عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيون الأقسام العامة > حوارات و نقاشات جاده

حوارات و نقاشات جاده القسم يهتم بالمواضيع الحوارية والنقاشات الجادة والمتنوعة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 08-19-2009, 03:49 AM
 
Thumbs up الحكمه ضالتك هل وجدتها


تقديم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران:102).
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً" (النساء:1).
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" (الأحزاب:70، 71).
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله -جل وعلا-: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" (البقرة:269).
وقال _سبحانه_:"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (النحل: من الآية125).
فلما للحكمة من مكانة عظيمة من الكتاب والسنة، ولحاجة الأمة حاضراً ومستقبلاً إليها في كل شؤونها، ولخفاء معنى الحكمة على كثير من المسلمين، فقد قمت ببحث هذا الموضوع في ضوء القرآن الكريم، مسترشداً بآياته، مستشهداً بقصصه، متأملاً لأوامره ونواهيه، مع النهل من معين السنة في فهم معنى الحكمة؛ لأن السنة هي المصدر الثاني من مصادر تفسير القرآن الكريم وفهمه.
كما أفدت من كلام السلف من الصحابة ومن بعدهم، توضيحاً لمعاني الحكمة ومدلولاتها، وقد بذلت جهدي، وحرصت على ضرب بعض الأمثلة من الواقع المعاصر تقريباً للفهم، وتحقيقاً للقصد.
وقد عشت مع هذا الموضوع مدة طويلة متأملاً وباحثاً ومحققاً، ولم أقدم على تدوينه ونشره إلا بعد قناعتي بأنه قد استوى على سوقه، مع حاجة الناس إليه.
أسأل الله أن يحسن لنا المقاصد والنيات، وأن يوفقنا للحكمة في أقوالنا وأفعالنا، ونياتنا، إنه نعم المولى ونعم النصير.

أهمية الموضوع

تظهر أهمية موضوع الحكمة من خلال التأمل في العناصر التالية:
1- أن لفظ "الحكيم" ورد في القرآن الكريم عشرات المرات (1).
2- أن "الحكيم" اسم من أسماء الله _تعالى_.
3- أن الله قد أمر بالحكمة، فقال _سبحانه_: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النحل: من الآية125).
4- أن الله أثنى على صاحب الحكمة، فقال: "وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" (البقرة: من الآية269)، وامتن على لقمان حيث آتاه الحكمة، فقال: "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ" (لقمان: من الآية12).
5- أن الله نسب الحكمة إلى نفسه، وجعل إيتاءها من عنده، فقال: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ" (البقرة: من الآية269)، وقال: "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ" (لقمان: من الآية12). وقال: "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً"(يوسف: من الآية22)، وقال: "وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ" (البقرة: من الآية251) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
6- أن الحكمة،هي: الفقه في دين الله، كما فسرها كثير من السلف، والرسول صلى الله عليه و سلم يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " (2).
7- أن الحكمة ضالة المؤمن، متى وجدها فهو أحق بها.
8- أن الرسول صلى الله عليه و سلم دعا لابن عمه، عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- فقال: " اللهم علمه الحكمة " (3).
9- أن مدار نجاح الدعوات على الحكمة.
10- الفهم الخاطئ لمعنى الحكمة من قبل كثير من الناس.
11- مداهنة الظالمين، وضياع الحق، والسكوت على الباطل في كثير من بلاد المسلمين باسم الحكمة.
12- أن الحكمة ظلمت من قبل الخاصة والعامة، فالخاصة وهم بعض صغار طلاب العلم، فمنهم من يدعيها لنفسه، وينسب أعماله إلى الحكمة، وقليل ما هم.
والعامة يصفون كل من أمرهم بخلاف ما هم عليه من هوى أو شهوة، وأنكر بدعهم وضلالاتهم، يسمونه بعدم الحكمة، كالتطرف والعجلة، ونحو ذلك مما يضاد الحكمة.
13- أن الصحوة الإسلامية في يقظتها المعاصرة أحوج ما تكون إلى الحكماء.
14- أن بعض المواقف والأعمال التي قامت بها بعض الجماعات الإسلامية، وبعض الدعاة الغيورين كانت تفتقر إلى الحكمة، كالدخول في معارك عسكرية مع الأنظمة، حتى وإن كانت كافرة (4) وقد جرت مثل هذه الأعمال على أمتنا عموماً، وعلى الدعاة خصوصاً الويلات.
ومثل ذلك أسلوب الاغتيالات، أو إحراق أماكن الفساد في بلد لا يملك فيه المسلمون السلطة.
وكل ذلك بسبب عدم الحكمة الناشئ عن الجهل في فهم النصوص ودلالاتها.
ومن خلال ما سبق تتضح أهمية الحكمة، بل أهمية الحديث عنها في ضوء القرآن الكريم.





