عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيون الأقسام العامة > مواضيع عامة

مواضيع عامة مواضيع عامة, مقتطفات, معلومات عامه, مواضيع ليس لها قسم معين.

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-01-2009, 05:53 PM
 
الحج

الفصل الأول
في فرضيّة الحج وَشروطها

المبحث الأول : في فرضية الحج وحكمة مشروعيته.
المبحث الثاني : في شروط فرضية الحج.

المبحث الأول
في فرضية الحج وحكمة مشروعيته

1- تعريف الحج :
الحَجُّ في اللغة : القصد إلى مُعَظَّم.
وفي الشريعة : قصد البيت العتيق لأداء الأفعال المفروضة من الطواف بالكعبة والوقوف بعرفة محرماً بنية الحج.
2- فرضية الحج وأدلتها:
الحج فريضة محكمة، محتمة، ثبتت فرضيته بالقرآن والسنة والإجماع.
دليل الكتاب : فقد قال تعالى في سورة آل عمران : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُ البَيْتِ مَنِ اَسْتَطَاعَ ِإلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
فهذه الآية نص في إثبات الفرضية، حيث عبر القرآن بصيغة {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} وهي صيغة إِلزام وإيجاب، وذلك دليل الفرضية.
دليل السنة : فمنها حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج" متفق عليه.
وعن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ..." رواه مسلم والنسائي.
دليل الإجماع : فقد تمَّ الإجماع منذ الصحابة إلى يومنا هذا، وأجمعوا على أن الحج فريضة محكمة على كل مستطيع في العمر مرة واحدة.
حكم العلماء على منكر هذه الفريضة وعلى من اعتقد حجاً آخر بدل الحج إلى الكعبة المشرفة والمناسك أنه مرتد عن الإسلام، كافر بالله ورسوله، والعياذ بالله تعالى.
3- التعجيل بالحج :
لكن اختلفوا في وجوب الحج هل هو على الفور أو على التراخي :
ذهب الإمام أبو حنيفة في رواية عنه ومالك وأحمد إلى أنه يجب على الفور، فمن تحقق فرض الحج عليه في عام فأخره يكون آثماً. واستدلوا بأدلة منها :
1) الحديث "من ملك زاداً وراحلته تبلغه إلى بيت الله الحرام ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً" اخرجه الترمذي.
وذهب بعض الحنفية والشافعي إلى أنه يجب على التراخي فلا يأثم المستطيع بتأخيره، لكن التأخير إنما يجوز بشرط العزم على الحج في المستقبل، فلو خشي العجز أو خشي هلاك ماله حرم التأخير، أما التعجيل بالحج لمن وجب عليه فهو سنة عند الشافعي، ما لم يمت، فإذا مات تبين أنه كان عاصياً من آخر سنوات الاستطاعة، ودليلهما :
1) أن الأمر بالحج في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُ البَيْتِ} مطلق عن تعيين الوقت، فيصح أداؤه في أي وقت، فلا يثبت الالزام بالفور لأن هذا تقييد للنص، ولا يجوز تقييده إلا بدليل، ولا دليل على ذلك.
2) أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة عام ثمان من الهجرة، ولم يحج إلا في السنة العاشرة، ولو كان الحج واجباً على الفور لما وقع منه صلى الله عليه وسلم هذا التأخير.
ومهما الأمر فلا شك أن التعجيل بالأداء أفضل وأحوط، فينبغي على المؤمن أن يبادر لأداء الحج وهو في صحته وشبابه ويسره، ولا يؤخره حتى يوشك أن يفوته لتقدم سنة فيؤديه بغاية المشقة ويحرم نفسه المتعة الروحية في الحج بسبب وهنه وشيخوخته، وإن الفكرة الشائعة بين الناس من تحبيذ تأخير الحج، أو التعجب ممن يعجل بأدائه لهي من نسج الشيطان وجنوده المنافقين الذي يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وذلك مما يجب محاربته والتحذير من أخطاره.
4- حكمة مشروعية الحج :
تشتمل فريضة الحج على حكم جليلة كثيرة تمتد في ثنايا حياة المؤمن الروحية، ومصالح المسلمين جميعهم في الدين والدنيا، منها :
آ- أن في الحج إظهار التذلل لله تعالى، وذلك لأن الحاج يرفض أسباب الترف والتزين، ويلبس ثياب الإحرام مظهراً فقره لربه، ويتجرد عن الدنيا وشاغلها التي تصرفه عن الخلوص لمولاه، فيتعرض بذلك لمغفرته ورحماه، ثم يقف في عَرفَة ضارعاً لربه حامداً شاكراً نعماءه وفضله مستغفراً لذنوبه وعَثَرَاتِه، وفي الطواف حول الكعبة البيت الحرام يلوذ بجناب ربه ويلجأ إليه من ذنوبه ومن هوى نفسه ووسواس الشيطان.
ب- أن أداء فريضة الحج يؤدي شكر نعمة المال، وسلامة البدن، وهما أعظم ما يتمتع به الإنسان من نعم الدنيا، ففي الحج شكر هاتين النعمتين العظيمتين، حيث يجهد الإنسان نفسه وينفق ماله في طاعة ربه والتقرب إليه سبحانه، ولا شك أن شكر النعماء واجب تقرره بداهة العقول، وتفرضه شريعة الدين.
جـ- أن الحج يربي النفس على روح الجندية بكل ما تحتاج إليه من صبر وتحمل ونظام، وخلق سام يتعاون به المرء مع الناس، ألا ترى الحاج يتكبد مشقات الأسفار حتى يتجمع الحجاج كلهم في مكة، ثم ينطلقون انطلاقاً واحداً يوم الثامن من ذي الحجة لأداء المناسك، فيتحركون جميعاً ويقيمون جميعاً، وهم في ذلك مسرورون منقادون، لا تلفتهم مشقات الزحام، ولا تزعجهم أعباء تلك التنقلات.
د- يجتمع المسلمون من أقطار الأرض في مركز اتجاه أرواحهم، ومهوى أفئدتهم، فيتعرف بعضهم على بعض، ويألف بعضهم بعضاً، هناك حيث تذوب الفوارق بين الناس، فوارق الغنى والفقر، فوارق الجنس واللون، فوارق اللسان واللغة، تتحد كلمة الإنسان في أعظم مؤتمر بشري، مؤتمر كله خير وبر وتشاور، وتناصح وتعاون على البر وتآزر.
هـ- وفي الحج ذكريات تغرس في النفس روح العبودية الكاملة، والخضوع الذي لا يتناهي لأوامر الله وشريعته، هناك العبرة تنبثق في ثنايا النفس المؤمنة، توجهها نحو بارئها بالطاعة والتبتل، فعند هذا البيت حطّ أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام رَحْلَهُ بزوجه هاجر ووليده إسماعيل.
فضيلة الحج :
قال تعالى : {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ... } [الحج: 27-28].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" أخرجه الستة إلا أبا داود.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو(1) ثم يباهي بهم الملائكة .. " أخرجه مسلم والنسائي.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكيرُ خَبثَ الحديدِ والذهب والفضة، وليس للحَجَّة المبرورة ثواب إلا الجنة". أخرجه الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه.
_________________-
(1) يتجلى

المبحث الثاني
5- في شروط فرضية الحج

الشرط الأول : الإسلام :
فلو حج الكافر ثم أسلم بعد ذلك تجب عليه حجة الإسلام، لأن الحج عبادة، بل هو من أعظم العبادات والقربات، والكافر ليس من أهل العبادة.
الشرط الثاني : العقل :
لأن العقل شرط للتكليف، والمجنون ليس مكلفاً بفروض الدين، بل لا تصح منه إجماعاً لأنه ليس أهلاً للعبادة، فلو حج المجنون فحجه غير صحيح، فإذا شفي من مرضه وأفاق إلى رشده تجب عليه حجة الإسلام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم : "رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل" أخرجه الترمذي وحسنه، وأبو داود، وابن ماجه.
الشرط الثالث : البلوغ :
لأن الصبي ليس بمكلف، فلو حج صح حجه وكان تطوعاً.
الشرط الرابع : الحرية :
فالعبد المملوك لا يجب عليه الحج، لأنه مستغرق في خدمة سيده.
الشرط الخامس : الاستطاعة :
فلا يجب الحج على من لم تتوفر فيه، لأن القرآن خص الخطاب بهذه الصفة في قوله تعالى : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُ البَيْتِ مَنِ اَسْتَطَاعَ ِإلَيْهِ سَبِيلاً}.
والاستطاعة التي تشرط لوجوب الحج قسمان :
القسم الأول : الاستطاعة التي تشترط في الرجال والنساء :
القدرة على الزاد وآلة الركوب، وصحة البدن، وأمن الطريق، وإمكان السير.
آ- القدرة على الزاد وآلة الركوب والنفقة :
ذهب الجمهور الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه يختص اشتراط القدرة على آلة الركوب بمن كان بعيداً عن مكة ذهاباً وإياباً.
والمسافة البعيدة عند الشافعية والحنابلة فهو من كان بينه وبين مكة مرحلتان، وهي مسافة القصر عندهم. وتقدر بـ 88.5 كم.
وعند الحنفية تقدر بـ 81 كم وقيل 83.5 كم.
وذهب المالكية إلى أنه يجب عليه الحج إذا كان صحيح البنية يقدر على المشي، وهو يملك الزاد.
اختلاف العلماء في الزاد ووسائل المواصلة هل يشترط ملكية المكلف لما يحصلها به أو لا يشترط ؟ :
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن ملك ما يحصل به الزاد ووسيلة النقل شرط لتحقق وجوب الحج.
وذهب الشافعي إلى أَنه يجب الحج بإباحة الزاد والراحلة إذا كانت الإباحة ممن لا منَّةَ له على المباح له، كالوالد إذا بذل الزاد والراحلة لابنه.
- شروط الزاد وآلة الركوب وما يتفرع عليها :
وقد ذكر العلماء شروطاً في القدرة على الزاد وآلة الركوب هي تفسير وبيان لهذا الشرط، نذكرها فيما يلي :
أ- أن الزاد الذي تشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه في ذهابه ورجوعه من مأكول ومشروب وكسوة بنفقة وسط لا إسراف فيها ولا تقتير، فلو كان يستطيع زاداً أَدنى من الوسط الذي اعتاده لا يعتبر مستطيعاً للحج، ويتضمن اشتراط الزاد أيضاً ما يحتاج إليه من آلات للطعام والزاد مما لا يستغنى عنه.
ب- صرح الفقهاء : بأنه يشترط في الراحلة أن تكون مما يصلح لمثله إما بشراء أَو بكراء.
ومعلوم أن تقدم الحضارة أَلغى استعمال الدواب في الأسفار وأَحل مكانها الطائرات والبواخر والسيارات، فمن وجد نفقة وسيلة للسفر لا تناسبه لا يكون أيضاً مستطيعاً للحج حتى يتوفر لديه أَجر وسيلة سفر تناسب أمثاله.
جـ- إن ملك الزاد ووسيلة النقل يشترط أن يكون فاضلاً عما تمس إليه الحاجة الأصلية.
والحاجة الأصلية تشمل ثلاثة أمور هي :
1) نفقة عياله ومن تلزمه نفقتهم مدة ذهابه وإيابه، لأن النفقة حق للآدميين، وحق العبد مقدم على حق الشرع، وقد روى عبد الله ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت" أخرجه أبو داود والحاكم.
2) ما يحتاج إليه هو وأهله من مسكن، ومما لابد منه لمثله كالخادم وأثاث البيت وثيابه بقدر الأعتدال المناسب له في ذلك كله.
3) قضاء الدين الذي عليه، لأن الدين من حقوق العباد، وهو من حوائجه الأصلية فهو آكد، وسواء كان الدين لآدمي أو لحق الله تعالى كزكاة في ذمته، أو كفارات ونحوها.
فإذا ملك الزاد والحَمولة زائداً عما تقدم فقد تحقق فيه الشرط، وإلا لم يجب عليه الحج.
وهنا فروع تتعلق بهذه المسألة نذكر منها :
1) ذهب الحنفية إلى أنَّ من كان له مسكن واسع يفضل عن حاجته بحيث لو باع الجزء الفاضل عن حاجته من الدار الواسعة لو في ثمنه للحج لا يجب عليه البيع.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب البيع.
وذهب الحنفية أيضاً إلى أنه لو كان مسكنه نفسياً يفوق على مثله لو أبدل داراً أدنى لوَفَّى تكاليف الحج، لا يجب عليه البيع.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب ذلك.
2) من ملك بضاعة لتجارته هل يلزمه صرف مال تجارته للحج ؟
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه يشترط بقاء رأس مال لحرفته زائداً على نفقة الحج، ورأس المال يختلف باختلاف الناس، والمراد ما يمكنه الاكتساب به قدر كفايته وكفاية عياله لا أكثر، لأنه لا نهاية له.
وذهب الشافعي إلى قولين الأصح أنه يلزمه صرف مال تجارته لنفقة الحج ولو لم يبق له رأسمال لتجارته.
3) من ملك نفقة الحج وأراد أن يتزوج فله حالان :
الحال الأولى : إن يكون في حالة اعتدال بالنسبة للشهوة فهذا يجب عليه تقديم الحج على الزواج إذا كان ملك ذلك في أشهر الحج.
الحال الثانية : أن يكون في حالة توقان نفسه والخوف من الزنا، فهذا يكون الزواج في حقه مقدماً على الحج إتفاقاً.
4) إذا ملك نقوداً لشراء دار يحتاج إليها وجب عليه الحج، وإن جعلها في غيره أثم، إذا حصلت له النقود وقت خروج الناس للحج، أما قبله فيشتري به ما شاء لأنه مَلَكَه قبل الوجوب.
5) ليس من الحوائج الأصلية ما جرت به العادة المُحْدَثَة برسم الهدية للأقارب والأصحاب، فلا يعذر بترك الحج لعجزه.
ب- صحة البدن :
1) إذا وجدت سائر شروط الحج في شخص وهو مريض زَمِن أو مصاب بعاهة دائمة أو مقعد أو شيخٍ كبير لا يثبت على آلة الركوب بنفسه فلا يجب عليه أن يؤدي هو فريضة الحج اتفاقاً، ولكن اختلفوا هل صحة البدن شرط لأصل الوجوب أو هي شرط للأداء بالنفس - أي لوجوب أداء الحج بنفسه -.
ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنها شرط للوجوب، وبناء على ذلك لا يجب على فاقد صحة البدن أن يحج بنفسه ولا بإنابة غيره ولا الإيصاء بالحج عنه في المرض، لقوله تعالى : {مَنِ اَسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً }، وهذا غير مستطيع بنفسه فلا يجب عليه الحج.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن صحة البدن ليست شرطاً للوجوب، بل هي شرط للزوم الأداء بالنفس، فمَن كان هذا حاله يجب الحج عليه.
ويتفرع على ذلك :
1) أَن مَنْ كان قادراً على الحج بمساعدةِ غيره كالأعمى وجب عليه الحج بنفسه إذا تيسر له مَن يعينه تبرعاً، أو بأجرة إن كان قادراً على أجرته إذا كانت أجرة المثل، ولا يكفيه حج الغير عنه إلا بعد أن يموت. ومن لم يستطع الحج بمساعدة غيره وجب عليه أن يرسل غيره ليحج عنه. ويجب على المريض أن يوصي بالحج عنه بعد موته.
2) إذا وجدت شروط الحج مع صحة البدن فتأخر حتى أصيب بعاهة تمنعه من الحج ولا يُرجَى زوالهُا فالحجُّ واجب عليه اتفاقاً، ويجب عليه أَن يرسل شخصاً يحج عنه. أَما إذا أُصيب بعاهة يرجى زوالها فلا تجوز الإنابة، بل يجب عليه الحج بنفسه عند زوالها عنه.
3) ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه من كان غير مُعافى وملك المال وجب أن ينيب من يحج عنه.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى وجوب ذلك، وهذا هو الأحوط لبراءة الذمة.
ج- أمن الطريق وعدم الحبس أو المنع من السلطان أو الخوف منه :
وذلك وقت خروج الناس للحج، ومثله تنظيم الدور إن لم يستطع تخطيه لأن الاستطاعة لا تثبت دونه. واختلفت الرواية في أمن الطريق بين الفقهاء :
ذهب أبو حنيفة في رواية والشافعية وأحمد في رواية إلى أنه شرط الوجوب، لأن الاستطاعة لا تتحقق بدون أمن الطريق.
وذهب أبو حنيفة في رواية أخرى وهي الأصح وأحمد في رواية أخرى وهي الراجحة إلى أنه شرط للأداء لا للوجوب وهو الأصح، فعلى هذا المذهب من استوفى شروط الحج عند خوف الطريق فمات قبل أمنه يجب عليه أن يوصي بالحج. أما إذا مات بعد أمن الطريق فتجب الوصية اتفاقاً بين الجميع.
د- إمكان السير :
وهو أن تكمل فيه شرائط الحج والوقت متسع يمكنه الذهاب للحج.
ذهب الحنفية والشافعية إلى أنه شرط لأصل الوجوب.
وذهب الحنبلية إلى أنه شرط للأداء.
القسم الثاني : الشروط الخاصة بالنساء :
أما الشروط الخاصة بالنساء فهي شرطان لابد منهما لكي يجب الحج على المرأة، يضافان إلى شرط الاستطاعة التي ذكرناها، وهذان الشرطان هما : الزوج أو المحرم، وعدم العدة :
أ- الزوج أو المحرم الأمين :
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه يشترط أن يصحب المرأة زوجها أو ذو رحم محرم منها مؤبد التحريم - إذا كانت المسافة بينها وبين مكة ثلاثة أيام، وهي مسيرة القصر في السفر : (83 كيلومتراً أو 88.5).
استدلوا بحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم" أخرجه الشيخان.
وذهب الشافعية إلى أنها إذا وجدت نسوة ثقات اثنتين فأكثر تأمن معهن على نفسها كفى ذلك بدلاً من المحرم أو الزوج بالنسبة لوجوب حجة الإسلام على المرأة، وعندهم: "الأصح أنه لا يشترط وجود محرم لإحداهن لأن الأطماع تنقطع بجماعتهن" فإن وجدت امرأة واحدة ثقة فلا يجب عليها الحج، لكن يجوز لها أن تحج معها حجة الفريضة أو النذر، بل يجوز لها أن تخرج وحدها لأداء الفرض أو النذر إذا أمنت.
وذهب المالكية : إلى أنَّ المرأة إذا لم تجد المحرم أو الزوج ولو بأجرة تسافر لحج الفرض أو النذر مع الرفقة المأمونة، بشرط أن تكون المرأة بنفسها هي مأمونة أيضاً. والرفقة المأمونة جماعة مأمومنة من النساء أو الرجال الصالحين.
أما حج النفل فلا يجوز للمرأة السفر له إلا مع الزوج أو المحرم فقط، باتفاق العلماء، ولا يجوز لها السفر بغيرهما، بل تأثم به.
وههنا مسائل تتعلق بالمحرم :
1) اختلفوا في المحرم هل هو شرط وجوب أو شرطٌ للزوم الأداء بالنفس، والراجح أنه شرط للزوم الأداء بالنفس.
2) يشترط في المحرم أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً صاحب استقامة، لكي يحصل به المقصود وهو حمايتها ورعايتها. وذهب الحنفية والحنبلية إلى أنه لو كان محرمها فاسقاً فإنه لا يكفي لتوفر الشرط في حقها، لأن المقصود لا يحصل به.
وذهب المالكية مثل ما ذهب إليه الحنيفة والحنبلية، لكن لم يشترطوا البلوغ بل التمييز والكفاية. أما عند الشافعي فلا تشترط العدالة في المحرم والزوج، بل يكفي ولو كان فاسقاً إذا كان له غَيْرَة تمنعه أن يرضى بالزنا. وتشترط الثقة في النساء.
3) ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه يشترط أن تكون قادرة على نفقتها ونفقة المحرم، لأنه يستحقها عليها، أما الزوج فعليه هو نفقتها.
وذهب المالكية والشافعية إلى أن له أخذ الأجرة إذا كانت أجرة المثل.
4) ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه إذا وجدت محرماً لم يكن للزوج منعها من الذهاب لحج الفرض، ويجوز أن يمنعها من الحج النفل.
وقال الشافعية : ليس للمرأة الحج إلا بإذن الزوج فرضاً أو غيره، لأن في ذهابها تفويت حق الزوج، وحق العبد مقدم، لأنه فرض بغير وقت إلا في العمر كله، فإن خافت العجز البدني بقول طبيبين عدلين لم يشترط إذن الزوج.
ب- عدم العدة :
ذهب الحنفية إلى أنه يشترط ألا تكون المرأة معتدة عن طلاق رجعي أو سابق أو وفاة مدة إمكان السَّيْرِ للحج، لأن الله تعالى نهى المعتدات عن الخروج من بيوتهن بقوله : {لا تُخرِجُوهُنَّ من بيوتهِنَّ ولا يخرُجْنَ إلا أنْ يأتينَ بفاحشةٍ مُبيِّنةٍ} [الطلاق: 1] والحج يمكن أداؤه في وقت آخر فلا تلزم بأدائه الآن.
وذهب الحنبلية إلى أنه لا تخرج المرأة إلى الحج في عدة الوفاة، ولها أن تخرج إليه في عدة الطلاق المبتوت، وذلك لأن لزوم البيت فيه واجب في عدة الوفاة والطلاق المبتوت لا يجب فيه ذلك وأما عدَّة الرجعية فالمرأة فيه بمنزلتها في طلب النكاح لأنها زوجة.
وذهب الشافعية : إلى أنَّ للزوج أن يمنع المطلقة الرجعية للعدة وذلك لأنه يحق للزوج عندهم منعها عن حجة الفرض.

