عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات طويلة > روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة

روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة يمكنك قراءة جميع الروايات الكاملة والمميزة هنا

 
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #36  
قديم 10-03-2011, 03:18 PM
 
الحلقةالثانيةوالعشرون
********






لم تمر ليلتي بسلام ...

و رغم أنني نمت متأخرة على غير العادة إلا أنني نهضت باكرا ...

لم يكن أحدهم قد نهض آنذاك ، و بعد قليل نهضت دانة و ذهبنا للمطبخ لإعداد كعكة العيد !

دانة كانت مفعمة بالحيوية و النشاط أما أنا فكنت في غاية الكسل و الملل و الكآبة أيضا ...

بعد مدة اجتمعنا نحن الأربعة حول مائدة الفطور ... و تناولنا حصصنا من الكعكة ...

سامر كان متحمسا جدا و منفعلا ، و يتحدث عن النزهات التي ينوي القيام بها هذا اليوم ...

قالت دانة :

" أنا لن أشارككم فأنا سأخرج مع خطيبي ! "

قال وليد :

" و أنا سأخرج الآن "

و نهض مباشرة ...

سامر قال :

" إلى أين ؟؟ "

" سأتجول في المنطقة "


و سرعان ما غادر

قال سامر :

" ما به ؟ لا يبدو طبيعيا ! "

قلت :

" إنه يريد الرحيل "

قال :

" لن يغادر قبل زفافنا على أية حال ! "

ثم ابتسم ابتسامته التي تزعجني و هو يقول :

" بعد أيام فقط ... "



أهداني سامر زوجا من الأقراط الذهبية ، أما أنا فأهديته إحدى لوحاتي !

لم تكن لدي فكرة عن شيء جديد أهديه إليه !

قضينا نهار العيد ، أنا و سامر نتجول من مكان لآخر ...

و عند العصر ، و نحن في الطريق إلى البيت قال سامر :

" حصلت على هذا اليوم بصعوبة ، لا زال أمامي مشوار العودة الطويل "

قلت :

" أنت تكلف نفسك مشقة ! ما كان يجدر بك الحضور ! "

سامر التفت إلي باستغراب و قال :

" لا أحضر ؟؟ في يوم مميز كهذا ؟؟ "

قلت :

" أقصد .. مشقة السفر ... حضورا و ذهابا ... "

قال :

" لأجلك أنت ِ "


صمت ، و أخذت أراقب الأشياء المتحركة من حولي من خلال النافذة ...

بعد قليل ، قال سامر :

" لم كنت ساهرة لذلك الوقت المتأخر ... البارحة ؟؟ "


التفت نحوه بتعجب !

قلت :

" لم أشعر بالنعاس قبلها ... "

و أضفت :

" كما و أن ... وليد كان قد عاد قبل ذلك بقليل من الخارج ، و لم أشعر بارتياح للنوم و هو خارج المنزل "


قال :

" هل ... يسهر بعيدا كل ليلة ؟؟ "

" لا ! أبدا ... فقط البارحة ، ربما حضر أحد احتفالات العيد ! "

عندما عندنا للمنزل كنا أول الواصلين

تجازوت الساعة السادسة و لم يعد لا وليد و لا دانة ... سامر بدأ يلقي بنظرة بين حين و آخر عليها في اضطراب ...

" تأخرا ! يجب أن أغادر الآن فأمامي مشوار طويل "

و المشوار بين المدينتين يستغرق ساعات يقضيها سامر في قيادة السيارة

لابد أنه متعب الآن ! فقد قضينا ساعات أيضا في السيارة ...

قام سامر و اتصل بوليد ، و يبدو أن هذا الأخير أخبره بأنه لن يعود قريبا

لذا أتى سامر و قال :

" أ آخذك إلى بيت خالتك ؟؟ "

لم أحبذ الفكرة و مع ذلك اتصلت بهم ، و لم أجد أحدا ... لابد أنهم ذهبوا أيضا للتمتع بيوم العيد ...

قلت :

" أين هو وليد ؟؟ "

" يقول أنه في مكان بعيد ، و قد يتأخر في الحضور ... "

و تنهد سامر باستياء !

إنها المرة الأولى التي يكون فيها معي و يرغب في الذهاب !

قبيل الثامنة ، خرجنا مجددا و اشترينا عشاء خفيفا من مطعم قريب و عندنا للمنزل

و أيضا لم نجد أحدا هناك ...

عاود سامر الاتصال بوليد بعد العشاء ...

" إن علي ّ الذهاب الآن ... فمتى ستعود ؟؟ "



و من خلال تعابير سامر المستاءة استنتجت رد وليد !

قال سامر :

" و الآن هل لا حضرت ؟؟ "

بعد أقل من ساعة من المكالمة وصل وليد ...

بادره سامر بالعتاب :

" تأخرت يا وليد كثيرا .. متى سأصل إلى شقتي ؟؟ "

قال :

" شاركت الآخرين مهرجانات العيد ... لا أحد يبقى في المنزل في يوم كهذا "


فهمت أنه يقصد أن وجودي يعيقه عن الترفيه عن نفسه في يوم مميز ...

التزمت الصمت ... قال سامر :

" سأذهب الآن ... "

و صافحني ، ثم صافح وليد و قال :

" تصبحان على خير "



بقيت مع وليد ... وحيدين في المنزل ...

حينما رأيت الضجر باد عليه قلت :

" إن كنت تود الذهاب لمتابعة سهرتك في مكان ما ... فخذني إلى بيت إحدى صديقاتي ثم اذهب "


و ببساطة تجاهلني !

قلت بغضب :

" وليد أنا أتحدث معك ! "

الفت إلي و قال :

" أسمعك ، لكنني لست أبلها لأفعل ذلك "

صمت قليلا ، ثم قلت :

" أنا آسفة ... للتسبب بإزعاجك طوال هذه المدة ... بقيت بضع أيام "

لم يرد ...

قلت :

" أنا أستطيع المكوث في بيت خالتي ، لكن المشكلة مع دانة ... و إلا لكنا وفرنا عليك عناء البقاء معنا "


رماني وليد بنظرة مخيفة أخرست لساني !

لم أشأ أن أتركه وحيدا و أنعزل في غرفتي ... أحضرت كراستي و عدّة الرسم إلى غرفة المعيشة ، حيث يجلس هو ، و بدأت أرسم !

وليد كان يتصفح قنوات التلفاز و لا يجد فيها من يجذبه للمتابعة

لكنه مهووس على ما يبدو بالأخبار ...

بعد قليل ، أوقف وليد التلفاز و أخذ الهاتف ، و طلب أحد الأرقام ...

أنا لم أكن أرسم بقدر ما كنت أراقب تحركاته ...

و هاهو يتحدّث إلى الطرف الآخر :

" مرحبا ، أنا وليد شاكر "

( .................. )

" أهلا بك آنسة أروى ، كل عام و أنتم بخير ، كيف هي أموركم ؟؟ "


تركت ُ القلم من يدي و أصغيت ُ باهتمام ...


" ماذا ؟؟ متى حدث ذلك ؟؟ "

( .................... )

" أوه ... أنا آسف ... و كيف حالتها الآن ؟؟ أهي أفضل ؟؟ "

( .................... )

" لا تقلقي ، بلغيها و العم سلامي ... و أخبريهما بأنني سأعود في أقرب فرصة إن شاء الله "

( .................. )

" شكرا لك ِ ، وافوني بأخباركم أولا بأول ، تصبحين على خير "



و أنهى المكالمة ...

و عاد و شغّل التلفاز ، إلا أنه كان شاردا ...

من تكون أروى هذه ؟؟

تركت ُ اللوحة جانبا ، و قلت ُ بعد تردد قصير ضعيف غلبه الفضول الشديد :

" وليد "

" نعم ؟؟ "

" من كنت تحدّث ؟؟ "

بدا عليه الاستغراب ، ثم قال :

" لم السؤال ؟؟ "

" لاحظت ... استياءك من خبر وصلك من الطرف الآخر ... خيرا ؟؟ "

قال :

" زوجة صديقي رحمه الله تعرضت لنوبة قلبية و ترقد في المستشفى "

صمت ّ قليلا ثم سألته :

" و هي من كنت تتحدّث معها ؟؟ "

" كلا . هذه ابنتها "


ابنة صديقه ؟ إذن لابد أنها مجرد طفلة !
بعد قليل أوقف وليد التلفاز و نهض هاما بالمغادرة

قلت :

" إلى أين ؟؟ "

التفت إلي بانزعاج و قال :

" سأذهب للنوم ، إلا إذا كنت ِ تريدين من حارسك البقاء ساهرا لحين نومك ؟ "

لم أجب ، فأنا لم أجد الكلمات المناسبة ... و هو لا يدرك كم هي جارحة كلماته و قاسية معاملته ...

ليته يعرف !

استدار ليخرج فعدت ُ أناديه :

" وليد "

تنهّد و هو يلتفت نحوي قائلا :

" ماذا الآن ؟؟ "

تقدمت نحوه قليلا ، و فتشت في وجهه عن أي ملامح تشجعني على سؤالي ، لكنني لم أجد ... فبقيت صامتة ...

" نعم ؟؟ ماذا لديك ؟؟ "

توترت ، لكني بعدها جمعت غبار شجاعتي و قلت :

" هل أعجبَتـْـك ؟؟ "

" ما هي ؟؟ "

" الهدية ! "

وليد بعثر نظره هنا و هناك ، ثم قال :

" لا أذكر أين تركتها ... آسف ! "



هنا عند هذه اللحظة تمزّقت أوهامي ...
فإن كان قد أضاع هدية أعطيتها له مساء الأمس ...قبل أن يفتحها ... فكيف بماض ولى منذ تسع سنين ؟؟

و إدراكي لحقيقة أن وليد لم يعد وليد ... قتل كل رغبة في الحياة و السعادة لدي ...

الأيام التالية قضيتها حبيسة الغرفة في أنهار من الدموع ... حتى أن دانة و التي عادة ما تتهمني بأنني أتدلل بدموعي هذه بدأت تقلق بشأني و صارت تحضر لي الطعام إلى غرفتي ...

زارتني نهلة ، و خالتي ... الجميع يحاول التحدث ليعرف سبب حزني إلا أنني لم أكن أدع الفرصة لهم ...

و عندما تتصل أمي أكتفي بكلمات بسيطة معها أو مع أبي ، و أعود إلى غرفتي ...

أما سامر ، فقد كنت أتحاشى الحديث معه قدر الإمكان ...

في إحدى الليالي ، جاءتني دانة و قالت بمرح ـ محاولة بث البهجة في قلبي ـ

" رغد ! أنت مدعوّة على العشاء معي و مع وليد في أرقى مطاعم المدينة ! هيا بسرعة وليد ينتظرنا "

هي نظرة عابرة ألقيتها على دانة ثم أشحت بوجهي عنها و قلت :

" لن أذهب "

" ماذا رغد ! هيا لا تدعي الفرصة تفوتنا ! "

" لا أريد دانة رجاء ً دعيني وحدي "

دانة اقتربت مني ... و قد غطت وجهها تعبيرات القلق و قالت :

" هيا رغد ! "

هززت رأسي اعتراضا ، فقالت :

" إذن سنذهب و نتركك وحدك ! "

كانت تعرف أن نقطة ضعفي هي الوحدة ... و أتت تستخدمها كسلاح لجبري على الذهاب معهما ...

حدقت بها لبرهة ثم قلت :

" افعلا ما تشاءان "

رفعت حاجبيها دهشة و قالت :

" رغد ! معقول ! هل تخلّصت من الخوف ! "

قلت بعصبية :

" اذهبا و اتركاني وحدي ... دعيني وحدي يا دانة ... دعيني وحدي ... "

و انخرطت في بكاء مرير ...


دانة خرجت ... و بعد قليل عادت مع وليد ...




~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~






أحوال صغيرتي كانت غريبة ، و أصبحت مقلقة آخر الأيام ...

في الواقع هي كانت مستاءة جدا منذ أن قدمت ، إلا أن استياءها ازداد مؤخرا ...

كانت تحبس نفسها في الغرفة ، و لا تشاركنا لا الطعام و لا الكلام .

قررت أن نخرج معها لتناول العشاء في أحد المطاعم و من ثم التنزه فعلّ ذلك ينعشها ... إلا أن دانة أخبرتني بأنها رفضت القدوم معنا و قالت لها
( اذهبا و دعوني وحدي )

في السابق كانت دانة تترجم تصرفات رغد على أنها تدلل ، فهي متدللة جدا ... إلا أنها الآن قالت :

" أنا قلقة يا وليد ... هناك شيء تخفيه عنا ... لا أعرف ما الذي يحزنها هكذا "

كنت خلال الفترة الأخيرة أتحاشى اللقاء بها ، فلا قلبي و لا معدتي بقادرين على تحمل المزيد ... إلا أنني هذه اللحظة لم أتمالك نفسي و ذهبت مع دانة إلى رغد ...