1 ورد بلفظ "حكيم" (81) مرة، و"حكيما" (16) مرة.
2 - البخاري (71)، ومسلم (1037) عن معاوية -رضي الله عنه-.
3 - البخاري (3756).
4 - وهذا لا يعني إبطال الجهاد، فالجهاد ماض إلى يوم القيامة ولكن الجهاد له شروطه وأسبابه وأحكامه.
المعنى اللغوي للحكمة

قال ابن فارس: الحاء والكاف والميم أصل واحد، وهو: المنع، وأول ذلك الحكم، وهو المنع من الظلم، وسميت حكمة الدابة؛ لأنها تمنعها.
والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، والمحكم: المجرب المنسوب إلى الحكمة، قال طرفة:
ليت المحكم والموعوظ صوتكماتحت التراب إذا ما الباطل انكشفا
أراد بالمحكم الشيخ المنسوب إلى الحكمة (1).
وقال ابن منظور:
قيل: الحكيم:
ذو الحكمة، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم (2).
وقال الجوهري:
الحكم: الحكمة من العلم.
وصاحب الحكمة: المتقن للأمور.
وقد حكم- بضم الكاف، أي: صار حكيماً، قال النمر بن تولب:
وأبغض بغيضك بغضا رويدا إذا أنت حاولت أن تحكما

قال الأصمعي: أي: إذا حاولت أن تكون حكيماً، والمحكم –بفتح الكاف- هو الشيخ المجرب، المنسوب إلى الحكمة (3).
وقال في(تاج العروس):
والحكمة –بالكسر- العدل في القضاء كالحكم، والحكمة العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، والعمل بمقتضاها، ولهذا انقسمت إلى علمية وعملية، ويقال: هي هيئة القوة العقلية العلمية.
وقيل: الحكمة: إصابة الحق بالعلم والعمل.
فالحكمة من الله: معرفة الأشياء، وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان: معرفته، وفعل الخيرات.
وأحكمه إحكاماً: أتقنه، ومنه قولهم للرجل إذا كان حكيما: قد أحكمته التجارب.
وأحكمه: منعه من الفساد (4).
وفي (المصباح المنير): الحكمة وزان قصبة للدابة، سميت بذلك؛ لأنها تذللها لراكبها حتى تمنعها الجماح ونحوه.
ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأرذال (5).
هذه أهم المعاني اللغوية التي وردت في الحكمة وأصلها.
وكلها تدور حول المنع؛ لأنها تمنع صاحبها من الوقوع فيما يذم فيه، أو ما قد يندم عليه، وتمنعه من اختيار المفضول دون الفاضل، أو المهم قبل الأهم.

معجم مقايس اللغة لابن فارس مادة (حكم) ج 2/91.
2 - لسان العرب مادة (حكم) 15/30.
3 - الصحاح مادة (حكم) 5/1901.
4 - تاج العروس مادة (حكم) 8/353.
5 - المصباح المنير 1/200.