الفصل الثاني
6- الحَج عن الغَيْر

مشروعية وشروط وجوب الإحجاج :
ذهب الجمهور - الحنفية والشافعية والحنابلة - إلى أنه من وجب عليه الحج فحضره الموت قبل أن يحج عليه أن يوصي بالإحجاج عنه، ومن استوفى شروط وجوب الحج بنفسه فلم يحج عن الأداء بنفسه لكبر سن أو مرض مزمن لا يرجى برؤه، أو ذهاب البصر أو عدم أمن الطريق أو عدم المحرم بالنسبة للمرأة، وكذا من توفرت فيه سائر شروط وجوب الحج في حالة العجز عن الأداء يجب عليهما الاحجاج عن أنفسهما، أو الوصية بالاحجاج إذا لم يرسلا من يحجج عنهما.
والأصل في هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:
"جاءت امرأة من خَثْعَم عام حجة الوداع، قالت: يا رسول الله: إن فريضةَ اللهِ على عباده في الحجّ أدْرَكَتْ أبي شيخاً كبيراً لا يستطيعُ أنْ يستويَ على الراحلة فهل يقضي عنه أنْ أحجَّ عنه ؟ قال : "نعم". متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً أن امرأة من جُهَيْنَةَ جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : "إنَّ أمي نذَرَتْ أنْ تحجَّ فلم تحُجَّ حتى ماتت، أفأ حجُّ عنها ؟ ".
قال صلى الله عليه وسلم: "نعم، حُجّي عنها، أرأيتِ لو كانَ على أمِّك دينٌ أكنتِ قاضية؟! أقضوا اللهَ، فاللهُ أحقُّ بالوفاء" أخرجه البخاري والنسائي.
وذهب المالكية إلى الأخذ المالكية بالأصل، وهو عدم جريان النيابة في العبادة البدنية كالصوم.
7-شروط جواز الإحجاج:
أ- شروط الحج الفرض عن الغير:
يشترط لصحة حجة النائب عن الفريضة الواجبة على المحجوج عنه ما يلي:
1) يشترط أن يأمر الأصيل بالحج عنه، فلا يجوز الحج عن الغير الحي بدون إذنه اتفاقاً. ذهب الحنفية والمالكية إلى أنَّ الميت لا بد من وصيته، واستثنى الحنفية الوارث فإنه إذا حج أو أحج عن مورثه بغير إذنه فإنه يجزئه وتبرأ ذمة الميت إن شاء الله تعالى، إذا لم يكن أوصى بالحج عنه.
وذهب الشافعية والحنبلية إلى أنه مَن مات وعليه حج وجب الإحجاجُ عنه من تركته، سواء أوصى به أم لا، كما تُقْضَى منها ديونه سواء أوصى بها أم لا، فلو لم يكن له تَرِكَةٍ اسْتُحِبَّ لوارثه أن يُحِجُّ عنه، فإنْ حَجَّ عنه بنفسه أو أرسل مَنْ حج عنه سقط الحج عن الميت، ولو حج عنه أجنبي جاز، وإنْ لم يأذن له الوارث، كما يقضي دينه بغير إذن الوارث.
2) ذهب الحنفية إلى أنه تكون نفقة الحج من مال الآمر كلها أو أكثرها سوى دم التمتع القرآن فهما على الحاج عندهم، إلا الوارث إذا تبرع بالحج عن مورثه تبرأ ذمة الميت إذا لم يكن قد أوصى بالإحجاج عنه.
وذهب الشافية والحنابلة إلى إجازة أنْ يُتَبرَّعَ بالحج عن الغير مطلقاً كما يجوز أن يتبرع بقضاء دينه، من أي شخص كان، وتبرأ ذمته.
وذهب المالكية إلى أن الأمر تابع للوصية أو لتبرع النائب، لا لإسقاط الفريضة عن الميت.
3) ذهب الحنفية والمالكية إلى أنه يشترط أن يحج عنه من وطنه إن اتسع ثلث التركة، وإن لم يتسع يحج عنه من حيث يبلغ.
وذهب الشافعية والحنبلية إلى أنه يعتبر اتساع جميع مال الميت، لأنه دين واجب، فكان من رأس المال كدين الآدمي، لكن عند الشافعية يجب قضاء الحج عنه من الميقات، وقال الحنابلة يجب أن ينوب عنه من بلده.
4) أن يحج المأمور بنفسه : نص الحنفي والمالكية والشافعية على هذا الشرط.
فلو مرض المأمور أو حُبِسَ فَدَفع المال إلى غيره بغير إذن المحجوج عنه لا يقع الحج عن الميت، والحاج الأول والثاني ضامنان لنفقة الحج، إلا إذا قال الآمر بالحج اصنع ما شئت، فله حينئذ أن يدفع المال إلى غيره، ويقع الحج عن الآمر.
5) أن يحرم من الميقات بالحج أو العمرة عن الشخص الذي يحج عنه ويذكر اسمه حسبما أمر به من غير مخالفة، فلو أمره بالإفراد فقرن عن الآمر فهو مخالف ضامن للنفقات عند أبي حنيفة، أما إذا أمره بالإفراد فتمتع عن الآمر لم يقع حجه عنه ويضمن اتفاقاً عند أئمة الحنفية والشافعية، أما إذا أمره بالإفراد فقرن عن الآمر فيقع ذلك عن الآمر عند الشافعي، ولا يقع عن الآمر والنائبُ مخالف ضامن للنفقات عند أبي حنيفة.
6) أهلية المأمور لصحة الحج بأن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً، فلا يشترط أن يكون المأمور قد حج الإسلام عند الحنفية، بل تصح هذه الحجة البدلية وتبرأ ذمة الميت عندهم مع الكراهة التحريمية.
واستدلوا باطلاق حديث الخَثْعَمِيّة السابق، فإنه صلى الله عليه وسلم قال لها : "حجي عن أبيك" من غير استخبارها عن حجها لنفسها قبل ذلك.
وذهب الشافعية والحنبلية إلى أنه يُشْتَرَط لإجزاء الحج عن الغير أن يكون من يحج عن الغير قد حج حجة الإسلام.
واستدلوا بما أخرج أبو داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : لبيك عن شُبْرمَةَ قال : "من شبرمة ؟" قال : أخ لي أو قريب لي. قال: "حَجَجْتَ عن نفسك ؟" قال : لا. قال : "حُجَّ عن نفسك ثم حج عن شبرمة".

ب- الحج النفل عن الغير:
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أن حجَّ النفل لا يشترط فيه شيء منها إلا الإسلام، والعقل، والتمييز، والنية، وذلك لاتساع باب النفل، فإنه يُتَسامحُ في النفل ما لا يتسامح في الفرض. وهذا مذهب الحنفية وأحمد.
وذهب المالكية إلى إجازة ذلك مع الكراهة فيه وفي النيابة في الحج المنذور.
وذهب الشافعية إلى التفصيل في ذلك : وقالوا : لا تجوز الاستنابة في حج النفل عن حيّ ليس بمعضوب، ولا عن ميت لم يوص به. أما الميت الذي أوصى به والحي المعضوب إذا استأخر من يحج عنه ففيه قولان مشهوران للشافعية أصحهما الجواز، وأنه يستحق الأجرة.
الاستئجار على الحج :
ذهب الحنفية وأحمد في الأشهر إلى أنه لا يجوز الاستئجارُ على الحج فرضاً أو نفلاً، فلو عقدت الإجارة للحج عن الغير فهي عند أبي حنيفة باطلة، لكن الحجة عن الأصيل صحيحة، ويُسَمُّونَ الأجير مأموراً ونائباً. وقالوا : له نفقة المِثْل في مال الأصيل، لأنه حبس نفسه لمنفعة الأصيل، فوجبت نفقته في ماله.
وذهب الشافعية إلى جواز الاستئجار على الحج الفرض أو النفل، وبه أخذ المالكية مراعاة لخلاف الشافعية في جواز النيابة في الحج النفل.
__________________
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12-01-2009, 05:55 PM
 
الفصل الثَاني
13- ركن الحَجّ
المبحث الأول في
الوقوف بعَرَفَةَ:
عَرَفَةُ، وعرفاتٌ: بقعة أرض منبسطة تقع شرقيّ مكة على بعد (25 كيلو متراً) تقريباً.
والمراد من عبارة : "الوقوف بعرفة" المكث بهما كيفما كان. سمي وقوفاً لكون الوقوف بها مستحباً للدعاء.
دليل فرضيته : ركنية الوقوف بعرفة ثابتة بالكتاب والاجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى :
{وللهِ على الناسِ حجُّ البيتِ مَنِ اسْتطاعَ إليه سبيلا}.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الحج عرفة". وهذا تفسير للأمر القرآني بالحج.
وقال تعالى : {ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة : 199].
عن عائشة رضي الله عنها قالت : "كانت قريشٌ ومَنْ دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسَمَّوْنَ الحُمْسَ، وسائرُ العربِ يقفون بعرفاتٍ، فلما جاء الإسلام أمرَ اللهُ نبيهُ أنْ يأتيَ عرفاتٍ ثم يقفَ بها ثم يُفِيْضَ منها. فذلك قوله : "ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حيثُ أفاضَ النّاس". أخرجه البخاري.
وأما السنة : فعن عبد الرحمن بن يَعْمَر الدِّيلي أنّ أناساً مِنْ أهلِ نجدٍ أتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فسألوه فأمرَ منادياً يُنادي : "الحجُّ عرفةُ، مَنْ جاءَ ليلة جمْعٍ قبل طلوعِ لفجرِ فقد أدرك الحج. أيامُ مِنَىً ثلاثةٌ، فمن تعجل في يومين فلا إثْمَ عليه، ومَن تأخّر فلا إثمَ عليه". أخرجه أحمد وأصحاب السنن والحاكم وابن حبان.
وعن عُرْوَةَ بن مُضَرِّس الطائي قال: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمُزْدَلِفَة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسولَ الله إني جئتُ مِن جبلِ طّيءٍ أكلَلْتُ راحِلَتي، وأتعبْتُ نفسي، واللهِ ما تركتُ من جبلٍ إلا وقفتُ عليه، فهل لي من حَجٍّ ؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَهِدَ صلاتَنا هذه ووقَفَ معنا حتى يَدْفَعَ، وقد وقَفَ بعرفةَ قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجُّه وقضى تَفَثَه". أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي والحاكم.
وأما الإجماع : "فالأمة أجمعت على كون الوقوف ركناً في الحج".
14- شروط الوقوف بعرفة :
أ) مكان الوقوف :
عرفة كلها موقف، يصح أداء الركن في أي موضع منها إلا بطن وادي عُرَنَة.
وحدود عرفة: من الجبل المشرف على وادي عرنة إلى الجبال المقابلة له، إلى ما يلي منطقة البساتين المعروفة قديماً ببساتين بني عامر، ومسجد نمرة بعضُه ليس من عرفة فليتنبه.
وليس وادي عُرَنَة من الموقف، ولا يصح الوقوف فيه باتفاق أئمة المذاهب.
عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"قد وَقَفْتُ ههنا بِعَرَفَة، وعَرَفَة كلَّها مَوْقِف". أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه.
وعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كُلُّ عَرَفَة موقفٌ وارْفَعوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَة". أخرجه ابن ماجه ومثله عن ابن عباس صححه الحاكم على شرط مسلم.
ب- وقت الوقوف :
ذهب الحنفية والشافعية إلى أنهيبدأ وقت الوقوف بعرفة من زوال الشمس يوم عرفة - وهو تاسع ذي الحجة ويمتد إلى طلوع الفجر الصادق يوم عيد النحر، حتى لو وقف بعرفة في غير هذا الوقت كان وقوفه وعدم وقوفه سواء.
وذهب مالك إلى أن وقت الوقوف هو الليل، فمن لم يقف جزءاً من الليل لم يجز وقوفه وعليه الحج من قابل، وأما الوقوف نهاراً فواجب ينجبر بالدم بتركه عمداً لغير عذر.
وذهب الحنابلة إلى أن وقت الوقوف من طلوع الفجر من يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر.
وقد اتفق العلماء على أن آخر الوقت طلوع فجر يوم النحر.

15- ركن الوقوف:
أ) ركن الوقوف الذي لا يتم إلا به هو الكينونة بعرفة وقتاً يسيراً جداً.
وقد اتفق الفقهاء على أنه كيفما حصلت كينونته بعرفة في الوقت المحدد أجزأه، قائماً أو جالساً، راكباً أو ماشياً، وسواء كان عالماً بها أو جاهلاً، نائماً أو يقظان، وقف بها أو مرّ وهو يمشي، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : "وقَد وقَفَ بعرفةَ قبلَ ذلك ليلاً أو نهاراً .. " وغيره من الأحاديث.
ب- مقدار الزمن الذي يستغرقه الوقوف:
ذهب الحنفية والحنبلية إلى أنه نوعان:
1) زمان الركن : الذي تتأدى به فريضة الوقوف بعرفة، وهو أن يوجد في عرفة خلال المدة التي بيناها، ولو زماناً قليلاً جداً.
2) زمان الواجب: ذهب الجمهور إلى أن زمان الواجب يستمر من وقف بعد الزوال إلى أن تغرب الشمس، فلا يجاوز حد عرفة إلا بعد الغروب ولو بلحظة. يعني أن يجمع بين الليل والنهار بعرفة ولو قبل المغرب بقليل إلى ما بعده بلحظة. فلو فارق عرفة قبل الغروب وجب عليه دم.
وذهب الشافعية في المعتمد عندهم أن الجمع بين الليل والنهار بعرفة سنة وليس بواجب، ولا يجب على من تركه الفداء، لكنه يستحب له الفداء استحباباً وخروجاً من الخلاف.
ج- ويتفرع على هذا مسائل منها :
1) ذهب الحنفية إلى أن من دفع من عرفة قبل الغروب أي خرج منها، فجاوز حدودها قبل الغروب فعليه دم وذهب الشافعية إلى استحباب الدم.
وذهب مالك إلى بطلان الحج.
2) من دفع قبل الغروب ثم عاد قبل الغروب أيضاً واستمر حتى غربت الشمس صح حجه، وسقط عنه الدم اتفاقاً بين جميع الأئمة.
3) من دفع قبل الغروب ثم عاد بعد الغروب لا يسقط عنه الدم بالعود، عند الحنفية والحنابلة.
4) ذهب الجمهور إلى أنَّ من تأخر فوقف ليلاً ولم يدرك جزءاً من النهار بعرفة حتى غابت الشمس فحجه تام ولا شيء عليه.
وذهب المالكية إلى وجوب الدم عليه.
5) يصح الوقوف من المحدث والجنب والحائض والنفساء، فلا يشترط فيه الطهارة اتفاقاً، لأن أحاديث إجزاء الوقوف مطلقة عن اشتراط الطهارة، فتدل على عدم اشتراطها.
ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حاضت: "افعلي ما يفعلُ غيرَ أنْ لا تطوفي بالبيتِ حتى تَطْهُري" متفق عليه.
6) ذهب الحنفية والمالكية إلى أن من أُدْخِلَ عرفة وهو مغمىً عليه ولم يُفِقْ حتى خرج منها فقد أجزَأَه، لأنه لا يشترط له نية ولا طهارة، وقد صح من النائم فينبغي أن يصح من المغمى عليه. وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه لا يجزئه لأنه ركن من أركان الحج فلا يصح من المغمى عليه.
16- سنن الوقوف بعرفة :
أ- ذهب الحنفية والشافعية إلى استحباب الطهارة من الأحداث بأن يظل على وضوء مدة الوقوف، أما الغُسل من أجل الوقوف بعرفة.
ب- أن يجمع الحاج صلاة الظهر والعصر، تقديماً في وقت الظهر بأذان وإقامتين مع الإمام بعد خطبة عرفة، وذلك لاتباع السنة.
ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن هذا الجمع ليس من سنن الحج ومناسكه، بل من قبيل الجمع في السفر. ومذهب الحنفية أنه من مناسك الحج المسنونة، ومن هنا اشترطوا لجواز هذا الجمع أن تؤدي الصلاتان على الهيئة التي وردت بها السنة، وذلك بتوفر شرطي الإمام والإحرام فيهما، والمراد بالإمام ولي الأمر أو نائبه.
فلو لم يصلهما مع الإمام صلى كل صلاة في وقتها ولو جماعة، ولا يجمع بينهما.
وفي رواية عند الحنفية يجوز الجمع للمنفرد، ولمن صلوا جماعة بإمام غير ولي الأمر أو نائبه، لأن الجمع ثبت لأجل امتداد الوقوف إلى المغرب دون أي فاصل، وكل الناس سواء في الحاجة لذلك، فيسوغ لهم الجمع.
وأما القصر فهو من أحكام السفر، فمن كان مكياً أو قدم مكة للمكث بها مدة الإقامة الشرعية لا يجوز له قصر الصلاة إطلاقاً.
ج- التعجيل بالوقوف بعد ذلك لأن هذا اليوم من أفضل أيام الدنيا، يتنافس فيه المتنافسون.
د- أن يقف قرب جبل الرحمة عند الصخرات الكبار السود المفروشة أسفل الجبل، فذلك وصف مكان وقوفه صلى الله وسلم. أما الصعود على جبل الرحمة فليس بسنة، إنما هو من عمل العوام، فتنبه.
وصرح الشافعية بأن النساء يقفن في حواشي الموقف، لما فيه من المحافظة عليهن من أخطار الزحام والضياع.
هـ استقبال القبلة، اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم.
و- الإكثار من الدعاء والاستغفار والتهليل، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتلبية، بقلب حاضر خاشع غاية الخشوع لله تعالى، فإن الله يطلع على عباده في الموقف.
* * *

