عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > ~¤¢§{(¯´°•. العيــون الساهره.•°`¯)}§¢¤~ > أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه

أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه هنا توضع المواضيع الغير مكتملة او المكرره في المنتدى او المنقوله من مواقع اخرى دون تصرف ناقلها او المواضيع المخالفه.

 
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-21-2007, 03:41 PM
 
Post الفصل الثاني من (البطاقة السحريه)

. الفصل الثاني‏
تمدد بطوله الفارع على الفراش يستريح قليلاً من الحرارة المضطرمة خارج البيت، وربما يستغرق في نوم ينسيه القلق والحيرة والتعب. كان الضوء يتسرب خافتاً من الفتحات الضيقة للنافذة الخشبية ولكنه لا يصل إلى حد اغراق الغرفة كلية. فبقي الجو بداخلها مظللاً ودافئاً يرخي العضلات ويجذب النوم باغراء أينما كان مختفياً هارباً هو الآخر من الاضطرام السائد وسط القيلولة، أدار الراديو الموضوع بجانبه، فأنطلق صوت المذيع، وتيباً متنأوماً يذيع الأخبار الوطنية والعالمية، بنفس الوتيرة المتواصلة لا يفرق بين أخبار مهمة وأخرى تافهة، بين أحداث جديدة وأخرى قديمة ما فتىء يكررها ويلوكها منذ أيام دون ملل أو سأم. انساق مصطفى عمروش خلف الصوت لدقائق معدودة ثم هاجره بدون وعي منه إلى هواجسه الباطنية التي تلاحقه وتطارده وتجذبه إليها بقوة المغناطيس أو الجاذبية الأرضية. بعد مدة لا يعرف كم استغرقت من الوقت أعادته موسيقى صحراوية رتبية مثل الجو الحار ساعة الظهيرة إلى الاحساس بالعالم المحيط به، فانبعث صوت المغني الجهوري، صاحب النبرات الخشنة في مد طويل يليق بالفضاءات الشاسعة الممتدة إلى ما لانهاية، فلاة مسطحة وخط مستقيم لا يكسره حاجز مهما كانت أهميته من أشجار باسقة أو تلال شامخة أو واحات منقذة. موسيقى صحراوية بسيطة، تلك هي المقاطع المفضلة عنده، يسرح خلفها في فضاءاته الممتدة إلى أقصى ما تصله العين النافذة والمخيلة الجامحة، لحظة لذيذة، غرق في ثنايا أحابيلها حالماً بأشياء جميلة مزينة بكل الألوان الناصعة ما عدا الأحمر القاني. وفجأة انتقطعت الأغنية وعاد صوت المذيع مزعجاً ومعه استيقظت آلامه وعامت على السطح مضطهدة لحظات السكينة المجلبة للنوم المريح.‏
من ساحة المنزل تواصل إليه صراخ ابنه الأصغر المدلل ثم صوت الأم ناهراً مزمجراً، ومهدداً ابنها الثاني الذي يكبر الأول بسنوات قليلة ويكون قد تخطى سياج الحديقة، بمجرد ظهور الأم علي عتبة الباب قادمة من المطبخ. يختفي حتى تهدأ أعصابها ثم يعود مختلساً محاذياً الجدران كالذئب الخطاف. انقطع البكاء وهدأت الأصوات وعاد الصمت الثقيل من جديد ومعه الحرارة الجافة التي يبدو أنه تصاحب السكون فترتفع بارتفاعه وتضعف بضعفه، وعاد مصطفى عمروش إلى القلق والحيرة والذكريات المحزنة والمؤلمة.‏
كان صدره عارياً ويداه مضمومتين خلف رأسه ومسندتين إلى المخدة الصوفية ويمسح ببصره وجه الجدار المقابل وبالضبط الصورة الكبيرة المعلقة في وسطه، صورة محمية من التمزق والبلي داخل إطار زجاجي من الوجه الأمامي المكشوف وإطار خشبي من الوجه الخلفي المخفي. تمثل رجلين وامرأة شابة تبتسم بخجل وحشمة، يلبس ثلاثتهم زياً عسكرياً، وهم واقفون بثبات وافتخار قرب أشجار الصنوبر وبعض النباتات المتوحشة المورقة التي توحي للناظر بأن الصورة التقطت في يوم من الأيام الربيعية الزاهية وسط غابة ما. كانت الفتاة تتوسط الرجلين، قصيرة القامة لكنها ممتلئة وعلى رأسها قبعة كبيرة وفي وسط ذراعها الأيسر قطعة من القماش الأبيض رُسِمَتْ عليه خطوطاً بالأحمر، فهي فارغة اليدين فيما كان المجاهدان يحمل كل واحد منهما بندقية حرب على كتفه، محكماً إياها بشدة واعتزاز كأنه يخاف أن تفلت منه وتسقط على الأرض وتتركه يتيماً بدون حماية. كان مصطفى عمروش يقف على يمين الفتاة فيما وقف على يسارها صديقه الحميم صديق الصبا والطفولة والشباب علي زغمار الذي استشهد بعد أسبوع فقط من أخذ الصورة، استحضر الوجه البشوش، الوجه الذي تشبثت قساماته بكل تفاصيلها في ذاكرته حياً نابضاً، يتدفق حركة، وبريق العينين الشديدة السواد رغم مرور سنوات طوال منذ اليوم الذي استشهد فيه صاحب الوجه العزيز، حيث تمزق جسمه إرباً إرباً وأصبح كومة مشوهة من اللحم والعظام والدم المخثر والتراب والحصي بعد أن أصيب باحدى القنابل المميتة المنبعثة كالصاعقة من الطائرات العسكرية المسربلة المحومة فوق رؤوس المجاهدين المذعورين الذين لم يعرفوا أين مسلك النجاة من الجحيم الجهنمي قتل الكثير منهم في تلك المعركة ، وجرح مصطفى عمروش بشظايا متفجر جروحاً خفيفة التئمت آثارها بعد أسابيع . كما استحضر صوته وضحكاته المرتفعة المدوية ، وطريقة مشيه وركضه فعاش لحظات مفرحة وأخرى محزنة ، في حنين قاتل إلى العودة إلى الماضي الذي كانت فيه الحياة غالية يضطر الانسان إلى الدفاع عنها بكل ما يملك، ماض يعرف دوي الكلمة وقيمة الوعد وحرارة الدفاع عن قيم لاقيمة لمال الدنيا كله بجانبها. بعد سنوات من الاستقلال الوطني حينما انتشرت موضة البحث عن جثث الشهداء واعادة دفنها في مقابر جماعية جميلة مزينة بالورود المتفتحة والرسوم النحتية المعبرة، عاد إلى ميدان المعركة التي قتل أثناءها صديقه. كان ضمن وفد كلف رسمياً بالبحث عن الرفاة، فاتصلوا بسكان الناحية وعثروا على رجل ما زالت ذاكرته نابضة بالحياة فأعادهم إلى تلك الأيام البطولية الراسخة، يومها، اندس الرجل وسط الغابة يقطع الديس الأخضر ليغطي به سقف غرفة جديدة يخصصها لابنه البكر الذي كان سيتزوج في تلك الصائفة فسمع دوي الرصاص المتعالي وصوت "الله أكبر" الرهيب فأدرك بالعادة أن اشتباكاً قد واجه المجاهدين ضد الجيش الفرنسي.‏
ابتعد عن المكان متسللاً بين الأشجار والأحراش لكنه لم يذهب بعيداً حينما تواصل إلى أذنيه خرير محركات الطائرات الحربية التي تمطر ناراً ملتهبة، يرعد المنطقة كلها، فانحتى وسط "ضَرْوَة" يبسمل ويحمد الله ويطلب النجاة متمتماً بين شفتيه عبارات متلعثمة غامضة. استمر القصف مرعباً، يزرع الموت والدمار والعقم، والطائرات محلقة في ذهاب واياب دون توقف. انفجرت قنبلة أولى لم تصبه شظاياها، بقي مختفياً في مكانه طيلة يوم كامل ولم يتحرك إلا مع غروب الشمس، بعد أن تأكد من السكون الكلي وانسحاب العساكر من المكان فخرج متسللاً من مخبئه عائداً إلى الدشرة، وأثناء الرجوع سمع وقع أقدام ثقيلة ومتعثرة فانحنى جانباً ينتظر خائفاً وقلقاً، وإذا بمجاهد جريح يتشبث بأغصان الأحراش بيد ويمسك بندقية بيد أخرى يحاول تسلق منحدر متجهاً نحو عمق الغابة.‏