الأخيرة كانت في غرفتها تبكي بغزارة تفطر قلب الحجر ... فكيف بقلبي أنا ؟؟
حاولت التحدث معها إلا أنها لم تستجب لي ، و قالت بعصبية :

" اخرجا و دعاني و شأني "

بقيت أيام على موعد عودة والدي ّ من رحلة الحج ... ربما يعود كل شيء على ما كان بعد عودتهما ...

و لكن إلى ذلك الحين يجب أن أفعل شيئا !

صبرت ساعة أو ما شابه ، ثم عدت إليها بمفردي ... و للأسى وجدتها لا تزال تبكي ...

" رغد ... انهضي ... دعينا نذهب لأي مكان تحبين ! "

ما وصلني منها أي جواب ...

كانت تجلس على السرير و تضع الوسادة في حضنها ...

" رغد ... ما بك ؟؟ أخبريني ؟؟ "

" لا شيء "

" إذن لم تبكين ؟ "

" لا لسبب "

" أرجوك ... أبلغيني بما يزعجك ؟؟ "

" قلت لا شيء "

" ربما أنا ؟؟ "

حين قلت ذلك نظرت إلي رغد نظرة غريبة مليئة بالمعاني ...

" إن ... كنتِ منزعجة بسببي ... فأنا آسف ... ما هي إلا أيام معدودة و يعود والداي و سامر ... "

عندها أغمضت رغد عينيها و ارتفع صوت بكائها المرير ...

كيف لي أن أحتمل رؤيتها هكذا ؟؟

بصعوبة بالغة منعت ُ يدي من التربيت على كتفيها ... و لكنني لم أستطع منع نفسي من قول :

" صغيرتي الغالية كفى أرجوك ... لا أحتمل دموعك "

رغد قالت :

" أخرج "

و كررت الكلمة مرتين ، فغادرت الغرفة و أنا في قعر التعاسة و الكآبة ...

عند الفجر كنت في طريقي للخروج من المنزل قاصدا المسجد ...

فيما أنا أمر من غرفة المعيشة سمعت صوتا يصدر من هناك ...

سرت بحذر حتى دخلت الغرفة ، و أذهلتني رؤية رغد تبكي و تنحب هناك

" رغد ! "

التفتت إلي رغد بذعر إذ يبدو أنها لم تنتبه لقدومي ... ثم نهضت واقفة بارتباك ...

تقدمت منها ، و قلت :

" بالله عليك أخبريني ... ما بك ؟؟ "

رغد أرادت الخروج لكنني وقفت سادا فتحة الباب مانعا إياها من الخروج

" أخبريني ما بك أولا "

" دعني و شأني "

" لن أدعك حتى تخبريني "

" و لم َ تود أن تعرف ؟؟ ماذا يهمك أنت ؟؟ "

" يهمني كل شيء يتعلق بك ... كل شيء "

" كذّاب "


انقبضت عضلاتي استياء ً ... و استدرت للمغادرة ...

خطوت خطوتين ، و توقعت أن تخرج رغد من بعدي ، إلا أنها لم تخرج ...

عدت إلى الغرفة فرأيتها جاثية على الأرض باستسلام تام للدموع ...

نفس الجلسة التي كانت تجلسها و هي طفلة ، حين يعتصرها الألم ...


دنوت ُ منها حتى صرت ازاءها مباشرة ، و انحنيت و قلت بصوت أجش :

" أرجوك يا رغد .. أرجوك توقفي عن هذا و أخبريني بما يزعجك ، و أيا كان ... أنا سأزيحه عنك نهائيا "

رغد رفعت نظرها ... كأنها تطلب التأكيد ...

قلت :

" أي شيء يضايقك و يحزنك لهذا الحد ... أبلغيني و أنا أبعده عنك .. "

" صحيح ؟؟ "

" نعم يا رغد ، لا تظني أنني فقط أكذب و أدعي ... لا تعرفين كم هي غالية دموعك عندي ... "

" مهما كانت غالية ... هناك ما هو أغلى ... و هناك ما لا يمكن فعله أبدا"

" أخبريني أنت فقط ، و سترين "

رغد هزت رأسها نفيا ... و قالت :

" لا لن تفعل ! لن تستطيع شيئا ! "

" أخبريني ماذا تريدين ؟؟ "

" أريد أمي "

قلت بتعجب :

" تريدين أمي !؟؟ "

هزت رغد رأسها اعتراضا و قالت في صيحة قاتلة :

" أريد أمي أنا ... لا أمك أنت ... أنا أريد أمي ... فهي من يستطيع مساعدتي ... لو بقيت حية ... لا أحد منكم يستطيع ... هل يمكنك إحضارها إلي ؟؟ "


فوجئت بقولها هذا و شعرت بشرايين قلبي تتفجر بعنف ...

أيعقل أنها لا تزل تفكر في أمها ـ التي لم تعرفها يوما ـ حتى الآن ؟؟

أتقصّر أمي في شيء للحد الذي يجعل رغد تبحث عن المساعدة من أمها الراحلة منذ 15 عاما ؟؟

بعدما انتهت من نوبة بكائها قالت بتحد ٍ :

" هل تستطيع إحضار أمي إلي ؟؟ "

وجدت نفسي أقول :

" اعتبريني أنا أمك ... "

ثم أضفت :

" ألم أكن كذلك ذات يوم ؟؟ "

نظرت إلي رغد بيأس ...

قلت :

" لطالما كنت ِ تعتمدين علي و تثقين بي ... "

و لما لم أجد منها تفاعلا ... نهضت و أنا أقول :

" سأذهب لتأدية الصلاة "



عدت ُ من الخارج بعد قليل ، و لم أجدها ... ذهبت إلى غرفة سامر و اضطجعت على سريره و أخذتني دوامة الأفكار إلى عالم من المتاهات و الدهاليز ...

تذكرت ... يوما كنت فيه في غرفتي بمنزلنا القديم ، و سمعت طرقا خفيفا على الباب ... و حين فتحته ، وجدت رغد تبكي بألم ... مليئة بالخدوش و الكدمات ...

أعتقد أنني تعلقت بها ابتداء ً من ذلك اليوم ... و لا أعلم انتهاء ً بأي يوم ؟؟

فجأة ... سمعت ُ طرقات خفيفة بالكاد التقطتها أذناي ، ما يدل على تردد اليد الطارقة ...

قمت و فتحت الباب ... و وجدت رغد تقف عنده ...

كانت عيناها شديدتي التورم و الاحمرار ، و وجهها شديد الحزن و الكآبة ...

قلت :

" صغيرتي ... "

ما أن نطقت بذلك حتى قفزت الدموع من عينيها ... حاولت ُ تهدئتها ... فمسحت ْ الدموع و لملمت ْ شيئا من شتات قوتها و همت بالكلام ... لكن التردد كان مسيطرا عليها ...

قلت مشجعا :

" نعم صغيرتي ... قولي ما تودين ؟ "

ازدردت ريقها و سحبت عدة أنفاس ... ثم نظرت إلي نظرة مريرة ...

تراجعت ، و خطت خطوة للوراء لكنني استوقفتها :

" هيا رغد ... أنا أسمعك "

" لن تستطيع مساعدتي "

" بلى سأفعل ... قولي ماذا يحزنك ؟؟ "

هنا انفجرت بالبكاء و غطت وجهها بيديها و قالت بصوت متقطع :

"أنا ... أنا ... لا أريد أن ... أتزوج سامر "




لقد كان ذلك هو آخر شيء أتوقعه على الإطلاق ... الذهول الذي أصابني و هول المفاجأة لم يدعا لي فرصة للتفكير ... أو حتى استيعاب الموقف
إلا أن الألم و المرارة التي رأيتها في عيني رغد وهي تستنجد ... و تبحث بيأس عن شخص ينقذها رغم كل اعتبار ... و القنوط الذي دفعها للتفكير في أمها المتوفاة منذ إن كانت هي طفلة صغيرة ... و شعوري بالمسؤولية عليها ... كلها أمور امتزجت مع بعضها البعض و دفعتني في النهاية لقول :

" اطمئني ، لن يكون لك إلا ما تريدين "




الآن ، دخلتُ مرحلة جديدة ... و بدأت الحلقة الأولى من سلسلة المصاعب التي واجهتها فيما بعد ...

حين سألتها ساعتها :

" تقصدين ... تأجيل الزفاف ؟؟ "

قالت و هي تنفي :

" لا أريده ... أنا لا أريده "

و عندما سألتني قبل انصرافها :

" أحقا ؟ تستطيع فعل شيء لأجلي ؟ "

أجبتها :

" أي شيء ... مهما كان .. ثقي بي "




فأي شيء أغلى و أهم عندي من راحة و سعادة رغد ؟؟

في النهار التالي بدت هي أكثر راحة و ابتهاجا ، و خرجت من عزلتها و بدأت تعود للحياة ...

شاركتنا الوجبات و الجلسات ، و النزهات ... و بدت لحد ما راضية ...

حتى أن دانة قالت لي تعليقا على تقلب أحوال رغد :

" أ رأيت ! قلت لك ! سبحان مقلّب الأحوال ! "


في يوم الأربعاء التالي ، يوم حضور سامر للزيارة ، بدت في غاية التوتر و القلق ...

طلبت منها أن تذهب إلى بيت خالتها ، كما صرفت ُ دانة مع خطيبها بشكل ما ، و بقيت وحدي في البيت أنتظر ...

عندما حضر سامر استقبلته استقبالا طبيعيا ، و حين سأل عن الاثنتين أبلغته عن أمرهما ...

تركت له فرصة ليرتاح من عناء السفر ... و بعدها أخبرته بأن هناك ما يجب أن يعرفه ...

التوتر تملكه بطبيعة الحال ... أما أنا فتظاهرت بالبرود بينما النيران تأكل أحشائي ...

أخي لم يكن يتحدث عن شيء غير الزواج المرتقب ... إنني أدرك كم هو مولع برغد و يحبها بشغف ... و أدرك معنى أن يجد المرء نفسه فجأة محروما ممن يحب و يتمنى ...
كيف لي ألا أدرك هذا و أنا صاحب التجربة المرة القاسية ... ؟


لكن ... بالنسبة لي أنا ... فلا شيء يهم بعد رغد ... و كل شيء يهون من أجل رغد ...

و إن كنت ُ ارتكبت ُ جريمة من أجلها ... فهل سيصعب علي تحطيم قلب أخي في سبيل راحتها ؟؟


" خيرا يا وليد ؟؟ "

خير !؟ أتظنه خيرا يا سامر ! سامحني يا أخي فأنا ... أنا كنت ُ و لا زلت ُ مجرما ...

قلت بدون مقدمات :

" إنه بشأن زواجك "

" ماذا بشأن زواجي ؟؟ "

نظرت إليه بجدية و قلت بصوت قوي و ثابت :

" يجب تأجيله "

نظر إلي ببلاهة و عدم استيعاب :

" تأجيله ؟؟ "

" أنا جاد يا سامر . ركّز معي . زواجك سيتأجل إلى أجل غير مسمى "

" وليد ... هل لك أن تتحدّث بوضوح أكثر ؟؟ "

" بوضوح أكثر يا أخي ... العروس لا ترغب في الزواج الآن و إلى أن تحدد هي الوقت الملائم سيتم تأجيل كل شيء "



كانت هذه الجرعة الأولى التي لم استطع سقيه أكثر منها ...

سامر هاج و ماج و غضب و ثار و تخبط بجمل متعارضة متناقضة ... ثم قرر الذهاب لإحضارها من بيت خالتها

قلت له :

" ليس الآن ... سأحضرها أنا بعد قليل "

حدثت بيننا مشادة قال فيها سامر :

" أريد التحدّث معها مباشرة :

قلت :

" أنا أتحدّث نيابة عنها "

قال :

" بل سأتحدّث إليها هي ، فهي صاحبة الشأن "

قلت :

" و أنا المسؤول عنها الآن "

قال بعصبية :

" مسؤول عنها في حال غيابي لكنني موجود و أنا زوجها ... فلماذا تخبرك أنت و لم تخبرني ؟؟ "

قلت :

" كيف ستخبرك بشيء كهذا !؟ إنها مرعوبة من الفكرة فهي تدرك أن الأوان قد فات للتراجع ... و الزفاف بعد أيام ... "

" و ما الذي جعلها تغير رأيها هكذا فجأة ؟؟؟ إننا كنا معا يوم العيد و لم تأت بذكر شيء عن هذا مطلقا "

" بل كان الموضوع يشغلها منذ فترة ... و أنتم من ضغط عليها ... لكن الفتاة بحالة سيئة تزداد يوما بعد يوم بسبب اقتراب الموعد ... ألم تلاحظ ذلك ؟؟

قال سامر :

" تبا "

و سار بانفعال نحو المخل يريد الذهاب لإحضارها ...

" انتظر يا سامر "


لم يكن يصغي إلي ، و لكنه و بمجرد أن فتح الباب وقف متسمرا في مكانه ...