الحكمة في القرآن الكريم

ورد لفظ الحكمة في القرآن الكريم عشرين مرة، في تسع عشرة آية، في اثنتي عشرة سورة، وقد ورد لعدة معان، وتفصيل ذلك كما يلي: اختلف المفسرون في تفسير الآيات الواردة بلفظ الحكمة، فنجد مقاتل -كما ذكر الرازي- يقول: تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه:
أحدها: مواعظ القرآن، قال -تعالى- في سورة البقرة، الآية: 231: "وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ" (البقرة: من الآية231) ومثلها في آل عمران.
وثانيهما: الحكمة بمعنى: الفهم والعلم، ومنه قوله – تعالى -: "وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً" (مريم: من الآية12)، وفي سورة لقمان (الآية: 12) "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ" (لقمان: من الآية12) يعني: الفهم والعلم، وفي (الأنعام الآية: 89): "أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ" (الأنعام: من الآية89).
ثالثها: الحكمة بمعنى النبوة، ففي النساء 54: "فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (النساء: من الآية54)، وفي (ص 20) "وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ" (صّ: من الآية20) وفي البقرة: "وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ" (البقرة: من الآية251).
ورابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار، ففي النحل 125"ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ" (النحل: من الآية125)، وفي (البقرة 269) "وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" (البقرة: من الآية269)(1).
ويقول الفيروزآبادي: وردت -الحكمة- في القرآن على ستة أوجه:
الأول: بمعنى النبوة والرسالة، "وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (آل عمران: من الآية48). "وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ" (صّ: من الآية20) "وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ" (البقرة: من الآية251). أي: النبوة.
الثاني: بمعنى القرآن والتفسير والتأويل، وإصابة القول فيه: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً" (البقرة: من الآية269).
الثالث: بمعنى فهم الدقائق والفقه في الدين "وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً" (مريم: من الآية12).
الرابع: بمعنى: الوعظ والتذكير "فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ" (النساء: من الآية54). أي: المواعظ الحسنة، "أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ" (الأنعام: من الآية89).
الخامس: آيات القرآن وأوامره ونواهيه "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النحل: من الآية125).
السادس: بمعنى حجة العقل على وفق أحكام الشريعة، "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ" (لقمان: من الآية12) أي: قولاً يوافق العقل والشرع (2).
وقال ابن كثير:
قال علي بن طلحة عن ابن عباس: يعني المعرفة بالقرآن، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله (3).
وقال -أيضاً-: روي عن ابن عباس مرفوعاً: الحكمة القرآن، يعني تفسيره.
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: "يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ" (البقرة: من الآية269). ليست بالنبوة، ولكنه العلم والفقه والقرآن.
وقال إبراهيم النخعي: الحكمة: الفهم.
وقال أبو مالك: الحكمة: السنة.
وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل.
وقال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هي: الفقه في الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله.
قال السدي: الحكمة: النبوة.
وهذه الأقوال ذكرها ابن كثير ثم عقب قائلاً: والصحيح أن الحكمة -كما قال الجمهور- لا تختص بالنبوة، بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص (4)ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع، كما جاء في بعض الأحاديث (5).
وقال عبد الرحمن السعدي مفسرًا الحكمة:
الحكمة، هي: العلوم النافعة والمعارف الصائبة، والعقول المسددة، والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال، ثم قال: وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة، التي هي: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام (6).
وقال القاسمي في تفسير الحكمة:
قال كثيرون: الحكمة: إتقان العلم والعمل، وبعبارة أخرى: معرفة الحق والعمل به (7).
وقال الرازي: والمراد بالحكمة: إما العلم، وإما فعل الصواب (8).
ونواصل الحديث عن (الحكمة) في كتاب الله كما بينها المفسرون.
فقد قال رشيد رضا مفسراً:
الحكمة: التمييز بين ما يقع في النفس من الإلهام الإلهي والوسواس الشيطاني (9).
قال الألوسي: وفي (البحر): إن فيها تسعة وعشرين قولاً لأهل العلم، قريب بعضها من بعض، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحاً واقتصاراً على ما رآه القائل فرداً مهماً من الحكمة، وإلا فهي في الأصل: مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها (10).
أما ابن عاشور فقد قال:
وفسرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة، أي: بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض، ولا يغلط في العلل والأسباب (11).
ونختم أقوال المفسرين في الحكمة بما ذكره سيد قطب -رحمه الله- حيث فسر الحكمة بأنها:
القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال (12).
هذه خلاصة لأهم أقوال المفسرين في تفسير معنى الحكمة في كتاب الله، ونستطيع أن نقول: إن المفسرين فسروا الحكمة بتفسيرين:
الأول: النبوة.
الثاني: العلم والإتقان، والتوفيق، والبصيرة، والعمل الصائب، ومنع الظلم، ووضع الشيء في موضعه، وكلها معان متقاربة.

- انظر: التفسير الكبير للرازي 7/67 والحكمة في الدعوة إلى الله ص 20.
2 - بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 2/490 والحكمة في الدعوة إلى الله 8.
3 - تفسير ابن كثير 1/322.
4- لأن كل رسول نبي ولا عكس.
5 - انظر: تفسير ابن كثير 1/322.
6 - انظر: تفسير ابن سعدي 1/332.
7 - انظر: تفسير القاسمي 1/245.
8 - انظر: تفسير الرازي 7/67.
9 - المنار 3/75.
10 - روح المعاني 2/41.
11 - التحرير والتنوير 3/61.
12 - في ظلال القرآن 1/312.
الحكمة في السنة