وقال الرجل باعتزاز أنه ساعد المجاهد الجريح على الخروج من المأزق فأدخله داره وقامت أمه بمعالجته ثم اتصل بمسؤول الدشرة الذي أخبر المجاهدين فأرسلوا رجلين في ليلة الغد أخذا معهما الجريح مسرجاً فوق بغل قوي، محملاً بالقمح والشعير والعدس. وأضاف الرجل في رواية مستفيضة أمام الجميع مشاركته في دفن القتلى مع سكان الدشرة، فهالوا وذعروا للمناظر الوحشية التي عثروا عليها في ساحة المعركة، أجسام مهمشة، ممزقة، جثث ضائعة المعالم، أذرع وسيقان مرمية وحدها، انفصلت بعنف عن الأجسام وبقيت تنزف دماً، حلف الرجل وأقسم بالرب والأنبياء أنه وجد الدم دافئاً لم يتخثر بعد، وجوه ملطخة بالدماء المخلوطة بالتراب والعرق والندى، أعين مفتوحة وثغور تبتسم للسماء الصافي، لم تفقد من حيويتها وفرحها وذعرها شيئاً. وأضاف الرجل باصرار أنه رأى لأول مرة في حياته فرحاً ممتداً لا نهاية له وخوفاً رهيباً على أحد الوجوه الفتية لشاب لم يتجاوزالعشرين، قتل برصاصة في قلبه، وهو الشهيد الوحيد الذي بقي جسمه سليماً، لا جروح عليه ولا تراب. احتار الرجل في تلك اللحظة ولكنه طمأن نفسه بأن الدنيا مليئة بالعجائب وأن الله يخلق من الغرائب مايشاء، دلهم الرجل على القبور المتراصفة تحت أشجار مظللة دون أسماء، قديمة، كان ترابها يستوي مع الأرض، ولم يعرف أهل الدشرة إلا اسم شهيدين كانا من المنطقة . أما بقية القبور فهي مجهولة لا يعرفها ولايزورها أحد لم يعرف مصطفى عمروش أي العظام لصديقه، فالعظام كلها متشابهة، أما الفتاة الشابة الواقفة بين الرجلين فقصتها كانت تروي على غرار الحكايات الشعبية التي تجمع الناس الفقراء في الليالي الشتوية الباردة الطويلة حول الموقد الدافيء. سمع كل أهل المنطقة بقصتها، قصة رددتها بافتخار واعتزاز وأضافت إليها أحداثاً فرعية كي تصبح متكاملة وحلوة للرواية، تغري السامعين.‏
تنهد مصطفى عمروش بعمق، اقتحم الحنين فجأة صدره الذي أصبح يضيق بمثل هذه الذكرايات القاسية كلما تقدم في العمر. أصبح يتألم كثيراً كلما استرجع هذه الذكريات وفي أحيان متعددة تطفح الدموع على سطح عينيه الذابلتين المتعبتين وهو يجهد نفسه لمعرفة نوع الأحاسيس والأفكار والخواطر التي راودت صديقه وهو يحتضر ويلفظ أنفاسه. كانوا جميعاً يستهترون بالموت ويذكرونه في أحاديثهم كشيء عادي. والغريب في الأمر أنهم ينسونه كلياً أثناء المعارك. يفكرون في قتل الأعداء وفي كيفية النجاة والعودة إلى القواعد المخفية وسط الجبال في المغارات المهجورة منذ الأزمنة البعيدة سالمين فرحين، وإذا أصاب الموت المحتوم أحدهم، يتألمون قليلاً، يشعر بعضهم بالفراغ وربما بالخوف ولكن سرعان ما يغادرهم هذا الشعور إذ يقنعون أنفسهم بأن الموت ضروري لربح المعركة الكبرى، وأنهم يقينا سيلتحقون بأصدقائهم وهناك يغمرهم نوع من الابتهاج والسكينة ويتصورون الجنة بمختلف الأشكال في مناظر مبهجة حميلة. حيث النوم العميق والأكل الوفير والدفء والراحة. في السنوات الأخيرة، بدأت خواطر مفزعة تطارد ذهن مصطفى عمروش وتلاحقه دوماً. في ماذا كان يفكر علي زغمار في اللحظة التي أصيب بها بالضربة القاتلة؟ هل مات بالرصاص أم تمزق جسمه بالقنبلة وانفصلت ذراعاه ورجلاه بعيداً عن بقية الأعضاء؟ هل بقي يقظاً ينظر إلى الدم المتفجر من أحد أجزاء جسمه الملقية قربه؟ وتمنى مصطفى من صميم قلبه أن يكون الموت قد أدرك صديقه الحميم في رمشة عين تجعله لا يشعر بوخز الألم وضغطه.‏
وحينما تنهال عليه المشاكل ويكثر القيل والقال حول نزاهة قدماء المجاهدين الذين انساقوا خلف الامتيازات المادية وتحايلوا وتشاجروا وتآمروا من أجلها، ونظرة الناس إليهم وخاصة الشباب الذين يتذمرون ويرون فيهم السبب الرئيسي للبطالة التي ما فتئت تنتشر يوماً بعد يوم، يفضل لو استشهد في احدى المعارك ومات شهيداً ليبقى اسمه نبيلاً طاهراً يذكر باجلال وشموخ أما وهو حي بين أصدقاء تغيروا كلياً وأصبحوا يعتبرون هذه الامتيازات التي يسمح بها القانون حقاً شرعياً، مكافأة لهم تعويضاً عن الجوع والعري والتعب والخوف أيام الثورة التحريرية فلا مفر من السكوت وتقبل الانتقادات بصبر وتبصر.‏
سمع مرة شاباً يحاور صديقه، وهو داخل الحافلة ذاهباً إلى العاصمة يتكلم بصوت مرتفع يملؤه الحقد والغضب، قائلاً بأن المجاهدين استولوا على كل شيء، سيارات مساكن محلات تجارية، مناصب شغل ولا يمكنك أن تحاسبهم على فعل خاطىء أو تغيّب. انتفض بداخله واستشاط غضباً لحظتها ولكنه صمت ولم يقل شيئاً إذ في انتقادات الشاب كثير من الصواب. حينما كانوا يجوبون الجبال والأودية، راودهم أمل وحيد، ليلاً ونهاراً، أكبر مكافأة تمنح لهم استقلال البلاد والعودة إلى عائلاتهم والتخلص النهائي من المطاردات والانتظار القاتل.‏
حورية، طفلة مرحة، ضحوكة دوماً، يعرفها منذ كانا صغيرين يركضان معاً ويجلبان الماء من الوادي عبر دروب وعرة ملتوية موحلة في قر الشتاء ومغبرة في قيظ الصيف. كان يكبرها بثلاث سنوات لاغير. ونمت بينهما صداقة متينة مليئة بالاعجاب والتفاهم، وكبر هذا الشعور معهما إلى أن أضحى حباً قوياً يتحمل المصائب والتضحيات، يلتقيان علانية ويتحدثان طويلاً عن كل شيء يخطر على بالهما، لم يكن الحديث يهمهما بقدر ما كان هاجسهما الوحيد هو المكوث معاً ولأمد طويل بما أن لا شيء يخفي في القرية الصغيرة، فما هو سبب التستر والحذر؟ كانت عائلتهما على دراية بكل لقاءاتهما، ولم تمانعا منتظرتين اليوم الذي تحين فيه الظروف لإقامة عرس كبير لإسعادهما ولكن هذا العرس لم يتم أبداً، أو على الأقل لم يتم بالصورة التي تصورتها العائلتان.‏
في تلك السنين تغيرت حياة السكان في المنطقة كلها رأساً على عقب، كما تغيرت أحاديث الناس واهتماماتهم، فبعد أن كانت الحياة عادية، رتيبة، يتخبط سكانها في البحث عن لقمة الخبز دون الجرأة على رفع أصابعهم للاتهام الصريح والجهوري، وكادوا يفقدون الأمل في تحسين ظروف معيشتهم ويقنعون أنفسهم زوراً وبهتاناً بأن ما يتخبطون فيه من وحل ملطخ بالشر، إنما عقوبة الهية شرسة عن ذنوب اقترفها أجدادهم في يوم ما من الأزمنة الغابرة ولا مفر من التكيف معها والصبر على منوال النبي أيوب.. ربما في يوم ما...‏
وفجأة طفق أهل القرية يغلون ويفورون داخلياً، ويترقبون الأخبار بفارغ الصبر. اندلعت الثورة لتحرير الوطن وطرد المستعمرين بصفة نهائية، امتلأت الجبال المجاورة لهم بمجموعات مسلحة من المجاهدين أتوا من كل مكان واتصلوا ببعض الرجال من القرية. كان مصطفى عمروش شاباً قوياً وشجاعاً فتحمس كثيراً لما يحدث حوله. استهوته الأخبار وحب المغامرة وهاجس التخلص من المعمرين الذين يشتغل في مزارعهم مقابل ثمن زهيد. تكلم مع صديقه علي زغمار واقترح عليه الالتحاق بالأخوة في الجبال الشاسعة المحيطة بالقرية فوافق الصديق على الفور.‏
ومكث مصطفى متردداً لأيام فيما إذا كان يحق له مصارحة حورية بمشروعه، أم لا. وانتهى إلى رأي يقضي باعلامها. انتظر خروجها لجلب الماء فرافقها مسافة قصيرة، وهو صامت لا يعرف من أين يمسك الخيط. تنبهت حورية إلى حيرته وتساءلت عن السبب بدون مقدمات ودفعة واحدة، أجابها مرتبكاً، بنبرة فخورة لا تعرف الخوف أو التراجع:‏
- سألتحق بالمجاهدين في الجبال لتحرير الوطن.‏
لفظ العبارة بخفة، تماماً مثل مطر الإعصار الذي ينهمر فجأة وبكميات كبيرة ثم ينقطع بعد حين، لم تجبه مباشرة. توقفت عن السير، طأطأت رأسها فترة وجيزة ثم نظرت إلى التلال المقابلة لهما، وقالت بصوت ثابت ونبرة حادة:‏
هل يقبل المجاهديون النساء في صفوفهم؟ ابتسم مندهشاً وحدق في بياض عينيها قائلاً:‏
- أنا أتكلم بجد، لا أمزح.. الحياة في الجبال صعبة للرجال، فكيف يقبلون النساء أنهم يحاربون بالبنادق والرصاص..‏