المبحث الثاني
طواف الزيارة

17- تعريف عام بالطواف:
الطواف لغة السير حول الشيء. وفي الشرع : السير حول الكعبة المعظمة أشواط.
18- والأطوفة المشروعة سبعة هي:
1- طواف القدوم : للحاج أول وصوله مكة.
2- طواف الزيارة بعد وقوف عرفة.
3- طواف الوداع في آخر مناسك الحج.
4- طواف العمرة.
5- طواف النذر الذي نذره الإنسان على نفسه فيجب الوفاء به.
6- طواف تحية المسجد الحرام، لداخل المسجد الحرام فهذا تحيته. فإن لم يطف صلى ركعتين تحية المسجد.
7- طواف التطوع.
19- طواف الزيارة أو طواف الإفاضة:
وهذا الطواف فرض في الحج، وهو ركن للحج، لذلك يسمى طواف الفرض، ويسمى طواف الركن أيضاً.
يُؤدَّى بعد أنْ يُفيض الحاج من عرفة ويبيت بالمزدلفة فيأتي منى يوم العيد فيرمي وينحر، ويحلق، ثم بعد ذلك يفيض إلى مكة فيطوف بالبيت، وذلك هو طواف الزيارة، لأنه يأتي من منى فيزور البيت ولا يقيم بمكة، بل يبيت بمنى. ويسمى أيضاً طواف الإفاضة لأنه يفعله عند إفاضته من منى إلى مكة.
ثبت طواف الزيارة بالكتاب والسنة:
دليل الكتاب:
فقوله تعالى : {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29].
فقد أجمع العلماء على أن ذلك في طواف الإفاضة، فيكون فرضاً بنص القرآن.
دليل السنة:
فقد حجت أم المؤمنين صفية مع النبي صلى الله عليه وسلم فحاضت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحابستنا هي ؟" قالوا: قد أفاضت. قال: "فلا إذَنْ" متفق عليه.
فدل الحديث على أن هذا الطواف فرض لابد منه، ولولا فرضيته لم يمنع مَنْ لم يأتِ به عن السفر.
20- شروط طواف الركن:
وهي أربعة نذكرها فيما يلي :
أ- أن يكون مسبوقاً بالإحرام وبوقوف عرفة: فلو طاف قبل الوقوف لا يسقط به الفرض.
ب- أداؤه في الوقت المحدد له شرعاً: ذهب الحنفية والمالكية إلى أنَّ وقته موسع، يبتدئ حين يطلع الفجر الثاني من يوم النحر أي العاشر من ذي الحجة، ولا يجوز قبله، فمهما طاف قبل هذا الوقت لا يكفيه عن طواف الركن.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن أول لطواف الإفاضة بعد منتصف ليلة يوم النحر لمن وقف بعرفة قبله.
- والأفضل عند الحنفية وغيرهم أداؤهيوم النحر الأول بعد الرمي والحلق.
- آخر زمان طواف الفرض فليس لآخره زمان معين موقت به لأدائه فرضاً بل جميع الأيام والليالي وقته اجماعاً.
لكن ذهب أبو حنيفة إلى إيجاب أدائه في أيام النحر وهي العاشر والحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة، فلو أخره حتى أداه بعدها صح ووجب عليه دم جزاء تأخيره.
وذهب المالكية في المشهور إلى أنه لا يلزمه بالتأخير شيء إلا بخروج ذي الحجة، فإذا خرج لزمه دم. وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه لا يلزمه شيء بالتأخير أبداً، فوقته عندهم مدى العمر، متى أداه سقط عنه ولا يجب عليه شيء، ولو أخره سنين كثيرة، لكنه يظل محرماً على النساء.
ملاحظة: ولا يكفي الفداء عن أداء طواف الإفاضة إجماعاً لأنه ركن، وأركان الحج لا يجزئ عنها البدل، ولا يقوم غيرها مقامها، بل يجب الإتيان بها بعينها.
وثمة شرطان يشملان طواف الإفاضة وغيره :
ج- النية: والمراد أصل النية.
ذهب الجمهور الحنفية والشافعية والمالكية إلى أن قصد مجرد الطواف يكفي، حتى لو نوى الطواف تطوعاً، أو نواه للوداع يقع عن طواف الإفاضة.
وذهب الحنابلة أنه يجب تعيين طواف الإفاضة في النية.
د- وقوع الطواف في المكان الخاص وهو حول البيت العتيق داخل المسجد الحرام، وهذا شرط متفق عليه.
والطواف بالبيت هو الطواف حوله، فيجوز الطواف في المسجد الحرام قريباً من البيت أو بعيداً عنه، مادام ضمن المسجد، ولو طاف من وراء مقام إبراهيم الخليل أجزأه، لأنه قد حصل حول البيت.
20- أركان الطواف:
وهي أركان لطواف الزيارة، ولكل طواف أيضاً.
أ- ذهب الحنفية إلى أنَّ ركن الطواف مجرد طواف الإنسان حول البيت العدد المطلوب من الأشواط سواء كان بفعله أو بفعل غيره بأن حمله الغير وطاف به، وسواء كان قادراً على الطواف بنفسه فأمر شخصاً أن يحمله في الطواف، أو حمله الآخر بغير أمره، فإن هذا كاف في أداء فرض الطواف وسقوطه عن الذمة، لأن الفرض أن يحصل الإنسان حول البيت، وقد حصل.
ب- عدد أشواط الطواف.
وعدد أشواط المطلوبة سبعة إجماعاً.
وقسم الحنفية السبع إلى ركن وواجب:
أما العدد الركن فأكثر هذه السبع، وأما الواجب فالأقل الباقي بعد أكثر الطواف.
وذهب الجمهور إلى أن الفرض سبعة أشواط، لا يجزئ أقل منها أبداً.
22- واجبات الطواف:
وهي ثمانية أمور يجب على الطائف أن يفعلها في كل طواف فرضاً كان أو واجباً أو نفلاً.
أ- التيامن: أي سير الطائف عن يمين الكعبة، وجعل يسار الطائف بجانب الكعبة.
ذهب الحنفية أنه لو افتتح الطواف عن يسار الحجر الأسود وطاف منكوساً يعتد به ويصح مع كراهة التحريم، فتجب الإعادة ما دام بمكة، وإن رجع إلى أهله يجب عليه الدم.
وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن هذا شرط لصحة الطواف، وأن طواف المنكوس باطل.
ب- إتمام الأشواط إلى سبعة:
ذهب الحنفية إلى أن الإتيان أكثر السبع هو الفرض، وأما الباقي فواجب.
وذهب الجمهور المالكية والشافعية والحنابلة: إلى أنَّ ترك شيء من أي طواف حكمه حكم ترك الطواف كله حتى يكمل ما تركه لأن كل الأشواط ركن عندهم في الطواف.
وقال الحنفية: لو ترك أكثر أشواط الوداع وهي أربعة لزمه دم، ولو ترك أقل من ذك لزمه لكل شوط صدقة.
أما طواف القدوم فلا يلزمه دم بترك أكثر أشواطه أو أقلها لأنه سنة، وعليه التوبة والاستغفار، وطواف التطوع كذلك بالأولى.
ولو طاف ثمانية أشواط مع علمه بذلك يلزمه إتمام سبعة أشواط أخرى، لأنه بالزيادة صار شارعاً بطواف جديد، فيجب عليه إتمامه لأن الشروع ملزم عندهم، ويجب عليه التوبة والاستغفار إن لم يتم.
ج- الطهارة عن الحدث والجنابة والحيض والنفاس:
ذهب الحنفية إلى أن الطهارة من الأحداث ليست بشرط ولا فرض في الطواف عند الحنفية بل واجبة. وأما الطهارة عن النجاسة الحقيقية في الثوب والبدن فالأكثر على أنها سنة مؤكدة.
وذهب الأئمة الثلاثة المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الطهارة من الأنجاس ومن الأحداث كلها شرط لصحة الطواف، إذا طاف فاقداً أحدها فطوافه باطل لا يعتبر به، سواء كان الطواف فرضاً أو واجباً أو سنة.
وبناء على هذا الخلاف:
ذهب الحنفية إلى أنَّ طواف المحدث والجنب والحائض والنفساء صحيح مع الإثم ويجب عليه الإعادة أو الجزاء على التفصيل الآتي في الجنايات.
وذهب الجمهور المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه لا عبرة بهذا الطواف وعليه العود لأدائه ويظل مُحرَّماً على النساء حتى يرجع ويؤديه بالنسبة لطواف الزيارة أو العمرة، وإن كان غير ذلك يلزمه ما يلزم تارك ذلك الطواف.
- من أحدث أثناء الطواف:
ذهب الحنفية والشافعية إلى أنَّ من أحدث في أثناء الطواف يذهب فيتوضأ ويتمم الأشواط ولا يعيدها. وذهب المالكية في المشهور والحنابلة إلى أنه يعيد الطواف من أوله ولا يبني على الأشواط السابقة.
د- ستر العورة:
ذهب الحنفية إلى أن ستر العورة واجب في الطواف.
وذهب الأئمة الثلاثة المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه شرط في الطواف لا يصح بدونه كما قالوا في الطهارة من الأحداث تماماً.
فمن أخل بستر العورة في الطواف الإخلال المفسد للصلاة بحسب كل مذهب فسد طوافه وعليه الإعادة.
هـ- ابتداء الطواف من الحجر الأسود:
ذهب الحنفية والمالكية إلى أن وجوب ابتداء الطواف من الحجر الأسود، فليزم الدم بترك البداية منه في طواف الركن.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه شرط، فلا يعتد بالشوط الذي لم يبدأ من الحجر الأسود عندهم ويحتسب بالشوط الثاني وما بعده، ويصبح الثاني أول الطواف، لأنه قد حاذى فيه الحجر بجميع بدنه، فإذا أكمل سبعة أشواط غير الأول صح طوافه وإلا لم يصح.
ولابد عندهم من محاذاة الحجر الأسود بجميع البدن، لأن ما وجب فيه محاذاة البيت وجبت محاذاته بجميع البدن، كالاستقبال في الصلاة.
و- أن يكون الحِجْرُ داخلاً في طوافه: ويسمى الحَطِيم وهو الموضع المحاط بجدار مقوس تحت الميزاب جهة شمال الكعبة.
ذهب الحنفية إلى أنه لو طاف بالبيت ولم يطف بالحطيم يجب عليه إعادة الطواف مادام في مكة، وإن رجع إلى بلده بغير إعادة فعليه دم.
وذهب الجمهور إلى أنه فرض في الطواف، مَن تركه لم يعتد بطوافه، لأنه جزء من الكعبة.
فمن ترك الطواف بالحِجْر لم يطف بجميع البيت فلا يصح طوافه أبداً، كما لو ترك الطواف ببعض بناء البيت نفسه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الحِجْر.
ز- المشي للقادر عليه:
مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، أنه لو طاف راكباً مع قدرته على المشي لزمه دم لتركه واجب المشي، إلا إذا أعاده ماشياً.
وذهب الشافعية إلى أنه سنة، وصرحوا بأنه لو طاف راكباً مع القدرة على المشي جاز بلا كراهية.
أما إذا كان عاجزاً عن المشي وطاف محمولاً فلا فداء عليه.
ح- ركعتا الطواف بعد كل سبعة أشواط:
ذهب الحنفية والمالكية إلى أنهما واجب.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنهما سنة مؤكدة.
وقال الشافعية والحنابلة: لو صلى الفريضة بعد الطواف أو نافلة أخرى أجزأته عن ركعتي الطواف إذا نواهما معها، ويندب إذا والى بين أكثر من طواف عقبه، ولو قصد كون الركعتين عن الكل كفى بلا كراهة.
وقال الحنفية: إنَّه يكره وصل الأسابيع، يعنون سبعة أشواط بسبعة أخرى قبل أن يصلي ركعتي الطواف. وإذا طاف أسبوعاً ووصله بآخر فإنْ تذكر قبل إتمام الشوط الأول قطع وصلى ركعتي الطواف، وإن تذكر بعد إتمام الشوط الأول فالأفضل أن يتمم الأسبوع الثاني ثم يصلي لكل أسبوع ركعتين.
وقال المالكية: الواجب الموالاة بين الطواف وبين ركعتيه لأنهما كالجزء منه حتى أن من أحدث بعده قبل صلاة ركعتيه أعاده عندهم. إلا إذا كان قد خرج من مكة وشق عليه الرجوع لإعادة الطواف، فإنه يصلي الركعتين ويبعث بالهدي فداء عن إعادة الطواف، وذلك إذا كان الطواف واجباً، أما إذا لم يكن واجباً فلا يجب عليه الهدي.
وذهب غير المالكية إلى أنَّ ركعتي الطواف تؤدان في كل مكان ولو في بلده البعيد، لكن في المسجد الحرام أفضل في أي مكان منه، ومستقبل المقام أفضل. وفي مكة أفضل من غيرها.
- الاحتراز عن أداء ركعتي الطواف في الأوقات المكروهة:
ذهب الحنفية إلى أنَّه يجب الاحتراز عن أدائهما في أوقات الكراهة، فلا تنعقد فيها عندهم، وهي: عند شروق الشمس حتى ترتفع، وعند استوائها حتى تزول، والزوال هو وقت الظهر، وعند اصفرارها حتى تغرب. وتنعقد مع الكراهة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وبعد صلاة العصر حتى تصفر، ووافقهم المالكية في الأوقات الثلاثة الأولى.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى عدم الكراهة.
ذهب الحنفية والشافعية إلى نية الاضطباع في كل الأشواط.
وذهب الحنابلة إلى استخباية.
وذهب المالكية إلى عدم رؤيته سنة ولا مستحباً.
23- سنن الطواف:
أ- الاضطباع: ومعناه أنه عند الشروع في الطواف يجعل وسط الرداء تحت إبطه اليمنى ويرد طرفيه على كتفه اليسرى، ويُبْقي كتفه اليمنى مكشوفة.
ويسن الاضطباع للرجال دون النساء في كل طواف بعده سعي، كطواف القدوم لمن أراد أن يسعى بعده وطواف العمرة وكطواف الزيارة إن أخَّر السعي إليه.
وهو سنة في كل أشواط الطواف. وهذا عند الحنفية والشافعية، وصرح الحنابلة باستحبابه. ولم يره المالكية سنة ولا مستحباً.
عن يعلى بن أمية : "أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مُضْطَبِعاً" رواه الترمذي. وقال : "حديث حسن صحيح".
والاضطباع سنة في جميع أشواط الطواف، فإذا فرغ من الطواف ترك الاضطباع، حتى أنه تكره صلاة الطواف مضطبعاً، وهذا أمر مهم ينبغي تنبيه الناس إليه، فإن العامة كثيراً ما يغترون فيواصلون الاضطباع، ويتعرضون لضرر أشعة الشمس فيما لا ثواب فيه.
ب- الرمل ثلاثة أشواط كاملة، ثم يمشي أربعة، والرمل معناه إسراع المشي مع تقارب الخطا وهز الكتفين من غير وثب، والرمل يُسَنُّ في كل طواف بعده سعي كالاضبطاع، باتفاق الأئمة الأربعة.
وكان ابتداء الرمل في عمرة القضاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : "قدمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مكةَ وقد وهنتهم حمّى يَثْرِبَ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قومٌ قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شراً، فأَطْلَعَ اللهُ نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوه، فأمرهم أنْيرمُلوا الأشواطَ الثلاثةَ وأنْ يمشوا ما بين الركنين، فلما رأوهم رملوا قالوا : هؤلاءِ الذينَ ذَكَرْتُم أنّ الحُمّى قدْ وَهَنَتْهُمْ، هؤلاء أجْلَدُ مِنْا ..." رواه البخاري ومسلم.
لكن الرّمَلَ ظل في الأشواط الثلاثة بتمامها، فقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حجته، وكانت بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجاً.
ملاحظة: ثم الرمل والاضطباع سنة في حق الرجال، أما النساء فلا يُسَنُّ لهن رمل ولا اضطباع.
ج- ابتداء الطواف من جهة الركن اليماني قريباً من الحَجَر الأسود، ثم يستقبل الحَجر مهللاً رافعاً يديه، وذلك ليتحقق ابتداء الطواف من الحجر الأسود.
ذهب الحنفية والمالكية إلى أنَّ المرور بجميع البدن على الحجر الأسود ليس واجباً.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه شرط واجب.
ولكن صرح المحققون في المذهب الحنفي باستحباب هذه الكيفية خروجاً من الخلاف.
فلو استقبل الحجر مطلقاً ونوى الطواف كفى في حصول المقصود الذي هو الابتداء من الحجر عند الحنفية والمالكية. ولابد أن يمر بجميع بدنه بالحجر الأسود عند الشافعية والحنابلة.
أما استقبال الحجر عند ابتداء الطواف فهو سنة عند الحنفية.
د- استلام الحجر وتقبيله في ابتداء الطواف وفي كل شوط، وبعد ركعتي الطواف وصفة الاستلام: أن يضع كفيه على الحجر، ويضع فمه بين كفيه ويقبله.
عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه قَبَّل الحجر وقال : "إني لأعلم أنك حجر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبلتك" متفق عليه.
وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طَوْفَةٍ. وكان ابن عمر يفعله" رواه أبو داود والنسائي.
والتحقيق أنه يستحب أنْ يسجدَ على الحَجَر، لما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد على الحجر".
أما إذا كان في الطواف زحام فالأولى أن يترك إيذاء الناس في سبيل تقبيل الحجر الأسود، ويمسه بيده ثم يقبلها، أو يمس الحجر بشيء في يده كالعصا مثلاً ثم يقبله.
وإن لم يستطع أن يستلم الحجر بيده أو يمسه بشيء فإنه يستقبله من بُعْدٍ ويشير إليه بباطن كفيه كأنه واضعهما عليه، ويهلل ويكبر.
وذلك لأن تقبيل الحجر سنة، وترك إيذاء الناس واجب، فلا يهمل الواجب لأجل السنة.
عن أبي الطُّفَيْل قال : "رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يطوفُ بالبيت ويستلمُ الرُّكْن بِمحْجن معه وَيُقبِّل المحجن" رواه مسلم.
وعن ابن عباس قال : "طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبر" رواه البخاري.
هـ- استلام الركن اليماني، بوضع اليدين عليه، وهو الركن الواقع قبل ركن الحجر الأسود.
ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى سنية استلام الركن اليماني. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : "ما تركْتُ استلام هذين الركنين : اليماني والحجر الأسودِ مُذْ رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُما" رواه مسلم.
واتفقت المذاهب على أنه لا يقبله، ولا يسجد عليه.
وذهب الحنفية إلى أنه لا يقبل يديه أو يمينه بعد ما استلم الركن اليماني، ولا يشير إليه عند العجز عن الاستلام باليدين.
وذهب المالكية إلى إن لم يستطع لمس الركن بيده كبر ومضى.
وذهب الشافعية إلى أنه لا يقبل الركن اليماني ولكن يقبل ما استلم به الركن اليماني بعد الاستلام ويشير إليه عند العجز عن الوصول إليه.
وذهب الحنبلية: إلى أنَّه يشير إليه عند العجز.
أما غير هذين الركنين فلا يسن استلامه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم هذين الركنين ولا يستلم غيرهما :
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : "لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلمُ مِنَ البيت إلا الركنين اليمانيين" متفق عليه.
و- أن يكون الطائف قريباً من البيت، أما النساء فيُسن لهن أن لا يقربن البيت حال طواف الرجال خشية مخالطتهم.
نص على هذه السنة الشافعية، وعللوها بأنها : "لشرف البيت، ولأنه أيسر في الاستلام والتقبيل". وجعله المالكية مستحباً قياساً لصفوف الطواف على صفوف الصلاة.
وسنية اقتراب الرجال من البيت، وابتعاد النساء حال خوف الاختلاط سنة هامة تحول دون تسبب انشغال الفكر وتشويش الطائفين. فلو فات الرمل بمراعاة القرب من البيت، فالرمل مع البعد أولى، إلا إذا كان الزحام شديداً وخاف صدم النساء لو أبعد، فالقرب حينئذ مع ترك الرمل أولى.
ز- أن يوالي أشواط طوافه، ولا يفصل بينها: ذهب الجمهور الحنفية والشافعية والحنبلية إلى أن الموالاة بين الأشواط وأجزاء الطواف سنة.
ودليل سنيتها مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك كما هو ظاهر لمن تأمل أحاديث الطواف التي ذكرناها قبل.
وذهب المالكية إلى وجوب المولاة وأوجبوا على تاركه الدم، استدلالاً بفعله صلى الله عليه وسلم، واستدلوا أيضاً بالقياس على الصلاة لحديث : "الطواف صلاة".
لكن اتفق الجمهور على أنه لو أقيمت الصلاة المكتوبة فإنه يُسن له أن يقطع الطواف ليدرك الجماعة.
وقال المالكية إنه يجب عليه قطع الطواف، فإذا انتهى من الصلاة أتم الأشواط السابقة، ولا حاجة لإعادتها.