السنة هي المفسرة للقرآن، وهي المصدر الثاني للتشريع، ولذا سأذكر بعض الأحاديث التي وردت في الحكمة مع الاختصار في ذلك:
وقد وردت بعض الأحاديث الصحيحة، وكثير من الأحاديث الضعيفة.
وسأقتصر على أهم الأحاديث الصحيحة في هذا الباب، مع ذكر بعض الأحاديث الضعيفة، وبخاصة المشتهر منها على الألسنة.
أولاً: الأحاديث الصحيحة:
1- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى صدره، وقال: " اللهم علمه الحكمة" (1) رواه البخاري.
قال البخاري: الحكمة: الإصابة في غير النبوة.
قال ابن حجر: واختلف المراد بالحكمة هنا:
فقيل: الإصابة في القول.
وقيل: الفهم عن الله.
وقيل: ما يشهد العقل بصحته.
وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس.
وقيل: سرعة الجواب بالصواب.
ومنهم من فسر الحكمة هنا بالقرآن (2).
2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:"فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري ثم أطبقه " رواه البخاري (3).
3- وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :"لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" (4). رواه البخاري.
والحكمة هنا فسرت بالقرآن، كما وردت في حديث آخر. (5)
4- وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:"إن من الشعر حكمة " (6). حديث صحيح.
قال ابن حجر: إن من الشعر حكمة، أي: قولاً صادقاً مطابقاً للحق.
وقيل: أصل الحكمة: المنع، فالمعنى: إن من الشعر كلاماً نافعاً يمنع من السفه (7).
5- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: "أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً، الإيمان يمان والحكمة يمانية " حديث صحيح (8).
قال ابن الصلاح: إن المراد بالحكمة: العلم المشتمل على المعرفة بالله (9).
ومعاني الحكمة في هذه الأحاديث قريبة من المعاني التي ذكرتها عند بيان الحكمة في كتاب الله.
ولعل مما يجدر ذكره هنا أن هناك بعض الأحاديث المشتهرة على الألسنة في الحكمة مع أن أسانيدها ضعيفة، مع الإشارة إلى جودة معناها، وأنها لا تخرج عن كونها حكماً، إذا ما يثبت صحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ومنها:
1- " إذا رأيتم الرجل قد أعطي زهداً في الدنيا وقلة منطق، فاقتربوا منه، فإنه يلقن الحكمة " رواه أبو هريرة، وروي عن أبي خلاد، وهو ضعيف (10).
2- " الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها " وفي لفظ: "حيث وجدها جذبها"، وهو مروي عن أبي هريرة وعلي، وهو ضعيف جداً (11).
3- "من أخلص لله أربعين يوماً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه " روي عن أبي أيوب، وهو ضعيف (12).
4- " الطمع يذهب الحكمة من قلوب العلماء" روي عن أنس، وهو موضوع (13).
5- " قلب ليس فيه حكمة كبيت خرب" روي عن ابن عمر، وهو ضعيف (14).
6- " رأس الحكمة مخافة الله" روي عن ابن مسعود، وهو ضعيف (15).
7- " الرفق رأس الحكمة " روي عن جرير، وهو ضعيف (16).
8- " الحكمة عشرة أجزاء، تسعة منها في العزلة، وواحد في الصمت " رواه أبو هريرة، وهو حديث ضعيف جداً (17).
9- " الحكمة تزيد الشريف شرفاً، وترفع العبد المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك" روي عن أنس، وهو ضعيف (18).
10- " أنا دار الحكمة وعَلِيٌّ بابها " روي عن علي، وهو موضوع (19).

البخاري (3756).
2 - انظر: فتح الباري 7/100 والحكمة في الدعوة إلى الله ص 23.
3 - البخاري (349)، ومسلم (163).
4 - البخاري (73)، ومسلم (816).
5 - انظر: فتح الباري 1/167.
6- انظر: فتح الباري 10/540، والحكمة في الدعوة إلى الله ص 24.
7- البخاري (6145).
8 - البخاري (4388)، ومسلم (52).
9 - فتح الباري 6/532، والحكمة في الدعوة إلى الله ص 24.
10 - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (508).
11 - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (4302).
12- انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (5369).
13 - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (3659).
14- انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (4107).
15 - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (3066).
16 - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (3159).
17 - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث 2787.
18 - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (2786).
19 - انظر: ضعيف الجامع الصغير للألباني حديث (1313
الحكمة كما عرفها بعض العلماء

هناك عدة تعريفات أخرى للحكمة وهي لا تخرج عن معنى التعريفات السابقة، ولكن ذكرها يزيد الأمر وضوحا، ومن ذلك:
1- قيل: هي وضع الشيء في موضعه .
2- وقال ابن القيم: وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك، إنها: معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل، وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن، والفقه في شرائع الإسلام، وحقائق الإيمان .
3- وقال رشيد رضا: الحكمة: العلم الصحيح، الذي يبعث الإرادة إلى العمل النافع الذي هو الخير .
4- قال الرازي: حكم الحكمة والعقل، هو الحكم الصادق المبرأ من الزيغ والخلل، وحكم الحسن والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة .
وأخيرا: لعل خير خلاصة تجمع أغلب هذه المعاني التي وردت في الحكمة هي أنها: "فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي" .
ولنأخذ، مثلا، يوضح ذلك:
الأمر بالصلاة، مما ينبغي، والأمر بشرب الخمر، لا ينبغي. وعلى الوجه الذي ينبغي، فقد يكون -الأمر بالصلاة- تذكيرًا، أو أمرًا، أو ضربا حسب الأحوال .
وفي الوقت الذي ينبغي، وذلك بمراعاة الزمان والمكان، وهذا له عدة صور وأحوال تجب مراعاتها.


