصغار وهم يتقافزون في مسبحهم الجديد الذي اشتروه بمناسبة حلول الصيف.. يتقاذفون كراتهم وألعابهم بكل مرح..
ما أجمل الطفولة وبراءتها..
ما أجمل أن تعيش خفيفاً.. دون هم.. ولا حزن ولا مسؤولية.. ولا ذكريات مؤلمة..
ليتني أعود طفلة بريئة طاهرة..
ليتني أعود راوية التي كانت طفلة بليدة مسكينة يضحك عليها بنات أقاربها ويهزأن بها فتجري خلفهم بشعرها الأعرد المتطاير..
ليتني أعود راوية التي تفرح بالفستان واللعبة.. وتمسح دموعها في حضن أمها بعد معاركها مع ابنة عمها كل مساء..
ليتني أعود سعيدة مبتهجة كما كانت راوية يوم العيد في فستانها ذي الحزام العريض وقبعتها وحقيبتها المليئة بالريالات.. لم تكن تهتم في ذلك الوقت بضحكات بنات أعمامها اللاتي كن قد بدأن في لبس الملابس النسائية ووضع شيء من المكياج.
بينما هي تبتسم في وجوه العمات والأعمام منتظرة (العيدية) لتفتح حقيبتها كل خمس دقائق وتعد ما جمعته من مال..
لا أزال أذكر نظراتهن وهمساتهن الضاحكة علي.. وقد وضعت كل منهن رجلها على الأخرى..
لم كن يستعجلن أن يصبحن نساء؟
كنا في نفس العمر تقريباً..
لكنهن يستعجلن أن يكبرن.. أن يضعن المكياج.. الفساتين الضيقة.. التسريحة الأنثوية..
لماذا؟
هل نحن الآن سعيدات بعد أن كبرنا؟
ما أجمل أيام الطفولة.. وبراءتها..
ليتني بقيت فيها أكثر وأكثر.. ليتني لم أكبر بهذه السرعة..


* * *

حاولن جذبي إلى عالمهن السري.. الخاص..
دخلته على وجل..
- يا خبلة ما يصير تلبسين كذا خلاص السنة الجاية بتروحين المتوسط.. وش هالدلاخة؟ للحين تلبسين ملابس أطفال؟ متى بتكبرين؟
- تعالي بس.. لازم نعلمك شلون تلبسين.. تكشخين.. تتمكيجين.. تمشين بالكعب.. تسرحين شعرك.. أصلاً هالـ(كشة) يبغى لها قص.. أنتي وجديلتك!
أشياء كثيرة تعلمتها.. رغم أنها لم تكن تحبها..
لا لشيء سوى لأنهن أقنعنها أنها هكذا غريبة.. مضحكة.. يجب أن تصبح مثلهن..
تعلمت كيف تضع أحمر شفاه لامع.. وقصت شعرها..
- حتى هذه الحواجب لازم (تنظفينها).. شكلك (غلط) فيها!!
كانت قد سمعت أن هذا حرام.. لكنها خجلت وسكتت حين رأت كل الفتيات يؤيدن ما قالته ابنة عمها..
- لكن.. لحظة.. لكن..
- أقول بس.. تعالي أزينهم لك.. علشان يصير شكل عيونك أحلى!
بدأت تمشي بالملقط على حاجبها.. كانت تشعر بالألم يسري لقلبها.. كانت تعرف أن هذا خطأ.. لا يجدر بها فعله.. أن تعصي خالقها لأجل شعيرات.. لكنهن جميعاً أصررن عليها.. كلهن يقمن بذلك..
أصبح لها مظهر آخر.. لم تعد تلك الطفلة..
أصبحت شيئاً آخر.. بقصة شعرها.. ومكياجها.. وكعبها..
من عينيها كانت نظرة براءة تحاول أن تتحدث.. لكن الحاجبين المثلثين كانا يسكتان تلك النظرة ليصرخا بنظرة دهاء.. هي منها بريئة..
تحولت لمسخ..
طفلة بمظهر(..)..!