أراد أن يقول لها أكثر من حياة الجبال لكنه يجهلها. ولكن رغم عدم معرفته بها فهو متأكد أنهم لا يقبلون النساء لأن المحارب ينبغي أن يكون خفيفاً كي يتنقل بسرعة ويسير في الليالي وينام وسط الأحراش والأودية، هل تتحمل المرأة هذه الحياة الشاقة؟ طبعاً لا.. خيم الحزن والمرارة على وجه حورية البريء.. ومكثت تفكر ملياً ثم فجأة برقت عيناها وقالت بخفة كأنها خائفة من تبخر فكرتها:‏
- ومن سيحضر لكم الخبز والطعام؟ أعرف. كل هذه الأشياء... تعلمت من أمي جيداً...‏
- اسمعي يا حورية... دعك من الكلام الفارغ، واكتمي السر ولا تخبري أحداً... نحن نذهب لنحارب فرنسا، أفهمت... لا نصعد إلى الجبال لجمع الحطب بل لمحاربة فرنسا، وهذه مسألة تخص الرجال دون النساء...‏
- بعد أن تلتحق بالمجاهدين، سأجيب من يسألني بأن مصطفى مجاهد كبير...‏
أجابت باعتزاز وكبرياء، رافعة رأسها باستقامة ثابتة. سكتت ثم قالت بخجل وارتباك موجهة بصرها نحو التراب:‏
- سأنتظرك يا مصطفى حافظ على نفسك والله يكون معك.‏
بعد يومين من هذا اللقاء الخاطف اقتفي مصطفى عمروش وصديقه علي زغمار آثار الدروب المُثعبنة وسط الأحراش التي لا تغطي جسميهما كلية ثم دفا وسط غابة من أشجار الصنبوبر والبلوط كثيفة الورق والأغصان، والتي لا توحي بوجود حياة إنسانية بداخلها، تأبطا معهما كيساً خيشياً يستعمل للقمح والشعير، رمياً فيه بعض اللوازم الخاصة من اللباس والأكل، وطافا وسط التلال والأودية بحثاً عن المجاهدين.‏
كانا يتصوران أنهما بمجرد الولوج داخل أول غابة، سيصادفان أفواجاً من الرجال الأشداء مدججين بكل أنواع الأسلحة، وسيستقبلان بالأحضان المفتوحة على مصراعيها، وتمنح لهما الرشاشات والبدلات العسكرية، ومباشرة تنطلق المعارك ويعيش الصديقان البطولات العجيبة. غدرا القرية في الصباح الباكر قبل انبلاج الفجر، فأشرقت الشمس مبتسمة ودارت دورة كاملة وأوشكت على الغروب، ولم يعثرا على شبح مجاهد واحد. أصابهما القلق والتعب والجوع، فاختارا لهما مكاناً آمناً تحت شجرة بلوط ضخمة، أكلا قليلاً وجلسا يتساءلان حائرين عن المكان الذي يخفي المجاهدين. توقعا مختلف الاحتمالات الممكنة حتى التي مفادها أن وجودهم اشاعة باطلة اخترعها الناس لتخويف المعمرين. ولكن ايمانهم بوجود "الخاوة" كان قوياً لا تزعزعه الشكوك ولا يضعفه يوم كامل من البحث الدؤوب. بقيت تساؤلاتهم معلقة في الفضاء بلا مجيب، ناما تلك الليلة بالتناوب مسترقين السمع إلى عواء الذئاب ونعيق الضفادع المنبثق من كل الأرجاء. وفي الصباح الباكر مع انقشاع أول خيوط الظلمة، كان الصديقان مستعدين للبحث وباصرار أكبر هذه المرة. المنطقة جبلية، تغطي الأشجار مساحتها، وهي خالية من السكان. بلّل الندى ثيابهما أثناء الاحتكاك بالأغصان المورقة وأصاب وجهاهما وأذرعهما بخدوش بسيطة، أسالت بعض قطرات الدماء. حينما ارتفعت الشمس وكونت زاوية مستقيمة مع الأشجار، تضاعفت حرارتها مما اضطرهما إلى الاستراحة تحت ظل غصن مورق يحجب رؤية أديم السماء. لم يسمعا أي صوت حتى وجدا رجلاً واقفاً على رأسيهما متسائلاً بنبرة حادة:‏
- ماذا تفعلان هنا في هذه الغابات البعيدة؟ صعقهما الرجل بسؤاله وهيئته الوقورة. كان واقفاً بثبات يرتدي قشابية صوفية بنية اللون، غطت كل جسمه ما عاد ذراعه الأيسر، وعلى رأسه شاشية حمراء. تبادلا الصديقان نظرات حائرة وأدرك مصطفى بحدسه أن هذا الرجل منهم بلاشك فوقف بخفة وقال:‏
- جئنا عندكم.. كنا نبحث عنكم منذ صباح أمس: تبحث عن من؟‏
- المجاهدين... جئنا نحرر الجزائر... نحارب فرنسا..- ومن قال لكم بأنكم ستجدون المجاهدين هنا؟ أنا أسكن المنطقة ولا أعرفهم ولم أسمع عنهم شيئاً. احتار مصطفى أي الإجابة الملائمة يقدمها للرجل الغريب. تردد قليلاً، تلعثم ولكن سبقه صديقه علي في الرد السريع العفوي- في قرية عين الفكرون سمعنا بأن "الخاوة" يسكنون الجبال ويقاتلون لطرد الفرنسيين من بلادنا فجئنا نلتحق بهم.‏
حدق الرجل في سحنتهما بإمعان. بقي لحظة شادر الذهن كأنه يفكر في قرار ما ثم أخرج يده اليمنى من تحت القشابية وأدخل ابهامه وسبابته على شكل دائرة داخل فمه وأطلق تصفيرة مدوية. وما هي إلا ثوان حتى امتلأ المكان برجال مسلحين ينظرون إليهما مثلما ينظر الصياد إلى غنيمته. سر الصديقان سروراً عظيماً وتبخرت الشكوك والأتعاب وحل محلها الحماس والاستعداد الأعمى. تضاعف سرورهما حينما تعرفا على ثلاثة رجال من قريتهما وقويت عزيمتهما واطمأنا لحالهما أيما اطمئنان، وهكذا أصبح الصديقان في صفوف الثورة يشاركان في التدريبات والرحلات والأعمال الخاصة بتحضير القواعد الجديدة وتحسين أماكن الراحة الآمنة، وبعد مرور أشهر قليلة أصبحا جنديين متكاملين وبدأت المعارك والبطولات والمآسي..‏
ومكثت حورية في منزل أبيها حزينة لفراق حبيبها، وسعيدة لأنه رجل شجاع ومجاهد، لم تدرك مكانته في قلبها إلا هذه المرة. قبل ذلك كانت العلاقة عادية، تستطيع رؤيته ولو خلسة من بين يقوب الأبواب والجدران والجدران أثناء دخوله أو خروجه إذ كانت العائلتان متجاورتين في المسكن. أما وهو غائب فاشتاقت إليه كل الاشتياق وحنت إلى كلامه وإلى وجهه وإلى نظراته.‏
عند القيلولة حينما يهدأ الضجيج، وتقل الأعمال المنزلية تتمدد على الحصير وسط باحة الدار وتسرح خلف الذكريات الجميلة وتتخيل مواقف سعيدة، ترفض نهايتها وتتمنى لو تستمر الأحلام بلا انقطاع إلى مالانهاية تضجر وتفور قلقاً وارتباكاً حينما تداهمها أمها بأمر ما، فتضطر إلى النهوض والانصياع مكرهة، مكفهرة الوجه متناعسة. فكانت تتخيل مصطفى بلباس المجاهدين وببندقية تلمع لمعاناً ساطعاً، يباغتها في لحظة ما، يقف أمامها فجأة دون سابق انذار. وفي بعض الأحيان تتشجع مخيلتها وترى نفسها مجاهدة تطوف الجبال مع مصطفى ورفاقه، تحضر لهم الأكل وتغسل ملابسهم. وتلوك هذه الأحلام مراراً وتكراراً في أوقات فراغها حتى أضحت حقائق تلتبس مع الواقع الملموس.ومع الأيام تباعدت لحظات الأحلام ، واكتسى الضباب وجه مصطفى مفاوت لا تتذكره إلا حينما تستيقظ ليلاً تحت دوي طلقات الرصاص القريبة من القرية‏
مرت أربع سنوات ثقيلة، مرعبة، ولم تتلق حورية إلا أخباراً خاطفة عن مصطفى، جمعتها مناسبات متعددة بأمه فحاولت أن تتلصص بعض الأخبار عنه دون دوى، إن الأم مثلها لا يصلها عنه خبر يذكر. كل ما تعرفه هو أنه مازال حياً يرزق ويتمتع بصحة جيدة، وسيعود إلى القرية بعد استقلال البلاد. نفس العبارة يرددها زوجها كلما استحضر الحديث عن الابن مصطفى، ويقسم لهم الأب بأنه سمع النبأ من "مسبل" القرية الذي يتصل بالمجاهدين في الجبال كلما سنحت له الظروف. فهو يعرف مصطفى ويلتقي به دائماً هناك. تصر الأم لمعرفة تفاصيل أخرى، سواء بالأسئلة الملحاحة أو بالنظرات الحائرة القلقة، ولكن يجيبها الأب مكرراً نفس العبارات التي ما فتيء يرددها منذ سنوات.‏
كبرت حورية ونضج جسمها وتفتحت أنوثتها فأصبحت محل أنظار العجائز اللاتي يترصدن عروساً لابنهن أو حفيدهن أو أحد فتيان العائلة الكبيرة. وصارت أمها تمنعها من الخروج وحدها. ولا تسأم من أسماعها النصائح اللازمة، في كل الأوقات الليل والنهار حتى حفظت حورية كل عبارات وحكمها، فترددها معها بصوت مسموع، كي تقنعها بأنها استوعبت الدرس جيداً ولا داعي للتكرار الذي أصبح مملاً.‏