و ظل ممسكا بالباب المفتوح و ينظر إلى الخارج ...

ثوان ٍ و إذا بي أرى رغد تدخل المنزل ، يتبعها ابن خالتها حسام !

أول ما نظرت ، نظرت إلي ... تود استنباط مكنون ما حصل ... ثم نظرت إلى سامر و من التعبيرات الكاسية لوجهه المكفهر أدركت أنني تحدّثت معه ...

حسام كان أول من تحدّث إذ ألقى التحية ... فرددناها ، و دعوته للدخول ...

قال :

" أوصلت ُ ابنة خالتي و أردت ُ أن القي التحية ... "

رحبت به ، و دعوته للدخول إلى غرفة الضيافة ، و حدّثت رغد قائلا :

" اذهبي إلى غرفتك "


سامر قال :

" انتظري رغد "

فقلت مقاطعا :

" فيما بعد ، رغد اذهبي إلى غرفتك "

دخلت مع الضيف إلى غرفة الضيوف .

قال حسام ، و هو يلحظ شحنات غريبة في الجو :

" أهناك شيء ؟؟ "

قلت :

" كلا ! "

ثم فتحت موضوعا للحديث ...

بالي كان مشغولا هناك مع رغد ... دقائق و استأذنت الضيف و ذهبت أبحث عنها ...

وجدتها و سامر في الردهة ، و هي مطأطئة الرأس و تبكي ، فيما سامر يتحدث بعصبية ، بل بصراخ ...

قلت :

" كفى سامر ، لنؤجل ذلك قليلا "

" لا تتدخل أنت ! دعنا نناقش أمرنا وحدنا "

نظرت إلى رغد فرأيت الاستنجاد و الخوف يملأان عينيها ...

سامر كان منفعلا جدا ... قال :

" و الآن يا رغد أخبريني ما الذي جعلك تغيرين رأيك بعدما رتبنا كل شيء ؟؟ هل أنا أجبرتك على هذا ؟؟ ألم أترك تحديد الموعد لك ؟؟ ألستِ من قرر الزواج مع دانة في النهاية ؟؟ "

رغد لم تتكلم ، بل انحنت برأسها على ذراعها و استرسلت في البكاء ...

سامر قال :

" سيتم كل شيء كما خططنا له تماما "

رفعت رغد رأسها و تنقلت ببصرها بيننا و حاولت النطق :

" لكن ... "


قاطعها سامر صارخا :

" كما خططنا يا رغد ... فلا مجال للتراجع الآن "

قلت ُ بعصبية و غضب :

" سامر كفى ... كيف تجرؤ على الصراخ عليها ؟؟ "

زمجر سامر بغيظ :

" وليد لو سمحت لا تتدخل أنت "

قلت :

" بل سأتدخّل ... لا أسمح لأحد بمخاطبة رغد بهذا الشكل "

قال :

" و من ينتظر الإذن منك ؟ من تظن نفسك ؟ انسحب رجاء ً "

لكني بقيت واقفا في مكاني ...

سامر تقدم من رغد و أمسك بذراعها يحثها على السير قاصدا الذهاب إلى غرفتها ...

رغد حاولت التملص ، إلا أن سامر أطبق عليها بقوة قائلا :

" تعالي إلى الداخل "

قلت بانفعال :

" أتركها يا سامر "

نظر إلي بانزعاج و سار معها خطوتين نحو الغرفة ...

قلت :

" اتركها يا سامر قبل أن أفقد أعصابي "

زمجر بصوت عال :

"قلت ُ انصرف أنت "


و في هذه اللحظة ... فقدت بالفعل السيطرة على أعصابي ، و التي كنت كابحا إياها منذ زمن ...

اندفعت نحو سامر بلا تفكير و أمسكت بذراعه و سحبته بعنف حتى تحررت رغد من قبضة يده ، و قلت :

" قلت دعها و شأنها أيها الجبان "

و سددت إلى بطنه لكمة قوية من قبضي جعلته يترنح ... و يهوي ... و يتلوى ...

انقضضت عليه و هو على الأرض و أمسكت ُ بكتفيه و جعلت أهزهما بعنف و عصبية و أقول :

" حين تقول أنها لا تريد الزواج الآن فهذا يعني أنها لن تتزوج الآن ... أفهمت ؟؟ ... "


نهضت ، و قلت لرغد :

" اذهبي إلى غرفتك "


رغد نظرت إلى سامر ... فقلت لها :

" هيا ... "


في نفس اللحظة ، حضر حسام و الذي على ما يبدو أنه سمع شجارنا فأقبل متعجبا ...

" ماذا يحدث ؟؟ "

رغد حين رأت حسام أقبلت نحوه و هو تقول :

" أعدني إلى خالتي ... "

نهض سامر ... و نادى :

" رغد "

رغد و هي مذعورة و تبكي قالت لحسام :

" أعدني إلى خالتي ... لا أريد العيش هنا "

سامر الآن يسير نحو رغد ، و حسام ينظر إليها و يسأل :

" ماذا حدث رغد ؟؟ "

سامر قال بحدة :

" الأمر لا يعنيك يا هذا "

حسام قال بانفعال :

" إذن فهي حقيقة ... أنتم من تجبرونها على هذا الزواج ... "

سامر وقف مصعوقا يحدق برغد ... و أنا مصعوق أحدّق بحسام ...

قال حسام موجها الحديث إلى رغد :

" أليس كذلك ؟؟ "



رغد قالت بانهيار :

" دعوني و شأني ... دعوني و شأني ... "

و ركضت نحو غرفتها و أغلقت الباب ...

سامر همّ باللحاق بها إلا أنني اعترضته و قلت :

" دعها وحدها ... لا تضطرني لفقد أعصابي من جديد "


سامر حينها غير اتجاهه و دخل غرفته و صفع الباب بقوة

بقينا أنا و حسام ...

قال :

" ماذا حصل ؟؟ "

لم أجبه ... لذا قال :

" أنا استأذن ... "

و هم بالمغادرة ...

استوقفته و سألته :

" حسام ... لم استنتجت أن هناك من يجبر رغد على الزواج ؟؟ "

قال :

" أنا لم أستنتج ، أنا أعرف ذلك "

دهشت لقوله ، فسألته :

" و من أخبرك ؟؟ "

تردد قليلا ، ثم قال :

" شقيقتي "

بعدما غادر ، صبرت قليلا ثم ذهبت إلى رغد ...

كانت غارقة في الدموع ... قالت :

" أ رأيت ؟؟ لقد قضي الأمر ... لن تستطيع شيئا "

قلت :

" لماذا لم تخبريني بذلك قبل الآن ؟؟ "

رغد نظرت إلي بألم و قالت :

" ما الفرق ؟؟ النتيجة واحدة ... إنه نصيبي "

قلت بإصرار :

" لا أحد سيستطيع إرغامك على ما لا تريدين ... و أنا على قيد الحياة ...
و بمجرد أن يعود والداي ... هذا الزواج سيلغى تماما "
  #37  
قديم 10-03-2011, 03:19 PM
 
الحلقةالثالثةوالعشرون
********






خرجت لإحضار بعض متطلبات المنزل في صباح اليوم التالي ، و قضاء بعض الحوائج .

نمت الليلة الماضية على مقعد في الردهة ... بعدما أعياني التفكير المتواصل .

عندما عادت دانة و أرادت الذهاب إلى سامر لتحييه منعتها ، و بنبرة حادة طلبت منها أن تلزم غرفتها حتى الصباح ...

لم أكن أريد لشجار أن ينشب تلك الليلة ، أردت ُ فرصة يتمكن فيها الجميع من ترتيب أفكارهم و استيعاب حقائق الأمور .

حين عدت ُ إلى المنزل وجدت أختي دانة جالسة في المطبخ في وضع يقلق ...

قلت :

" خيرا ؟ هل حصل شيء ؟؟ "

قالت :

" رغد المجنونة ! قررت تأجيل زفافها ! لا يفصلنا عن ليلة الزفاف غير ليال معدودة "

صمت ، و لم أعقّب .

قالت :

" ألن نفعل شيئا ؟؟ "

قلت :

" دعيها هي تفعل ما تريد "

تعجبت و استاءت في آن واحد ، و قالت :

" تعني أن الأمر لا يزعجك ؟؟ "

" ليس للحد الذي تتوقعين ... لا أريد أن يضطرها أحد لفعل مالا تريد "

" لكن الزفاف بعد أيام ! سامر مستاء جدا ... إنه مشتعل كالبركان "

شعرت بالضيق ، قلت :

" هل تحدّثت ِ معه ؟ "

" لم أكد ، تحدّثت ُ مع رغد ، ثم جاء و طلب منّي تركهما بمفردهما ... "

انزعجت من الفكرة ، قلت :

" أين ؟ "

" في غرفتها "



تركت الأكياس التي كنت أحملها تنساب من يدي و ذهبت إلى هناك .

عندما اقتربت من الباب ، سمعت صوت أخي .

كان يتحدّث بعصبية ... أصغيت فإذا بي أسمع رغد تتحدث باكية .

لم أحتمل ، طرقت الباب و قلت بحدة :

" سامر "

ثوان ٍ و إذا بالباب ينفتح و يخرج أخي .

كان مكفهر الوجه مقطب الحاجبين متورم الأوردة .

" نعم ؟ "

نظرت إلى ما ورائه فرأيت رغد ، و وجهها الكئيب المبلل بالدموع .

قلت :

" أرغب في التحدث معك "

" فيما بعد يا وليد "

ألقيت نظرة أخرى على رغد فطأطأت الأخيرة برأسها بأسى و استسلام . قلت :

" الآن يا سامر "

قال بعصبية :

" ألا ترى أنني مشغول بالنقاش مع خطيبتي ؟ "

و مجرد نسبها إليه يحرّض شياطين رأسي على الشر و القتال .

قلت ُ و الدماء تصعد إلى وجهي و النار تشتعل شيئا فشيئا :

" حسنا ، لكن ... بهدوء ... لا أريد لأي دمعة أن تراق "




و انصرفت .

بقيت ُ جالسا على مقربة ... أضرب أخماسا بأسداس ... و أشد قبضتي و أرخيهما بين فينة و أخرى .

بعد قرابة الساعة ، سمعت ُ الباب يفتح فنهضت مسرعا ... رأيت سامر يمشي أمامي فلما رآني قال :


" سوينا الأمور "

قلت ُ بذهول و خوف :

" ماذا تعني ؟ "

قال :

" سنتم الزواج كما خططنا له "

أدق الشعيرات الدموية في وجهي أحسست بها تتفجر فجأة .

قلت :

" و رغد ؟؟ "

قال :

" أقنعتها "

قلت :

" أقنعتها ؟؟ أم أجبرتها ؟؟ "

قال بعصبية :

" اذهب و اسألها لتتأكد بنفسك "

سرت من فوري نحو غرفة رغد . طرقت الباب و قلت :

" أنا وليد "

لم أسمع جوابا . قلت :

" أ أدخل ؟ "

" نعم "

سامر كان يقف خلفي .

فتحت الباب و رأيت رغد تجلس على السرير تخفي نظرها تحت قدميها .

قلت :

" صغيرتي "

ترددت قليلا ثم رفعت رأسها و نظرت إلي . كنت ُ أرى في عينيها نظرات الخوف و الاستسلام . ربما هذا ما جعلها تتردد في النظر نحوي . قلت :

" هل كل شيء على ما يرام ؟ "

نظرت نحو سامر ثم نحوي و قالت :

" نعم "

لم أرتح للإجابة مطلقا ، قلت :

" و الزفاف ؟؟ نؤجله أو نقيمه ؟ "

قالت :

" نقيمه "

صمت برهة ثم قلت :

" أ واثقة من ذلك ..؟ أخبريني بما تريدينه أنت ِ لا ما يريده سامر و الجميع "

رغد نظرت نحو سامر ثم قالت :

" نعم . واثقة "

قلت :

" إذن لماذا أخبرتني بأنك لست ِ مستعدة للزواج الآن ؟؟ لماذا غيرت رأيك بهذه السرعة ؟؟ "

لم تجب . قلت :

" هل يجبرك سامر على شيء ؟ "

سامر قال بعصبية :

" و لماذا أجبرها ؟ بربّك يا وليد دع الأمور تسير كما هي "

التفت إليه و قلت :

" ابتعد أنت ، و دعني أتحدث معها بحرية "

قال :

" بل ابتعد أنت ، لاحظ أنك تتحدّث إلى خطيبتي أنا "

هيجتني الكلمة مرة أخرى و أيقظت من كان نائما من شياطيني ... قلت بانفعال :

" ابتعد يا سامر و لا تدعني أفقد أعصابي من جديد "

و التفت إلى رغد و قلت :

" اسمعي يا رغد ، لن يحدث شيء لا تريدينه أنت ِ . إياك و الخوف من شيء . فإن كنت ترغبين في تأجيل الزواج فأخبريني الآن بصراحة ... هل تريدين الزواج الآن أم أنك مضطرة إليه ؟؟ "


رغد طأطأت برأسها من جديد و أخفت وجهها خلف يديها و أجهشت بكاءً .