* * *

- تعالي.. وش ذا العباة.. وش ذا (القراوة)!.. يحليلك.. شكلك كنك عجيّز..!
- هاه؟
- ليش ما تلبسين عباية شبابية.. شي حلو..
- لا.. ما له داعي..
لم تكن تستطيع أن تقول لا.. أنا أحبها.. أفتخر بها..
أحنت رأسها بصمت.. ابتلعت ريقها واستسلمت..
- يا الخبلة أنتي جسمك حلو.. ليش تخبينه بهالخيمة؟ البسي عباة مخصرة.. شيء فيه أنوثة.. أصلاً الشباب هالأيام ما يبون إلا اللي كذا..
ولأول مرة تكلمت..
- وشدخلني بالشباب؟
ارتبكت ابنة عمها..
- آآ.. قصدي إذا بغوا يخطبون..
إيه..!
وغيرت العباءة واستبدلتها بأخرى كانت تسير فيها على استحياء.. حتى تعودت عليها..


* * *

ثم بدأت مرحلة جديدة..
- قولي لهم يشترون لك جوال.. خلاص أنتي بتروحين ثاني متوسط.. أكبر من هالكبر؟!
- بس.. أنا ما أحتاجه..
- من قال ما تحتاجينه؟ أصلاً شكلك كذا يضحك في العزايم والمناسبات كل البنات معهن جولاتهن ويتبادلن البلوتوثات وأنت مسيكينة كنك بزر ما معك جوال.. وبعدين إلى متى صديقاتك إذا بغوا يكلمونك يتصلون على البيت ويرد عليهم فلان وعلان لازم معك جوال تتصلين على صديقاتك متى ما بغيتي لو نص الليل..
وعلى مضض..
أخذت تطالب أهلها به.. حتى كان لها..


* * *

كانت تلاحظ أن مها تمضي الساعات وهي تتحدث في الجوال تضحك.. تهمس.. وتلعب بشعرها..
- من كنت تكلمين؟
- ما لك دخل.. هذه أشياء ما تعرفينها.. توك صغيرة عليها..
- مها وش تقولين..؟
- هذا يا حبيبتي عالم ثاني مالك فيه يا المسكينة..
- شالألغاز؟ من تكلمين؟
أخذت تغني.. وتدور وشعرها يطير حولها.. ثم رمت نفسها على السرير..
وتنهدت..
- مسكين اللي ما جرب الحب والغرام..
- أي حب وغرام؟ مها!!.. أنتي تكلمين واحد؟
- لا.. عشرة! خخخخخ.. إيه.. أكلم واحد.. شفيك نتاظريني كذا؟
- مها حرام عليك!
- حرام عليك أنتي اللي دافنة نفسك وشبابك.. عيشي حياتك.. شوفي حولك.. كل البنات يكلمون.. ما بقى إلا أنتي بس يالمسكينة..
- لكن..
- بلا لكن.. يا أختي عمرنا ما سمعنا كلام حلو.. اسمعي الكلام اللي عمرك ما سمعتيه.. غير الرسايل والهدايا..
وجرفتني بكلامها المعسول.. لا أعرف كيف..
بدأت على خجل..
ثم تعودت.. مات الحياء.. غاب الخوف من الله..
(كل البنات يكلمون.. أنتي بس اللي توك طفلة)
طفلة.. بزر.. نقطة ضعفي.. الكلمة التي كنت أكرهها في ذلك الوقت..
كنت أريد أن أخلع ثوب الطفولة وكل ما يمت إليه بصلة.. بأي وسيلة.. وبسرعة.. حتى لو خلعت معه آخر غلالة للحياء والإيمان..