__________________
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 12-01-2009, 05:56 PM
 
24- واجبات الحج

الواجب في الحج هو ما يطلب فعله ويحرم تركه. لكن لا يفسد الحج بتركه، بل يكون تاركه مسيئاً، ويجب عليه الفداء لجبر النقص الحادث من ترك الواجب، إلا إذا تركه لعذر معتبر شرعاً فلا فداء عليه.
والواجبات التي نتكلم عليها هنا هي الواجبات الأصلية وهي أعمال مستقلة بنفسها ليست تابعة لغيرها من فروض الحج أو واجباته.
وقد عد الحنفية واجبات الحج الأصلية هذه خمسة هي :
السعي بين الصفا والمروة، والوقوف بالمزدلفة، ورمي الجمار، والحلق أو التقصير، وطواف الصدرَ أي الوداع.

الفصل الأول
25- السعي بين الصَّفَا والمروَة

أ- الصفا: جمع صفاة وهي الصخرة والحجر الأملس.
المروة: حجر أبيض برَّاق، وتجمع على مرور.
والمراد بالصفا والمروة الجبلان الصغيران اللذان على مقربة من البيت العتيق. وقد أصبحا ملاصقين لبناء المسجد بعد التوسعة التي شيدت للمسجد الحرام. لكن مكانهما وكذا المَسْعى الذي بينهما ليس من المسجد : فلا يأخذ حكم المسجدِ، فليعلم.
ب- والسعي بين الصفا والمروة مأخوذ من طواف هاجَرَ أم إسماعيلَ في طلب الماء، كما في صحيح البخاري من حديث طويل عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال :
"... وجَعَلَتْ أمّ إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نَفِد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي طَرَف دِرْعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحداً ؟ فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "فذلك سَعْيُ الناس بينهما" فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : "صَهِ" تريد نفسها، ثم تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أيضاً، فقالت : "قد أسمعتَ إنْ كان عندك غَوَّاثٌ" فإذا هي بالمَلَكِ عند موضع زمزمَ، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه- حتى ظهر الماء..".
ج- أدلة وجوب السعي :
ذهب الحنفية إلى أن السعي واجب في الحج وليس بركن.
وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنه ركن من أركان الحج لا يصح بدونه، حتى لو ترك الحاج خطوة منه يؤمر بأن يعود إلى ذلك الموضع فيضع قدمه عليه ويخطو تلك الخطوة.
وعلى مذهب إيجاب السعي فقد يسعى وهو حلال عند الحنفية، إذا فعل ما يتحلل به قبل السعي. أما على أنه ركن فلا يتحلل إلا بعد السعي.
26- شرائط صحة السعي :
أ- أن يسبقه الإحرام بالحج أو العمرة، لأنه من واجباتهما، فلو سعى ثم أحرم لم يصح سعيه.
ب- أن يكون بعد الطواف، وهو شرط متفق عليه بين الأئمة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل، كما في حديث جابر وغيره، وقد قال صلى الله عليه وسلم : "أيها الناسُ خذوا عني مناسككم" أخرجه مسلم والنسائي، ولأن السعي تابع للطواف فلا يجوز أن يتقدمه.
ولما وجب السعي تابعاً للطواف نص على أن وقته الأصلي، في الحج يوم النحر بعد طواف الإفاضة، لأنه واجب فلا يكون تابعاً لطواف سنة، لكن يجوز تقديمه وأداؤه بعد طواف القدوم، تيسيراً على الحجاج، لازدحام أشغالهم يوم النحر، فإن لم يَسْعَ عقب طواف القدوم مباشرة، فإنه يطوف للنفل ثم يسعى بعده عند الحنفية.
وقال الشافعية والحنابلة: يشترط أن يكون السعي بعد طواف ركن أو قدوم، ولا يخل الفصل بينهما ما لم يتخلل الوقوف بعرفة، فإن تخلل الوقوف بعرفة لم يجزه السعي إلا بعد طواف الإفاضة.
وذهب المالكية مثل ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة لكن قالوا: إذا سعى بعد طوافٍ غير هذينْ فعليه الدم.
27- أركان السعي:
أ- ذهب الجمهور المالكية والشافعية والحنبلية إلى أنَّ القدر الذي لا يتحقق السعي بدونه سبعة أشواط، لإجماع الأمة على فعله كذلك، ولفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فلو نقص منها خطوة لم يتحلل من إحرامه حتى يستكملها.
وذهب الحنفية إلى أنه يكفي لإسقاط الواجب أربعة أشواط لأنها أكثر السعي، وللأكثر حكم الكل، فلو سعى أقل من أربعة أشواط فعليه دم عند الحنفية لأنه لم يؤد الواجب.
واتفق الفقهاء على أنه يَعُدُّ من الصفا إلى المروة شوطاً ومن المروة إلى الصفا شوطاً آخر باتفاق المذاهب الأربعة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بينهما سبعاً : "ابتدأ بالصفا وكان آخر طوافه على المروة"، فدل على أنه احتسب كل مسيرة بينهما شوطاً، وإلا كان آخر طوافه عند الصفا.
ب- البداية بالصفا، حتى لو بدأ بالمروة لغا هذا الشوط، واحتسب الأشواط ابتداء من الصفا، على الرواية المشهورة في مذهب الحنفية، وهو مذهب الجمهور.
28- واجبات السعي:
أ- ذهب الحنفية والمالكية إلى وجوب المشي بنفسه، إذا كان قادراً على المشي.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه سنة، بل هو الأفضل عند الشافعية.
ب- إكمال عدده سبعةَ أشواط، فإن ترك أقل هذا العدد وهو إتيان ثلاثة أشواط صح سعيه وعليه صدقة لكل شوط عند الحنفية.
29- سنن السعي:
أ- الموالاة بين الطواف والسعي، فلو فصل بينهما طويلاً بغير عذر فقد أساء، ولا شيء عليه اتفاقاً بين المذاهب الأربعة.
ب- أن يستلم الحجر الأسود قبل الذهاب للسعي إن استطاع، وإلا أشار إليه بيده.
ج- يستحب أن يسعى على طهارة من النجاسة ومن الحدث الأصغر والأكبر، فلو خالف صح سعيه عند الأئمة الأربعة.
د- أن يصعد على الصفا والمروة كلما بلغها في سعيه، بحيث يشاهد البيت العتيق. أما ما يفعله بعض الناس من الصعود حتى يلتصقوا بالجدار فمخالف لطريقة السنة.
هـ- أن يستقبل القبلة ويكبر ويهلل ويدعو ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد الصفا أو المروة.
و- السعي الشديد بين العمودين الأخضرين المنصوبين في جدار المسعى في الأشواط السبعة، ويستحب أن يكون فوق الرمَل ودون العَدْوِ. والسنة أن يمشي فيما سوى ذلك المكان.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خَبَّ ثلاثاً ومشى أربعاً، وكان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة". متفق عليه.
وهذا الحكم خاص بالرجال دون النساء ، لأن حالهن مبني على الستر. فالسنة في حقهن المشي فقط.
ز- الموالاة بين أشواط السعي:
ذهب الجمهور الحنفية والشافعية والحنبلية إلى أن الموالاة بين أشواط السعي سنة.
وقال المالكية: الموالاة بين أشواط السعي شرط لصحة السعي، فلو فصل بينها بفاصل طويل ابتدأ السعي من جديد. على تفصيل لا نطيل به.
ح- تفرد الشافعية بسنية الاضطباع في السعي، وخالفهم الجمهور، لعدم ثبوت دليل على سنيته.
الفصل الثاني
الوقوف بالمزدلفة

30- المُزْدَلِفَة :
اسم بقعة من الأرض، مأخوذ من الزُّلْفة بمعنى القُرْبة، لأنها يتقرب فيها إلى الله.
وتسمى المزدلفة جمعاً : لاجتماع الناس فيها، أو لجمع صلاتي المغرب والعشاء بها.
وتسمى المَشْعَرَ الحرام : باسم الجبل الموجود فيها وهو جبل قُزَح.
وتقع المُزْدَلِفَةُ بين مَأْزِمي عرفة وهو المضيق بين الجبلين عند نهاية عرفة جهة المزدلفة وبين وادي مُحَسِّر الذي يفصل بينها وبين منى، وكلها من الحرم.
والمزدلفة كلها موقف إلا وادي مُحَسِّرٍ، فليس بموقف، لا خلاف في ذلك بين العلماء. والدليل النقلي عليه هو حديث جابر، فإن فيه قوله صلى الله عليه وسلم :
"وكُلُّ المُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ وارْتَفِعُوا عنْ بَطْنِ مُحَسِّر".
31- حكم الوقوف بالمزدلفة:
اتفق أصحاب المذاهب الأربعة على أن الوقوف بالمزدلفة واجب وليس بركن، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عروة بن مضرس : "من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى يدفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه".
32- وقت الوقوف بالمزدلفة:
اتفقوا على أن المبيت بالمزدلفة الذي هو المكث معظم ليلة النحر فيها سنة.
واختلفوا في وقت أداء الوقوف الواجب:
فذهب الحنفية إلى أنه ما بين طلوع الفجر يوم النحر وطلوع الشمس، فمن حصل بمزدلفة في هذا الوقت فترة ما من الزمن فقد أدرك الوقوف سواء بات بها أو لا، ومن لم يحصل بها فيه فقد فاته الوقوف، قالوا: والسنة أن يبيت ليلة النحر بمزدلفة اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه بات بها.
وذهب الأئمة الثلاثة إلى أن زمن الوقوف الواجب هو المكث بالمزدلفة من الليل.
ثم اختلفوا فقال المالكية: النزول بمزدلفة قدر حط الرحال - أي أحمال الجمال - في ليلة النحر واجب، والمبيت بها سنة.
وقال الشافعية والحنابلة: يجب الوجود بمزدلفة بعد نصف الليل ولو ساعة لطيفة أي فترة ما من الزمن ولو قصيرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها، وقد قال : "خذوا عني مناسككم" والمبيت هو المكث بعد نصف الليل، فيكون هو الواجب. ولأنه أبيح الدفع بعد نصف الليل بما ورد من الرخصة فيه، فدل على أن وقته بعد نصف الليل.
ويتفرع على هذا الخلاف ما يلي:
1) ذهب المالكية إلى أنه من بات بمزدلفة قبل منتصف ليلة النحر قدر (حط الرحال) أجزأه، إلا إذا عاد إليها قبل الفجر فإنه يسقط عنه الواجب عند الشافعية والحنابلة، ويسقط عند الحنفية إذا وجد فيها بعد الفجر.
2) ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه من وُجِدَ بمزدلفة بعد منتصف الليل أجزأه.
وذهب المالكية إلى أنه لا يجزيه إلا إذا استمر قدر حط الرحال.
وذهب الحنفية إلى أنه لا يجزيه إلا إذا وجد فيها بعد الفجر.
3) ذهب الحنفية إلى أنه من وُجد بمزدلفة بعد الفجر ولم يوجد بها قبل الفجر أجزأه.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يجزيه.
4) من اتبع السنة فبات بالفجر ووقف فيها بعده صح وقوفه إجماعاً.
33- سنن الوقوف بمزدلفة:
1) أن يعجل بصلاة الفجر فور دخول وقتها، ولا يسن ذلك عند الحنفية إلا هنا اتباعاً للسنة.
2) أن يستمر في المزدلفة واقفاً يدعو ويكبر ويهلل ويلبي عند المشعر الحرام - وهو جبلَ قُزَح الذي عليه المِيْقَدَةُ المضيئة بالأنوار - يستمرُّ حتى يُسْفِرَ الفجرُ جداً - أي يستضيء - اتباعاً للسنة. وقد أزيل الجبل في توسعات المناسك، وأقيم مكانه مسجد عظيم.
3) أن يدفع من المزدلفة إلى منى قبل أن تطلع الشمس.
فعن عمرو بن ميمون قال : شهدتُ عمر رضي الله عنه صلى بجمع الصبح، ثم وقف فقال: "إنّ المشركينَ كانوا لا يُفِيْضُون حتى تطلعَ الشمس، ويقولون : "أَشْرِقْ ثَبِيْر"، وإن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم، ثم أفاضَ قبل أنْ تطلعَ الشمس" أخرجه البخاري.
4) من اتبع السنة فبات بالمزدلفة قبل الفجر ووقف فيها بعده صح وقوفه إجماعاً.