ثار جنوني و أنا أراها هكذا ... التفت نحو سامر الذي لا يزال يقف خلفي و قلت :

" لن يقام هذا الزفاف و أنا حي أرزق "

سامر صاح بعصبية :

" وليد لا شأن لك بهذا "

" لن أسمح لأحد بأن يرغم صغيرتي على شيء مطلقا "

" من قال أننا نرغمها ؟؟ "

و التفت نحو رغد و قال بعصبية :

" هل أنا أرغمتك ؟؟ أخبريه "

رغد وقفت و أولتنا ظهرها و صاحت :

" دعاني و شأني . سأفعل ما تريدون جميعا . دعوني وحدي "

قلت :

" أ رأيت ؟ "

سامر دخل الغرفة و اتجه نحوها و أمسك بكتفيها و أدارها باتجاهنا و هو يقول :

" واجهينا يا رغد ... قولي له أنك قررت ِ ذلك و لم يجبرك ِ أحد "

رغد قالت بعصبية :

" بل أجبرتموني "

حملقنا كلانا فيها ، و قال سامر :

" من أجبرك ؟ "

قالت :

" كلكم . و إن ليس بشكل مباشر. ليس أمامي إلا الرضوخ لقدري . لما تريدون أنتم جميعا .. لما تخططون أنتم جميعا .. كلكم "

أنا و سامر تبادلنا النظرات الحادة ...

قال :

" إذن فأنت ِ لا تريدين الزواج الآن ؟؟ "

قالت بعصبية و هي تصرخ في وجه سامر :

" لا ... لا ... لا "

كان سامر يمسك بكتفيها ، لكن يده تحركت الآن ... و فجأة سددت صفعة إلى وجهها ... أمام عيني ...


ربما لم يكن في الصفعة من القوة ما يحدث الألم الجسدي بمقدار ما كان فيها من إيلام معنوي ... صاحت صغيرتي :

" آي "

و وضعت كفها على خدها المتألم ...

أنا .. أرى صغيرتي .. مدللتي .. حبيبتي رغد .. تتلقى صفعة على وجهها من يد كائن بشري ... أي ٍ كان .. أمام عيني هاتين ؟؟

" سامر ! أيها الوغد ... كيف تجرؤ ؟؟ "

و قبل أن أدع له الفرصة حتى ليلتفت إلي قفزت ُ قفزة واحدة باندفاع إليه و انقضضت عليه ، و ووجهت لكمة قوية فتاكة نحو وجهه ...

تلاها سيل متواصل من القذائف التي أشبعت بها جسد أخي من رأسه حتى إخمصي قدميه ...

الرغبات التي كبتها في صدري منذ الطفولة و حتى الآن ... و لم أجرؤ على التعبير عنها خرجت كلها من داخلي دفعة واحدة ...

ضربته بوحشية و عنف لم أضرب بهما سواه ، و لم أضرب بهما مثيله منذ سنين

صرت أرفع فيه و أخفض ... و أهز و أرمي ... و ألكم و أرفس .. و ألوي و أثني .. و أمارس كل أنواع الضرب المبرح التعذيبي الذي تلقيته في السجن على أيدي العساكر ... في جسد أخي ...

جن جنوني و لم أتمالك نفسي ... لم أملك منعها أو إيقافها ... ضربت و ضربت حتى أصاب عضلاتي الإعياء و تصبب العرق من جسدي كله ... و نفذ الهواء من غرفة رغد فما عدت بقادر على التنفس ...

و لم يكن أخي يقاوم أو يدافع ... بل استسلم لضرباتي.. لا أدري أمنعه من صدها الذهول أم العجز ؟؟

لم أنته من درس الضرب هذا إلا بعد أن فرغت شحناتي كلها .. و تطايرت شياطيني من رأسي واحدا بعد الآخر ...

يداي كانتا تطوّقان عنقه بينما كنت أجثو على صدره ... أكاد أخنقه ...

لا أعرف ما الذي جعلني أتوقف ...

قلت و أنا أشد الضغط على عنقه تارة و أرخي قبضتي تارة :

" ألا تعرف ما الذي أفعله بمن يتجرأ على إيذاء صغيرتي ... ؟؟ "

شددت الضغط و سامر ينظر إلي بفزع و خوف ...

قلت :

" أقتله ... "




و تراءت لي صورة عمّار و هو يبتسم ابتسامته الأخيرة للدنيا ... قبل أن أكسر جمجمته بالصخرة ...

حررت عنق أخي من قبضتي فجأة ... و نهضت كالمجنون ... أتلفت يمينا و يسارا ... كأنني أبحث عن عمّار ... خيّل إلي أنه معي الآن ...

لكن عيني ّ وقعتا على أربع أعين تنظر إلي بذعر و فزع و ذهول

اثنتان منها تخصان أختي دانة ، و الأخريان المغمورتان بالدموع هما عينا صغيرتي المذعورة رغد ...

مشيت نحو رغد ، فسارت هي للوراء خوفا ... حتى اصطدمت ْ بالجدار ...

و لمّا صرت ُ أمامها مباشرة قلت :

" زواجك من هذا المخلوق منته تماما ، و إن حاول أي شخص إرغامك على أي شيء ، فويل له مني "



خرجت بعد ذلك من الغرفة و من المنزل و إلى الفناء الخارجي ... أفرغ ما تبقى من غضبي في السجائر ...


بعد قرابة الساعة و النصف حضرت السيدة أم حسام لزيارة رغد .






~ ~ ~ ~ ~ ~ ~






كنت أعلم أن الأمر لن ينتهي بسلام .

ها قد أقبلت خالتي و تعقّدت الأوضاع أكثر فأكثر ...

خالتي تحدّثت مباشرة إلى سامر و قالت له أن أقل ما يجب فعله هو تأجيل موعد الزفاف حتى تستقر الأمور .

سامر و الذي كان مثخنا بالكدمات محمر الوجه متهيج الأعصاب طلب منها بنبرة حادة ألا تتدخل ، إلا أن خالتي قالت :

" لن أدعكم تتحكمون في مصير ابنتي كيفما شئتم "

ثم نظرت إلي ّ و قالت :

" سآخذها معي إلى أن تعود أم وليد و نضع حدا لهذا الزواج "


سامر اعترض و كذلك دانة ، إلا أنني تشبثت بخالتي و خرجت معها رغم ذلك .

حين كنت أعبر الفناء الخارجي وجدت وليد هناك ..

قال :

" إلى أين ؟ "

خالتي تولت الإجابة :

" سآخذها معي لبعض الوقت "

لم أر في عيني وليد أي اعتراض ، فخرجت معها ...



في غرفة نهلة ذرفت الكثير من الدموع و أنا أروي لها ما حدث و أصف الهجوم الوحشي الذي قام به وليد ... و أرعبني .


" كنت أعرف أن هذا ما سيحدث ... الآن أنا أحدثت شرخا في العائلة ... ماذا سيفعل والداي حين يعودان ؟؟ أنا نادمة على تهوري ... كان يجب أن أرضخ لقدري ... "

" يكفي يا رغد ... أنت لم ترغبي في الزواج منه ، هذه الحقيقة إذن دافعي عنها "

قلت :

" لأجل ماذا أدافع عنها ؟ ماذا سأربح إن تخلصت من سامر و جعلت الجميع يتخذ مني موقفا معاديا ؟ ثم ماذا ؟ هل تتخيلين كيف سأعيش بينهم و قد حصل ما حصل ؟ "

" ابقي معنا هنا "

" مستحيل ... عمّي هو ولي أمري ... إنه أبي و لا يمكنني العيش في غير بيته "

" ستعيشين في بيت زوجك ! "

" أي زوج هذا ؟؟ "

" الذي تحبين ! "

قلت ُ بألم و يأس :

" و هل تعتقدين أنه بعد أن أنفصل عن أخيه سيكون من الطبيعي أن أرتبط به هكذا ببساطة ! أم هل تظنين أن وليد يفكر بي ؟ "

" إذن لماذا ساندك في موقفك ؟ "

" لأنه يشعر بالمسؤولية تجاهي .. كما لو كنت واجبا عليه تأديته لا أكثر ... "

و هي حقيقة مرة أتجرعها لحظة بعد لحظة ... رغما عني .

ساعات طويلة قضيتها في التفكير ... إلام سيؤول أمري بعد الذي حصل ؟

و كلما تخيلت الوحشية التي طغت على وليد هذا الصباح شعرت بالخوف و الفزع .. أهذا هو ابن عمي الذي كنت أعرف ؟؟

أهذا هو الرجل الذي أحببت ؟

إنني حتى لا أجرؤ الآن على مجرد النطق باسمه ...


عندما عدت ُ إلى البيت في المساء لم يكن هو موجودا ، استقبلتني دانة بوجه عابس مليء باللوم و العتاب ...

قالت :

" هل أنت راضية عما فعلت ِ ؟ أي جنون هذا الذي أصابك ؟ "

كنت أريد الهروب منها إلا أنها لحقتني و تابعت كلامها بكل إصرار و قسوة :

" رغد اخبريني ماذا جرى لك ؟ إن سامر حزين جدا فهل يرضيك هذا ؟ ألا تشعرين بما يحس به ؟ ألا تعلمين أنه متلهف للزواج منك منذ زمن ؟ إنه يحبك بجنون .. أنت ِ خالية من المشاعر تماما كالجدار الذي خلفك "


قلت بعصبية :

" حلّي عنّي ! اتركوني و شأني "

" لا لن أدعك و شأنك و أنا أراك تحطمين أخي بهذا الشكل . ستتزوجين منه و ينتهي الأمر كما رسمنا له "

قلت :

" و ماذا عن مشاعري أنا ؟؟ ألا يحق لي الزواج من الرجل الذي اختاره ؟ "

نظرت إلي دانة بدهشة و قالت :

" ماذا تقصدين ؟؟ أنك لا تريدين أخي ؟ "

التزمت الصمت ، قالت :

" لا تحبين أخي ؟؟ "

قلت بانفعال :

" بلى أحبه ... تماما كما تحبينه أنت ِ .. كأخي الذي تربيت معه ... فهل علي أن أتزوج من أخي ؟؟ "

دانة بدت مذهولة و قالت بتردد :

" رغد ... ما الذي تعنينه ؟؟ أتعنين أنك ... تحلمين بالزواج من شخص آخر ؟؟ "

فاجأني سؤالها و أربك تعبيرات وجهي ، ما جعل الشكوك تكبر في رأسها ...

صمتت برهة ثم قالت :

" لقد فهمت ... فهمتك أيتها الخبيثة ... إذن فقد أقنعتك خالتك و عائلتها ... تبا لكم جميعا "

لم استطع قول كلمة بعد .. بقيت أحملق في دانة بذهول و تشتت ، أما هي فقالت :

" سأخبر والدتي بكل شيء ... سترين "


و تركتني و انصرفت .

لازمت غرفتي لبعض الوقت ثم ذهبت إلى غرفة سامر ... حينما طرقت الباب و ذكرت اسمي لم يأذن لي بالدخول ... إلا أنني فتحت الباب و تركته نصف مغلق .. و تقدّمت إلى الداخل .

سامر كان يجلس على كرسي مكتبه في شرود و حزن ... حينما وقعت عيناه علي رأيت فيهما بحرا من الآهات و الألم ...

سامر نهض و وقف ليواجهني ، كنت أعرف أنني لا أستطيع مواجهته .. إلا أنني لا أستطيع أيضا تركه هكذا ..

تقدم سامر نحوي و قال بصوت كئيب :

" لماذا يا رغد ؟ "

لم أقو َ على إبقاء عيني مركزتين في عينيه بل هويت بهما نحو الأرض في خجل و خذلان .. و شعور بالذنب و الإثم ...

اقترب مني أكثر و أمسك بوجهي و رفعه إليه ليجبرني على النظر إليه .. و قال :

" أخبريني .. لماذا ؟ هل فعلت ما ضايقك مني ذات يوم ؟ "

هززت رأسي نفيا ... أبدا ... مطلقا ...كلا .. إنه لم يكن هناك من يهتم بي و يحرص على مشاعري و يحسن معاملتي بمقدار ما كان سامر يفعل ..

قال :

" إذن لماذا ؟ أن .. تؤجلي الزفاف ربما بعد عسر كبير أجد له مبررا أو آخر .. أما أن .. أن .. تهدمي جسر الوصل بيننا هكذا فجأة .. فجأة و دون سابق تلميح .. و تعلني أنك أجبرت ِ على الارتباط بي .. و أنك لم ترغبي في ذلك يوما .. بعد كل هذه السنين يا رغد .. بعد كل هذه السنين .. فهذا ما لا أستطيع أن أجد له أي تفسير أو سبب مهما فتشت .. لماذا أخبريني ؟؟ "


فاضت الدموع من عيني جوابا على سؤال لم يعرف لساني له إجابة .. سامر أخذ يمسح دموعي .. و قال بعطف :

" أنا آسف لما حصل هذا الصباح .. كنت مجنونا .. سامحيني "

أغمضت عيني إشارة إلى أنني قد نسيت الأمر .. و حين فتحتهما رأيت لمعان دمعة محبوسة في عين سامر المشوهة .. يخشى إطلاق سراحها ..