* * *

مات كل شيء جميل..
كلمت أكثر من شاب..
الكلام المعسول تعودت عليه..
الرسائل بدأت تتكرر.. أصبت بالملل.. الملل من الحياة في خوف وقلق.. وحيرة..
ومن التقلب بين جوال هذا وماسنجر ذاك..
العلاقة لم تكن تصل إلى شيء..
كلهم يدعون الحب.. ثم ماذا؟..
يحاولون إقناعي بالخروج معهم.. ثم ييأسون من رفضي ويذهبون..
كان هذا الجدار الأخير الذي لم يسقط حمداً لله..
- طيب اخطبني!!
ضحكة طويييلة ثم..
- يحليلك.. (بزر).. أي خطبة وأنتي في ثاني متوسط..
- ثالث متوسط!
- المهم في المتوسطة.. أي خطبة.. أكيد أهلك ما راح يوافقون..
- أنت جرب..
- أقول بلا خرابيط.. خلينا كذا أحسن.. بلا زواج بلا هم..
- لكن ما يصير لازم نتزوج..
- شوفي يا ماما.. أنا رجال متعقد من الزواج.. عندي اللي مكفيني..
- طيب ليش ما تطلق زوجتك إذا ما تبيها؟ ليش نبقى كذا معلقين؟
- أوووه.. شكلك بتطفشيني..
هكذا كانت تنتهي معظم علاقاتي.. بت أعرف طريقتهم.. أسلوبهم.. كيف يبدؤون.. وكيف يكذبون.. ومتى يتغيرون.. ومتى يغضبون.. ومتى ينهون العلاقة كما يريدون..
سئمت تعبت.. تعبت من محاولات أن أخلع ثوب الطفولة..
تعبت.. من الضياع.. من البعد عن الله..


* * *

نظرت إلى نفسي بالمرآة..
رأيت نفسي بلا وجه..
بلا حياء.. بلا نور إيمان.. بلا راحة.. بلا رضا..
كنت أرتدي قناعاً قبيحاً.. مقززاً.. أهذه هي الأنوثة..؟
تباً لها إن كانت كذلك..
سأخلع هذا القناع.. وهذا الثوب الذي لا أحب..
وليقولوا طفلة.. وغبية.. ومسكينة.. سأكون فوقهم ولن أخجل هذه المرة..
سأعود لربي الذي أعرضت عنه طويلاً..
سأمرغ جبهتي في الأرض طلباً لرضاه هو.. ولن أهتم بما سيقولونه أو يفعلونه..


* * *

- رااااااوية.. شوفيني.. بأغوص..
ابتسمت وأنا أنظر إلى خلودي الصغير وهو يستعرض..
ما أروع أن يكون الإنسان مرتاحاً.. بلا مكابرة.. بلا معاص تثقل ظهره..
ذهبت الجروح.. ذهبت الأحداث.. لكن آثارها لا زالت باقية.. تحرق فؤادي كلما تذكرتها..
ليتني أعود طفلة بريئة..
ليتني أعود صفحة بيضاء..
  #144  
قديم 03-01-2015, 09:19 PM
 