سنن الوقوف بمزدلفة :
الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة :
أ- ذهب الحنفية إلى وجوب تأخير المغرب إلى المزدلفة، لِتُصَلَّى مع العشاء جمع تأخير، فمن صلى المغرب في عرفة، أو في الطريق إلى المزدلفة يجب عليه إعادتها ما لم يطلع الفجر عند أبي حنيفة.
وذهب الشافعية إلى أنَّ هذا الجمع سنة وليس بواجب، لأنه شرع لِعِلَّةِ السفر فلا يكون واجباً.
ب- وهذا الجمع من مناسك الحج واجب عند الحنفية وحدهم لذلك اشترطوا فيه، ما يلي:
1) سبق الإحرام بالحج.
2) أن تؤدى الصلاتان في المكان المعين وهو المزدلفة.
3) أن يكون الأداء في الزمان الخاص وهو ليلة عيد النحر، وفي وقت صلاة العشاء، حتى لو بلغ المزدلفة قبل العشاء يجب عليه تأخير المغرب إلى دخول وقت العشاء.
لكن لا تشترط الجماعة لهذا الجمع لأن المغرب عن وقتها، بخلاف الجمع بعرفة لأن العصر مقدم على وقته.
* * *

الفصل الثالث
34- رَمْيِ الجِمَار

أ- الرمي لغة: القذف.
والجِمار: الأحجار الصغيرة، جمع جَمْرَةٍ وهي الحصاة.
وسمي موضع الرمي جمرة أيضاً لاجتماع الحصى فيه، وليست الجمرة هي الشاخصَ "العمود" الذي تجده هناك في منتصف المرمى، بل الجمرة هي المرمى المحيط بذلك الشاخص.
ب- والجمرات التي تُرْمَى ثلاثة:
جمرة العَقَبَةِ: وهي الجمرة الكبرى، وتقع في آخر مِنَى تجاه مكة. وليست من مِنَىً وتُرمى من جهة واحدة من بطن الوادي وهو الشارع الذي تجاهها الآن بالنسبة للرمي من الأرض. أما رميها من فوق الجسر فمن جميع الجهات.
والجمرة الوسطى: أول جمرة بعد العقبة تجاه منى، وتُرْمَى من جميع الجهات.
والجمرة الصغرى: أول جمرة بعد مسجد الخيف بمنى، وتُرْمَى من جميع الجهات أيضاً.
ج- دليل وجوب الرمي:
وقد اتفقت المذاهب على وجوب رمي الجِمار واستدلوا على ذلك بالسنة والاجماع.
فمن السنة : فعله صلى الله عليه وسلم.
وأما الإجماع فلأن الأمة أجمعت على وجوبه فيكون واجباً.
35- ركن الرمي الذي لا يتحقق بدونه:
أن يكون هناك قذف ولو خفيفاً.
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه لو طرحها طرحاً أجزأه لأن الرمي قد وجد بهذا الطرح، إلا أنه رمي خفيف، فتثبت الإساءة به.
وذهب المالكية والشافعية إلى أنه لا يجزئه الطرح بتاتاً، أما لو وضعها وضعاً فلا يصح اتفاقاً.
36- شروط صحة الرمي :
أ- ذهب الجمهور - المالكية والشافعية والحنابلة - إلى أن يكون المَرْمِيُّ حجراً، فلا يصح الرمي بالطين والمعادن والتراب، والسنة أن يكون مثل حصى الخذْف فوق الحمصة ودون البندقة باتفاقهم جميعاً، استدلالاً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب الشافعية إلى إجازة الشافعية الرمي بالحجر الصغير الذي كالحمصة.
وذهب المالكية إلى عدم إجازة ذلك، بل لا بد أن يكون عندهم أكثر من ذلك.
وذهب الحنفية إلى أن الشرط أن يكون المرمِيُّ من جنس الأرض، فيصح بالطين والتراب عندهم، ولا يصح بالمعادن، لأن المقصود فعل الرمي، وذلك يحصل بالطين كما يحصل بالحجر، بخلاف ما إذا رمى بالذهب أو الفضة، لأنه يسمى نِثاراً لا رمياً".
ب- أن يرميَ سبع حصيات على كل جمرة، واحدةً فواحدةً، فلو رمى السبع جملة فهي واحدة، ويلزمه أن يرمي بست سواها. لا خلاف في ذلك بين الأئمة.
ج- د- أنْ يقصد المَرْمى في رميه وأنْ تتحقق إصابته. فلو ضرب شخصٌ يدَه فطارت الحصاة إلى الجمرة لم يصح.
ذهب الحنفية إلى أنه إذا رمى الحصاة فوقعت قريباً من الجمرة جاز، ولو وقعت بعيداً منها يجزيه لأن الرمي لم يُعرف قُرْبَةً إلا في مكان مخصوص.
وقدر الحنفية القرب بقدر ذراع، فلو وقعت الحصاة خارج الدائرة التي يجتمع فيها الحصى صح عند الحنفية لأن هذا القدر مما لا يمكن الاحتراز عنه.
وذهب الشافعي المالكية والحنبلية: إلى أنَّ الجمرة مجتمع الحصى لا ما سال من الحصى، فمن أصاب مجتمعه أَجْزَأه، ومن أصاب سائله لم يُجْزِه".
هـ- الوقت : فكل رَمْيٍ وقتٌ خاص به.
37- سنن الرمي: وهي أربع:
أ- أن يكون بين الرامي وبين الجمرة خمسة أذرع فأكثر.
ب- الموالاة بين الرميات السبع، فيكره الفصل بينها، لما ورد من فعله صلى الله عليه وسلم، فإنه رماها في موقف واحد.
ج- ترتيب الجمرات في رمي أيام التشريق: بأن يبدأ بالجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخَيْفِ، ثم الوسطى ثم جمرة العقبة.
ذهب الحنفية في التحقيق أن هذا الترتيب سنة. استدلالاً بفعله صلى الله عليه وسلم وفسروه بأنه على سبيل السنة لا الوجوب.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مَنْ قدَّمَ مِن نُسُكِه شيئاً أو أخّره فلا شيءَ عليه".
وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنه شرط لصحة الرمي، فلو عكس الترتيب فبدأ بالعقبة ثم الوسطى ثم الصغرى وجب عليه إعادة رمي الوسطى والعقبة عندهم، ليتحقق الترتيب.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رتبها كذلك فيجب الاقتداء به:
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يرمي الجمرةَ الدُّنْيا بسَبْعِ حَصَيَاتٍ يكبِّرُ على إثْرِ كل حصاة، ثم يتقدمُ حتى يُسْهِلَ، فيقومَ مستقبلَ القبلة، فيقومُ طويلاً، ويدعو ويرفعُ يديه، ثم يرمي الوُسْطى ثم يأخذُ ذاتَ الشِّمال فَيَسْتَهِلُ(1) ويقومُ مستقبلَ القبلة، فيقومُ طويلاً ويدعو ويرفعُ يديه، ويقومُ طويلاً، ثم يرمي جمرةَ ذات العقبة من بطنِ الوادي ولا يقفُ عندها، ثم ينصرفُ فيقول: هكذا رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يفعَلُهُ أخرجه البخاري.
د- أن يقف إثر كل رمي آخر مدةَ ما يقرأ ثلاثة أرباع جزء من القرآن، وأدناه قدر عشرين آية، فيقف بعد رمي الجمرة الصغرى، وبعد الوسطى لأنه في وسط العبادة فيأتي بالدعاء فيه، وكل رمي ليس بعده رمي لا يقف لأن العبادة قد انتهت. فلا يقف بعد جمرة العقبة يوم النحر ولا أيام التشريق أيضاً.
38- توقيت الرمي وعدده:
أيام الرمي أربعة: يوم النحر العاشر من ذي الحجة، وثلاثة أيام بعده. وتسمى "أيام التشريق".
أ- الرمي يوم النحر :
واجب الرمي فيه رمي جمرة العقبة وحدها، يرميها بسبع حصيات.
ذهب الحنفية والمالكية إلى أن وقت الرمي يبدأ من طلوع فجر يوم النحر. وهذا الوقت أقسام:
وقت ما بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس من يوم النحر وقت الجواز مع الإساءة، وما بعد طلوع الشمس إلى الزوال وقت مسنون، وما بعد الزوال إلى الغروب وقت الجواز بلا إساءة، والليل وقت الجواز مع الإساءة يعني ولا جزاء فيه عند الحنفية فقط.
وتحديد الوقت المسنون مأخوذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه رمى في ذلك الوقت.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن أول وقت جواز الرمي إذا انتصفت ليلة يوم النحر لمن وقف بعرفة قبله.
وللرمي ثلاثة أوقات عند الشافعية: "وقت فضيلة إلى الزوال، ووقت اختيار إلى الغروب، ووقت جواز إلى آخر أيام التشريق". أي قبل غروب الشمس يوم الثالث عشر من ذي الحجة.
وآخر وقت الرمي:
عند الحنفية إلى فجر اليوم التالي.
وعند المالكية إلى المغرب، حتى يجب الدم إن أخره عنه على المشهور عندهم.
عند الشافعية والحنبلية يمتد إلى آخر أيام التشريق. لأنها كلها أيام رمي.
استدل أبو حنيفة:
________________
(1) يسير في السهل.
بحديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم سأله رجل قال : "رميتُ بعد ما أَمْسَيْتُ؟ فقال : "لا حرج". أخرجه البخاري. وهو يدل على جواز الرمي بعد الزوال.
وحديث ابن عباس أيضاً "أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّصَ للرِّعاءِ أن يَرْمُوا ليلاً" أخرجه ابن أبي شيبة.
وهو يدل على أن وقت الرمي في الليل جائز، وفائدة الرخصة زوال الإساءة عنهم تيسيراً عليهم، ولو كان الرمي واجباً قبل المغرب لألزمهم به، لأنهم يستطيعون إنابة بعضهم على الرعي.
وعلى ذلك فالرمي قبل المغرب يوم النحر ليس فيه كراهة اتفاقاً، وهو قليل الزحام فراع ذلك، وإن وجدت فيه زحاماً فالمدة متسعة.
ب- الرمي في اليوم الأول والثاني من أيام التشريق : (الحادي عشر والثاني عشر من ذي الحجة) :
يجب فيهما رمي الجمار الثلاث على الترتيب : يرمي أولاً الجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخَيْفِ، ثم الوسطى، ثم يرمي جمرة العقبة، يرمي كل جمرة بسبع حصيات.
يبدأ وقت الرمي في هذين اليومين من أيام التشريق بعد الزوال، حتى لا يجوز الرمي فيهما قبل الزوال، باتفاق الأئمة وجماهير العلماء، وهي الرواية المشهورة الظاهرة عن أبي حنيفة.
ورُوي عن أبي حنيفة أن الأفضل أن يرمي بعد الزوال في اليوم الثاني والثالث من أيام النحر وهما الأول والثاني من أيام التشريق فإن رمى قبل الزوال جاز. واسْتُدِلَّ له بقياس أيام التشريق على يوم النحر، لأن الكل أيام رمي.
وعن أبي حنيفة: "إن كان مِنْ قصده أن يتعجل في النفر الأول فلا بأس بأن يرمي في اليوم الثالث -من أيام النحر - قبل الزوال، وإن رمى بعده فهو أفضل، وإن لم يكن ذلك من قصده لا يجوز أن يرمي إلا بعد الزوال، وذلك لدفع الحرج لأنه إذا نفر بعد الزوال لا يصل إلى مكة إلا بالليل، فَيُحْرَجُ في تحصيل موضع النزول". وقوّى بعض متأخري الحنفية هذا الروابة توفيقاً بين الروايات عن أبي حنيفة.
ونظراً لشدة الزحام في زماننا حتى تجاوز عدد الحجاج ألفي ألف (مليونين) اتجهت لجان الإفتاء للأخذ بما روي عن أبي حنيفة في الروايتين الأخيرتين، وقد وافقه بعض أهل العلم منهم عطاء بن أبي رباح الإمام التابعي الجليل.
ج- نهاية وقت الرمي:
ذهب الحنفية إلى أنه ينتهي رمي اليوم الثاني من أيام النحر بطلوع فجر اليوم الثالث، ورمي اليوم الثالث بطلوع الفجر من اليوم الرابع، فمن أخر الرمي إلى ما بعد وقته فعليه دم عند أبي حنيفة.
والوقتُ المسنونُ يمتد من زوال الشمس إلى غروبها، بدليل فعله صلى الله عليه وسلم.
والدليل على جواز الرمي بعد مغرب نهار الرمي حيث الإذن للرعاء بالرمي ليلاً.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن آخر الوقت بغروب شمس اليوم الرابع من أيام النحر، وهو آخر أيام التشريق الثلاثة. فَمَنْ تَرَكَ رميَ يوم أو يومين تداركه فيما يليه من الزمن، وإن لم يتدارك الرمي حتى غربت شمس اليوم الرابع فقد فاته الرمي وعليه الجزاء.
وذهب المالكية إلى أنه ينتهي الأداءُ إلى غروبِ كل يوم، وما بعده قضاء له، ويفوت الرمي بغروب الرابع، ويلزمه دم في ترك حصاة أو في ترك الجميع، وكذا يلزمه الدم إذا أخر شيئاً منها إلى الليل.
د- النَّفْر الأول :
إذا رمى الحاج الجمار ثاني أيام التشريق أي ثالث أيام النحر يجوز له أن يَنْفِرَ - أي يرحل - إلى مكة، إنْ أحب التعجيل في الانصراف من منى، ويسمى هذا اليومَ يومَ النَّفْرِ الأول، وبه يسقط رمي اليوم الثالث من أيام التشريق. وهو قول عامة العلماء.
ومن أدلتهم :
قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجْلَ في يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ ومَنْ تَأخّرَ فَلا إثْمَ عَليْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203].
لكن اختلفوا في وقت جواز النَّفْر الأول:
ذهب الحنفية إلى أن له أن ينفر ما لم يطلع الفجر من اليوم الرابع من أيام النحر، فإذا طلع الفجر لم يكن له أن ينفر، لدخول وقت الرمي حتى لو أعد نفسه، وسار من منزله، فطلع الفجر قبل مجاوزة حدود منى - وهي جمرة العقبة جهة مكة - وجب عليه رمي اليوم الرابع.
وذهب الجمهور - المالكية والشافعية والحنبلية - إلى أن له أن ينفر قبل غروب الشمس، فإن غربت قبل خروجه من حدودها وجب عليه المبيت ورمي اليوم الرابع، سواء كان ارتحل، أو كان مقيماً في منزله.
لكن الشافعية ترخصوا وأجازوا النفر لمن تمت أشغاله وسار بالفعل قبل الغروب وهو في شغل الارتحال فغربت عليه الشمس قبل انفصاله من منى فجوزوا له النفر، وكذا لو غربت الشمس بعدما رمى وهو في شغل الاتحال له النفر عندهم، لأن في تكليفه حلَّ الرَّحْلِ والمتاع مشقة عليه.
أما إذا حزم متاعه وسار للرمي، ورحل بعد الرمي مواصلاً سيره كما يفعل كثيرون فغابت عليه الشمس قبل الرمي أو قبل أن يبدأ بالرمي فهل له أن ينفر بعد هذا الرمي ؟ ظاهر شروطهم لا يجوز، وتعليلهم برفع المشقة بظاهره الجواز. ومذهب الحنفية أوسع في هذا.
هـ- الرمي ثالث أيام التشريق : (رابع أيام النحر) :
يجب هذا الرمي على من تأخر ولم ينفر من منى في "النفر الأول" وهذا الرمي آخر مناسك منى.
واتفق العلماء على أن الرمي في هذا اليوم بعد الزوال رمي في الوقت، كما رمى في اليومين قبله، اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
فمذهب أبي حنيفة : يجوز أن يقدم الرمي في هذا اليوم قبل الزوال، بعد طلوع الفجر. ظهر أثر التخفيف في هذا اليوم في حق الترك فلأن يظهر في جوازه - أي الرمي - في الأوقات كلها أولى.
وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنه لا يصح قبل الزوال.
واتفقوا على أن آخر وقت الرمي في هذا اليوم غروب الشمس، كما اتفقوا على أن وقت الرمي لهذا اليوم وللأيام الماضية لو أخره أو شيئاً منه يخرج بغروب شمس اليوم الرابع، فلا قضاء له بعد ذلك، ويجب في تركه الفداء.
و- النفر الثاني:
إذا رمى الحاج الجمار في اليوم الثالث من أيام التشريق - وهو رابع أيام النحر انصرف من منى إلى مكة، ولا يقيم بمنى بعد رميه هذا اليوم، ويسمى يوم "النفر الثاني" وهو آخر أيام التشريق، وبه تنتهي مناسك منى.
39- النيابة في الرمي: (الرمي عن الغير):
أ- المعذور الذي لا يستطيع الرمي بنفسه كالمريض يجب أن يستنيبَ مَنْ يرمي عنه، وينبغي أن يكونَ النائب قد رمى عن نفسه، فإن لم يكن رمى عن نفسه فليرم عن نفسه الرمي كله ليومه أولاً، ثم ليرم عمن استنابه، ويجزيء هذا الرمي عن الأصيل عند الحنفية والشافعية والحنبلية. وذهب الحنفية والمالكية إلى أنه رمى حصاة لنفسه وأخرى للآخر جاز ويكره.
وقال الشافعية: إن الإنابة خاصة بمريض لا يرجى شفاؤه قبل انتهاء أيام التشريق، وعند الشافعية قول إنه يرمي حصيات الجمرة عن نفسه أولاً، ثم يرميها عن نائبه إلى أن ينتهي من الرمي. وهو مخلص حسن لمن خشي خطر الزحام.
ب- ومَنْ عَجز عن الاستنابة كالصبي، والمغمى عليه، فيرمي عن الصبي وليه اتفاقاً. وعن المغمى عليه رفاقه عند الحنفية، ولا فدية عليه وإن لم يرم عند الحنفية.
وقال المالكية: فائدة الاستنابة أن يسقط الإثم عنه إن استناب وقت الأداء. وإلا فالدم عليه استناب أم لا، إلا الصغير ومَنْ أُلْحِقَ به، وإنما وجب عليه الدم دون الصغير ومن أُلحِق - كالمُغْمَى عليه - لأنه المخاطب بسائر الأركان.
__________________
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 12-01-2009, 05:57 PM
 