أقسام الحكمة

قال ابن القيم: والحكمة، حكمتان: علمية، وعملية. فالعلمية: الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خلقا وأمرا، قدرا وشرعا. والعملية، كما قال صاحب المنازل: وضع الشيء في موضعه.
قال: وهي على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعديه حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه.
الدرجة الثانية: أن تشهد نظر الله في وعده، وتعرف عدله في حكمه، وتلحظ بره في منعه. ومن معاني هذه الدرجة قول أهل الإثبات والسنة: إنها -أي الحكمة- الغايات المحمودة المطلوبة له -سبحانه- بخلقه وأمره، التي أمر لأجلها، وقدر وخلق لأجلها.
الدرجة الثالثة: أن تبلغ في استدلالك البصيرة، وفي إرشادك الحقيقة، وفي إشاراتك الغاية. قال ابن القيم: يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم، وهي البصيرة التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه هي الخصيصة التي اختص بها الصحابة على سائر الأمة، وهي أعلى درجات العلماء (1).

1-انظر: مدارج السالكين، منزلة الحكمة 2/478.
أمثلة من الحكمة في القرآن الكريم

القرآن كله حكمة، (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) (يونس: من الآية1). (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) (هود: من الآية1). ولم لا يكون كذلك، وهو (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42).
ولأن موضوعنا مستمد من كتاب الله، ومعالجتي له في ضوء القرآن الكريم، فسأذكر بعض الأمثلة التي تبين منهج الحكمة كما يعرضها القرآن من خلال بعض الوقائع والأحداث.
أولا: قصة أصحاب الكهف
إن قصة أصحاب الكهف -كما ذكرها الله- قصة عجيبة، ولن نقف عند تفصيل القصة، ولكن أشير إلى موضع الحكمة في تصرف هؤلاء الفتية، وقدرتهم على تجاوز المحنة التي مروا بها.
فقد ذكر ابن كثير (1) نقلا عن غير واحد من السلف والخلف أن هؤلاء الفتية كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وقد فارقوا قومهم لما رأوا ما هم عليه من عبادة غير الله، حيث كانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ويذبحون لها، ولهم ملك جبار عنيد، فاتفقت كلمة هؤلاء الفتية على اعتزال قومهم، واتخاذ مكان يعبدون الله فيه، فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه، فسألهم عن أمرهم، وما هم عليه، فأجابوه بالحق، ودعوه إلى الله عزوجل وهذا معنى قوله -تعالى- (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً) (الكهف:14). ولكن ملكهم أبى دعوتهم وتهددهم وتوعدهم إن لم يرجعوا إلى دين قومهم، وأعطاهم مهلة لينظروا في أمرهم، وبعد ذلك اجتمعوا وقرروا الفرار بدينهم مرة أخرى إلى مكان آخر، وهو الكهف الذي لجأوا إليه، وذكر الله لنا تفاصيل قصتهم في الكهف.
وتظهر الحكمة في قصتهم بما يلي:
1- أن هدايتهم إلى دين الله، وعدم تقليد قومهم على ما هم عليه هو عين الحكمة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
2- اعتزالهم لقومهم، بعد أن أدركوا أنه لا ينفع معهم نصح ولا دعوة، وهذه هي العزلة المشروعة، وبخاصة عند وقوع الفتن أو الخشية منها، وهذا مصداق الحديث الصحيح: " يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن " .
3- صمودهم على الحق عند مواجهتهم للباطل.
4- العزلة الثانية، وهي عزلة سرية، لأن العزلة الأولى كانت عزلة دون تخف، حيث علم بهم قومهم، وعلموا ما هم عليه.
أما هذه العزلة، فكانت عزلة سرية، لا يعلم مكانهم، لما قد يترتب على ذلك من مفاسد. (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) (الكهف:20).
وكأنهم يشيرون إلى العزلة الأولى، ثم الفرصة التي أعطيت لهم، حيث علموا أن الفرصة لن تتكرر.
5- حكمتهم في قضاء حوائجهم، (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (الكهف: من الآية19).
إن هذه القصة، قصة عجيبة، فيها الحكمة، والعبرة، وبيان منهج الدعوة، وحسن استخدام الوسائل، وتقدير المصالح والمفاسد، ومعرفة ما آلت إليه الأمور، إلى غير ذلك من الدروس والعبر.