يمنحون الحبَّ.. على طريق الحياة

كان يوماً حاراً اشتدت به ريح السموم..
واكتست به السماء بحمرة الغبار..
- أعوذ بالله من غضب الله..
أغلقت أمي النافذة.. وهي تسعل من أثر الغبار الذي دخل علينا.. وخرجت من غرفة الجلوس..
لم أكن أعرف ماذا أفعل..
صعدت إلى غرفتي.. استلقيت على السرير..
لم يكن هناك من مكان نذهب إليه في هذا الجو.. ولا شيء نفعله..
فتحت النت..
كانت أمولة على المسنجر..
- أهليين شأخبارك؟
- أخباري.. طفش.. غبار وضيقة صدر..
- يا بنت الحلال هونيها.. يكفي أمولة العسل معك على الخط.. يا الله فكيها عاد.. (وجه مبتسم)
سكت..
إنها لا تعلم شيئاً.. لا تعلم أي شيء..
- سوسة.. وينك؟
- هنا..
- ليش ما تردين.؟ (وجه عابس)
- ..
- يوه.. شكلك سرحانة على الأخير..
(وجه ممتعض)
- تعرفين يا أمولة أحد يشتري الهموم؟ والله لو أعرف من يشتريها لأبيعها بفلوس الدنيا كلها..
- يوء يوء يوء.. وش ذا؟ صايرة شاعرة وأنا مدري عنك؟ أي هموم يا حلوة.. هموم وعندك صديقتك أمل؟ ما يصير!
أخذت تفكر طويلاً.. هل تسرعت؟ هل تخبرها؟ الأمر جلل..
- لا خلاص ولا شي..
- يا شيخة على مين حركات البزارين هذي؟ وش ولا شي؟ وش عندك؟
- ...
- أقول بتقولين وإلا أعصب (وجه أحمر غاضب)
- ههه أمزح معك.. فعلاً ما فيه شي..
- إيه أكيد كنت تفكرين بلمى.. يا أختي بالطقاق فيها.. بدالها ألف..
حصة في سرها (أي لمى أي بطيخ!)..
- إيه صح.. هذا هو همي.. شلون تتركني كذا؟.. يعني ذا الطالبة الجديدة بتنفعها.. وإلا علشانها جاية من المدرسة الفلانية وتركب عدسات صارت شي.. من زينها كنها طالعة من قبر جدي بذا العيون البيض..
- لووووول
- ..
- خخخخخ.. رهيبة يا حصوص.. جبتيها.. إي والله عدساتها ذا السماوية كنهن بيض.. عيونها تروع!
- وأنا صادقة.. وإلا شعرها اللي كنه شيب مصبوغ بكركم.. أعوذ بالله.. مسكينة .. وشايفة نفسها بهالشعرتين مغير تلفح فيهم يمين ويسار.. ياي على المياعة.. لا تتكسر..
- صادقة.. أنا ما عجبني لون شعرها بايخ.. أي أحمر (بورغاندي) على قولتها؟ والله إن لونه برتقالي كنه صرصور..
- طيب.. المهم. بروح ذا الحين.. شكل أمي تناديني.. مع السلامة..
- باي حصوصة..
أقفلت حصوص المسنجر..
كانت تكذب.. لم يكن هناك من يناديها..
وضعت رأسها على يديها على المكتب.. وأخذت تبكي..
شيء ما كان يحتبس في صدرها لا تعرف لمن تقوله؟


* * *

في المدرسة.. لم يلاحظ أحد التغير والسكون الذي طغى على حصة.. ولم يلمح أحد نظراتها الحزينة.. الكل كان ينظر إليها كطالبة مشاغبة.. ولا وقت لأن يفكر أن حصة يمكن أن تكون حزينة..
فقط كانت هي.. من لاحظ ذلك.. أثناء الدرس.. كانت تنظر إليها.. فتجدها سارحة في عالم آخر..
تمازحها تداعبها.. فترد بابتسامة صفراء..
شيء ما كان متغيراً..
بعد انتهاء الدرس..
اقتربت منها.. همست بهدوء وهي تشير إلى الباب وهي تبتسم ابتسامتها الدافئة..
- تعالي.. أريدك..
خرجت مرتبكة..
- هلا أستاذة!.. عسى ما شر؟
- ولا شر ولا يحزنون.. ممكن أكلمك في الفسحة.. ودي أسولف معك شوي..
نظرت إليها باستغراب..
- خلاص؟ أنتظرك!
وابتسمت كعادتها وربتت على كتف حصة وأسرعت إلى فصلها التالي..