الفصل الرابع
40- الحَلق والتقصير

أ- الحلق: إزالة الشعر بالموسى من الرأس.
والتقصير: أخذ جزء من الشعر بالمقص ونحوه.
كان العرب يطلقون شعرهم لا يحلقونه ولا يقصرونه، فأمر الله الحاج والمعتمر بحلق شعر الرأس أو تقصيره.
ب- وقد اتفق جماهير العلماء على أن الحلقَ نُسُك يُتَعَبَّد به في الحج والعمرة، واتفقوا على أنه لا يجزئ أخذ شعر غير الرأس.
ومذهب الحنفية والمالكية والحنابلة أنه واجب من واجبات الحج.
ومن أدلتهم:
1) قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح: 27].
وجه الاستدلال: أن الآية وإن كانت خبراً ووعداً من الله، فلابد من إيجابه عليهم ليتحقق وعده تعالى.
2) حديث ابن عباس -رضي الله عنهما ،طوفوا بالبيتِ، وبالصفا والمروة، ثم يَحِلُّوا ويَحْلِقوا أو يُقَص في المشهور عنه الراجح في المذهب إلى أن الحلق ركن في الحج، لتوقف التحلل عليه، مع عدم جبره بالدم في مذهبه فصار كالطواف.
41- القدار الواجب في الحلق والتقصير.
اختلف الأئمة في القدر الذي يجزئ حلقه أو تقصيره من شعر الرأس:
ذهب الحنفية إلى أنه يكفي في أداء الواجب حلقُ ربع الرأس أو تقصيره، مع الكراهة لتركه السنة، وهي حلق جميع الرأس أو تقصيره.
ذهب الشافعية إلى أنه: يكفي إزالة ثلاث شعرات أو تقصيرها، لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ..} فإنّ معناه شعر رؤوسكم، والشعر يصدق بالثلاث، لأنه اسم جميع.
وذهب المالكية والحنابلة إلى أنَّ الواجب حلق جميع الرأس أو تقصيره، وذلك إشارة إلى طلب تحليق الرؤوس أو تقصيرها، ولفعله عليه الصلاة والسلام، فإنه استوعب رأسه بالحلق.
2) أما التقصير فأقله "أن يأخذ من رؤوس شعره مقدار الأنملة، أي طرفٍ من رأس الإصبع (نحو ربع سنتمتر) للمساحة التي ذكرناها من الرأس في كل مذهب.
3) وقد اتفق العلماء على أن الحلق أفضل من التقصير للرجال، لتقديم ذكر المحلِّقين في الآية.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهمَّ ارحمِ المحلقين" قالوا: "والمقصِّرينَ يا رسولَ الله" قال: "اللهم ارحم المحلقين" قالوا: "والمقصرين يا رسول الله". قال: "والمقصرين" متفق عليه.
4) حكم النساء في الحلق: أجمع الفقهاء أن لا حلق على النساء، إنما عليهن التقصير، ويكره لهن الحلق، لأنه بدعة في حقهن وفيه مُثْلَةٌ.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليسَ على النساءِ حَلْقٌ إنما على النساءِ التَّقْصِير" أخرجه أبو داود بسند حسن.
5) الأصلع الذي لا شعر على رأسه:
ذهب الحنفية والمالكية إلى أنه يجب عليه إجراء الموسى على رأسه لأن الواجب شيئان: إجراؤه، مع الإزالة، فما عجز عنه سقط، دون ما لم يعجز عنه.
وذهب الشافعية والحنابلة وقول لبعض الحنفية إلى أن استحباب ذلك لفوات ما تعلق به الواجب وهو الشعر.
42-د- توقيت الحلق والتقصير:
1) زمان الحلق:
ذهب أبو حنيفة ومالك إلى أن زمان الحلق يختص الحلق بأيام النحر (10، 11، 12 من ذي الحجة)، فلو أخره عنها يجب بتأخيره دم عندهم. وهذا وقت وجوب الأداء، ولا آخر له في حق التحلل، أي خروجه من إحرامه فيظل محرماً حتى يحلق أو يقصر مهما تأخر عند الحنفية.
أما عند مالك فالتحلل يكون بالرمي.
وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه لا آخر لوقت الحلق، كما أنه لا آخرَ لوقت طواف الزيارة، لأن الأصل عدم التأقيت فلو أخر الحلق لا يجب عليه دم، إلا أن الشافعي وقَّت ابتداء الحلق بمنتصف ليلة النحر، قياساً على الرمي.
2) مكان الحلق:
ذهب أبو حنيفة إلى أن مكان الحلق مؤقت بالحرم، فإنْ حَلَقَ أو قصر في أيام النحر في غير الحرم حصل التحلل، وعليه دم سواء في ذلك حلق الحج أو العمرة.
وذهب الشافعي ومالك إلى أن الحلق غير مختص بالحرم، لكن الأفضل فعله في منى، فلو فعله في موضع آخر مثل وَطَنِه أو غيرِه جاز، لحج أو لعمرة، ولا شيء عليه، ولا يحل حتى يحلق.
3) ترتيب الحلق مع أعمال يوم النحر:
يفعل الحاج بمنى يوم النحر ثلاثة على هذا الترتيب : رمي، فنحر، فحلق.
وترتيب الحلق أن يفعله بعد الرمي والذبح، إنْ كان متمتعاً أو قارنا كما رتب النبي صلى الله عليه وسلم، أما المفرد فإنه يحلق بعد الرمي فقط لأنه لا ذبح عليه.
عن أنس رضي الله عنه : "أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر، ثم رجع إلى منزله بمنى، فدعا بِذِبْحٍ فَذَبَحَ، ثم دعا بالحلاق، فأخذ بشق رأسه الأيمن، فحلقه، فجعل يقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين، ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه". أخرجه مسلم.
واختلف المذاهب في حكم الترتيب:
ذهب الحنفية إلى أنه يجب مراعاة الترتيب، فيجب عندهم الدم فداء عن التأخير، كما إذا حلق قبل الرمي، أو نحر القارن قبل الرمي، وكالحلق قبل الذبح.
وذهب الشافعي إلى أن الترتيب سنة، لو تركه أساء وليس عليه فداء.
وذهب المالكية إلى أنَّ الواجب في الترتيب: تقديم الرمي على الحلق وعلى طواف الإفاضة، ولا يجب غير ذلك من الترتيب، بل هو سنة.
ويتفرع على مذهب المالكية أنه يجب الدم على من أخل بالترتيب في صورتين :
1) أن يحلق قبل الرمي.
2) أن يطوف للإفاضة قبل الرمي أيضاً.
ولا يجب الدم على من أخلَّ بالترتيب في الصور الآتية.
1) إذا حلق قبل الذبح.
2) إذا ذبح قبل الرمي.
3) إذا طاف طواف الإفاضة قبل الذبح أو قبل الحلق أو قلبهما معاً.
43- حكم الحلق أي أثره وهو: التحلل الأول:
يحصل بالحلق التحلُّلُ الأول أن الأصغر، فيصير الحاج حلالاً، تُباحُ له محرماتُ الإحرام من اللبس، وإزالة التفث والصيد - في غير الحَرَم - والطيب وغير ذلك، إلا الجماع، فإنه يظل محرماً عليه حتى يطوف طواف الإفاضة. وكذا الجماع فيما دون الفرج عند الحنفية، لأن فيه قضاء الشهوة وحّرم المالكية الصيد وعقد النكاح أيضاً وكرهوا الطيب لأنه من دواعي الجماع لكن لا فدية فيه.
والأصل فيه قول عائشة رضي الله عنها : "كنتُ أُطَيِّبُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حينَ يُحْرِم، ولِحِله قبل أنْ يطوف بالبيت بطيب فيه مسك" متفق عليه.
ذهب الحنفية إلى أنَّه التحلل الأول لا يحصل إلا بالحلق، فلو رمى وذبح وطاف ولم يحلق لم يتحلل عندهم.
استدلوا بأن "التحلل من العبادة هو الخروج منها، ولا يكون ذلك بركنها، بل إما بمنافيها، أو بما هو محظور فيها، وهو أقل ما يكون".
وذهب الشافعي إلى أنه يحصل التحلل الأول إذا فعل اثنين من الرمي والحلق وطواف الزيارة، أي المسبوق بالسعي من قبل، وإلا فلا يحل حتى يسعى بعد طواف الزيارة. فجعل الرمي من أسباب التحلل، وهذا على المشهور عندهم من أن الحلق نسك. والمفرد والمتمتع والقارن في أسباب التحلل هذه وترتيبها على حد سواء. لأن الذبح لا مدخل له في التحلل عند الشافعية. استدلوا بحديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : "إذا رميتم الجمرةَ فقد حلَّ لكم كُّل شيء إلا النساءَ.." أخرجه النسائي وابن ماجه هكذا موقوفاً. وثبت عن بعض الصحابة نحو ذلك من قوله أيضاً.
وذهب مالك وأحمد إلى أن التحلل الأول برمي جمرة العقبة وحده.
التحلل الثاني :
ويسمى التحلل الأكبر، وتِحل به كل محظورات الإحرام حتى النساء، إجماعاً.
ذهب الحنفية إلى أنه يحصل هذا التحلل بطواف الإفاضة عند الحنفية، ولا يتوقف الإحلال على السعي، لأنه من الواجبات عندهم. وقد علمت أن الحنفية علقوا التحلل بالحلق فلو تقدم الطواف على الحلق لم يحل.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه يحصل عندهم التحلل الأكبر بتكميل فعل الثلاثة : جمرة العقبة، والحلق والطواف. إذا كان سعى بعد طواف القدوم، أما إذا لم يسع بعد طواف القدوم فلا بُدَّ من السعي بعد طواف الإفاضة حتى يتحلل التحلل الثاني (الأكبر).
وذهب المالكية إلى أنه يحصل التحلل الأكبر عندهم بطواف الإفاضة لمن حلق ورمى جمرة العقبة قبل الإفاضة، أو فات وقتها عليه وذلك بشرط السعي أيضاً.
وحصول التحلل الأكبر باستيفاء الأربعة : رمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق وطواف الإفاضة بشرط السعي موضع إجماع أئمة المسلمين لا خلاف فيه بينهم. لكن يجب عليه فعل بقية أعمال الحج، إن كان حلالاً.
* * *

الفصل الخامس
44- طواف الصَّدَرِ
"الوداع"

ويسمى طواف الوداع وطواف آخر العهد:
شُرِعَ طوافُ الوداع لختام مناسك الحج، يفعله الحاج إذا عزم على السفر من مكة، ذهب الحنفية والشافعية على الأظهر والحنابلة إلى وجوب طواف الوداع.
استدلوا على وجوبه بأمره صلى الله عليه وسلم كما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أُمِرَ الناسُ أنْ يكونَ آخرُ عهدهم بالبيت، إلا أنهُ خفِّفَ عَنِ المرأةِ الحائض" متفق عليه.
وذهب المالكية إلى أنه سنة، لأنه جاز للحائض تركه دون فداء، ولو وجب لم يجز للحائض تركه.
45- شروط وجوبه:
أ- أن يكون الحاج من أهل الآفاق:
ذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه يجب على المكي، لأن الطواف وجب توديعاً للبيت، وهذا المعنى لا يوجد في أهل مكة، لأنهم في وطنهم.
وقال الحنفية: يلحق بالمكي مَنْ كان مِنْ منطقة المواقيت، لأن حكمهم حكم أهل مكة.
وقال الحنابلة: لا يسقط إلا عمن كان منزله في الحرم فقط.
وذهب المالكية والشافعية إلى أنه يطلب طواف الوداع في حق كل من قصد السفر من مكة ولو كان مكياً إذا قصد سفراً تقصر فيه الصلاة.
ب- الطهارة من الحيض والنفاس : فلا يجب على الحائض والنفساء، ولا يسن أيضاً، حتى إنهما لا يجب عليهما دم بتركه، لما في حديث ابن عباس:" إلا أنه خفف عن الحائض" وكذا حديث عائشة في قصة صفية لما حاضت، فقد سافر بها النبي صلى الله عليه وسلم دون أن تطوف للوداع.
فأما الطهارة من الجنابة فليست بشرط لوجوب طواف الوداع، فيكون واجباً على المحدث والجنب، لأنه يمكنهما إزالة الحدث والجنابة في الحال.
وإذا طَهُرَتِ الحائض أو النُّفَساء قبل أنْ تفارقَ بنيان مكة يلزمها طواف الصدر، وإن جاوزت جدران مكة ثم طهرت لم يلزمها طواف الصدر، اتفاقاً بين الحنفية والشافعية والحنبلية ولا يكون سنة في حقها عند المالكية، لأنها حين خرجت من العمران صارت مسافرة، بدليل جواز القصر، فلا يلزمها العود ولا الدم.
جـ- أن يكون قد أدى مناسك الحج مفْرِداً أو متمتعاً أو قارناً. ذهب الحنفية إلى أنه لا يجب على المعتمر، ولو كان آفاقياً، وكأنهم نظروا إلى المقصود، وهو ختم أعمال الحج، فلا يطلب من المعتمر.
وذهب الجمهور إلى أنه يطلب طواف الوداع من المعتمر.
46- وقت طواف الوداع:
وقت طواف الوداع عند الحنفية يمتد من عقب طواف الزيارة إلى أن يسافر، وكل طواف يفعله الحاج بعد طواف الزيارة يقع عن طواف الصدر.
ذهب الحنفية إلى أنَّ السفر فور الطواف فليس من شرائط جوازه عند الحنفية، حتى لو طاف للصدر، ثم تشاغل بمكة بعده، لا يجب عليه طواف آخر، لأن المراد أن يكون آخر عهده بالبيت نسكاً، لا إقامة، والطواف آخر مناسكه بالبيت. إلا أن المستحب أن يؤخر طواف الصدر إلى الوقت الذي يريد أن يسافر فيه.
ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنَّ وقته بعد فراغه من جميع أموره، وعزمه على السفر، ويغتفر له أن يشتغل بعده بأسباب السفر، كشراء الزاد، وحمل الأمتعة، ونحو ذلك ولا يعيده، وإن مكث بعده، مشتغلاً بأمر آخر غير أسباب السفر كشراء متاع، أو زيارة صديق، أو عيادة مريض احتاج إلى إعادة الطواف.
ويُنصح الحاج أنْ يسرعَ بعد طوافِ الزيارة بطوافٍ آخر بناء على مذهب الحنيفة احطياطاً للسفر في وقت ضيق عليه. وقرّر الملكية والحنابلة في مذهبهم: أن طواف الوداع يتأدى بطواف الإفاضة أو طواف العمرة لمن خرج من مكة بعدهما، إن نواه بهما، ولا يكون سعيه لها (يعني العمرة) طولا حيث لم يُقِمْ عندها إقامة تقطع حكم التوديع . ويدل لهم قوله "آخر عهده بالبيت"، وقد حصل هنا.

الباب الرابع
47-سنن الحج
السنن يطلب فعلها، ويثاب المكلف عليها، وتلزم الإساءة لو تركها عمداً، لكن لا يلزمه الفداء من دم أو صدقة بذلك.
ونذكر ههنا سنن الحج الأصلية، والمذاهب فيها :
أولاً - طواف القدوم :
أ- ذهب الجمهور الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه سنة للآفقي القادم من خارج مكة لتحية البيت العتيق، لذلك يستحب البدء به دون تأخير.
وعن عائشة رضي الله عنها "أنّ أولَ شيء بَدَأَ به حين قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه توضَّأَ ثم طاف .. الحديث". متفق عليه.
وذهب المالكية إلى أنه واجب.
ب- يسقط طواف القدوم عن ثلاثة وهم :
1) المكي، ومن في حكمه، وهو الآفقي إذا أحرم من مكة.
وذهب الحنفية إلى إسقاطه عمّنْ كان منزله في المواقيت، لأن الطواف شرع للقدوم، والقدوم في حق هؤلاء غير موجود.
وذهب المالكية إلى أنه يجب على من أحرم من الحِلِّ ولو كان مكياً، أما من كان في منطقة الحرم فليس عليه طواف قدوم.
2) المعتمر والمتمتع ولو آفاقياً، لدخول طواف الفرض عليه وهو طواف العمرة، اتفاقاً في ذلك بين الجمهور الحنفية والشافعية والمالكية، فطواف القدوم عندهم خاص بمن أحرم بالحج مفرداً، أو قارناً بين الحج والعمرة. وذهب الحنابلة إلى أنه: يطوف المتمتع للقدوم قبل طواف الإفاضة، ثم يطوف طواف الإفاضة.
3) من قصد عرفة رأساً للوقوف يسقط عنه طواف القدوم. "لأن محله المسنون قبل وقوفه". وقرر المالكية أنه إذا خشي فوات الوقوف بعرفة لو اشتغل بطواف القدوم سقط عنه ولا فدية عليه، أما إذا كان الوقت متسعاً وترك طواف القدوم يجب عليه الفدية.
جـ- وقت طواف القدوم يبدأ حين دخول مكة، ويُسْتَحَبُّ أنْ يُبادرَ بأدائه قبل استئجار المنزل ونحو ذلك. وآخر وقته وقوفه بعرفة، لأنه بعد الوقوف مطالب بطواف الفرض أي طواف الزيارة.
د- كيفية طواف القدوم كطواف الزيارة، إلا أنه لا اضطباع فيه ولا رمل، ولا سعي لأجله، إلا إذا أراد تقديم سعي الحج على وقته الأصلي، الذي هو عقيب طواف الزيارة، فإنه يسن له عندئذ الاضطباع والرمل في الطواف، لما سبق أن قررنا أن الرمل والاضطباع سنة في كل طواف بعده سعي.
ثانياً: خُطَبُ الإمام:
- الخطبة الأولى: ذهب الحنفية والشافعية إلى أنهاتسن هذه الخطبة في مكة يوم السابع من ذي الحجة قبل يوم التروية بيوم، عند الحنفية والشافعية، والغرض منها أن يعلمهم المناسك.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :" كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا كانَ قَبْلَ الترويِة بيومٍ خطبَ الناسَ وأخبرهم بمناسِكِهم " أخرجه البيهقي بسند جيد.
- الخطبة الثانية: وتُسَنُّ يومَ عرفة بعرفات، قبل الصلاة اتفاقاً أيضاً. وهذه الخطبة خطبتان يفصل بينهما بجلسة كما في خطبة الجمعة، يبين لهم في أولاهما ما أمامهم من المناسك، ويحرضهم على إكثار الدعاء والابتهال، ويبين ما يهمهم من الأمور الضرورية لشؤون دينهم، واستقامة أحوالهم.
- الخطبة الثالثة: ذهب الحنفية والمالكية إلى أنها بمنى في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة وذهب الشافعية والحنبلية إلى أنها تكون بمنى يوم النحر.
- أما الخطبة الرابعة: ذهب الشافعية والحنبلية إلى زيارة الخطبة الرابعة التي هي بمنى ثاني أيام التشريق يعلمهم فيها جواز النفر فيه وغير ذلك، ويودعهم.
ثالثاً: المبيت بمنى ليلة يوم عرفة، وأداء خمس صلوات فيها:
يسن للحاج أن يخرج من مكة إلى منى يوم التروية، بعد طلوع الشمس، فيصلي بمنى الظهرَ والعصرَ والمغرب والعشاء والفجر، وذلك سنة باتفاق الأئمة رضي الله عنهم.
وفي حديث جابر" لما كان يوم التروية توجهوا إلى مِنى فأَهَلَّوا بالحج فركبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الظهرَ والعصرَ والمغربَ والعشاءَ والغجر، ثم مكثَ قليلاً حتى طلعتِ الشمسُ وأَمَرَ بِقُبَّةٍ من شَعرٍ فضُرِبَتْ له بِنَمِرَةَ ".
ذهب الحنفية إلى أنه سنة.
وذهب الجمهور إلى وجوبه، وهو سنة عند الحنفية، وواجب عند الأئمة الثلاثة.
رابعاً: المبيت بمزدلفة ليلة النحر:
ذهب الحنفية إلى أنَّ المبيت بالمزدلفة ليلة عيد النحر سنة عند الحنفية، وإنما الواجب عندهم الوقوف بالمزدلفة بعد الفجر، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبيناه في واجبات الحج.
وذهب المالكية إلى ندب المبيت بمزدلفة ليلة النحر.
وذهب الشافعية إلى وجوب المكث الطويل.
وذهب الحنابلة إلى استحبابه.
خامساً: المبيت بمنى ليالي التشريق:
ذهب الحنفية إلى أنه سنة.
وذهب الجمهور إلى وجوبه، وهو سنة عند الحنفية، وواجب عند الأئمة الثلاثة فيلزم الفداء لمن تركه كله أو معظم ليلة واحدة منه بغير عذر عند الأئمة الثلاثة استدلوا على الوجوب بحديث عائشة رضي الله عنها قالت:
" أفاضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِن آخرِ يومه حين صلى الظهرَ، ثم رجع إلى مِنى، فمكثَ لياليَ أيامِ التشريق. . الحديث " أخرجه أبو داود.
وأجاب الحنفية بحمل الحديث على السنية.
سادساً: التحصيب:
وهو النزول بوادي المحصَّب، أو الأَبْطَح، في النَّفْرِ من مِنى إلى مكة، عند انتهاء المناسك. ويقع المُحَصِّب عند مدخل مكة، بين الجبلين، إلى المقبرة المسماة بالحُجون(1).
ذهب الحنفية إلى أن التحصيب سنة.
وذهب الجمهور إلى أنه مستحب.
___________________________________
(1) سمي محصباً لكثرة الحصباء، أي الحصى الصغير التي تجرفها السيول إليه، كذا سمي الأبطح من البطحاء وهي الحصى الصغار. والخيف ما انحدر عن غلظ الجبَل وارتفع عن مجرى السيل، سمي المحصّب بذلك وسمي مسجد منى بذلك لأنهما في سفح جبل.