وفي احدى المرات، زراتهم عجوز من معارفهم وقت الظهيرة، اختلت بأمها في زاوية من زوايا الساحة المظللة ودخلت معها في حديث طويل، بصوت خافت، هامس، انقطع كلية عند اقتراب حورية وبين يديها صينية القهوة. حطتها على المائدة وعادت إلى المطبخ، فانشغلت بالكنس والغسيل لمدة معينة ثم عادت إلى الساحة كي تجالس المرأتين وتسمع منهما أخباراً مفيدة، فساد السكوت بمجرد اقترابها. تنبهت حورية للانقطاع المفاجيء، فبررّت ذلك لكون الحديث يخص بعض شؤون النساء المتزوجات، ويحبذ أن تبقى المراهقات خارج أسراره الملتوية. جلست معهما على "هيدروه" صوفية بيضاء، سكبت لنفسها فنجاناً من القهوة يكتنفها فضول لسماع أخبار جديدة من العجوز التي سبق أن تعرفت عليها وتجاذبت معها أطراف الحديث العام، ولكن هذه الأخيرة، بذكاء محنّك، غيرت مجرى الكلام السابق وتوجهت بأسئلتها إلى الفتاة، وهكذ1 استرسلن في درب مخالف من الكلام العادي اللجوج. ومرة ثانية، وبمحض الصدفة، استمعت خلسة إلى حديث بين أمها وأبيها يخصها. لم تستشف الأمر جيداً، ولكنها فهمت بأنهما ينويان تزويجها إلى رجل ما في القرية.وهنا انفتحت ذاكرتها بعنف، تماماً مثل الجرح القديم الذي ينشق بعد سنين من شفائه أثر صدمة مباغتة، فاستحضرت صورة مصطفى واضحة المعالم كأنه لم يفارقها أبداً، صورة امتزجت في خطوطها ما تبقى من وجهة القديم وما أضافته عبر التخيلات العديدة التي أضحت واقعاً ملموساً بالنسبة إليها. ارتعدت أوصالها وانزوت في ركن من الدار، حائرة، تحاول عدم تصديق الخبر، فلربما تكون قد أخطأت الفهم. كبر في ذهنها الوسواس والخوف من قرار والديها. فهي تعلم علم اليقين بأنهما إذا قررا تزويجها، فلا مفر، ولا تمرد ولا رفض. حينما يقرر الأب منح ابنته إلى رجل ما، انتهى الحديث وتبخرت الأحلام ودفن الأمل. قضت أياماً حالكة لا تعرف طعماً للأكل أو مذاقاً للنوم. فظهر ذلك جليّاً على جسمها ولفت انتباه الأم التي واجهتها بوابل من الأسئلة كي تكتشف السبب الضامر. وفي مشاجرة كلامية عنيفة، مرتفعة الصدى، باحت الأم بالسرّ المكتوم، واعترفت لها بأن أباها قرّر "اعطائها" إلى رجل مهم من أعيان القرية المعروف تحت اسم السرجان، يملك حانوتاً واسعاً يبيع فيه المواد الغذائية، متزوج وله أولاد وبنات. يسكن في منزل كبير وسط القرية في الشارع الرئيسي، ويقع حانوته في الرصيف المقابل لدار البلدية. قضي سنوات في الجيش الفرنسي، بعيداً عن أهل القرية لا يزورها إلا نادراً، يمكث فيها أياماً،يتبختر ببذلته العسكرية التي لا تغادر جسمه المتكامل القوي البنية رغم قصره نسبياًز وبها يزور الأهل والأصدقاء، ويجلس في المقهى حول لعب الورق أو الدومينو، ولا ينسى تحية العلم الفرنسي المرفرف على باب مقر البلدية، كلما مرّ قربه، وإن فعل ذلك مرات عديدة في اليوم الواحد، كان يعتبر ذلك من واجباته الأساسية التي تعلمها داخل الثكنة. إذا كانت القبعة في يده أو على كتفه الأيسر، فيسويها جيداً على رأسه المدور ثم يحيي تحية عسكرية منضبطة مع ضربة قوية على الأرض برجله اليمنى. وحافظ على هذه العادة بعد انفصاله من الجيش الفرنسي، وهجرانه للبذلة العسكرية، فأصبح يحيي العلم كل صباح قبل أن يفتح باب حانوته المقابل للعلم المثلث الألوان، ولم ينقطع عن هذا الوفاء إلا بعد أن تلقى انذاراً من المجاهدين، يهددونه بالقتل إن تمادى في ذلك السلوك الشاذ.‏
بعد خروجه من الجيش، عمل "شامبيط" في القرية وضواحيها لفترة وجيزة ثم فتح حانوتاً مباشرة بعد اندلاع الثورة. ومن موقعه الاستراتيحي، على عتبة الحانوت، يشرف السرجان على جميع ما يجري من أحداث. كما يعرف كمية المواد الغذائية التي يشتريها كل فرد، وهل يكتفي بالمقدار الخاص لعدد أعضاء العائلة أم يزيد فوقها؟ بهذه الطريقة يتعرف على من يبعث المؤونة إلى المجاهدين، وتصل كل هذه المعلومات ساخنة إلى الثكنة القابعة على طرف القرية منذ مدة قصيرة.‏
وعادة ما يجلس رجال القرية بمحاذاة الحانوت في نهاية الظهيرة قبل غروب الشمس، أثناء الأيام الدافئة، ويبحرون في أحاديث شتى دون قيد أو نظام، ويشاركهم السرجان مجهداً نفسه لاستشفاف بعض الأخبار التي تفيد "مسيوغوميز" رئيس البلدية، صديقه الحميم. في البداية كان يتصل بالسلطة العسكرية دون خوف أو مراوغة لأنه متأكد بأن هذه السلطة ستقضي على "الفلاقة" بكل سهولة. هي مسألة وقت فقط، تماماً مثلما فعلت مع المتمردين في السابق . ولكنه غير موقفه وأصبح يحتاط بحذر شديد في اتصالاته مع الادارة الاستعمارية منذ أن وجد " عبد الهادي رمضان " مذبوحاً على عتبة منزله. صادفه أحد الشيوخ في الصباح الباكر، مرمياً بطوله الفارع على الأرض، يتدلى رأسه على حافة الرصيف فيما اختفت رجلاه خلف الباب المفتوح، كان يرتدي "قندورة" بيضاء تلطخت ببقع من الدم المتخثر انحط رأسه على بركة دم كالتي يتحاشر حولها الأطفال في عيد الأضحى حينما يعلق الأب أو الجد الكبش المذبوح لسلخه وتفريغه. في الصباح، بعدما انقشع الليل، حينما حضر رجال الدرك والشامبيط، كان دم البركة لم يجمد بعد. سقط الرأس منفصلاً عن بقية الجسم أثناء تحريك الجثة لادخالها إلى البيت، وقع الوجه على البركة الصغيرة، فتطايرت قطرات كثيرة ملطخة بعض الأرجل، أصبح الرأس المستدير، الساكن أحمر كانه غطس كلية في كمية أوسع من الدم أو داخل الدهان الأحمر مثل الذي تدهن به الواجهات الخارجية لمحلات الجزارة. وبقي الحاضرون مبهورين ومذعورين أمام الكرة الحمراء ولم يتجرأ أحد على رفعها وادخالها البيت مع الجثة. تبادلوا نظرات فارغة مرتبكة ثم تنبه أحدهم وأحضر دول ماء ورش الرأس.‏
كان "عبد الهادي رمضان" "حركياً" يتعامل مع قائد الثكنة العسكرية المستحدثة في القرية شخصياً، وجهرا أمام الملأ وبمرأى من الناس جميعاً، ويعلن عداءه واستهتاره، واحتقاره للمجاهدين دون خجل أو خوف. كان وحيداً في منزله في تلك الليلة. في صباح اليوم الذي سبق اعدامه أوصل زوجته وأولاده إلى أهلها القاطنين في قرية مجاورة بمناسبة حفل ختان. لم يسمع أهل القرية ضجيجاً يذكر.‏
ولم يجد "عبد الهادي رمضان" وقتاً للصراخ أو طلب النجدة. كانالإعدام سريعاً وفعالاً ولم ترتعش اليد التي أمسكت السكين الخاص ومررته بثبات على الرقبة السمينة كرقبة كبش الأغنياء.‏
شاهد السرجان الجثة الملقاة على الرصيف وتصور لحظتها أنه مذبوح وممدد في مكان الحركي، فارتعدت أوصاله وتضاعف خوفه من المجاهدين القادرين على اختراق حدود القرية المحروسة بالعساكر المسلحين تسليحاً عصرياً واغتيال أي فرد في بيته ثم الإنسحاب في صمت دون جلب نظر الحراس. عاد إلى منزله مباشرة يطارده هاجس غريب أقلقه وأضجره. وقبل دخوله غرفة النوم ليستريح قليلاً ويسترجع أنفاسه انحنى لينزع حذاءه فشاهد قطرات دم على أحداها. توقف عن الحركة. وفي تلك اللحظة قرر في نفسه التصرف بحكمة ودهاء كي يرضي الطرفين وأن يضرب عن التوجه إلى الثكنة. فذلك أمر مكشوف ومصدر للأخطار بل عليه أن يتصل بالسيد غوميز رئيس البلدية وهوالذي يوصل أخباره إلى قائد الثكنة.‏