قال :

" لا تفعلي هذا بي يا رغد .. تعلمين كم أحبك .. "

و طوّقني بين ذراعيه بعاطفة حميمة ...
فتحت المجال أمام سامر للتعبير عن مشاعره ، و بقيت أسيرة بين ذراعيه فترة من الزمن .. لم أتحرك إلا حين سمعت صوتا قادما من ناحية الباب فالتفت كما التفت سامر .. و رأينا وليد يقف هناك .

لا أستطيع أن أصف لكم النظرات الوحشية المرعبة التي كان يرمينا بها .. لقد كنت أشعر بها تلسعني و تحرقني ..

تقدّم خطوة بعد خطوة ، تكاد خطواته تهز الأرض من قسوتها .. كان الشرر يتطاير من عينيه و هو يحملق في سامر و يعض على أسنانه ..

شعرت بالخوف .. تراجعت للوراء .. اختبأت خلف سامر .. امتدت يدا وليد و أمسك بتلابيب سامر بعنف و قال :

" قلت لك لا تحاول استدرار تعاطفها ثانية .. حذّرتك من الاقتراب منها حتى يعود والدي .. ألم تفهم ؟ "

ثم سحبه و دفع به نحو الجدار ..

سامر رفع رجله و سدّد ركله بركبته إلى وليد ، فقام هذا الأخير بلكم سامر بعنف على خدّه المشوه ..

وليد قال و هو يلصق سامر بالجدار بقوة :

" لن أسمح لرغد بالزواج منك .. أفهمت ؟ لا تستحق رجلا مشوها مثلك "

قال سامر :

" نعم ، فالأفضل لها الزواج من القتلة المجرمين "

و ما إن قال سامر ذلك حتى تحوّل وليد إلى وحش .. نعم وحش .. فهو أقل وصف يمكنني نعته به ..

صرخت :

" توقفا "

إلا أن الاثنين دخلا في عراك مميت ...

أسرعت أجري بحثا عن دانة .. فوجدتها في غرفتها تتحدث إلى خطيبها .. صرخت :

" أسرعي دانة .. يتقاتلان مجددا "

دانة تركت السماعة و جاءت تركض معي ..

حاولنا التدخل لفض العراك الجنوني إلا أننا فشلنا تماما .. و أخذت كل واحدة منا تصرخ من جهة دون جدوى ..

يد الغلبة كانت بطبيعة الحال لوليد الذي كان يفوق سامر بدانة وبنية و قوة ..

استمر العراك فترة من الزمن .. كنت أصرخ و أنا أبكي

" توقفا .. يكفي "

إلا أن أحدهما لم يكن ليستجب لي ...

قلت :

" أنا سأتزوج من سامر .. سأفعل ما تريدون .. هذا يكفي .. يكفي .. "

إلا أن ذلك لم يزد الحرب إلا وطيسا ..

دانة التفتت نحوي و صرخت بوجهي :

" هذا كلّه بسببك أنت .. أيتها اللعينة رغد ابتعدي عن وجهي الآن .. "

و دفعت بي نحو الخارج عنوة ..

ركضت أنا نحو غرفتي و جعلت أبكي بصراخ .. و أنادي أمي و أبي ..







~ ~ ~ ~ ~ ~







لو لم يكن أخي .. ابن أمي و أبي .. شقيقي .. من تجري دماؤه في عروقي و يختزن حبه في قلبي .. لكنت قضيت على هذا الرجل المشوّه الذي كان يعانق رغد قبل قليل
و أرسلته إلى العالم الآخر ..

لقد جنّ جنوني .. و فقدت أدنى معاني الرأفة و الإنسانية .. و أوسعته ضربا أشد و أقسى و أعنف من الدرس الذي لقنته إياه صباح هذا اليوم ..

إنه جزاء من يقترب من صغيرتي أنا ..

نعم ، إنها فتاتي أنا .. و لن أسمح لأي رجل مهما كان .. بأن يقترب منها مسافة تقل عن ميل كامل .. من الآن فصاعدا

لقد كانت دانة تقف قربنا محاولة حشر نفسها بيننا و لو لم أسيطر على نفسي لدفعتها بقوة هي الأخرى ..

إنني الآن في أشد لحظات عمري جنونا و ثورة .. و إن يقع في يدي أي سلاح ، فسأفتك بكل من يعترضني بدون تفكير ..

و الشيء الذي وقع في يدي كان مجرد علبة حديدية وقعت من على المكتب أثناء عراكنا ...

كنت مطبقا على سامر الواقع على الأرض ، و عائقا إياه عن الحركة .. بثقل جسمي الضخم ..

رفعت يدي بما حملت ، بالأداة الحديدية على أهبة ضرب رأسه بها ..

سامر كان يحاول التملص مني دون جدوى ، و ينظر إلى العلبة الحديدية و يصرخ

" ماذا ستفعل يا مجنون ؟ "

قلت :

" سأحطّم جمجمتك .. "

قال بذعر :

" وليد ... ستقتلني ؟ "

دانة أقبلت مسرعة و أمسكت بذراعي تعيقني عما كنت بجنون مقدما عليه ...

تركت ُ العلبة تسقط من يدي ...

و قلت ُ مهددا أخي :

" سأقتلك .. إن حاولت الاقتراب منها ثانية .. "

و ألصقت ُ رأسي برأسه و قلت :

" أنا لم أقتل ذلك النذل .. و أضيع من عمري كل تلك السنين مرميا في السجن .. و أخسر ماضي و مستقبلي ... لأخرج و أراك تتزوج من صغيرتي رغما عنها .. و إن حاولت الاقتراب منها ثانية .. فسأرسلك إليه .. لأن هذا هو جزاء من يؤذي صغيرتي بأي شكل من الأشكال .. أفهمت يا سامر ؟ سأقتلك .. و أقتلكم جميعا إن تجرأتم على إيذاء صغيرتي و لو حتى بمجرد الكلام.. أفهمت ؟؟ "

و سددت إلى وجهه اللكمة الأخيرة .. ثم نهضت ..

ترنحت في مشيتي من شدة الإعياء .. و توجهت نحو الباب سائرا على غير هدى

وقعت عيناي على دانة التي كانت تنظر إلي بذهول و فزع ...

قالت و حدقتا عينيها مفتوحتان لأقصى حد :

" وليد .. ما الذي تقوله ؟؟ "

قلت مزمجرا :

" نعم .. في السجن .. و لن يهمني العودة إليه إذا ما تعلّق الأمر برغد .. و لن أسمح لأحد بإجبارها على الزواج من شخص لا تريده .. و لن أدع أي رجل يتزوّج منها إلا إذا أخبرتني هي بأنها هي ترغب في الزواج منه و تريده ... مفهوم ؟؟ "

و خرجت من الغرفة تاركا المذهول مذهولا ... و المجروح مجروحا ... و المحطم محطما ...

ذهبت رأسا إلى غرفة رغد و التي قفزت مذعورة ما أن رأتني ... و صارت ترتجف بخوف ...

لحظتها فقط أدركت أنني خرجت من طوري .. و أنني لم أكن في وعيي و رشدي .. و أنني شوّهت أي صورة حسنة يمكن أن تكون لا تزال باقية في رأس رغد عني ..


قلت :

" رغد "

سماعها لكمتي جعلها تنتفض خوفا .. ربما كان صوتي مرعبا .. ربما كان شكلي مفزعا .. ربما كنت أشكّل بالنسبة إليها هذه اللحظة مصدر روع و وجل ..

وقفت ُ متسمرا في مكاني أراقب صغيرتي المذعورة ..

سمحت للأرض التي تلامس قدمي ّ بامتصاص الباقي من غضبي و ثورتي
و تنفست أنفاسا عميقة تطرد الشر من صدري .. و أرخيت ما كنت أشده من الأعصاب و العضلات .. و قلت بصوت حاولت جعله حنونا بقدر ما أمكنني في ساعة الوحشية تلك :

" صغيرتي رغد .. لا تفزعي مني ..أنا آسف "

لكن القشعريرة و الرعشة لم تفارقا يديها و فكها الأسفل ..

قلت بألم :

" آسف لإرعابك يا رغد .. أرجوك لا تفزعي مني .. أخبريني فقط بما تودين مني القيام به و أنا رهن إشارتك "

رغد تكلمت بارتجاف قائلة :

" دعني وحدي "

وقفت لحظة في مكاني عاجزا على تحريك قدمي ، بعد كل تلك القوة التي أفرغتها في بدن شقيقي ...

قلت :

" سامحيني يا رغد .. أنا وليد كما تعرفينني "

قالت :

" أنت لست وليد .. غادر غرفتي .. دعني وحدي "

آلمني طلبها هذا فقلت بانكسار :

" كما تأمرين .. سأخرج لكني سأعود .. و سأفعل أي شيء ترغبين فيه بنفسك .. حتى و إن رغبت ِ الزواج من سامر مجددا .. لكنني متى ما شعرت ُ بأن أحدا يضطرك لفعل ما لا تريدين .. فلن أبقى مكتوف اليدين مطلقا "


و غادرت غرفة رغد بل و المنزل أيضا ...

عندما عدت إلى هناك ، كان ذلك في عصر اليوم التالي و رأيت سيارة نوّار عند باب المنزل إلا أن سيارة سامر لم تكن موجودة .

حينما دخلت ، وجدته و دانة يجلسان في غرفة المعيشة ...

ألقيت التحية ، فرد نوّار بينما أشاحت دانة بوجهها عني .

سألت :

" أين سامر ؟ "

لم تجب ، فرد نوّار :

" عاد إلى شقته "

سألت :

" متى غادر ؟؟ "

قال :

" اعتقد عند الظهيرة "

قلت موجها كلامي إلى دانة :

" و أين ابنة عمّك ؟ "

لم تجب ..

كررت سؤالي :

" أين ابنة عمك يا دانة ؟؟ "

التفتت إلي دانة بغضب و قالت :

" لو سمحت .. لا تتحدّث معي بعد الآن "

نوّار بدا محرجا و قال بصوت خافت :

" دانة .. أعصابك ! "

إلا أن دانة صرخت :

" أنا بريئة من هذا الرجل و لا أريد أن يتحدّث معي من الآن فصاعدا "



تركتهما و ذهبت لأفتّش عن رغد .

لم أجدها في أي مكان ، فعدت ُ إليهما مجددا و سألت :

" أين ابنة عمك ؟ "

لم تجبني دانة ، فتدخّل نوّار قائلا :

" أظن أنها ذهبت إلى بيت أقاربها ... فقد جاء حسام قبل فترة و اصطحبها معه "

انزعجت من ذلك ، و قلت :

" وحده ؟ "

قالت دانة بحدّه :

" نعم وحده . اتصلت به و طلبت منه الحضور ليأخذها إلى بيته .. ماذا بعد ؟ "

قلت :

" لمَ لم تنتظرني ؟ "

قالت دانة بعصبية :

" و لماذا عليها أن تنتظرك ؟ لقد ذهبت مع ابن خالتها و انتهى الأمر "

قلت بغضب :

" دانة .. كيف تتركينها تخرج هكذا ؟ "

قالت بنفور :

" و هل كنت تنتظر مني أن أذهب معهما أم ماذا ؟؟ "

ثم أضافت :

" ليس عليك أن تقلق فهي في المكان الذي تحب التواجد فيه .. مع أحبابها "

قلت :

" إلام تشيرين ؟؟ "

قالت بنفاذ صبر :

" ماذا ؟؟ ألم تخبرك أيضا بأنها تخلّت عن شقيقي و سببت كل هذا من أجل ابن خالتها العزيز ؟ فلتشبع به إذن "

فوجئت .. ذهلت .. أصبت بالهول لدى سماعي ما قالته دانة .. و انفغر فوهي عن كلمات مبعثرة :

" من ؟ ماذا ؟ ما الذي تقولينه ؟ "

دانة عضت على أسنانها و شدّت على قبضتيها و قالت حانقة :

" اللعينة .. لن أسامحها على ما فعلت بأخي أبدا .. لن أسامحك أنت أيضا .. عسى الله ألا يوفّقها في الزواج ممن حطّمت قلب شقيقي من أجله ... أبدا ... أبدا يا رب "
  #38  
قديم 10-03-2011, 03:21 PM
 
الحلقةالرابعةوالعشرون
*********





كلما تذكّرت الدمعة الحبيسة في عين سامر، التي كاد يطلقها لحظة عناقنا الأخير.. تفجرت عوضا عنها عشرات الدموع من محجري.

لم يكن ما فعلته شيئا يغتفر.. إنه سامر رفيق الطفولة و الصبا و المراهقة.. إنه أعز إنسان لدي.. لكنه ليس الأحب..