الباب الخامس
في العمْرة
48- العمرة لغة: الزيارة، سميت بذلك لأن فيها عمارة الود، مأخوذة من الاعتمار، يقال:" اعتمر فهو معتمر أي زار ".
وفي اصطلاح الفقهاء: الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة.
وتتلخص كيفية العمرة بأن يحرم بها من الميقات ثم يأتي مكة فيطوف بالكعبة سبعاً ثم يصلي ركعتين للطواف، ثم يسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط. ثم يحلق ويتحلل.
49- حكم العمرة:
ذهب الحنفية والمالكية إلى أنها سنة مؤكدة في العمر مرة واحدة.
وذهب الشافعية والحنابلة- على الأظهر عندهما - إلى أنها واجبة مرة في العمر، كالحج.
استدل الحنفية والمالكية على سنية العمرة بأدلة، منها:
حديث جابر- رضي الله عنه -، قال: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرةِ أواجبةُُ هي؟ قال:"لا، وأنْ تَعْتَمِرَ فهو أفضل". أخرجه الترمذي وقال"حديث حسن"
واستدل القائلون بفرضية العمرة بما وقع في حديث عمر في سؤال جبريل عليه السلام: "وأنْ تحجَّ وتعتمرَ " أخرجه بهذه الزيادة الدارقطني.
50- فضيلة العمرة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" العمرةُ إلى العمرةِ كفارةُُ لما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءُُ إلا الجنة ". متفق عليه.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"عمرةُُ في رمضانَ تَقْضِي حجة " متفق عليه. ولمسلم " تقضي حجةً أو حجةً معي ".
51- فرائض العمرة:
أولاً: الإحرام:
أ- ذهب الحنفية إلى أنه شرط، وهو النية مقرونة بالتلبية.
وذهب الجمهور إلى أنه ركن وهو النية فقط.
وكيفية الإحرام بها هي كما في الحج إلا أنه يقول: "اللهم إني أريدُ العمرةَ فيسِّرْها لي وتقبلْها منى إنك أنتَ السميعُ العليم": "لبيك اللهم .. الخ ..".
ويُسن للإحرام بالعمرة ما يسن للإحرام بالحج. لأن الأدلة تشمله.
كذلك يحظر في الإحرام للعمرة ما يحظر في الإحرام للحج.
ميقات الإحرام بالعمرة:
ب- أما الميقات الزمني فهو كلُّ السَنة، وتُندب في شهر رمضان لقوله صلى الله عليه وسلم: "عمرةٌ في رمضانَ تقضي حجة".
ذهب الحنفية إلى أن العمرة تكره تحريماً يوم عرفة وأربعة أيام بعده، حتى يجب الدم على من فعلها في ذلك الوقت.
قالت عائشة رضي الله عنها: "حلّتِ العمرةُ في السَنة كلها، إلا أربعةَ أيام: يومُ عرفة، ويومُ النحر، ويومان بعد ذلك" أخرجه البيهقي. ولأن هذه الأيام أيام شغل بأداء الحج، والعمرة فيها تشغلهم عن ذلك، وربما يقع الخلل فيه فتكره.
وذهب الجمهور إلى أن جميع السنة وقت لإحرام العمرة وجميع أفعالها، دون استثناء، وهي في يوم عرفة والعيد وأيام التشريق ليس كفضلها فيغيرها، لأن الأفضل فعل الحج فيها.
ج- وأما الميقات المكاني للعمرة: فهو ميقات الحج الذي سبق أن بينا حدوده إلا أن من كان بمكة أو حرمها فميقاته للعمرة أن يخرجإلى الحل، اتفاقاً بين الفقهاء.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "يا رسولَ الله أتنطلقونَ بعمرةٍ وحَجَّةٍ وأنطلقُ بالحج؟؟ فأمرَ عبدَ الرحمن بنَ أبي بكرٍ أن يخرج معها إلى التَّنْعِيم، فاعتمَرَتْ بعدَ الحج في ذي الحجة" متفق عليه.
ذهب الحنفية إلى أن الإحرامُ بالعمرة من التنعيم أفضلُ أخذاً بهذا الحديث، ويُحْرِمُ أكثر الناس الآن من هذا الموضع، عند المسجد هناك المعروف بمسجد عائشة.
وذهب الشافعية إلى أنَّ أفضل بقاع الحل للإحرام بالعمرة الجِعِرَّانة، ثم التنعيم ثم الحديبية، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم بها - أي العمرة - من الجعرانة، وأمر عائشة بالاعتمار من التنعيم كما تقدم، وبعد إحرامه بها بذي الحليفة عام الحُدَيْبِيَة همَّ بالدخول إليها من الحديبية ... .
وأما من كان في منطقة المواقيت خارج منطقة الحرم فميقاته من حيث أنشأ، أي أحرم، لكن اختلفوا:
ذهب الحنفية إلى أن ميقاته الحل كله.
وذهب المالكية إلى أنه يحرم من داره أو مسجده لا غير.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أن ميقاته القرية التي يسكنها لا يجاوزها بغير إحرام.
ثانياً- الطواف:
وهو ركن في العمرة بإجماع الأمة على ذلك، لقوله عز وجل: {وَلْيَطّوَّفُوا بالبَيْتِ العَتيقِ} [الحج: 29].
وشرائط طواف العمرة: كطواف الزيارة في الحج لكنه لا يتقيد بوقت.
وواجبات طواف العمرة: هي واجبات طواف الحج أيضاً لشمول الأدلة في ذلك كله الحج والعمرة جميعاً.
52- واجبات العمرة :
أولاً: السعي بين الصفا والمروة: ذهب الحنفية في المختار والحنابلة إلى أن السعي واجب وذهب المالكية والشافعية إلى أن السعي ركن.
ثانياً: الحلق أو التقصير، وذلك آخر أعمال العمرة، وبه يتحلل من إحرامه تحللاً كاملاً، ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه واجب.
وذهب الشافعية: إلى أنه ركن ومن أخر الحلق ظل محرماً، وإذا فعل شيئاً من محظورات الإحرام لزمه الفداء.
وأحكام فرائض العمرة وواجباتها كأحكام فرائض الحج وواجباته، فيجب فيها هنا ما يجب في الحج، ويسن فيها ما يسن في فرائض الحج وواجباتها، ويحظر في إحرامها ما يحظر في إحرام الحج. وقد استوفينا تفصيلها، فارجع لكل أمر في موضعه.
لكن لا يطلب في العمرة طواف قدوم، ولا طواف وداع، بل يَخْتَصّان بالحج عند الحنفية، على ما سبق من بيان المذاهب فيهما.
__________________
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 12-01-2009, 05:59 PM
 
الباب السادس
53- الجنايات

قرر الفقهاء وجوب الجزاء على من ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام، ما دام فعل محظور الإحرام قبل التحلل ولو بقليل، حسبما عرفت من نوعي التحلل. أو أخل بما يجب عليه من الأعمال في الحج أو العمرة، وأنه إن فعل ذلك عامداً فقد أثم، ويجب عليه الجزاء والتوبة، ولا يخرجه العزم على الفدية عن كونه عاصياً آثماً.
وربما ارتكب بعض الناس شيئاً من هذه المحرمات، وقال: أنا أفتدي، متوهماً أنه بالتزام الفدية يتخلص من وبال المعصية، وذلك خطأ صريح وجهل قبيح .. وليست الفدية مبيحة للإقدام على فعل المحرَّم ومَن فعل شيئاً مما يحكم بتحريمه فقد أخرج حجَّة عن أن يكون مبروراً.
ضوابط عامة في أنواع جزاءات الجنايات:
أ- فساد الحج والعمرة، وما يترتب عليه من القضاء والهدي، وذلك بالجماع قبل الوقوف بعرفة إجماعاً، وبالجماع بعد الوقوف قبل التحلل الأول عند الأئمة الثلاثة، خلافاً للحنفية، كذلك تفسد العمرة بالجماع قبل أداء ركنها.
ب- الهَدْي : وربما عُبِّرَ عنه بالدم، وكل موضع أطلق فيه الدم أو الهَدْي تجزيء الشاة، إلا من جامع قبل الوقوف بعرفة، فعليه بدَنة عند الأئمة الثلاثة وشاة عند الحنفية، وإلا من جامع بعد الوقوف قبل التحلل الأول فعليه بدنة اتفاقاً.
ج- الصدقة: حيث أُطْلِقَ وجوب "صدقة" عند الحنفية من غير بيان مقدارها، فإنه يجب نصفُ، صاع من بُرِّ "قمح" أو صاعٌ من شعير أو تمر، ويصح دفعها أين شاء، ولو في غير الحرم، وقيدها الشافعية بالحرم وأوجبوا صاعاً من البُرِّ أو غيره، وتكون الصدقة من أصناف زكاة الفطر، ويجوز إخراج القيمة عند الحنفية خلافاً للأئمة الثلاثة. والصاع يساوي /3640/ غراماً عند الحنفية و /1730/ غراماً عند غيرهم على التقريب. والمُدُّ يساوي ربع صاع.
د- الصيام: يجب الصيام مقابل الطعام، أو على التخيير في الفدية كما هو مفصل فيما يأتي، والصوم لا يتقيد بالحرم ولا بالزمان والتتابع باتفاقهم، إلا الصيام لمن عجز عن هَدْي القِران والتمتع، فإنه يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله. والصوم إنما يقع بدلاً عن دم الشكر لا عن دم الجبر، فاحفظ هذه الكلية في نفسك.
هـ- الضمان بالمثل: وذلك في جزاء الصيد، على ما سنذكر من التفصيل.
و- الفدية: حيث أطلق وجوبها عند المالكية والشافعية والحنبلية فالمقصود الفدية المخيرة التي نص عليها القرآن : {فَفِدْيةٌ مِن صِيامٍ أوْ صدَقةٍ أوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
ز- لا ينقص حظ كل مسكين في الصدقة عند الحنفية عن نصف صاع بُرٍّ أو صاع من شعير أو تمر إلا ما يفضل في كفارة الصيد أو كان الواجب أقلّ من أصله.
ومذهب المالكية والشافعية لا ينقص في الفدية عن مُدَّيْن ولا يزيد لكل واحد من غالب قوت البلد، وأما في جزاء فمُدٌّ كامل لا يزيد ولا ينقص، ونحوهم مذهب الشافعية.
ومذهب الحنابلة: إطعام الفدية إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مُدُّ بُرٍّ أو نصف صاع من تمر أو شعير أو غيرهما مما يجزئ في صدقة الفطر، وكذا الحكم في الإطعام لكفارة الصيد.
ح- الجنايات على الإحرام بالحج أو بالعمرة عقوبتها واحدة، إلا من جامع في العمرة قبل أداء ركنها، فتفسد اتفاقاً:
قال الحنفية والحنابلة: عليه شاة.
وقال الشافعية والمالكية عليه بدنة. وحيثما ذكرنا ودجوب الدم دون تقييد فهو شاة.