ثانيا: قصة سليمان وملكة سبأ
وهي قصة طويلة ذكرها الله في سورة النمل، وقد فصل المفسرون فيها، وذكروا فيها عددا من الروايات، ولم تخل من الإسرائيليات (2) وسأقتصر على النص القرآني للوقوف عند بعض هذه المواقف التي نلتمس فيها الحكمة في التصرف واتخاذ القرار.
1- وأول موقف نراه هو عناية سليمان برعيته، وتفقده لأحوالهم. (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) (النمل:20).
2- وسليمان -عليه السلام- لا يتعجل بالحكم على غياب الهدهد، حيث وضع الاحتمال الأول بالسؤال عن سبب عدم رؤيته، (مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) (النمل: من الآية20). فقد يكون موجودا، ولكن سليمان لم يره لسبب من الأسباب، أم أنه كان من الغائبين!!.
إنه منهج للتثبت وعدم العجلة، قبل اتخاذ القرار.
3- وعندما تأكد لسليمان - عليه السلام- أنه كان غائبا أصدر القرار العادل:
العذاب الشديد، أو: الذبح، أو: البراءة، وهي التي تنجيه من إحدى هاتين العقوبتين -إن جاء بسلطان مبين- فسليمان -عليه السلام- لم يغتر بملكه وقوته وقدرته ليتسلط على هذا المخلوق الضعيف، لأنه يعلم قدرة الله عليه.
وقد كان احتياط سليمان -عليه السلام- سليما، ووضعه للاحتمالات كان صائبا، فقد ثبتت براءة الهدهد، فقد جاء بسلطان مبين، (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ) (النمل: من الآية22).
إنه منهج للعدل، يرسمه سليمان -عليه السلام- وأسلوب في القيادة يندر له المثيل.
4- يسمع سليمان -عليه السلام- خبر سبأ كما حكاه الهدهد، والخبر في غاية الأهمية، بل إنه خبر يزلزل الجبال، ملك قوي، وعرش عظيم، ويعبدون غير الله، كل هذا وهم في جوار سليمان، فقد يهددون ملكه ذات يوم (3) ومع هذا فلا يتعجل -عليه السلام- ويلتزم منهج التثبت، مع أنه يعلم أن الهدهد أقل من أن يكذب عليه (4) وبخاصة أن الهدهد بحاجة إلى براءة ساحته بعد تخلفه وغيابه، فمن المستبعد أن يضيف إلى ذلك جريمة لا تغتفر، فإذا كانت عقوبة الغياب بدون إذن هو العذاب أو القتل، فماذا ستكون عقوبة الكذب؟! والهدهد يعلم أن سليمان لا يخفى عليه الكذب، ومع أن كل الدلائل تشير إلى صدق الهدهد، وبعده عن الكذب فإن سليمان -عليه السلام- لا تاخذه العاطفة، ويظل ملتزما بمنهج التثبت، (قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) (النمل:27). وهذا عين الحكمة وأساسها.
5- ويكتب سليمان -عليه السلام- الرسالة، وأي رسالة، وبأي أسلوب، حتى مع أعدائه، وهم مشركون -أيضا-، إنه أسلوب رائع حكيم، يقتحم شغاف القلوب ويسيطر عليها، مع الإيجاز والقوة والبيان (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (النمل:31).
6- وعندما يسمع المرء خبر الهدهد، وأن هؤلاء القوم قد ولوا امرأة يتملكه العجب! أليس فيهم رجال؟!! ولكن عندما يرى كيف كانت هذه المرأة تقود قومها؟! وحنكتها، وسياستها، وحكمتها، لا يستغرب ذلك، ويدرك سر هذا الاختيار (5) ولننظر إلى شيء من حكمتها في قيادة قومها.
(أ) فهي أولا تلتزم بالشورى منهجا وسلوكا، ولا تقطع أمرا دون عقلاء قومها، وهم ملؤها.
(ب) عندما فوضها قومها باتخاذ القرار المناسب، كانت حكيمة وعاقلة فلم تستخف بقوة سليمان، ولم يدخلها الغرور بقول قومها: (نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ) (النمل: من الآية33). بل كان رأيها الصائب وموقفها الحكيم، (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل: من الآية34). ولهذا كان لا بد من اتخاذ خطوة عملية تكشف حقيقة عدوها قبل الدخول في معركة قد تكون خاسرة، (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (النمل:35).
ولهذا فقد وصف الحسن -رحمه الله- هذه المرأة، قائلا: كانت هي أحزم رأيا منهم، وأعلم بأمر سليمان، وأنه لا قبل لها بجيوشه وجنوده (6).
7- ونستمر مع هذه التصرفات الحكيمة، والقرارات الصائبة، حيث جاء جواب سليمان على رسالتها -الهدية- (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) (النمل:36، 37).
قارنوا بين الرسالة الأولى في رقتها ولينها وقوتها، وبين هذه الرسالة في صرامتها وحزمها وبلاغة أسلوبها، وهذه هي الحكمة، "وضع الشيء في موضعه" فالبداية كانت تقتضي مثل تلك الرسالة، والنهاية تقتضي هذه الرسالة، ولقد فعل سليمان -عليه السلام- ما ينبغي، كما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، ولا غرو فقد آتاه الله الملك والحكمة، كما آتى أباه -عليهما السلام-.
8- وأخيرا تتخذ هذه المرأة القرار الحاسم، الحكيم، الذي يعجز عن اتخاذه كثير من الرجال بسبب الهوى، والتعصب، والتقليد، إنه قرار الاستجابة لسليمان -عليه السلام- ودعوته، طائعة مختارة.
9- أما غاية الحكمة وذروتها، فهو موقف سليمان -عليه السلام- مما حدث، فهل داخله العجب والغرور، أو نسب الفضل لنفسه ؟ حاشاه من ذلك، بل قال: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل: من الآية40).
ما أحوجنا إلى تأمل هذه القصة! والإفادة مما فيها، بجميع أطرافها: سليمان –عليه السلام-، ملكة سبأ، الهدهد.
إن إبراز مواطن الحكمة في هذه القصة تبرز من خلال ما يلي:
1- العدل.
2- التثبت.
3- بُعدُ الرؤية، وسعة الأفق.
4- إتقان قاعدة المصالح والمفاسد.
5- القوة بدون عنف، واللين بدون ضعف.
6- أداء المسئولية على وجهها.
7- الشورى.
8- نسبة الفضل لأهله.
9- التنبه والحذر من الاستدراج.
10- القوة في اتخاذ القرار في الوقت المناسب.