حينما كان عاملاً في الجيش الفرنسي حضر دروساً حول الجوسة العسكرية وانبهر أمام ذكاء الجواسيس في مغالطة صفوف العدو والتصرفات السرية التي يسلكونها دون أن يتفطن لهم أحد حتى زوجاتهم، لم لا يقتفي أثرهم ويوهم الثوار بأنه يتعاطف معهم بل ويخدمهم بافادتهم ببعض الأخبار غير الخطيرة عن الثكنة التي يعرفها حق المعرفة لكثرة ماتردد داخلها، فيتعامل مع مخبر لهم في القرية لمعرفة تنقلاتهم ومشاريعهم على أساس السرية التامة في اتصالاته مع الطرفين كي يتوهم كل طرف أن السرجان من عملائه المخلصين. أجبره المنظر البشع على تغيير سلوكه ومراقبة كلامه والتفكير الحسابي المتقن قبل الاتيان على كل فعل مهما ظهر طفيفاً". أضحى لايختلف إلى منزل ( مسيو غوفير ) إلا إذا تأكد من خلو الشارع الفرعي من الأنظار المختلة أيضاً يستقبل أفراد العائلات التي لها أولاداً في الجبال بحفاوة وابتسامة عريضة مصطنعة. يتسامح معهم في عدم دفع ثمن المشتريات. وطفق يصارح بعضهم "الذي يشك أن له علاقة ما مع الثوار " في نيته بدفع كمية من المواد الغذائية وبمقدار من المال إلى ، "الخاوة"‏
ليقلل من صعوباتهم، وبالفعل تم الاتصال "بمسّبل" القرية فبردع له حماراً معبئاً، مع كمية من المال ووعد بكميات أكبر في الأيام القليلة القادمة.‏
ومن عتبة حانوته لفتت حورية نظره الثاقب وهي تعبر الشارع مع أخيها الصغير. فايقظت شهوته التي كبتتها ظروف الحرب، ترقبها مراراً متلهفاً إلى الوقت الذي تأتي فيه إلى حانوته لتشتري شيئاً ما فيملأ ذراعيها بكل ما تطلب مجاناً لاغرائها. ولكنها لم تفعل أبداً. كان أبوها يقوم باقتناء، لوازم البيت، وإذا اقتضى الحال يرسل أحد أخويها الصغار، بسهولة عرف أهلها واستفسر عن حالتهم المادية فخامرته فكرة سُرَّ لها واطمأن قلبه لأنه سيصبح من الأعيان الأغنياء الذين يملكون زوجات متعددات. فاتصل بعجوز من معارفه استقصت الأمر في سرية وفرشت الورود الفواحة أمام الأم. أوصلت للسرجان كل المعلومات اللازمة المفيدة ثم مباشرة انتهى إلى تنفيذ قراره فكلف وفداً من كبار أهل القرية ليقنعنوا أباها بمصاهرته رغم أنه متزوج وله أولاد. وإذا رأى الأب ضرراً في جمع الزوجتين تحت سقف واحدا فهو مستعد لاسكانها في منزل مستقل. إنه رجل ثري وسيقدم المهر الذي يطلبونه دون مناقشة ويستطيع تقديم مالاً يحلمون به .سيكون العرس من أكبر ما شهدت القرية في حياتها. كان أبوها "بوزهير حميد" رجلاً فقيراً وبسيطاً ينصهر في راي الجماعة بسهولة، خجولاً، محتشماً لا يقدر على رفض طلب وفد من كبار أهل القرية. يشتغل نجاراً في احدى ورشات المعمرين في المدينة الكبيرة المطلة على البحر. يقطع المسافة الفاصلة بين القرية والمدينة راجلاً عبر الدروب المثعبنة وسط التلال والأودية ولا يغادر مكان العمل إلا مع غروب الشمس بعد أن يكون قد امتلأ بغبار النجارة الكاتم للأنفاس يقوم بعمله في جدية ملحوظة ولايتغيب إلا في الحالات النادرة بعد أخذ الاذن من صاحب الورشة. أنه قليل الاتصال بسكان القرية. يفضل العزلة في نقش قطعة الأرض المحاذية لمنزله على أن يلتحق بالمقهى لاضاعة الوقت في لعب الدومينو أو الكرطة. رضي الأب بالمصاهرة. كبرت ابنته وهي صالحة للزواج فلماذا يفكر في الأمر إذن؟.‏
صحيح أن السرجان متزوج ولكن ما العيب في ذلك؟ فهو غني يستطيع اعالة أربع زوجات والدين لا يعارض تعددهن لدى الرجل الواحد. الرسول نفسه كان متزوجاً بتسع نساء... هذا كلام ردده أعضاء الوفد كثيراً وسط مديح وتهليل لخصال السرجان وثرائه. بهذه الكيفية البسيطة تقرر مصير حورية دون استشارتها.. ومنذ متى تستشار المرأة في زواجها في هذه القرية وغيرها من القرى المجاورة؟ لم تعلم الخبر اليقين إلا بعد زيارة الوفد إلى البيت فوافق أبوها أثناء الجلسة وطمأن الرجال على أن المسألة بالنسبة إليه محسومة وليس من الرجولة أن يطلب رأيها فيما يقوله أمام نفر من الرجال، فهم قصدوا الرجل وعلى الرجل أن يجيبهم بمحض ارادته وحريته لاغير وحتى أن رفضت الزواج فلا يملك الشجاعة الكافية للتراجع عن قراره.‏
إن تراجع سيصبح أضحوكة القرية. رجل بشلاغمه يتراجع عن كلمته تحت تأثير زوجته أو ابنته، هذا عار فظيع سيلاحقه بقية حياته وسيحرمه من النوم الهادي ومن الافتخار برجولته أينما كان.‏
انهمرت دموع حورية على خديها الملونين بلون التفاح الأحمر، قوية كالأمطار الاستوائية بدون انقطاع لمدة سبعة أيام بلياليها مرّة مُجهرة رفضها ساخطة لا تفعل شيئاً سوى البكاء ممتنعة عن الأكل والعمل والكلام . ومرة أخرى تغلق الباب على نفسها باحكام وتترك اليأس يغزو تفكيرها المشوش ولا تفتح الباب لأمها العطوف كما أنها لا تجيب لتوسلاتها الرقيقة الحنونة، أما الأب فلم يعر أي اهتمام لهذا السلوك الصبياني مثلما سمّاه، كان واثقاً كل الثقة، بأن ابنته ستدرك مصلحتها بعد حين وستكف عن هذا الهراء. وحينما مرّ الأسبوع الأول ولم تغادر حورية حجرتها لسبب ما واجهها في ثبات قائلاً بنبرة حاسمة:‏
- دعك من البكاء كالطفلة الصغيرة وفكري بعقلك.. لن أتراجع عن موقفي وسأزوجك لهذا الرجل إلا إذا شاء الله وأماتك قبل ذلك.‏
اكتفي بهذه العبارات الصادرة عن ايمان عميق بأنه يتصرف على حق ولم يدرك في تلك اللحظة بأنه قد تنبأ بمصيرها دون معرفة وأن ابنته حورية ستموت دون أن تتزوج السرجان. وبعد سنة ونصف حينما أخبره أحد الرجال القاطنين في الريف بموت ابنته بتلك الطريقة المرعبة تذكر ما قاله هذا اليوم وندم أشد الندم على تصلبه واصراره على تزويجها رغم ارادتها.‏
بكت حورية طويلاً حتى أصبحت عيناها شديدتي الاحمرار ولا تفتحهما إلا بصعوبة فائقة.‏
أصابهما التهاب حار وقوي ولم تمنع نفسها من حكهما طول الوقت. كان يتغلب عليها اليأس في لحظات الانهيار العصبي ولكنها كلما تخيلت صورة مصطفى وذكرت الأيام السعيدة لطفولتهما انتفضت وقررت بعنف أنها تفضل الموت على الزواج الاجباري. أدركت في قرارة نفسها أن البكاء والعويل والانطواء لا يفيدها في شيء ولا يخرجها من المأزق. أطلقت العنان لخيالها وأحلامها تقترح لنفسها خطة توصلها إلى حبيبها. افترضت كل الامانيات المحتملة دون أن تتوقف عند واحدة يمكن تنفيذها. رفضت الزواج الاجباري لسبب ظاهر واضح هو أنها تحب شاباً غائباً وتنتظر عودته. وبحثت في باطنها عن سبب آخر، به نقمت على أبيها لموقفه السلبي تجاه الثورة. هل هو جبان أم يتعاطف مع المعمر الذي يشتغل عنده؟ تفتخر بمصطفى أشد الافتخار. أنه بطل شجاع ولا يهاب أحداً. ولماذا لا يكون أبوها مثله ويرفع مكانة العائلة وسط أهل القرية. يتكلم الناس في الخفاء في الليل حول الموقد أو في عرصة الدار تحت سماء متلألئة بالنجوم، يروي أهل القرية ما يتسرب من أخبار من قمم الجبال الكثيفة الأشجار بطولات ومعارك ضارية.. كلما وصل خبر استشهاد أحد المجاهدين من سكان القرية إلا وتقرأ الفاتحة بصوت خافت في كل البيوت وتتلى الدعوات الطويلة المتوسلة للرحمن أن يدخله الجنة دون حساب أو عقاب مهما ارتكب من ذنوب وأتى من شر.‏