* * *

في الفسحة أتت..
خرجت لها أبلة مها رغم تعبها الظاهر..
- أستاذة.. معليش افطري..
- لا.. ما يحتاج.. أنتي أهم..
وابتسمت بدفء..
وقفتا في مكان هادئ..
- حصة.. أنا أثق بكلامك.. هل عدت إلى محادثة الشاب؟
- ماذا؟!
- أنا أسأل فقط..
- المشكلة ليست هنا..
مطت المعلمة شفتيها..
- مشكلة في البيت.. أليس كذلك؟
بدأت دموع حصة تنساب.. وهي تبتلع رعشات حلقها..
- مشكلة؟.. (بلوة)!
وضحكت وهي تخنق عبراتها..
سكتت أبلة مها في انتظار الحديث..
- أبي.. تصوري أستاذة مها.. أبي اكتشفت به شيئاً..
ومسحت أنفها بالمنديل..
- أبي اكتشفت أنه يكلم امرأة!!
وقفت أبلة مها بهدوء ولم تغير ملامح وجهها الهادئة وكأنها كانت تتوقع أي شيء..
- تصوري!.. وجدت رسائل غرامية في جواله بالصدفة.. امرأة بنفسها قد كتبت له.. تصوري.. والله يا أستاذة إني لا أكذب..
- لحظة.. هل أنت متأكدة؟
- متأكدة ولدي الدليل.. وجدته قد أرسل إليها في الرسائل المرسلة أيضاً..
وأخذت تبكي أكثر..
- أنا.. لا أعرف ماذا أفعل؟
بكت ثم أكملت..
- هل تعرفين يا أستاذة مها.. لقد.. قررت الانتقام منه.. لقد عدت إلى محادثة الشاب الذي كنت أكلمه قبل سنة..
- الذي تبت من علاقتك به؟
- نعم.. أريد أن أحرق قلبه كما حرق قلبي.. وقلب أمي المسكينة التي لا تعلم..
مسحت المعلمة على رأسها..
وقالت بهدوء..
- حبيبتي.. إذا كان والدك يأخذ سماً قاتلاً.. هل تنتقمين منه بأخذ نفس السم؟ إنك بذلك تقتلين نفسك أنت.. وليس نفسه!
انظري إلي.. واسمعي جيداً..
لا أنكر أن صدمتك مؤلمة.. من المؤلم أن يصدم الإنسان بمن يثق بهم..
لكن.. يجب أن تكوني أقوى من كل هذه الآلام..
ماذا سوف تجنين من هذه العلاقة؟
غضب الله.. الخوف.. القلق.. السمعة السيئة.. ألم أمك المسكينة التي خنت ثقتها..
أما والدك.. فلن يؤثر عليه هذا الأمر..
كان الأجدر أن تحاولي نصحه وتوجيهه بطرق غير مباشرة.. ثم بطرق مباشرة.. أن تدخلي طرفاً ثالثاً قادراً على الحوار بينكما.. أن تبلغي أمك مثلاً..
لكن أسلوبك هذا.. مع احترامي.. أسلوب غبي..!
- لكن أستاذة مها.. أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً..
- كلا تستطيعين..
هل جربت الدعاء له؟ هل جربت قيام الليل؟ هل صليت في الثلث الأخير ودعوت من كل قلبك؟ أم أسرعت فقط بإغواء الشيطان نحو جهازك لتحادثي ذلك الشاب؟ هل هذا الحل في نظرك؟
- لا أعرف.. والله لا أعرف!
وأخذت تبكي..
- المشكلة أنه لم يكن لدي من أكلمه.. من أبثه ألمي..
- هذا ليس عذراً يا حصة.. كان بإمكانك أن تأتي إلى محادثتي.. أن تفرشي سجادتك وتبثي همك إلى الله.. أن تحادثي والدتك أو أي شخص تثقين به.. لكن بالله عليك ما الذي سيفيدك حديثك مع الشاب؟
بكت بينما أستاذة مها تمسح على كتفها..
- لا أنا.. ولا أمك ولا كل من في هذا العالم يستطيعون أن يعيدوا أباك.. واحد فقط من يقدر.. ربك.. الجئي إليه يا غاليتي.. وسترين.