ثالثا: قصة لقمان وابنه
شهد الله بحكمة لقمان -عليه السلام- مع أن القول الراجح أنه ليس نبيا (7).
وقد ورد في حكمة لقمان، آثار كثيرة، ذكرها المفسرون، ومنها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف، ولكنني سأقف مع ما نلمسه من حكمة في القصة التي ذكرها القرآن حين وصى لقمان ابنه:
1- وأول ما يشدنا في هذه القصة حسن الأسلوب الذي يستخدمه لقمان أثناء دعوته لابنه، حتى إنه يخاطبه بأحب الألقاب إليه، وأقربها إلى نفسه "يا بني" وبهذا يتمكن من السيطرة على قلبه وعقله، وذلك أدعى لقبول النصح والوعظ، وأن مبعثه الحب والشفقة والقربى.
2- أن لقمان جمع في وعظه لابنه بين الأصول والفروع، والأقوال، والأفعال، والاعتقاد، والأمر، والنهي. فها هو ينهاه عن الشرك، ثم يأمره بالصلاة، ويذكره بعدل الله، وشمول علمه وإحاطته، ثم نجده يأمره بأن يقوم بشعيرة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وينهاه عن الكبر، والخيلاء، والعجب، والغرور. حتى مشيته يبين له كيف تكون، وصوته له ضوابط وموازين.
3- أن وصايا لقمان لابنه بلغت عشرا بين أمر، ونهي، وإخبار، في معنى الأمر أو النهي، كل هذا في كلمات قصيرة جميلة بعيدة عن التكلف، وهذا من الحكمة، ولهذا جاءت الحكم والأمثال من كلمات قصيرة المبنى كبيرة المعنى، وهذا ما نلمسه في وصية لقمان لابنه.
4- أن الداعية يخرج من قصة لقمان بعدة دروس أهمها:
(أ) حسن الأسلوب، واختيار أفضل الكلمات للوصول إلى قلوب المدعوين.
(ب) التركيز على الأصول من التوحيد وغيره، مع عدم الإخلال بالفروع.
(ج) الإيجاز مع التركيز والشمول.
(د) أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ليس بالأمر الهين واليسير، ولذا يخشى على صاحبه من المزالق، ويستطيع الداعية أن يتخلص من ذلك بالصبر، والتواضع، والتزام منهج الوسطية في أموره كلها.
وبعد:
فهذه وقفة سريعة مع هذه القصة العظيمة التي تنبض حكمة وعلما وفقها (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269).


انظر: تفسير ابن كثير 3/74.
2 - انظر: تفسير سورة النمل في تفسير الطبري، والبغوي، وابن كثير وغيرها.
3 - وأصل المشكلة في عبادتهم لغير الله، وتأثير ذلك على غيرهم.
4 - ولا يعني هذا أن الهدهد يكذب على غيره، ولكن يعد كذبه على سليمان أشد.
5 - وتولية المرأة الإمامة العظمى غير جائز عند جماهير العلماء وهو الراجح، ولكن هؤلاء القوم كفار، وليس بعد الكفر ذنب.
6 - انظر: تفسير ابن كثير 3/362.
7 - انظر: تفسير ابن كثير 3/443، وتفسير القاسمي 3/4796.