في صباح اليوم، عندما رأيته.. تلوّت أمعائي و أصابني مغص شديد مفاجئ للكدمات التي شوهت ما لم يكن مشوها من جسده النحيل.

حين حاولت التحدّث إليه لم يرد علي، حتى بدأت أقنع نفسي بأن اللكمات التي تلقاها فكه قد أعجزته عن النطق ، إلا أنه تحدّث مع دانة التي انفردت به مطولا في غرفتها .

بالتأكيد كان حوارهما يدور حولي و حول ما سببته من مشكلة معقدة بغبائي و تهوّري...

و كل هذا، لأنني اكتشفت أنني أحب وليد !

أحب رجلا وحشا مفترسا... لم يسبب لي منذ ظهوره في حياتي من جديد غير الألم و المعاناة...

و لو استهلكت كل كلمات الندم الموجودة على وجه الأرض، ما كفاني ذلك لأعبّر عما أشعره هذه اللحظة من الذنب...

الآن، أنا فتاة طائشة ناكرة للجميل و المعروف، حطّمت قلب الرجل الذي يحبها و يتلهف لإسعادها، من أجل رجل لم تعرف عن حقيقته شيئا أكيدا، غير أنها تحبه.. وتتمناه.. و حينما يعود والداي، و يرحل وليد، كما رحل سامر، فإن كل شيء سينتهي.. و أفقد عائلتي.. و أعود يتيمة وحيدة كما قدمت إليهم قبل 15 عاما...

بين الفينة و قرينتها تجيء ابنة خالتي نهلة لتتفقدني، فتراني كما تركتني.. أهيم في أفكار بائسة لا نهائية.. في ضياع و تشتت.
كنت أحاول النوم على سريرها، إذ أنني قضيت الليلة الماضية ساهرة سهر النجوم.. وحيدة وحدة القمر.. باكية بكاء المطر.. تعيسة تعاسة السواد المخيم على السماء... تتلاعب بي الأفكار تلاعب الرياح بورقة شجر صفراء جافة.. فقدت فرعها و أصلها و جذرها و تاهت في صحراء لا نهاية لا.. و لا بداية.


" أما زلت ِ مستيقظة ؟ "

سألتني نهلة و القلق الشديد يتملكها و يحوّل وجهها البشوش الصريح إلى مغارة من الغموض و الحيرة..

قلت:

" أنى لعيني النوم يا نهلة، و قد فعلت ُ ما فعلت ؟ .. غدا مساءا سيعود والداي.. ماذا أقول لهما ؟ يا إلهي لا أريد أن أريهما وجهي.. "

" هّوني عليك يا رغد، لستِ أول و لا آخر فتاة تحل ارتباطها من خطيبها بعد سنين من الخطوبة ! لا عليك يا ابنة خالتي.. هل تعتقدين أنهم سيطردونك من المنزل مثلا من جراء فعلتك هذه ؟؟ "

قلت:

" لا أستحق العيش تحت كنفهم بعد الآن... بل لا أجرؤ على العودة إليهم ! أوه لو رأيت الطريقة التي خاطبتني بها دانة هذا اليوم.. "

و تذكّرت كلماتها القاسية التي وجهتها إلي بعد مغادرة سامر، مكسور الخاطر...

قالت نهلة:

" و منذ متى كانت طيبة معك ! إنها دائما قاسية عليك، دعك ِ منها.. لكن عندما تعود أمك يا رغد، أخبريها بحقيقة الأمر.. أخبريها بأنك لم تحبي سامر يوما و أنك... تحبين وليد !"

قلت بأسى و اعتراض:

" مستحيل ! لا يمكن أبدا... و لا بشكل من الأشكال ! كيف يا نهلة كيف ؟؟ و ماذا سأجني من قول هذا ؟ أم تظنين أنها ستقول : لا بأس ، ننقلك من سامر إلى وليد ، بهذه البساطة ؟؟ "


و جعلت أندب حظي الذي أوقعني في مأزق كهذا..

" ليته لم يسافر و يتركني.. ليته لم يعد ! ليتني أستطيع التوقف عن التفكير به ! ليته يحس بي... ليت معجزة سماوية تجعله يرتبط بي و تجعل سامر ينساني.. ليته يختفي من حياتي و قلبي.. ليته يظهر الآن و ينتشلني من كل هذا ! "


و حشود من الأمنيات تمنيتها في عجز عن تحقيق أي منها... أو حتى تخيّل تحقيقها.. إلا أن واحدة منها تحققت فورا !

طرق الباب هاهنا و دخلت سارة و قالت:

" قريبك الكبير أتى يا رغد "


نظرت نحو سارة بقلق مفاجىء و انعقد لساني، فتحدّثت نهلة بالنيابة و قالت :

" من تعنين سارة ؟؟ "

قالت :

" وليد الطويل ! "


أنا و نهلة تبادلنا النظرات ذات المعنى، ثم قلت:

" ماذا يريد ؟؟ "

سارة قالت وهي مبتهجة:

" سأل أولا عن والدي و أخي، و كلاهما غير موجود ! ثم قال: ( هل ابنة عمي رغد هنا ؟ ) قلت ( نعم ) قال: ( هل لا استدعيتها من فضلكِ يا آنسة ؟).. قال عنّي آنسة ! "

و بدت مسرورة بهذا الاكتشاف العظيم ! إنها آنسة ! ما أشد فراغ رأس هذه الفتاة !
يبدو أنها المرة الأولى التي تسمع فيها أحدا يطلق عليها هذا اللقب !

قلت:

" أين هو ؟"

قالت:

" في الخارج ! عند الباب "

نظرت إلى نهلة و قلت:

" لا أريد العودة إلى البيت.. لابد أنه جاء لاصطحابي إلى هناك. لن أذهب "

و سرعان ما كانت سارة على وشك الذهاب إليه و هي تقول:

" سأخبره بذلك "

نهلة صرخت:

" انتظري سارة ! ما بالك ما أن تلتقط أذناك كلمة حتى أسرع لسنك ببثها ؟ اذهبي و أخبري أمي عن قدومه حتى تتصرف ! "

و انصرفت سارة مذعنة للأمر ! و بكل سرور !

بعد ثوان حضرت خالتي، و قالت:

" سأذهب للتحدث إليه، لا تقلقي "



إلا أن قلقي بدأ يتضاعف هذه اللحظة...

ذهبت خالتي ثم عادت بعد دقيقتين تقول:

" يرغب في التحدث معك، تركته واقفا في الحديقة "

هممت بالنهوض، فقالت:

" ما لم ترغبي في ذلك فسأصرفه "

قلت:

" لا داعي خالتي. سأصرفه بنفسي "

و تلوت ُ بعض الآيات في صدري لتمنحني القوة على الوقوف أمامه من جديد !

في الحديقة الصغيرة الأمامية للمنزل، وجدت وليد واقفا على مقربة من الباب. سرت إليه أجر قدميّ جرا... في خوف و اضطراب.

كنت أعلم أن خالتي و ابنتيها يراقبنني من النافذة !

حينما صرت ُ أمامه، بادر هو بإلقاء التحية ، ثم سألني :

" أ أنت بخير ؟؟ "

إنه سؤال عادي جدا يتداوله الناس عشرات المرات في اليوم لعشرات الأسباب ، إلا أنني احتجت وقتا قياسيا للتفكير في الإجابة !

هل أنا بخير ؟؟

لما رأى وليد ترددي و حيرتي قال:

" تبدين بحال أفضل.. "

نطقت لا إراديا بصوت خفيف:

" نعم "

قال:

" هل نعود إلى البيت إذن ؟؟ "

هنا تحدثت ُ بصوت عال مندفع:

" لا ! "

فوجىء وليد بردي فقال:

" لم ؟ إنها الثامنة.. هل تودين البقاء أكثر ؟؟ "

قلت:

" نعم "

" إلى متى ؟ تأخر الوقت ، دعينا نعود فقد تركت ُ دانة وحدها "

" لا ! "

بعد وهلة واصل وليد كلامه:

" هل تنوين المبيت هنا ؟؟ "

" نعم "

" هذه الليلة فقط ؟ "

" لا "

" كل ليلة ؟؟ "

" نعم "

" أتمزحين ؟؟ "

" لا "

" إذن فأنت جادّة ؟؟ "

" نعم "

" و هل تظنين أنني سأسمح بهذا ؟ "

" لا "

لم أكن أنظر إلى وليد بل إلى الحشيش الأخضر المغطي للأرض... في تشتت.. لكنه حين قال:

" لا أم نعم ؟؟ "

انتبهت ُ لسؤاله الأخير، و لجوابي الأخير... و رفعت عيني إليه بارتباك و قلت:

" نعم.. أعني بالطبع نعم "

قال:

" بالطبع لا "

كانت نظرته مليئة بالإصرار.. ، قال:

" فلنعد إلى البيت يا رغد "

قلت:

" لا "

قال :

" أليس لديك تعليق غير نعم و لا ؟ دعينا نذهب الآن لأنني لا أريد ترك دانة بمفردها أطول من هذا "

" لا أريد العودة، سأبقى هنا"

" لماذا ؟ "

" أريد البقاء مع خالتي.. أريد بعض الهدوء و الطمأنينة بعيدا عنكم "

يبدو أن كلماتي قد ضايقت وليد لأن تعبيرات وجهه الآن تغيرت .. قال:

" غدا سيعود والداي و نضع حدا لكل شيء. ستسوى الأمور بالشكل الذي تريدينه أنت ِ .. لا تقلقي و لا تضطري نفسك للتضحية.. "

قلت:

" لكن سامر لا يستحق.. لا يستحق ما سببتُه له، و لا ما فعلت َ أنت به.. مسكين سامر.. "

و حتى تعاطفي مع سامر أزعجه و زاد من حدّة تعبيرات وجهه الغاضبة.. قال:

" ستسوّى الأمور غدا أو بعده. لن أسافر قبل أن أتأكد من أن كل شيء يسير على خير ما يرام "

و كلمة أسافر هذه دقّت نواقيس الخوف في صدري... قلت بسرعة:

" تسافر ؟ هل ستسافر ؟ "

قال:

" سيعود والدي و تنتهي مهمّتي "

و كم قتلتني جملته هذه... ألا يكفيني ما أنا به حتّى يزيدني هما فوق هم ؟؟

قلت:

" و زفاف دانة ؟ "

تنهّد و نظر إلى السماء.. و لم يجب.

قال بعدها:

" هيا رغد "

لم أشأ العودة... فلأجل أي شيء أعود ؟ لأجل أن أذرف المزيد من الدموع.. لأجل أن أعيش المزيد من الحسرة ؟؟ ألأجل أن أراه و هو يرحل من جديد ؟؟ نعم، فهو قد جاء في مهمة محددة أنجزها و سيغادر..

كرر:

" هيا يا رغد ! "

قلت باعتراض:

" لن أذهب معك. سأبقى هنا لحين عودة أمي "

ازداد استياؤه و قال بما تبقى له من صبر:

" رجاءا يا رغد.. هيا فأنالا أحبذ أن تباتي خارج المنزل "

" لكنه بيت خالتي و قد اعتدت على هذا "

" عندما يعود أبي افعلي ما تشائين و لكن و أنت ِ تحت رعايتي أنا، لا أريد أن تباتي في مكان بعيد عني "

" لماذا ؟ "

" لن أشعر بالراحة لذلك و أنا متعب بما يكفي، و لا ينقصني المزيد من القلق. تعالي معي الآن "

شعرت بالغيظ من كلامه. من يظن نفسه ليتحكم بي هكذا ؟ إذا كان أبي لا يمانع من مبيتي في بيت خالتي من حين لآخر فما دخله هو ؟؟

" لن آتي "

قلتها بتحد ٍ، فنظر إلي بعصبية و صرخ بحدّة:

" رغد ! "

انتفضت ُ من جراء صرخته المخيفة هذه.. و حدّقت به مذعورة.. تتسابق نبضات قلبي لدفع الدماء خارجه عشوائيا..

عيناه كانتا متمركزتين على عيني و حاجباه مقطبين و وجهه غاضب عابس مرعب.. يثير الفزع في نفس من لا يهاب الوحوش !

تراجعت إلى الوراء خطوتين في هلع.. كنت أتمنى لو تستطيع رجلاي الركض، إلا أن الفزع صلّب عضلاتهما و جمّد حركاتهما..

وليد مد يده نحوي فارتعدت.. في خشية من أن يلطمني.. لكن يده توقفت في منتصف الطريق... قلت ُ باضطراب و ارتجاف:

" سـ .. أحضر.... حـ .. ـقيبتي "

و استدرت ُ مرعوبة و جريت بضع خطوات فارة، إلا أنه ناداني مجددا:

" رغد "

تصلبت ُ في مكاني و رجلي معلقة فوق الأرض.. ثم

التفت إليه بخوف يفوق سابقه.. ماذا الآن؟ هل ينوي صفعي أو ماذا ؟؟

أراه يقترب مني أكثر و لا أقوى على الفرار.. حين صار أمامي مباشرة نظر إلي بعمق.. و قال:

" رغد.. ما بالك فزعت ِ هكذا ؟؟ "

لم أنطق و لم يخرج من فمي غير تيارات الهواء السريعة اللاهثة..