المبحث الأول
في
54- الجنايات في اللبس وما يتعلق ببدن المحرم

يتناول هذا المبحث جناياتِ اللبس وتغطية الرأس، والحلق، وقلم الظفر، والطيب،والأدهان.
والأصل في عقوبة هذه الجنايات كلها قوله تعالى :
{وَلاَ تَحْلِقُوا رُوؤُسَكُمْ حَتَّى يَبّلُغَ الهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكمُ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}[البقرة: 196].
والنص وارد في جناية الحلق، لكن اتفقوا على إلحاق سائر الجنايات الآنفة به، وأوجبوا فيها الفداء، لأنها ترفه وزينة فهي كالحلق.
أ- الآية واردة في جناية المعذور الذي حلق لمرض أو أذى، وهي صريحة في أن فديته واجبة على التخيير بين الأمور الثلاثة.وهذا موضع اتفاق بين العلماء، إذا كانت جنايته كاملة : إما أنْ يذبحَ شاة، أو يتصدق بثلاثة أصوع، على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم ثلاثة أيام. وإنْ كانتْ قاصرةً يجب عليه صدقة يأتي بيان قدرها في كل موضع بحسبه، ويتخير بينها وبين أنْ يصوم يوماً عن كل نصف صاع عند الحنفية.
ب- أما العامد الذي لا عذر له:
ذهب ا لحنفية إلى أنه أن لا يتخير، بل يجب عليه الدم عيناً أو الصدقة عيناً حسب جنايته مما سيأتي تفصيله، واستدلوا على ذلك بالآية، لأن التخيير شرع فيها عند العذر من مرض أو أذى، وغير المعذور جنايته أغلظ فتتغلظ عقوبته، وذلك بنفي التخيير في حقه.
وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يتخير أيضاً، كالمعذور، واستدلوا بالآية أيضاً.
ج- وأما المعذور بغير المرض والأذى، كالناسي والمُكْرَهِ والجاهل والنائم.
ذهب الحنفية إلى إلحاقه بالعامد، وقالوا إنه لا يتخير، لأن الارتفاق حصل له، وعدم الاختيار أسقط الإثم عنه.
ذهب المالكية إلى أنه يجب الفداء مُخَيَّراً كالعامد.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى التمييز بين جناية فيها إتلاف، وجنايةٍ ليس فيها إتلاف، فأوجبوا عليه الفدية في الاتلاف يستوي عمده وسهوه، ولم يوجبوا فدية في غير الاتلاف، وهو اللبس وتغطية الرأس والطيب.
المذاهب في الفدية لكل من جنايات:
55- أولاً: اللباس:
ذهب الحنفية إلى أنه مَن لبس شيئاً من الألبسة المحظورة في الإحرام نهاراً كاملاً أو ليلة، كأَنْ لبس مخيطاً، أو غطى الرجل رأسه أو وجهه وجب عليه الدم، وكذا المرأة إذا غطت وجهها غطاء يمسه. وإن كان أقل من يوم أو ليلة فعليه صدقة.
وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه يجب الفداء بنفس اللبس، ولو لم يستر زمناً.
وذهب المالكية إلى أنه يشترط لوجوب الفدية من لبس الثوب أو الخف أن ينتفع به من حر أو برد، فإنْ لم ينتفع به من حر أو برد، بأنْ لبسَ قميصاً رقيقاً لا يقي حراً ولا برداً يجب الفداء إن امتد لبسُه مدةً كاليوم، لأنه يحصل فيه ارتفاق.
56- ثانياً: الطيب:
فرّق الحنفية بين تطييب المحرم بدنه وبين تطييب ثوبه:
أ- أما البدن فقالوا: تجب شاة إن طيب المحرم عضواً كاملاً، مثل الرأس، واليد، والساق، أو ما يبلغ عضواً كاملاً. والبدن كله كعضو واحد إن اتحد مجلس التطيب، وإن تفرق المجلس فلكل طيب كفارة، وتجب إزالة الطيب، فلو ذبح ولم يُزِلْهُ لزمه دم آخر.
وإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة، لقصور الجناية.
ولم يشترط الحنفية استمرار الطيب على البدن لوجوب الجزاء، بل يجب بمجرد التطيب.
ب- وأما تطييب الثوب فيجب فيه الدم بشرطين:
1) أن يكون كثيراً، وهو ما يصلح أن يغطي مسافة تزيد على شبر في شبر.
2) أن يستمر نهاراً أو ليلة.
فإن اختل أحد الشرطين وجبت الصدقة، وإن اختل الشرطان معاً وجب التصدق بقبضة من القمح.
ومذهب المالكية والشافعية والحنابلة وجوب الفداء في الطيب، ولم يقيدوه بأن يطيب عضواً كاملاً، أو مقداراً من الثوب معيناً، بل إن أي تطيب يوجب الفداء.
57- ثالثاً: الدهن:
لو دهن بزيت غير مطيب، فحكمه حكم الطيب عند أبي حنيفة ومالك، إذا استعمله في أي موضع من جسمه لغير مرض، لأنه أصل الطيب، فهو يلين الشعر وينميه ويحسنه، ويلين الجسم، ويزيل عنه الهوام.
أما إن استعمله للتداوي، كأن وضعه على جرحه، أو شقوق رجليه فلا كفارة عليه.
وقال الشافعي وأحمد - في رواية - إن استعمله في شعر الرأس واللحية وجب الفداء، لأنه يزيل الشعث، وإن كان في غيره جاز ولا شيء فيه، سواء شعره وبشره، والمعتمد عند الحنبلية إباحة الادّهان بدهن غير مطيب في أي موضع ولا فداء فيه إطلاقاً.
58- رابعاً الحلق أو التقصير:
أ- مذهب الحنفية أن من حلق ربع رأسه، أو ربع لحيته يجب عليه الفداء، لأن الربع يقوم مقام الكل على ما سبق في بحث الحلق، فيجب فيه الفداء الذي دلت عليه الآية الكريمة إن كان معذوراً أو الدم إن لم يكن معذوراً، ويجب على الحلاق صدقة إذا كان محرماً، وكذا لو حلق لحلال.
وإن حلق خصلة من شعره أقل من الربع يجب عليه الصدقة، أما إن سقط من رأسه أو لحيته عند الوضوء أو الحك ثلاث شعرات، فعليه بكل شعرة صدقة كف من طعام. وإن تساقط أكثر من مرة في أكثر من مجلس فلكل مجلس مُوْجَبُه.
وإن حلق رقبته كلها أو إبطيه أو أحدهما يجب الدم، أما إن حلق بعض واحد منهما وإن كثر فتجب الصدقة، لأن حلق جزء عضو من هذه الأشياء ليس ارتفاقاً كاملاً، لعدم جريان العادة بحلق البعض فيها، فلا يجب إلا الصدقة.
وقرر الحنفية أن في حلق الشارب حكومة عدل، بأن ينظر إلى هذا المأخوذ كم يكون من ربع اللحية ؟ فيجب عليه بحسابه من الطعام.
مثاله: لو أخذ من الشارب قدر نصف ثُمُنِ اللحية يجب عليه من الطعام ما يساوي ربع الدم.
وذهب المالكية إلى أنه إن أخذ اثنتي عشرة شعرة فأقل ولم يقصد إزالة الأذى يجب عليه أن يتصدق بحفنة قمح، وإن أزالها بقصد إماطة الأذى تجب الفدية، ولو كانت شعرة واحدة. وتجب الفدية إذا أزال أكثر من اثنتي عشرة شعرة لأي سبب كان. وشعر البدن كله سواء.
وإن سقط من شعره في وضوء أو غسل فلا شيء عليه عندهم.
وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه تجب الفدية لو حلق ثلاث شعرات، كما تجب لو حلق جميع الرأس بشرط اتحاد المجلس أي الزمان والمكان.
ولا يجب على المحرم الجزاء إذا حلق لمحرم آخر بإذنه، لأنه كالآلة، فلا يضاف إليه الحلق. لكنه يأثم لمساعدته فيه.
ولو حلق شعرة أو شعرتين ففي شعرة مُدٌّ، وفي شعرتين مُدَّان من القمح، وسواء في ذلك كله شعر الرأس وشعر البدن.
ب- أما إذا سقط شعر المحرم بنفسه من غير صنع آدمي فلا فدية باتفاق المذاهب.
59-- خامساً: تقليم الأظفار:
ذهب الحنفية إلى أنه: إذا قص أظفار يديه ورجليه جميعها في مجلس واحد تجب عليه شاة، وكذا إذا قص أظفار يد واحدة، أو رجل واحدة تجب شاة. وإن قص أقل من خمسة أظفار من يد واحدة، أو خمسة متفرقة من أظفاره تجب عليه صدقة لكل ظفر.
وذهب المالكية أنه إن قلم ظفراً واحداً عبثاً أو ترفهاً يجب عليه صدقة حفنة من طعام، فإن فعل ذلك لإماطة الأذى أو الوسخ ففيه فدية، وإنْ قلّمه لكسره فلا شيء عليه إذا تأذَّى منه، ويقتصر على ما كُسِر منه. وإن قلّم ظفرين في مجلس واحد فَفِدْية، ولو لم يقصدْ إماطةَ الأذى.
وذهب الشافعية والحنابلة يجب الفداء في تقليم ثلاثة أظفار فصاعداً في مجلس واحد، ويجب في الظفر والظفرين ما يجب في الشعرتين.
60- سادساً: قتل القُمَّلِ أو إلقاؤه:
لأن فيه إزالة الأذى، وقتله في غير الإحرام لا شك مطلوب شرعاً، لكنه كره حال الإحرام: فقال الحنفية: يجب أن يتصدق بما شاء.
وقال الشافعية: يستحب أن يتصدق ولا يجب.
وقال المالكية فقالوا: إنه يجري مجرى الشعر تماماً.
* * *

المبحث الثاني
في
الصيد وما يتعلق به

61- الأصل في جزاء الصيد قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [المائدة : 95].
وقد أجمع العلماء على وجوب الجزاء في قتل الصيد، واختلفوا في بعض التفاصيل.

62- أولاً: قتل الصيد
أ- نصت الآية على وجوب الجزاء في قتل الصيد عمداً، ولم تنص على قتله خطأ، وقد اتفقت المذاهب الأربعة على أن الخطأ في هذا الباب كالعمد، لأن العقوبة شرعت ضماناً للمُتْلفَ، وذلك يستوي فيه العمد والخطأ والجهل والسهو والنسيان.
ب- هذا الجزاء نصب الآية على أنه {مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } وأنه يُخَيَّر فيه بين الخصال الثلاث. واختلف العلماء في تفسير هذين الأمرين:
ذهب الحنفية إلى أنه تقدر قيمة الصيد بتقويم رجلين عَدْلين، وتعتبر القيمة في موضع قتله، ثم يخير الجاني بين ثلاثة أمور:
1) أن يشتري هدياً ويذبحه في الحرم إن بلغت القيمة هدياً.
2) أن يشتري طعاماً ويتصدق به على كل مسكين نصف صاع من بُرٍّ أو صاعاً من شعير، أو تمر، كما في صدقة الفطر، ولا يجوز أن يعطي أقل مما ذكرنا، إلا إن فضل من الطعام أقل منه فيجوز أن يتصدق به، ولا يختص التصدق بمساكين الحرم.
3) أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً، وعن أقل من نصف صاع - إذا فضل - يوماً أيضاً.
وذهب الأئمة الثلاثة -المالكية والشافعية والحنبلية- إلى التفصيل فقالوا:
الصيد ضربان : مثلي : وهو ماله مثل من النَّعَم، أي مشابه في الخِلقِة من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وغير مثلي وهو ما لا يشبه شيئاً من النعم.
أما المثلي: فجزاؤه على التخيير والتعديل، أي إن القاتل يخير بين ثلاثة أشياء على الوجه التالي:
1) أَنْ يذبَح المثل المشابه من النعم في الحرم، ويتصدق به على مساكين الحرم.
2) أن يقوِّم المثلَ دراهم ثم يشتري بها طعاماً، ويتصدق به على مساكين الحرم. ولا يجوز تفرقة الدراهم عليهم.
وقال مالك بل يقوِّمُ الصيدَ نفسه ويشتري به طعاماً يتصدق به على مساكين موضع الصيد، فإن لم يكن فيه مساكين فعلى مساكين أقرب المواضع إليه ويعطى كل مسكين مُدٌّ، وإن فضل بعض مُدٍّ أعطي لمسكين.
3) إنْ شاء صام عن كل مُدٍّ يوماً، ويجوز الصيام في الحرم وفي جميع البلاد. وإن انكسر مُدٌّ وجب صيام يوم.
وأما غير المثلي: فيجب فيه قيمته ويتخير فيها بين أمرين:
أنْ يشتريَ بها طعاماً يتصدق به على مساكين الحرم، وعند مالك على المساكين في موضع الصيد.
2) أنْ يصومَ عن كل مُدٍّ يوماً كما ذكرنا سابقاً.
ثم قالوا في بيان المثلي: المعتبر فيه التشابه في الصورة والخلْقَة، وكل ما ورد فيه نقل عن السلف فيتبع، لقوله تعالى : {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}. وما لا نقل فيه يحكم بمثله عدلان ذكيان بهذا الأمر عملاً بالآية.
والكلام عليه في الدواب، ثم في الطيور.
أما الدواب: ففي النعامة بدنة وفي بقر الوحش وحمار الوحش بقرة إنسية، وفي الغزال عَنْز، وفي الأرنب عَناق، وفي اليَرْبُوعِ جَفْرة.
وقال مالك: في الأرنب واليربوع والضب القيمة.
وأما الطيور: ففي أنواع الحمام شاة، والمراد بالحمام كل ما عبّ في الماء وهو أن يشربه جَرْعاً، فيدخل فيه اليمام اللواتي يألفن البيوت، والقُمْرِيُّ، والقطاة، والعرب تسمي كل مطوَّق حماماً.
وإن كان الطائر أصغر من الحمام جثة ففيه القيمة، وإن كان أكبرَ من الحمام كالبطة والأوزة فالأصح أنه يجب فيه القيمة إذ لا مثل له.
وقال مالك: تجب شاة في حمام مكة والحرم ويمامهما، وفي حمام ويمام غيرهما تجب القيمة وكذا في سائر الطيور.
واتفق الجمهور على أن في الجرادة صدقة تمْرَة.
وقال الشافعية والحنابلة: الواجب في الصغير من الصيد المثلي صغير مثله من النعم. لقوله: {فَجزاءٌ مِثْلُ ما قتل} وهذا مثل فيجزيء.
وقال مالك: يجب فيه كبير لقوله تعالى: {هَدْياً بالغَ الكعبة}، والصغير لا يكون هدياً، وإنما يجزيء في الهدي ما يجزيء في الأضحية.
63- ثانياً: إصابة الصيد:
ذهب الحنفية والشافعية والحنبلية إلى أنهإذا أصابَ المحرم الصيدَ بضرر ولم يقتلْه يجبُ عليه الجزاء بحسب تلك الإصابة:
قال الحنفية: إنْ جَرَح المحرم صيداً أو نتف شعره ضمن قيمة ما نقص منه، اعتباراً للجزء بالكل، فكما تجب القيمة بالكل تجب الجزء، وهذا الجزاء يجب إذا بريء الحيوان وظهر أثر الجناية عليه، أما إذا لم يبق لها أثر فلا يضمن لزوال الموجب.
وقال الشافعية والحنابلة: إن جرح صيداً يجب عليه قدر النقص من مثله من النعم، إن كان مثلياً، وإلا يقدر ما نقص من قيمته، وإذا أحدث به عاهة مستديمة فوجهان عندهم، أصحهما يلزمه جزاء كامل.
قال الحنفية وهو أحد قولين للشافعي أما إذا أصابه أزالت امتناعه عمن يريد أخذه وجب الجزاء كاملاً، لأنه فوّت عليه الأمن بهذا.
وفي قول عند الشافعية: يضمن النقص فقط.
وذهب المالكية إلى أنه لا يضمن ما غلب على ظنه سلامته من الصيد بإصابته بنقص ولا جزاء فيه، ولا يلزمه فرق ما بين قيمته سليماً وقيمته بعد إصابته.
هذا ويجب بسبب حلب الصيد وكسر بيضة قيمة كل من اللبن والبيض.
64-ثالثاً: جناية الحلال على صيد الحرم وشجره:
مذهب الحنفية: إن ذبح الحلال صيد الحرم وجب عليه قيمته يتصدق بها، ولا يجوز الصوم في هذه المسألة عندهم، لأن الواجب هو الضمان بقتله، والصوم لا يصلح ضماناً.
ومذهب مالك والشافعي وأحمد: يجب عليه ما يجب على المحرم إذا قتل صيداً قياساً له عليه.
- أما قطع شجر الحرم أو حشيشه الرطب مما ليس مملوكاً لأحد وليس مما يستنبته الناس:
ذهب الحنفية: إلى أنه يضمن القاطع القيمة ويتصدق بها، ولا مدخل للصوم في هذا الجزاء أيضاً، لأنه ضمان متلف.
وذهب مالك: إلى أنه يأثم ولا ضمان عليه، لأن الضمان قدر زائد على التحريم يحتاج لدليل، بل يستغفر الله.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنَّ الأصح وجوب الضمان فيه من النعم، وفي الشجرة الكبيرة بقرة، والصغيرة شاة، والحشيش الرطب يضمن بالقيمة إن لم يُخْلِفْ فإن أخلف فلا ضمان.
والمضمون هنا على التخيير والتعديل عند الشافعية كما في الصيد.
* * *

65-المبحث الثالث في الجماع ودواعيه

أ- الجماع في إحرام الحج:
اتفق العلماء على أن الجماع حالة الإحرام جناية، ويصدق ذلك على هذه الأحوال الثلاث الآتية :
1- قبل الوقوف بعرفة.
2- بعد الوقوف قبل التحلل الأول.
3- بعد الوقوف بعرفة والتحلل الأول فقط.
1) الجماع قبل الوقوف بعرفة:
مَنْ جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه بإجماع العلماء، ووجب عليه ثلاثة أمور:
الأول : الاستمرار في حجة الفاسد إلى نهايته، لقوله تعالى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لله} وجه الاستدلال أنه "لم يفرق بين صحيح وفاسد".
الثاني : أداء حج جديد في المستقبل قضاء للحجة الفاسدة، ولو كانت نافلة، ويستحب أن يفترقا في حجة القضاء هذه، عند الأئمة الثلاثة منذ الإحرام، وأوجب المالكية الافتراق منذ خروجها من المنزل في سفر حجة القضاء، سداً لذريعة الوقوع في هذا المحظور الذي أفسد حجمها، وعملاً بما ورد من أقوال الصحابة في ذلك. واستدل على عدم الوجوب بأن الافتراق ليس بنسك في الأداء، فكذلك في القضاء، فلا يكون واجباً بل مستحباً.
الثالث : ذبح الهدي في حجة القضاء:
قال الحنفية: يذبح شاة.
وقال الأئمة الثلاثة: لا تجزئ الشاة، بل يجب عليه بدنة أي من الجمال ذَكَراً أو أنثى.
استدل الحنفية بما ورد أن رجلاً جامع امرأته وهما محرمان، فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما: "اقْضِيا نُسْكَكُما وأَهْدِيا هَدْياً" رواه أبو داود في المراسيل، والبيهقي، وبما رُوِيَ من الآثار عن الصحابة أنه يجب عليه شاة.
واستدل الشافعية ومن معهم بفتوى جماعة من الصحابة، ولم يُعْرَفْ لهم مخالف.
2) الجماع بعد الوقوف قبل التحلل الأول:
ذهب الحنفية إلى أنَّ من جامع بعد الوقوف بعرفة قبل التحلل الأول فلا يفسد حجه، ويجب عليه أن يهدي بدنة عندهم.
وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنه يفسد حجه ما دام قد واقع قبل التحلل الأول، وعليه بدنة أيضاً.
3) الجماع بعد التحلل الأول:
وقد اتفقوا المذاهب الأربعة على أن الجماع بعده لا يفسد الحج، وألحق المالكية به الجماع بعد طواف الإفاضة ولو قبل رمي جمرة العقبة، والجماعَ بعد يوم النحر ولو قبل رمي العقبة والإفاضة.
ووقع الخلاف في الجزاء الواجب:
فذهب الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه يجب عليه شاة. قالوا في الاستدلال : إنه لخفة الجناية لوجود التحلل في حق غير النساء.
وقال مالك وهو قول عند الشافعية والحنابلة إنه يجب عليه بدنة، وعُلِّلَ ذلك بأنه لعظم الجناية على الإحرام.
وأوجب مالك والحنابلة على من فعل هذا الجناية بعد التحلل قبل الإفاضة أنْ يخرج إلى الحل ويأتي بعمرة، لقول ابن عباس بذلك.
وذلك أنه لما أدخل النقص على طوافه للإفاضة بما أصابه من الوطء كان عليه أنْ يقضيَه بطوافٍ سالم إحرامُه من ذلك النقص، ولا يصلح أن يكون الطواف في إحرام إلا في حج أو عمرة.
ب- الجماع في إحرام العمرة:
1) ذهب الحنفية إلى أنه لو جامع قبل أن يؤدّي ركن العمرة وهو الطواف أربعة أشواط تفسد عمرته، أما لو وقع المفسد بعد ذلك لا تفسد العمرة، لأنه بأداء الركن أمن الفساد.
وذهب المالكية إلى أن المفسد إن حصل قبل تمام سعيها ولو بشوط فسدت، أما لو وقع بعد تمام السعي قبل الحلق فلا تفسد، لأنه بالسعي تتم أركانها، والحلق من شروط الكمال عندهم.
ومذهب الشافعية والحنبلية أنه إذا حصل المفسد قبل التحلل من العمرة فسدت.
والتحلل بالحلق وهو ركن عند الشافعية واجب عند الحنفية.
2) يجب في إفساد العمرة ما يجب في إفساد الحج من الاستمرار فيها ثم القضاء، والفداء باتفاق العلماء.
لكن اختلفوا في فداء إفساد العمرة:
فمذهب الحنفية والحنبلية وأحد القولين عند الشافعية أنه يلزمه شاة لأنها أحط رتبة من الحج، فخفت جنايتها، فوجبت شاة.
ومذهب المالكية والشافعية أنه يلزمه بدنة قياساً على الحج.
__________________
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
جوال زاد الحج .. زادك في الحج .. هدية لكل حاج amar1 نور الإسلام - 0 11-08-2009 10:49 AM
بمناسبة موسم الحج شرح مناسك الحج بالكامل "مـــــــــع فضيله الشيخ / محمد حسان gharib86 خطب و محاضرات و أناشيد اسلاميه صوتية و مرئية 0 11-04-2009 02:15 AM
موضوع هام جداُ : عمرو خالد ، السويدان ، الجندي، الحبيب الجفري، اليد في اليد من اجل اسلام عصري fares alsunna نور الإسلام - 49 08-21-2009 07:52 PM
رئيس اتحاد اليد: موبايلي ساهمت بإزدهار كرة اليد في المملكة نايف 32 رياضة و شباب 0 04-09-2008 02:17 PM


الساعة الآن 01:31 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011