انقطعت دموع حورية الرقراقة وتسربت إلى قلبها المهزوز فكرة خطيرة لم تسبقها إليها فتاة أخرى. في البداية حينما خطرت على ذهنها أول مرة ارتعش جسمها والتوت مصارينها وأصيبت باسهال مفاجيء خفيف ولكن لم لا؟ ما المانع؟ سيطرت الفكرة حتى أضحت ولا تعرف شيئاً ثانياً. خلال ساعات طويلة انتابها خوف ثم سرعان ما لفظته جانباً وأقسمت مع نفسها بالالتحاق بحبيبها مصطفى أينما كان مهما كلفها من صعوبات ومهما كانت نتيجة ذلك. فإنها أحسن من الزواج المفروض عليها ومع من؟ حركي معروف عند كل أهل المنطقة. ماذا يقول عنها مصطفى لو قبلت هذا الزواج؟ سيحتقرها دون شك ويلعنها من أعماقه، ربما بصق على التراب متخيلاً أنه يلفظ بصاقه على وجهها، إنما لم تتقبل ذلك ولو على مستوى الافتراض الوهمي فقط. بعد أن أقنعت نفسها بضرورة الالتحاق بالمجاهدين، أصبحت حائرة في كيفية الوصول إليهم، هل ستذهب وحدها أو تبحث عن رفيق؟ ومن هذا الرفيق؟ سمعت مراراً عن اسم رجل يتردد على الأفواه الخافتة لنساء يزرن أمها في بعض الأحيان يقال بأنه يجمع المال ليوصله إلى المجاهدين. يسكن في الطرف الجنوبي للقرية. احتجت حورية بحجة عادية وقصدت بيته. استقبلتتها زوجته بكلام مليح وشاي ساخن دون أن يرغمها الفضول على طرح السؤال الإجباري المنطقي: ما سبب الزيارة؟ تعرف المرأتان بعضهما البعض ولكن لم يسبق أن تحدثتا معاً أو تبادلتا الزيارة. أفضت حورية بسرها كاملاً دون اخفاء نقطة واحدة، وفي نهاية حكايتها المختصرة توسلت الزوجة أن تكلم زوجها لعله يوصلها إلى المجاهدين. لقد سمعت بأنهم أصبحوا يقبلون النساء الممرضات في صفوفهم، وهي مستعدة لأن تكون مساعدة لهن، لم تجهر المرأة برأيها في القضية بل أبدت جهلاً مطبقاً بعلاقة زوجها بالمجاهدين ولكنها ستكلمه في المساء حينما يعود من العمل.‏
كانت المرأة على علم بمشروع الزواج ورفض حورية له.. ومن في القرية لم يسمع في وسط النساء؟ حسدتها بعض النساء لما ستلقاه من عز مادي ورفاهية في اللباس الفاخر والأكل المتوفر والمتنوع.. ستأكل الخبز الرومي ولا تقضي يومها في العجن والدلك واشعال النار، ولكن النساء اللائي يعرفن ارتباطها بالشاب مصطفى عمروش الغائب منذ أكثر من أربع سنوات، رثين لحالها ولحال البطل الذي يأكل نفسه من الشقاء ليحرر الوطن بينما يسلب له السرجان حبيبته دون أن يعرف طعم الجوع والبرد والتعب. قررت المرأة مساعدة حورية من إيمانها بأن السرجان خائن لا يستحق إلا الذبح، فكيف يتزوج فتاة تنتظر مجاهداً ضحى بشبابه من أجل استقلال الجزائر؟ فمن الواجب عليها أن تنغص حلمه الشرس في افتكار حورية من مغالبه بعد شرائها بماله وسلطته. بعد أيام قليلة، اتصلت بها وأبلغتها بأن زوجها يعرف مصطفى وسيتصل به في أقرب فرصة تجمعهما معاً. عليها بالانتظار والصبر. بعدج أيام قليلة أخرى بعثت لها أبنتها الصغيرة، وحينما حضرت حورية وجدت المسبّل في انتظارها فقال: اتصلت بمصطفى وأخبرته برغبة والديك في تزويجك وأنك رفضت رفضاً قاطعاً. فرح لموقفك وهو مستعد للقائك وسيقبلونك بين الممرضات لتتعلمي المهنه. سأنتظرك الليلة على الساعة الواحدة صباحاً، ينبغي أن تخرجي في سرية تامة بحيث لا يتفطن إليك أحد. سأنتظرك أمام الباب خذي معك أشياء قليلة جداً ستجدين كل شيء في المركز..‏
لم تصدق أذنيها. غمرها فرح وقلق كبيران. في العتمة الحالكة مكثت مفتوحة العينين على اتساعهما تحدق بقوة محاولة اختراق الجدار السميك. تبعثر تفكيرها ولأول مرة منذ سمعت زواجها انتابها فراغ مسكن. جلست على الأرض مستندة ظهرها إلى الحائط مختبية تنتظر في الظلام الدامس أن يحين الوقت المحدد للرحيل. حضرت رزمة ثياب في سرية تامة دون أن تغير من سلوكها شيئاً كي لا تبعث الريب في نفس أمها وأخوتها الصغار. تخاف من أمها أكثر لأنها الانسانة الوحيدة في البيت التي تهتم بتنقلاتها وتناديها باستمرار لتطلب منها القيام بعمل ما. أما الأب فهو غائب من الدار طول الوقت ولا يدخل إلا للأكل والنوم.‏
إنها مطمئنة من هذه الجهة لأن فكرة هروبها لا يمكن أن تخطر على بال أحد. إنها فكرة جنونية حقاً. لم يسمعوا بواقعة مثلها بقرية عين الفكرون ولا في القرى المجاورة. تحمست كثيراً للمشروع حتى أصابها الأرق. تبيت لياليها متقلبة في الفراش متنهدة بعمق تتخيل نفسها بصحبة حبيبها تمشي تحت ظلال أشجار باسقة وتشم روائح عطرة تنبعث في النباتات الغابية المتعددة وتستنشق فاتحة منخريها على اتساعهما محدثة صوتاً كأن هذه الروائح تسللت بالفعل إلى فراشها وعمت أجواء الغرفة الغارقة في سبات عميق.‏
أما الآن، وهي على استعداد كامل للرحيل لا يفصلها عن الموعد الحاسم إلا بضع ساعات تسربت بعض الشكوك إلى قناعتها. هل تتصرف تصرفاً سليماً؟ ألم تتسرع في اتخاذ الاجراءات اللازمة للتخلص من الورطة المفروضة عليها؟.‏
كيف سيستقبلها مصطفى وهل هو راض عن سلوكها؟ كيف يتصرف أبوها بعد اكتشاف هروبها؟.‏
هل سيدرك بأنها التحقت بالمجاهدين وهل سيجرؤ على متابعتها؟ إنهالت عليها أسئلة معقدة لا تعرف لها أجوبة. كادت تنهاربكاءاً وتتراجع عن الهروب ولكن صورة مصطفى أقوى من كل التبريرات الأخرى. تشوقت إلى رؤيته وإلى سماع صوته والحديث معه. تصورت أنها قادرة على قضاء شهور كاملة في الحديث عن أشواقها ووصف الليالي الطويلة في سهاد وأرق وخيالها محلق يطارد أدنى ملامح له. غرقت في تفكير متواصل وتحولت العتمة إلى نور والسكون إلى صخب وأصوات متباينة والمكان المغلق إلى فضاء رحب لا يحده البصر النافذ، ولم يعدها إلى جلستها المكورة الشخير المرتفع المستمر لأحد أخويها النائمين قربها في براءة مطبقة ولا الكلام المتقطع الذي ارتفع فجأة من أختها الصغرى تحت تأثير كابوس مزعج. عاد الصمت من جديد وحورية لم تبال بل هي غارقة حتى الأذنين في أحلامها وأشواقها. مكثت على هذه الصورة وقتاً طويلاً، إلى أن انتفضت وحدها كأنها تذكرت موعد الرحيل فقامت من مكانها متخطية الأجسام الممددة كالسردين. رفعت رزمتها على أحد ذراعيها وغطت رأسها بقطعة قماش مورد. فتحت الباب ببطء ملحوظ دون أن تحدث صوتاً أو خرخشة. قطعت مسافة الساحة الداخلية بحذر، ثم الحديقة وأخيراً جلست قرب السياج تمسح المكان المظلم بحدقتي عينيها الحادتين اليقظتين رغم نقص النوم البادي على وجهها المتعب. فلم تلاحظ شبحاً إنسانياً ولم تسمع وقع خطوات قريبة أو بعيدة. أبعدت عن نفسها الخوف ومكثت تحرس المكان في يقظة ثعلب. بعد دقائق اعتادت على الظلمة وأصبحت تبصر بوضوح أكثر من ذي قبل. بعد فترة لم تعرف حورية كم استغرق من الوقت انتصب شبح المسبل قرب السياج وكأنه مرق من تحت الأرض . لم تسمع حورية وقع خطواته ولم تشاهده وهو قادم من بعيد باغتها فارتعشت احشاؤها قليلاً ولكن ما أن تعرفت عليه حتى نهضت واقفة بخفة غير معهودة فتحت السياج دون أن تنبس بكلمة اتبعت خطاه الخفيفة الصامتة. غادرا القرية متدثرين بالعتمة والأشجار المورقة، مستدركين مراكز الحراسة. حينما ظهرت الشمس الصباحية بأشعتها الدافئة لتطرد النسمات الليلية الباردة كانا قد ابتعدا عن منطقة الخطر وهما يوغلان وسط الغابة الندية تجاه قمم الجبال الشامخة . في الصباح الباكر، استيقظ الأب بوزهير حميد كالعادة وغادر البيت بعد أن شرب قهوته في صمت وعادت الأم إلى النوم كالعادة أيضاً دون أن تتفطن للحادث الاستثنائي النادر.‏