وليد حدّق بي بانزعاج و مرارة و قال:

" رغد ! هل تظنين أنني سأؤذيك بشكل من الأشكال ؟؟ "

ثم تابع:

" أنت ِ مجنونة إن فكّرت ِ هكذا "

نظر إلى أصابعي المتوترة المرتعشة، ثم إلى عيني المفزوعة ثم تنهد بضيق و قال :

" حسنا، سوف أمر بك غدا قبل أن نذهب لاستقبال والدي ّ.. لكن إذا أردت الحضور قبل ذلك فأعلميني و لا تطلبي ذلك من ابن خالتك.. "

ما زلت أحدّق به نصف مستوعبة لما يقول...

قال بصوت خفيف دافىء:

" اعتني بنفسك.. صغيرتي "

ثم ختم:

" تصبحين على خير "

و استدار.. و سار مبتعدا.. و غادر المكان.

بقيت أنا أراقبه حتى غاب... و غاب معه قلبي و حسّي...

سرت ببطء عائدة إلى الداخل فوجدت الثلاث في انتظاري.. سألت خالتي:

" إذن ماذا ؟ "

قلت:

" سيأتي غدا... "

و صعدت ُ أنا و نهلة إلى غرفتها من جديد...

قالت:

" بدوت ِ مضطربة رغد ! ماذا قال لك ؟؟ "

أمسكت بيديها و قلت:

" نهلة.. سأجن.. لا أعرف لم أصبح هكذا ؟ إنه مخيف ! "

" رغد ! ماذا قال ؟؟ "

" لا أذكر ما قال ! ماذا قال ؟؟ لا أدري نهلة إنني أفقد تركيزي حين يكون على مقربة ! لا أعرف ما الذي يصيبني ؟؟ "

و لم أتمالك نفسي... تفجرّت عيناي بسيلين متوازيين من الدموع الدافئة تسابقا على تبليل خديّ الحزينين...

" رغد.. عزيزتي تماسكي "

" إنه سيسافر.. من جديد يا نهلة سأحرم من وجوده.. من رعايته.. من أن أراه.. و أتعلّق به.. و اسمعه يناديني ( يا صغيرتي ) كما كان يفعل منذ طفولتي.. لا أحد يناديني هكذا حتى الآن.. كيف سأتحمّل عودة حياتي خالية منه و قلبي أجوف لا يسكنه أحد ؟ سأجن يا نهلة إن تركني و غادر.. لا أحتمل ذلك.. أنا أحبه كثيرا يا نهلة كثيرا.. إنه كل شيء بالنسبة لي.. ما أنا فاعلة من بعده ؟ أخبريني ماذا أفعل ؟ ماذا ؟ "

و لم أر غير الظلام و السواد الذي غلّف حياتي و بطّنها أسفا على وليد قلبي...

و رغم الآلام و التعب.. و الإعياء الذي أعانيه.. ضل النعاس طريقه إلى عينيّ حتى ساعة متأخرة من تلك الليلة المشؤومة...





~ ~ ~ ~ ~ ~ ~





كنت أتمنى الذهاب إلى مكان واسع.. رحيب.. تعبث تيارات الهواء في سمائه بحرية..

إلى البحر.. حيث أرمي بأثقال جسدي و هموم صدري الضائق الحزن...

إلا أنني عدت إلى المنزل الكئيب و جدرانه العائقة.. لأبقى رفيقا لشقيقتي الغاضبة...

كانت في غرفتها، حمدت الله أن لم تسنح الفرصة للقائنا مجددا، فبعد الذي أثارته هذا اليوم، كرهت نفسي و كرهت انتسابي لهذا البيت..

بعدما رحل نوّارعند المغرب، أتتني و مزيج من الشرر و الغضب و الذهول و عدم التصديق يتربع على وجهها..

" سؤال واحد، أجبني عليه.. و بعدها انس أن لك أختا.. يا وليد، قل لي.. أنت.. كنت َ في السجن ؟؟ "

و تلا السؤال ( الواحد ) عشرات الأسئلة.. أسئلة بدا أنها عرفت الإجابة عليها من سامر، و الذي بالتأكيد خضع لاستجواب مكثف من قبلها قبل رحيله..

و أسئلة أخرى تهرّبت من الإجابة عليها.. فما رأيته في عينيها من الغضب و الاحتقار كان كاف لقتل أي رغبة في الدفاع أو التبرير في نفسي..

" لا أصدّق ذلك ! أخي أنا.. قاتل خرّيج سجون ؟؟ و أنا من كنت أظنه رجل أعمال كبير درس في الخارج ! أنا من كنت ُ أتباهى بك بين رفيقاتي ..! كيف أواجه خطيبي و أهله بحقيقة خاذلة كهذه ؟ لذلك كنت تتحاشى الحديث عن نفسك ! كم أنا مصدومة بحقيقتك ! "

عندما صوّبت ُ نظري إليها، أشاحت بوجهها الباكي و ركضت إلى غرفتها تواري الألم.. و تدفن الواقع المخزي..

و هاهي الآن.. منعزلة في ذات الغرفة منذ ساعات...

و بدوري، انزويت في غرفة حسام مع حشد من الأفكار الكئيبة.. تولى قيادتها و سيادتها..صغيرتي رغد..

و كلما تذكرت الخوف الذي تملكها و هي تقف أمامي.. أكره نفسي و وجودي و كياني ...

إذا لم أكن على الأقل أمثل مصدر الطمأنينة و الأمان لصغيرتي.. فماذا يعني وجودي في هذا الكون ؟؟

ماذا تبقى لي.. ؟ هاقد خسرت أهلي أيضا.. سامر و تشاجرت معه و حطمت قلبه و علاقتي به .. و دانة و وقعت من عينيها و صارت تزدريني.. و رغد.. رغد الحبيبة.. تنفر مني و ترتجف خوفا ؟؟

كيف جعلتها تذعر مني هكذا و تفقد ثقتها بي ؟؟

ما عساها تظن بي الآن ؟؟


أي موقف ستتخذ مني متى عرفت عن سجني و جريمتي ؟؟

هل ستحتقرني مثل دانة ؟؟ لا يا رغد أرجوك ..

فأنا لن أحتمل ذلك أبدا.. و أفضل الموت على العيش لحظة واحدة تنظرين فيها إلي بذرة ازدراء واحدة.. مهما كانت جريمتي و آثامي..

ليتكِ لا تعلمين..

يا رغد.. سامحيني..

ربما لم أعد وليد الذي عرفته و تعلّقت ِ به صغيرة، بفخر و معزّة و ثقة.. لكنني لا أزال وليد الذي يحبك و يتوق إليك.. يهتم بكل شؤونك بهوس...

ليتك ِ تعلمين...

نمت أخيرا على خيال الذكريات الجميلة الماضية.. فهي الشيء الوحيد الجميل في حياتي.. و الذي يمكن لقلبي المنفطر الشعور بالسعادة و الراحة حين تذكره...





فجأة...

صحوت ُ من النوم مفزوعا على دوي شديد زلزل الغرفة بما فيها..

فتحت ُ عيني ّ فإذا بي أرى الليل نهارا.. و السواد نارا.. و السكون زلزالا.. و الهدوء ضجيجا عظيما...مهولا..

و أرى الأشياء من حولي تهتز و تقع أرضا و سريري يتذبذب..

للوهلة الأولى لم أستوعب شيئا، أهو كابوس أم ماذا ؟؟

و سرعان ما صدر صوت انفجار مجلجل حرك جدران المنزل...

قفزت من على سريري أترنح مع الاهتزازات، و خرجت مسرعا من الغرفة و إذا بي أرى شقيقتي تأتي مسرعة نحوي و هي تصرخ

" ما هذا ؟ قنابل ! "

و للمرة الثالثة دوي صوت انفجار ضخم و أضيئت الدنيا بشعاع النيران.. و عبقت الأجواء بالدخان و روائح الحريق..

كانت الأرض تهتز من تحتنا فأسرعت بالإمساك بشقيقتي و انبطحنا أرضا.. و شهدنا زجاج النوافذ يتحطم و تقتحم ألسنة النيران المنزل... و تتوزع حارقة كل ما تقع عليه...

اندلع الحريق من حولنا في أماكن متفرقة فجأة.. و توالت أصوات الانفجارات مرة بعد أخرى بعد أخرى .. بشكل متواصل و مندفع ..

شيء ما اخترق السقف فجأة و هوى أرضا، و انفجر...

ركضت أنا و دانة مبتعدين بسرعة عن ذلك الشيء و هي تصرخ... و بدأ السقف يهوي فوق رأسينا..

هربنا فزعين مسرعين ناجيين بنفسينا متجهين نحو المدخل.. لا يعرف أحدنا أين تطأ قدماه..

و نحن نعبر الردهة.. توقفت ُ فجأة و صرخت:

" رغد ! "

قفزت قفزا نحو غرفة رغد و صرخت:

" رغد.. رغد "

و دون أن أنتظر فتحت ُ الباب بسرعة واقتحمت الغرفة و لم أر َ غير النيران تلتهم الأثاث... و تحرق السرير..

" رغد.. "

كاد قلبي يتوقف، بل إنه توقّف، و كدت أسلم نفسي للنيران تلتهمني.. إلا أنني فجأة تذكرت ُ أنها لم تبت هنا الليلة.. و لا أعرف ما الذي دفعني لنسيان أو تذكر هذه المعلومة..هذه اللحظة

صرخات دانة وصلتي رغم الدوي المجلل الطاغي على أي صوت في الوجود، و وجدتها مقبلة نحوي بذعر تقول:

" تهدّم السقف.. سنموت "

ثم نظرت نحو سرير رغد المشتعل نارا و صرخت:

" رغد "

و بدت و كأنها دخلت في نوبة فزع هستيرية، أمسكت بها و قلت:

" ليست هنا، لنخرج فورا "

و عوضا عن التوجه إلى الردهة ثم المخرج، توجهت إلى غرفتي إذ أن فكري قادني تلقائيا إلى مفاتيح السيارة..

سحبتها و سحبت المحفظة التي كانت بجوارها و أطلقت ساقي للرياح، ممسكا بيد شقيقتي الصارخة بذعر..

فتحنا الباب و خرجنا إلى الفناء و خرجت معنا الأدخنة التي نفثها الحريق داخل المنزل... و رأينا السماء تسبح في الدخان، و الليل نهارا ملتهبا..أحمر.. و الحجر يتساقط من حولنا كالمطر.. بينما تعج الدنيا بأصوات انفجارات متتالية.. و تتزلزل الأرض مع كل انفجار..أيما زلزلة

و عندما فتحت الباب الخارجي، رأيت ما لم تره عيناي من قبل.. و لا من بعد..

رأيت النيران مندلعة في كل الأنحاء.. و المنازل تتهدّم.. و الأرض تتصدع و تتشقق.. و الناس.. يركضون في كل الاتجاهات فارين صارخين مذعورين.. يصطدم بعضهم ببعض و يدوس بعضهم على بعض..

و من السماء المشتعلة، كانت تتساقط صواريخ و قنابل أشبه بالشهب و النيازك، ترتطم بأي ما يعترض طريقها، و تدمّره..

لقد كانت المرة الأولى التي أشهد فيها قصفا جويا.. وجها لوجه..

كنا في موعد مع الموت...

وقفت دانة مذعورة فزعة.. ترقب شعلة نارية تهوي من السماء ثم تسقط فوق منزلنا..

شددت على يدها و سحبتها مسرعا إلى خارج المنزل، نحو السيارة.. و نحن حافيي الأقدام و مجردين إلا من لباس النوم..

ما كدت أفتح باب السيارة حتى تفجّر المنزل.. و هطلت الحجارة و الشظايا و الشرار فوق رأسينا...

" اركبي بسرعة "

دفعت بشقيقتي إلى داخل السيارة و توجّهت إلى الباب الآخر، ركبت و انطلقت مسرعا مبتعدا عن المنزل.. في عكس اتجاه الطريق، أدوس على الأرصفة اصطدم بكل ما يعترض طريقي، و أحطم كل ما يصادفني..

الشوارع كانت تعج بالناس الفارين من النيران.. إلى النيران.. و القليل من السيارات التي تسير باتجاهات مختلفة عشوائية على غير هدى..

سلكت ُ أسرع طريق يؤدي إلى منزل أبي حسام، غير آبه بالشهب التي ترمي بها السماء من فوقي و من حولي، لا أرى من الأهوال الدائرة من حولي شيئا..
لا أرى إلا صورة رغد مطبوعة على زجاج النافذة أمامي..

كل ذلك كان في دقائق لا أعرف عددها و لا أمدها

وصلت أخيرا إلى منزل أبي حسام و رأيت النار تأكل رأسه...