* * *

وذات مساء..
بعد أربع سنوات وسبعة أشهر من ذلك اليوم..
في صندوق بريد المعلمة مها الإلكتروني.. كانت هناك رسالة خاصة..
من حصة:
(الحبيبة الغالية أبلة مها..
كيف حالك؟
..
ألا زلت تذكرين ذلك اليوم؟
لم أعد أحادثه مذ حينها.. قطعت علاقتي السخيفة به.. وانتهيت..
الحمد لله..
أما قصة أبي..
فسأقول لك ما حصل..
أخبرت والدتي.. حدثت مشكلات كثيرة حينها بين أمي وأبي..
و.. تطلقا..
مررت بأيام عصيبة ومؤلمة أنا وإخوتي..
لكني تماسكت.. اتبعت نصيحتك.. واظبت على قيام الليل والدعاء لهما..
أربع سنوات.. لم أتوقف يوماً..
قبل ستة أشهر فقط عاد والديَّ إلى بعضهما.. الحمد لله حياتنا الآن رائعة..
والدي تغير كثيراً.. وكذلك أمي.. وهي حامل الآن.. ههههه شيء طريف أن أحصل على أخ في هذا العمر.. أليس كذلك؟
طبعاً نسيت أن أخبرك أني أدرس الآن في الجامعة السنة الثالثة..
حين أتذكر شريط حياتي.. تمر أمامي أحداث سوداء عاصفة كثيرة.. ثم.. فجأة.. تظهر صورتك كنجمة بيضاء ساطعة تنير دربي..
أحمد الله أن كنت معي ذلك اليوم وإلا لكان لحياتي مسار آخر – بمشيئة الله..
معلمتي وأمي الغالية أبلة مها.. أحبك من كل قلبي..
ولا أعرف كيف أشكرك..
فالأشخاص الذين يمنحون الحب مثلك على طريق الحياة نادرون.. نادرون جداً..)