بعد طلوع النهار وسط ضجيج الأطفال الصغار انتظرت الأم قيام ابنتها من النوم لتساعدها في العمل المنزلي ولكن هذه الأخيرة تأخرت وأحجمت عن الظهور فاتجهت الأم صوب الغرفة لايقاظها، لم تجدها، قالت مع نفسها بأن ابنتها ستكون في الحديقة أو عند الجيران عادت إلى المطبخ منتظرة دون قلق. أين ستكون؟ ستظهر لا محالة بعد حين.‏
ليست موجودة عند الجيران لم يروها قط هذا الصباح.‏
أين ستكون؟ تساءلت الأم بشيء من التوتر والحيرة. لم تتعود الغياب بهذا الشكل السري، قلقت الأم وخافت على ابنتها وعلى نفسها من زوجها ومن كلام الناس، خاصة أن ابنتها مخطوبة رسمياً. اقترب منتصف النهار ولم تظهر حورية بعد. فقدت الأم رزانتها وبقيت تترقب أدنى صوت في الساحة أو خارج البيت لعل حورية تداهمهم بعد هذه الغيبة المفاجئة، ارتبكت حركتها ولم تحسن القيام بالتنظيف المنزلي واحترق الأكل فوق النار لسهوها وترقبها المتواصل. انتصف النهار، دخل الأطفال كلهم لتناول الطعام ولم تظهر حورية بعد ولم يعرف عنها خبر عند أحد. خرجت الأم من هدوئها وانتابها ضجر وفراغ مرعبين.‏
وكيف يكون رد فعل أبيها في المساء إذا لم تظهر إلى ذلك الحين؟ غضبت على أبنائها وسخطت في وجوههم رافعة صوتها ثم أمرتهم بالذهاب للبحث عنها عند الأقارب في القرية، والطواف عبر الشوارع لعل وعسى.. خرج الأطفال بصمت داهمهم القلق هم أيضاً.‏
دخلت بعض الجارات على الأم للاستفسار وتهدئة الجو المكهرب والتخمين معاً في الأماكن التي يحتمل أن تلجأ إليها. روت الأم بصدق حالة ابنتها النفسية منذ خطوبتها وموافقة أبيها على مصاهرة السرجان، رغم ذلك لم تجرؤ الأم والنساء الوافقات حولها على الافصاح عما خامرهن وهي أن تكون قد هربت من الدار العائلي كرفض قاطع للزواج القسري، شيء فظيع أن تهرب البنت من بيت أهلها. ستكون فضيحة الدهر كله. كثر الحديث وكثرت الاحتمالات المشجعة لتهدئة الجو وارخاء الأعصاب المتوترة. عاد الأطفال بخيبة أمل ظاهرة على سحناتهم المتجهمة، لم يعثروا عليها ولم يسترقوا سمع خبر مفرح أو مشجع عنها. شعرت الأم كأن سقف البيت سينهار على رأسها المبلبل، بل ستتحطم السماء عليه وتصيره رماداً تنفثه الرياح الهوجاء إلى أعماق الربع الخالي.تلألأت عيناها بالدموع المدرارة، ولكنها امتنعت عن السيلان الجارف. جف حلقها وفقدت القدرة على النطق السليم المسترسل، والتصقت الجوانب الداخلية لمصارينها المتعبة من القلق والجوع كأنها في نهاية يوم رمضاني من تلك الأيام الصيفية القائظة الطويلة جداً.. ارتعش جسمها حتى كادت تفقد استقامتها في الرفوف، وهي حائرة تفكر بسرعة جنونية في احتمالات متنوعة، تحاول الكذب على نفسها بأن حورية ستظهر بعد حين وسيتبخر القلق والخوف ويتلاشى الهرج والمرج مباشرة بعد رجوعها. لم تتمكن من المكوث في مكان مستقر لدقائق معدودة، بل تتحرك دوماً وتكلم نفسها بصوت مرتفع مكررة عبارات واحدة مقتضبة، متوسلة مثلما تفعل الثكلى وهي تندب فقيدها.‏
طال الانتظار واقترب الليل ولم تعد حورية. كيف تواجه آلام زوجها وكيف تبرر غياب ابنتها؟‏
كلما اقترب وقت رجوع الأب من العمل وازداد خوفها وتعاظمت اسئلتها بو زهير حميد من العمل منهكماً لا يفكر إلا في فنجان قهوة ساخنة وابرام سيجارة ثم التمدد فوق الحصيرة للاستراحة الكاملة. وجد البيت غارقاً في سكون وصمت غريبين، أين صيحات الأطفال وركضهم نحوه، راوين ما حدث لهم في ذلك اليوم وشاكين من أفعال بعضهم البعض وطالبين تحقيق بعض رغباتهم المتنوعة؟ أين الأم وحركاتها الخفيفة لتقديم كرسي للجلوس وماء للغسل وقهوة للارتشاف وازالة التعب؟‏
ولكن الارهاق الجسدي أنهك الأب الهادي، بحيث لم يلاحظ التحول السائد. قررت الأم الامتناع عن افشاء السر إلا بعد أن يستريح قليلاً ويتلذذ برشفات القهوة الساخنة ولكن ابنتها الصغيرة سبقتها وكشفت لأبيها الفضيحة وهي جالسة على ركبته. ابتسم بو زهير حميد ابتسامة ساخرة من هراء ابنته وتخريفها. القي بصره النافذ تجاه الأم وطلب منها تفسير اللغز. ربما هناك شيء ما لم تهضمه الطفلة البريئة. ارتعدت الأم من جديد وانتحرت الكلمات في حلقها، تلعثمت وتلكأت لثوان ثم انهارت باكية ووسط الشهيق والدموع المنهارة، قالت بأن حورية اختفت منذ الصباح ولم يعثروا لها على أثر رغم الاستقصاءات المتكررة. ولتبديد الخوف أسترسلت في اسهال لفطي سريع رواية كل تفاصيل الحادث منذ بدايته. بقي الأب مصعوقاً،مذهولاً، صامتاً، مبلبل الذهن يحالو اقناع نفسه بأن ما يسمعه أكذوبة حضرتها الأم مع أبنائها ليعدل عن قراره بتزويجها للسرجان. لم يتحرك من مكانه وحينما صمتت الأم فجأة فاسحة المجال مرة أخرى للبكاء والشهيق والتوسلات الهامدة، أطرق رأسه مفكراً في اللعنة التي لحقت به، ثم نهض وفتش الغرفتين والمطبخ ودورة المياه، وبعد ذلك خرج إلى الحديقة،طاف حول أركانها وخباياها وحينما لم يعثر على حورية دخل على زوجته المطبخ، هز كتفيها بعنف وطلب منها التأكيد على صحة الحادث، لم يصدق ما سمعه، حورية لا يمكن أن تفضحهم بهذا الشكل المخزي، إنها عاقلة وناضجة ومسؤولة أيضاً. ازدادت الأم بكاء وعويلاً، استقصي الأب عن الأماكن التي بحثوا فيها، وبعد التأكيد من أنهم لم يتركوا جاراً ولا قريباً في القرية إلا وسألوه، قال بعصبية ظاهرة أنها ستكون قد التجأت إلى أخوالها في الدشرة أو عند عمتها في المدينة فلا ينبغي القلق.. أين ستذهب؟ إنها فتاة، فلا يمكن لها الهيام على وجهها عبر شوارع المدن ودروب البراري.‏
كان الأب مطمئناً نوعاً ما. ليس لها خيارات أخرى غير الاختفاء عند الأقارب، لعلهم يسمعون شكواها ويتدخلون لفسخ الخطوبة المكرهة. لبس قشابيته مستعداً للخروج والبحث عنها، إلا أن الأم نبهته لقانون حظر التجول السائد في القرية منذ مدة طويلة فكيف يفسر وجوده خارج البيت في الليل، سيتهم بمساعدة المجاهدين ويسجن أو يقتل برذاذ رشاش دون رحمة أو شفقة مثلما الذئاب أو الخنازير البرية.‏
قضي الزوجان ليلة بيضاء، لم يعرفا خلالها نوماً ولا أكلا، تبادلا عبارات نادرة، متقطعة وتأوهات مسموعة متواصلة عبر الليل الطويل الذي لم يرد أن يتجلي إلا بعد أن تطلع الروح من مستقرها المؤقت، تبدو الساعة متوقفة، تدور عقاربها ببطء السلحفاة. طلب الأب قهوة بعد مرور منتصف الليل بكثير، ارتشف منها جرعات قليلة وحطها جانباً، إنه معروف بالهدوء والتحكم في الأعصاب، ولكن في هذه الليلة بالذات، ومع المصيبة النازلة على جسمه النحيف المرهق تحت ضغط جبروت المعمر، فقد رزانته وانهارت قواه، رغم إقناع نفسه أن ابنته اختفت عند أحد أفراد العائلة، تشكو حالها، وإذا... هربت بالفعل فكيف يواجه السرجان وأعيان القرية الذين شرفوه في بيته وطلبوا مصاهرته؟ لايملك الشجاعة الكافية للنظر في عيونهم الساخرة، المحتقرة، لو كان رجلاً قوياً، متحكماً في عائلته بقبضة من فولاذ لما تجرأت ابنته على الهروب من المنزل العائلي، لو حدث هذا بالفعل وتبين أن حورية قد هجرت البيت إلى مكان مجهول سيرحل من القرية نهائياً وفي أقرب وقت ممكن إلى مدينة بعيدة لا يعرفه فيها أحد. فكيف له أن يمكث في قرية عين الفكرون وسط النظرات المستفزة الساخرة للرجال والتمتمات القاتلة للنساء. يتضاعف غضبه أحياناً ويقسم قاطعاً أنه لن يتراجع قيد أنملة عن قرارة، وسيضربها ضرباً مبرحاً ويترك آثاراً عميقة على جسدها خاصة في الظهر والفخذين، سيجرها من الشعر عبر أزقة القرية كي يثبت رجولته للملأ ويضع حداً للسخرية والاستهزاء الجماعي. ثم بعد حين يلين قلبه ويتعاطف مع ابنته، يشيد قصراً من التبريرات ليقنع نفسه بالعفو عنها، رفضت الزواج بالسرجان المتزوج بأمرأة أخرى له معها أطفال بعدد أصابع اليد الواحدة، ويكبرها سناً، فلماذا لا يحترم رفضها ويتوجه رأساً إلى السرجان ليعلن تراجعه، هل يملك القوة لمواجهة رجل ذي مال وسلطة مثل السرجان ؟ يشك في نفسه . يشك في أن ينهار بمجرد الوقوف أمامه . فمكث الليلة كاملة ، يتأرجح بين موقفي القبول والرفض، دون أن يستقتر على رأي نهائي منتظراً انبلاج الفجر كي ينطلق في البحث عن حوريته المتمردة. ولكنه لم يعثر لها على أثر. طاف اليوم كله ركضاً من مكان إلى مكان حيث زار كل العائلات القريبة والبعيدة دون جدوى، عاد مع غروب الشمس منهكاً ومنكسر البال متمنياً من صميم قلبه الممزق أن يجدها في البيت.ولكنه بعدما دخل منزله ، خاب أمله وتبخرت أحلامه ، انتشر الخبر بين أهل القرية كالوباء وأصبح الناس لا يعرفون من الحديث إلا هروب حورية وكان السرجان من الأوائل الذين وصلهم الخبر. في البداية لم يصدق، إذ مثل هذا السلوك لا يحتمل وقوعه في هذه المنطقة الجبلية المحافظة على قيم الشرف والرجولة البدوية.‏

سمع عن مثل هذه الاختفاءات المؤقتة أيام كان في فرنسا منخرطاً في الجيش. تهرب بعض المراهقات من المنزل العائلي، حينما ترغم كارهة على القيام بفعل ما. أما في الجزائر، وفي وسط هذه الجبال بالضبط فمما لا يصدقه العقل.‏
أخبر السرجان جميع أهله وأصحابه من العرب والأوروبيين بنيته في الزواج مرة ثانية وأنه قد وقع اختياره على فتاة جميلة عذراء وسيقام العرس في بداية الصيف.‏
انتشر خبر اختفاء حورية بسرعة مذهلة، واتفق لسان القرية على أن الهاربة رفضت الزواج بالسرجان وفاضت بعض الألسنة المغرضة، العارفة بأسرار الجميع أنها تعشق الشاب مصطفى الذي التحق بالمجاهدين في بداية الثورة وكان يتصل بها خلال كل هذه السنين الماضية، يأتي إليها في الليل ربما يكون هو الذي خطفها، بعد أيام من البحث والتحريات لم يجد الأب أثر لها في كل المنطقة، سافر إلى العاصمة وقضى فيه يومين يتجول عبر شوارعها يتفرس الوجوه لعله يتعرف على وجه ابنته، اقتنع الجميع بأن حورية التحقت بالمجاهدين، اختنق السرجان غيظاً واستشاط غضباً، كيف تفضل شاباً هارباً عن العدالة يهيم بوجهه عبر الجبال والأودية لا يعرف لنفسه مستقراً، معرضاً نفسه للموت المؤكد في كل لحظة وتترك العز المادي والرفاهية والأمن والاستقرار؟. احتار في أمرها... تعرض نفسها للجوع والبرد وتترك عائلتها في فضيحة لم تحدث قبل ذلك لأحد، وكان أمامها حل تحلم به كل فتيات القرية، شعر بالاهانة والاحتقار النفسي وصغرت قيمته، هو السرجان صاحب المال والسطوة فتاة فقيرة لا تساوي شيئاً أمام شخصيته الموموقة..‏
قدام الناس تظاهر باللامبالاة، كأن الأمر لم يمسه لا من قريب ولامن بعيد، قال بأنه كان صافياً في غرضه، أراد الزواج مرة ثانية مثلما يفعل أغنياء القوم، وبما أنه وقع اختياره على عائلة مهزوزة ورجل ضعيف لا حول له ولا قوة فإنه سينتقي عائلة أخرى يصاهرها.‏
وصب جل غضبه وسخطه على الأب الضعيف الذي تنعدم فيه صفات الرجولة، وإلا لما بقي مكتوف الأيدي ، ساكتاً، منهزماً مختفياً في بيته بين أحضان زوجته، أضاف أنه لو قدر أن حدثت له مثل هذه الواقعة، لطاردها في كل مكان حتى عند الغلاقة ولأحضرها ووفى بوعده لأن الرجل لا يساوي إلا ما تساويه كلمته ووعوده. تكلم السرجان كثيراً ليغطي هزيمته أمام الناس ويظهر أمام أهل القرية أنه شجاع ولم يعتبر حورية ألا كأية امرأة عادية.‏
انتطع الأب عن العمل مدة أسبوع وهو يبحث في كل الاتجاهات دون جدوى وحينما أراد استنئناف شغله، قابله صاحب الورشة في الباب ومنعه من الدخول صارخاً في وجهه أن الورشة ليست قهوة "خالي موح" يدخلها متى شاء ولما طلب راتب الأيام التي اشتغل فيها نهره المعمر قائلاً بأنه غيابه سبب له خسائر جسيمة لأنه لم يلب طلبات زبائنه.‏
محنة ثانية انهالت على رأس الرجل المسكين طرحته الفراش لأيام عديدة كاد يفارق الحياة، لولا زيارة مفاجئة في منتصف احدى الليالي الممطرة، قام بها أحد المجاهدين ليبلغه أن ابنته حورية تسلم عليه وتطلب منه العفو وأنها تتمتع بصحة جيدة وسط المجاهدين والمجاهدات تتعلم مهنة التمريض. إنها تقوم بواجبها تجاه الوطن والثورة وعليه التحلي بالشجاعة وأن لا يهتم بأقاويل أهل القرية.‏
استيقط مصطفى عمروش من غفوته والابحار في سرداب الذكريات البعيدة تحت طرقات قوية على الباب الخارجي وصوت رجل ينادي باسمه. نهض متثاقلاً، ألقى نظرة إلى الساعة الجدارية، وجدها تقترب من الخامسة، فاندهش لسرعة مرور الوقت خلال الظهيرة، لم يكن يعي إن كان بقي مستيقظاً طول الوقت أم غفا في نوم خفيف. لم يغير من وضعية تمدده. أمام الباب وجده "بو زهير حميد" أب حورية حبيبة شبابه وزوجته الأولى ، وجهه يتصبب عرقاً ويلهث من الصياح، يبدو التعب والغضب على قسماته، تقوّس ظهره من الكبر وما زال جسمه يحافظ على النحول. بمجرد ظهور مصطفى على عتبة الباب الخارجي قال شاكياً: السرجان الخبيث ياسي مصطفى..... أنه في المقهى يطعن في شرف ابنتي حورية وابنك جمال، يقول كلاماً جارحاً لا أتحمله..... أنها استشهدت منذ سنين فلماذا النبش في قبور الموتى.‏
ودون اجابة دخل مصطفى عمروش بيته، وخرج بعد قليل وبين يديه بندقية في وضعية الهجوم وأتم الاستعداد لاطلاق النار، لم يكن بو زهير حميد ينتظر مثل هذا الجواب.‏
كان أكبر ما يتوقعه أن يطلب مصطفى من السرجان الكف عن هذه الافتراءات بطريقة سلمية، صعقه المشهد، وسمره لثوان في مكانه أمام الباب. حينما تفطن للخطورة وركض خلفه لينهره عن القتل كان مصطفى عمروش بخطواته السريعة تحت تأثير الغضب والحقد والانتقام المشروع، قد انعرج عبر الشارع الرئيسي متجهاً صوباً دون تردد نحو مقهى السرجان مصمماً على ألا ترتعش يداه وألا يلين قلبه.

__________________
 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
الفصل الاول من روايت(البطاقة السحريه) أبو أسامة قصص قصيرة 2 10-15-2007 12:58 AM
مسلسل كرتوني للكبار هدفه السخريه و الاستهزاء بديننا و وطننا saad0com نور الإسلام - 6 01-08-2007 05:51 PM
قصص طريفة منها الطريف و المخيف حصلت لي أنا شخصياً خالد الشهري((الجزء الثاني)) K.Naruto أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 4 11-05-2006 03:33 PM
المركز الأول و الثاني والثالث في مسابقة ملكة جمال المنتدى. عين السحر أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 15 08-11-2006 05:54 PM


الساعة الآن 11:14 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011