" رغد... رغد.. لا.. لا.. "


صرخت كالمجنون.. هبطت من السيارة راكضا نحو بوابة سور الحديقة.. ضربته بعنف ٍ حطّم زجاجه ثم فتحته و اقتحمت المنزل و أنا أنادي بأعلى صوتي و بكل جنوني:

" رغد.. رغد.. "

كنت متوجها إلى باب المنزل الداخلي و الذي أراه أمامي مفتوحا... تخرج منه ألسنة النار.. و أنا أناديها بفزع.. و رهبة.. مما قد تكون الجدران تخبئه خلفها و الأقدار تخفيه على بعد خطوات..

يا رب لا تفجعني بصغيرتي و احرقني أنا قبل أن تلمس النيران شعرة منها...
يا رب إن كنت اخترتها فأنزل قنبلة فوق رأسي تفجّرني هذه اللحظة قبل أن أدخل و أراها ميتة..

" رغد.. رغد.. "

صرخت و صرخت و صرخت.. صراخا شعرت به أقوى و أفظع من دوي القنابل المتفجرة من حولي .. و أنا أركض بلا وعي نحو النيران..
نحو النهاية..
نحو الجحيم ..
نحو الموت..
نحو رغد..

وصلت إلى الباب و استقبلني لهيب النار الحار يلفح وجهي المذعور المفزوع ...كنت على وشك اقتحام الحريق، و فجأة حتى سمعت صوتا يناديني..
من عالم الأحياء..

" وليــــــــــــــد "

التفت يمنة و يسرة أبحث عن مصدر الصوت كالمجنون.. أدور حول نفسي و أصرخ بقوة:

" رغد... رغد "

و عند زاوية في طرف الحديقة، رأيت رغد و عائلة خالتها جميعا مكومين قرب بعضهم البعض متشابكي الأيدي ينتظرون المصير المجهول..

مع الإضاءة التي أحدثها انفجار قنبلة خارج المنزل، استطعت أن أرى رغد جيدا و هي تقف هناك.. ثم تأتي راكضة مسرعة نحوي ............

" رغد.. أنت ِ بخير ؟؟ حقا بخير؟؟ الحمد لله.. الحمد لله "

" وليد .. أنتما حيان ؟؟ "

و التفت للخلف فرأيت شقيقتي تصرخ:

" رغد "

و تتحرر رغد من بين ذراعي و ترتمي في حضن دانة و هي تهتف باكية:

" أنتما حيان.. أنتما حيّان "

جذبت الاثنتين و ضممتهما إلى صدري.. لا أعرف من منا نحن الثلاثة كان أكثر فزعا من الآخرين..

انفجار آخر دوي الأجواء، فانبطحنا أرضا و جعلت الأرض تهز أجسادنا كما تهز أفئدتنا المذعورة..

و أخذ الجميع يتصايح و يصرخ.. و امتزجت الأصوات و الهزات و الاصطدامات..

توقفت النوبة برهة، وقفنا و أنا ممسك بكلا الفتاتين و حثثتهما على السير بسرعة نحو المخرج...

صوت حسام يصرخ:

" إلى أين ؟؟ "

قلت:

" سنغادر المدينة بسرعة "

قال:

" الزم مكانك يا مجنون ! ستقتل "

قلت للفتاتين:

" هيا بنا "

صراخ حسام و عائلته:

" ابقوا مكانكم القصف لم ينته "

لكني مضيت في طريقي..

حسام يصرخ:

" رغد عودي إلى هنا.. عودي يا رغد.."

رغد تتشبث بي أكثر، و أنا أتمسك بيدها بقوة و أمضي بها و بدانة إلى السيارة

بابا السيارة الأماميين كانا مفتوحين، جعلت ُ رغد تدخل بسرعة إلى المقدمة ، و أنا أفتح الباب لدانة و أدخلها سريعا، ثم أقفز نحو باب المقود، فأجلس و أطير بالسيارة حتى قبل أن أغلق الباب..

لم تكن باللحظة التي يستطيع فيها دماغ أي بشر، غبي أو عبقري، أن يفكر..

انطلقت بالسرعة القصوى للسيارة أجتاز كل ما أعبر به، محاولا تحاشي الاصطدام بما يصادفني قدر الإمكان

أرى الناس يخرجون من كل ناحية أفواجا أفواجا ، رجالا و نساء و أطفالا.. متخبطين في سيرهم يركضون باتجاهات عشوائية.. يهيمون على الأرض على غير هدى.. يصرخون و يهيجون و يموجون باعتباط و فوضوية.. و في نواح متفرقة تتناثر مخلفات الدمار .. الحجارة و الأشلاء.. و الجثث.. تحرقها النيران.. و تفوح روائح كريهة لا تستطيع الأنوف إلا استنشاقها مرغمة..

و كلما انفجر شيء جديد، منزل أو مبنى أو شارع أو سيارة.. صرخت الفتاتان و ارتعشت يداي و انحرفت في سيري جاهلا.. أيهما سيكون الأسرع لتحديد مصيرنا .. قنبلة ما ؟ أم اصطدام ما ؟ أم أن النجاة ستكتب لنا بقدرة من لا تفوق قدرته قدرة، و لا يضاهي رحمته رحمة..

كنت أشهد أمامي تصادم السيارات المسرعة، التي فرت من الموت.. و إليه
و أرى أشياء ترتطم بزجاج سيارتي و تحدث تصدعات و كسور تحول دون وضوح الرؤية أمام عيني..

لم يكن باستطاعتي إلا الاستمرار في طريقي اللا محدد .. و كما تسير الحية سرنا ذات اليمين و ذات الشمال ننعطف كلما ظهر شيء أمامنا و نسلك كل تشعب نلقاه حتى انتهى بنا الطريق إلى شارع رئيسي...
حانت مني الآن التفاتة أخيرا إلى اليمين.. فرأيت الفتاة الجالسة إلى جانبي و قد انثنت بجدعها إلى الأمام حتى لامس رأسها ركبتيها و وضعت ذراعيها على جانبي رأسها لتحاشي رؤية أو سماع شيء.. بينما أنفاسها الباكية اللاهثة تكاد تلهب قدمي ّ الحافيتين..

" رغد.. "

لم تغير من وضعها ..

التفت إلى الوراء لألقي نظرة على دانة، فوجدتها هي الأخرى مكبة على وجهها تحتضن المقعد المجاور و تنوح و تصرخ ..

" يا رب.. يا رب.. يا رب.. "

هتفت بأعلى صوتي:

" يا رب.. يا رب.. يا رب "

هتفت رغد بصوتها المبحوح المرتجف:

" يا رب.. يا رب.. يا رب "

لم يكن لدينا أمل في النجاة إلا برحمة الله..




أسير في الشارع بسرعة جنونية دون هدف.. وسط قصف جوي مباغت.. و القنابل و الصواريخ تهوي من السماء كالوابل.. و الأرض تتزلزل من تحتي.. و معي فتاتان مذعورتان تصرخان بفزع و هلع.. و النيران تحاصرني و تحيط بي من جميع الاتجاهات... وسط ليلة غدر عجت سماؤها بألسن النار و الشر.. مخلفا منزلا محترقا متهدما.. و مستقبـِلا مصيرا مجهولا غامضا..



كم من الوقت مضى.. لا أعرف
كم من المسافة قطعت ؟ لا أعرف ..
ألا زالت الفتاتان على قيد الحياة ؟
لا أعرف
أنجونا من الموت ؟
أيضا لا أعرف...



الشيء الذي ألاحظه هو أنني في وسط طريق بري.. و لم أعد أرى السماء متوهجة.. و لم أعد أحس بالأرض ترتعد كما لم أعد أسمع الدوي و لا الضجيج...


" رغد.. دانة.. "

لم تجب أي منهما...

" رغد.. دانة أتسمعانني ؟؟ "

و أيضا لم تردا..

هلعت، رفعت يدي اليمنى عن المقود و مددتها نحو رغد التي لا تزال على نفس الوضع..

" رغد صغيرتي.. ردي علي.. "

ببطء تحركت رغد حتى استوت جالسة و هي تخفي وجهها خلف يديها خشية النظر .. و شيئا فشيئا فرّقت ما بين أصابعها و سمحت لنظرة منها للتسلل إلى المحيط و رؤية ما يجري..

" لقد ابتعدنا.. أأنتِ بخير ؟؟ "

نظرت رعد غير مصدقة.. إلى الشارع .. إلى السماء.. إلى الطريق من أمامنا .. إلى دانة من خلفنا.. و إلي..

لم تستطع النطق بأي كلمة.. عادت تنظر إلى الوراء تريد أن تنادي دانة الدافنة وجهها في المقعد المجاور .. إلا أنها عجزت عن ذلك..

نظرت أنا إلى دانة و هتفت بصوت عال:

" دانة.. عزيزتي.. اجلسي أرجوك "

دانة لفت برأسها إلينا و جعلت تنقل بصرها بيننا ..

ثم جلست و نظرت عبر النافذة المغلقة ثم قالت:

" أين نحن ؟؟ "

قلت و أنا أنظر إليها عبر المرآة:

" الله أعلم "

قالت:

" أين نذهب ؟؟ "

قلت:

" الله أعلم.. فقط لنبتعد عن منطقة الخطر.. "

نظرت إلى الوراء ثم إلي و قالت:

" هل سننجو ؟ "

أنى لي أن أتنبّأ ؟؟

الله الأعلم..

دانة اقتربت من مسند مقعدي حتى التصقت به و مدت يدها عبر الفتحة بين المقعدين إلى ذراعي تمسك به و تصيح:

" هل هذه حقيقة ؟؟ وليد هل أنا أحلم ؟؟ ألا زلت نائمة ؟؟ هل مت ّ ؟؟ هل أنا حية ؟؟ "

رفعت يدي فأمسكت بيدها،إن لأواسها أو لأطلب منها المواساة .. و كم كانت باردة كالثلج...

" وليد "

هذه كانت رغد التي تنظر إلي ربما طالبة المواساة و الأمان هي الأخرى.. ثم ضمّت يدها إلى أيدينا و دخلتا في نوبة طويلة و قوية من البكاء و النواح..

لقد كنت أنا أيضا بحاجة للبكاء مثلهما.. فما رأيت كان من الفظاعة و الشناعة ما يجعل الجبال الصخرية تخر منهارة..

إلا أن الدموع ستحول دون الرؤية أمامي، و أنا أقود وسط الظلام بسرعة رهيبة..
تماسكت و ركزّت على الطريق..


فجأة.. قالت دانة:

" نوّار ! "

ثم أخذت تلطم على وجهها و تنوح..

" يا إلهي ماذا جرى لنوّار ؟؟ "

و نظرت إلي و هي تسأل:

" الهاتف ؟؟ "

و لكن الهاتف لم يكن معي...

إننا نفذنا بجلودنا و الله العالم بما حلّ بمن بقي في المدينة..

لم تهدأ من نوبة النواح إلا بعد زمن... أظن القنوط غلبها و استسلمت لما يخبئه لنا القدر



انتبهت الآن إلى عبوة لمشروب غازي موضوعة إلى جانبي، و كنت ُ قد اشتريتها يوم أمس أثناء تجولي بالسيارة ثم لم أشربها.. مددت يدي إليها و لمست حرارتها التي استمدتها من حرارة السيارة..

خففت ُ السرعة و أخذت العبوة و فتحتها بيدي اليمنى، ثم مددتها نحو رغد..

" اشربي "

إذ لا بد أن حلوقنا جميعا جافة متخشبة من هول ما مررنا به..

رغد أمسكت العبوة بكلتا يديها و قربتها من فمها و رشفت مقدار ما رطب جوفها و أعادتها إلي..

" دانة.. خذي اشربي "

مدت دانة يدها و تناولت العلبة و شربت منها ثم أعادتها إلي .. و جاء دوري لأشرب..

كان ساخنا غير مستساغ المذاق إلا أن العطش اضطرنا لازدراده عن آخره دون تذوق.
  #39  
قديم 10-04-2011, 01:33 AM
 
روووووووووووووووووووووووعة
كملي بسسسسسسسسسسسسسرعة
بلييييييييييييييييييييييييز

بجد بجد
تسلمى على ذوقك العالى .
__________________



يوما ما ستشرق شمس الامل
  #40  
قديم 10-04-2011, 08:39 PM
 
تسلميلي حبيبتي
و انت ايضا لك ذوق رفيع
و شكرا كثيرا لتشجيعاتك لي
اني في غاية الامتنان لك:wardah::wardah::wardah:
 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مؤمن الرشيدي صاحب الحق2 أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 26 05-25-2014 12:29 PM
رساله من مؤمن الرشيدي على الخاص وليد مسايره أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 1 05-16-2012 12:24 PM
مآ [خُبِروَك ] إني عليك إنتَ ميت .. سـآعآت نـآيس .. - ٌ Ðяєαм` مواضيع عامة 11 03-25-2012 09:34 AM


الساعة الآن 02:10 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011