* * *

على لوحة المفاتيح..
كانت قطرات دافئة تتساقط..
  #145  
قديم 03-01-2015, 09:29 PM
 
- 46 -

قوة عينيها

كانت نادية بطلة شعبية في المدرسة..
فقد كانت من النوع الذي لا يؤخذ حقه ولا تسكت عن أي تجاوز ضدها أو ضد غيرها.. لذا كنا نراها النموذج القوي الذي نحب ونحلم أن نصبح مثله..
لم تكن من النوع الذي يتشاجر دون سبب.. كلا.. لم تكن كذلك أبداً..
على العكس..
كانت لا تتشاجر إلا لأسباب وجيهة.. وفي الوقت الذي يخشى فيه الجميع من الحديث أو الاعتراض..
لقد كانت تمتلك قوة غريبة لا تملكها أي فتاة رأيتها في حياتي..
ذات يوم كان هناك مجموعة من الفتيات أو المخلوقات التي تشبه الفتيات يجلسن كحلقة قرب المقصف.. كان موقع جلوسهن سيئاً ومزعجاً للجميع فقد أغلقن الطريق أمام كل من تريد الشراء من نافذة المقصف الكبيرة..
كان من الواضح أنهن تعمدن ذلك لكي يعلم الجميع مدى قوتهن.. ولا أعرف ما الذي يفرحهن في هذا؟؟
لم يستطع أحد أن يواجههن بشكل قوي..
فقد كانت الجازي رئيسة المجموعة وهي فتاة مخيفة بكل ما تعنيه الكلمة بدءاً من جسمها الطويل القوي وتصرفاتها الحادة وهيئتها المسترجلة..
تأففت الكثير من الفتيات.. وأبدين تذمرهن وانزعاجهن لكن دون جدوى..
حتى أبلة منى مراقبة الساحة حادثتهن عدة مرات دون جدوى..
وفي النهاية رأتهن نادية..
فتحمست لعمل شيء..
- نادية.. أرجوك.. أرجوك.. لا تتهوري.. لا تقتربي من هؤلاء المجانين..
- قلت سأذهب يعني سأذهب..
- نادية أرجوك لا تجازفي بنفسك..
- ولماذا أجازف ماذا سيفعلن؟
- أنظري للسلسلة اللامعة التي تتدلى من جيبها.. قد تلسعك بها بكل سهولة..!
- أتحدى.. إنها أجبن من أن تفعل ذلك.. لا شيء يجعلها تتجرأ و(تنفخ) نفسها سوى خوفكن وجبنكن فقط!
وانطلقت بكل ثقة لتشتري من المقصف..
- لو سمحتوا شوي!
ولم يعرها أحد اهتماماً.. كانت كل فتيات الشلة ينظرن لبعضهن ثم ينظرن لها بازدراء ويتابعن ضحكاتهن..
رفعت صوتها..
- هذا يعني.. أنكن لا تردن التحرك.. حسناً سأتحرك أنا إذاً..
وانطلقت بشكل خاطف وجنوني.. تدوس عليهن بكل قوة..!!
كان منظراً غريباً.. مضحكاً.. مخيفاً.. رهيباً.. لا أعرف..
انطلقت صرخاتهن المتألمة العالية.. وهي تدوس بكل قوتها بحذائها الرياضي على أرجلهن وتتعمد ذلك.. وتقفز من حضن واحدة لأخرى غير آبهة بصرخاتهن وتوجعاتهن.. لتعبر نحو نافذة المقصف..
اجتمعت كل فتيات المدرسة على الموقف الرهيب..
وقفت الجازي بكل قوتها.. وصرخت بصوت أجش..
- هييييييييييه!! خير!! خير؟! ماذا تريدين؟
وبكل برود ردت نادية..
- لاشيء.. أريد فقط أن أشتري من المقصف..!
وذهبت لتشتري..
انطلقت الجازي خلفها وسحبتها من كتفها.. وصرخت كأسد هائج..
- تعالي كلميني..
كانت نادية متماسكة تماماً.. فقط التفتت نحو الطالبات وقالت..
- اشهدن جميعاً.. إنها تتعدى علي بيدها!! هل شهدتن؟
انتفخت أوداج الجازي وأصبح وجهها أحمر..
- انظروا.. انظروا لها.. إنها تنفخ أمامي بقوة.. لنر ماذا تستطيع أن تفعل؟
شعرت بالخوف الشديد على نادية.. فرغم قوة شخصيتها وعنادها الشديد وشجاعتها الغريبة.. إلا أنها ذات جسم نحيل ضعيف.. وقد بدت أمام الجازي كقطة صغيرة أمام أسد هائج..
- طيب.. طيب يا الـ.. (..)
بكل غرابة.. ولا أعرف لماذا أعطت الجازي نادية ظهرها وهي تسير شبه منهزمة.. وتردد (سأريك.. سأريك!)
صرخت فيها نادية لكل جرأة وقوة وحماس.. بصوت عال..
- هيا.. هيا..! اذهبي.. ولا تعودي للجلوس مرة أخرى مع قطيعك في هذا المكان مرة أخرى.. وإلا فإنني سأرتدي كعباً حاداً المرة القادمة..!
كان موقفاً غريباً.. لا أعرف كيف انسحبت الجازي أمام نادية.. رغم أنه بضربة واحدة من كفها الغليظ كان بإمكانها أن تسقط نادية صريعة..!
أيقنت أنها قوة شخصيتها.. قوة الحق في عينيها الحادتين.. والتي حولت ضعفها لقوة مخيفة..
ولهذا أصبحت كل الفتيات المشاكسات يخشين نادية ويتجنبن مواجهتها..
وأصبحت كل فتيات المدرسة يحببنها ويقفن في صفها..
ذات يوم.. حصل لي موقف لن أنساه.. كنت أسير مع صديقتي في ساحة المدرسة..
حين جاءت إحدى الفتيات المتهورات وهي تجري مسرعة واصطدمت بي بقوة فأوقعتني أرضاً وأكملت ركضها دون حتى أن تلتفت إلي أو تعتذر..
كانت سقطتي مؤلمة وقوية.. فقد ارتطم رأسي بجدار قريب..
وحين استطعت الوقوف وترتيب شعري، اقتربت مني نادية وهي غاضبة.. وقالت..
- نوال!.. لماذا تسكتين؟ اذهبي وحادثيها.. لقد تعودن على قلة الذوق والاحترام.. وهن بحاجة لمن يوقفهن عند حدهن..
شعرت بالخجل من نفسي.. بالفعل كنت أحتاج لأن أواجه من ظلمني وآخذ حقي منه.. لكن.. نظراً لضعفي الشديد.. لم أستطع يوماً أن أفعل ذلك.. كنت أتظاهر دوماً بأني أسامح الناس.. لكن الحقيقة هي أني أخاف من مواجهة الآخرين حتى لو كانوا مخطئين..
- تعالي.. قومي.. هيا..
أمسكت يدي.. وسحبتني..
- اسمعي.. أنا لن أتدخل.. فقط سأمسكها لك.. وأنت تصرفي.. مفهوم؟
ابتلعت ريقي بصعوبة وأنا أجري معها بارتباك..
وحين وجدت الفتاة تضحك مع زميلاتها رمقتها بنظرة قوية ونادتها بحدة..
- تعالي.. تعالي لو سمحت..
نظرت الفتاة إلينا بجمود يشوبه خوف واستغراب..
- نعم.. ماذا؟
- تعالي.. وواجهي هذه الفتاة التي أسقطتها بجريك الأهوج قبل قليل..
اقتربت ونظرت إلي نظرة غبية.. فلم أعرف ماذا أقول..
نظرت لنادية والعرق يتفصد من جبيني..
- آآآه.. آآ.. أنا.. ممم.. لماذا أسقطتني؟
- لا أدري.. لم أرك أصلاً.. أنت كنت تقفين في مكان خطأ!!
كانت نادية تراقبني بهدوء دون تدخل.. فتلعثمت مرة أخرى.. وقلت بصوت مرتعش..
- كلا.. لم يكن مكاني خطأ.. آآآ.. أنت كنت مسرعة..
ضحكت الفتاة باستهتار مقيت.. وأعطتني ظهرها لتكمل حديثها مع زميلاتها..
فصرخت نادية عليها..
- لو سمحت!!! الحديث لم ينته..!
يا الله! اجتمع بعض البنات حولنا.. شعرت بأني في ورطة.. ماذا أفعل؟ أريد أن أنسحب..
- ليس من حقك أن تجري بجنون كالأطفال وتضربي الناس ثم تقولي.. لم أرهم!!
شعرت الفتاة بالخوف فقالت..
- طيب.. والمطلوب..؟
- أن تعتذري لها..
نظرت إلي وهي تمط شفتيها ثم قالت..
- آسفة..
- انتبهي مرة أخرى حين تجرين.. فالناس ليسوا لعباً..
حمدت الله أن الموقف انتهى.. وسرت بعيداً وأنا أشعر باعتزاز لم أشعر مثله من قبل..
قالت لي نادية..
- نوال.. اسمعيني جيداً.. التسامح لا يعني أن تتركي حقك يضيع.. وأن تتركي الآخرين يتجاوزون حدودهم معك.. بتسامحك مع أمثال هؤلاء فأنت تتركين الطريق يتسع أكثر فأكثر لهم ولتجاوزاتهم.. إذا أردت أن تسامحي الآخرين فسامحيهم.. لكن وأنت قوية.. وليس.. وأنت ضعيفة.. هل تفهميني؟
بعد مرور عشرات السنين على ذلك الموقف لازلت أتذكر كلماتها بكل دقة..
حتى الآن.. لا أعرف إن كان كلام نادية صحيحاً تماماً أم لا..
ولا أستطيع أن أحكم ما إذا كان أسلوبها صحيحاً أم لا..
أعرف أننا كنا مراهقات.. لم ينضجن على نار الحياة بعد..
وما عرفته حقاً من خلال خبرتي في الحياة..
إن الإنسان إذا فقد قوته في الحق.. وسكت عن الظلم ضعفاً..
فإنه يفقد أول معالم إنسانيته..
 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سلسله اعترافات فتاه ( الجزء الخامس ) مؤمن الرشيدي روايات طويلة 120 10-14-2013 05:16 PM
حصريا تحميل جميع اجزاء افلام كرتون علاء الدين 3 اجزاء كاملين مدبلجة للعربية روابط مباشرة abdo629 أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 1 05-02-2012 07:02 PM
اربعة × اربعة أحمد عبد العظيـم خطب و محاضرات و أناشيد اسلاميه صوتية و مرئية 4 01-26-2010 09:18 AM


الساعة الآن 10:19 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011