أمثلة من الحكمة في السنة النبوية

تجري الحكمة على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم كالماء الزلال، وأفعاله صلى الله عليه و سلم كلها عين الحكمة، فهو المعصوم من الزلل والخطأ.
وسأختار بعض الأمثلة، لبيان الحكمة في السنة، مكتفيا من القلادة بما أحاط بالعنق:
1- فنجد حكمته صلى الله عليه و سلم في حسن تعامله مع أصحابه ومراعاته لأحوالهم، وهذا أكثر من أن يحصى، وأشهر من أن يؤتى له بمثال.
2- إجابة الرسول صلى الله عليه و سلم للسائلين، حيث قد يبدو الخلاف والتعارض -أحيانا- بينها، بينما هي من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، وذلك لحكمة عظيمة، وهي مراعاة حال السائلين، ولنأخذ هذا المثال:
(أ) " سأل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم قائلا: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على ميقاتها"، قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، فسكت عن رسول الله، ولو استزدته لزادني " رواه البخاري (1).
(ب) وعن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: " يا رسول الله! نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد ؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور " رواه البخاري (2).
(ج) وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه " أن رجلا قال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: "لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله" " رواه أحمد والترمذي (3).
إلى غير ذلك من الأحاديث التي سأل أصحابها عن أفضل العمل، فاختلفت إجابة رسول الله صلى الله عليه و سلم مراعاة لحال السائلين، وإدراكا منه صلى الله عليه و سلم أن ما يستطيعه هذا قد لا يستطيعه ذاك، إلى غير ذلك من الأسباب التي يراعى فيها حال الفرد وحاجة الأمة وقواعد الشرع.
ولو أن الدعاة استطاعوا أن يكلفوا كل إنسان بما يحسنه (4) ويبتعد عما لا يستطيع، لحققت الأمة اكتفاء ذاتيا في أغلب مجالاتها.
ولكن واقع أغلب الناس، كما قال الشاعر:


متطلب في الماء جذوة نار ومكلف الأشياء ضدّ طباعها


3 وانظر إلى هذا الأسلوب الحكيم من لدنه صلى الله عليه و سلم لمعالجة قضية مهمة تحتاج إلى الحكمة، وبعد النظر.
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: " إن فتى شابا أتى إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: " يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك ؟ قال: لا والله!! -جعلني الله فداك- قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك ؟ قال: لا والله!! يا رسول الله -جعلني الله فداك- قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله!! -جعلني الله فداك- قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله!! -جعلني الله فداك- قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله!! -جعلني الله فداك-، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم. قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء " رواه أحمد (5).

أرأيتم مثل هذا الأسلوب، كيف جاء هذا الشاب وقد هاجت شهوته، ورغب في الحرام، وعاد عفيفا محصنا بعيدا عن الشهوة والشبهة.
4- ولعل من أهم الأمثلة في هذا المجال، قصة الحديبية، وما وقع فيها من أحداث كانت تقتضي الحكمة في أسمى معانيها، وإلا لحدثت أمور لا تحمد عقباها.
ويصعب التفصيل في ذلك، حيث لا يتسع المجال له -حسب المنهج الذي رسمته- ولكن سأقتصر على قضية واحدة لتكون لنا عبرة ونبراسا، وتلك القضية هي كتابة الصلح، ولنقرأ كما في صحيح البخاري، وفيه:
" فدعا النبي صلى الله عليه و سلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه و سلم اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: اكتب: باسمك اللهم. ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: والله إني لرسول الله، وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله... الحديث (6) " .
إن التأمل في هذه الحادثة العظيمة، يبين لنا مقدار حكمة رسول الله صلى الله عليه و سلم وعدم استجابته للاستفزاز، أو الوقوف عند أمر فيه سعة مع أنه يحقق، للمسلمين مكاسب باهرة، وهذا من باب النظر في المصلحتين والسعي لتحصيل أعلاهما، ولذلك جاءت النتيجة بتسمية الله لهذا الصلح فتحا، (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (الفتح:1).
وقادة الدعوة بحاجة إلى وعي هذه الدروس، وعدم الاستجابة لضغط القاعدة إذا كان خلاف الحق، أو أن هناك ما هو أولى مما يريده هؤلاء. (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269).
ولئلا يتوهم متوهم أن الحكمة تقتضي التنازل دائما إذا كان الأمر في مصلحة الإسلام والمسلمين، كما هو واقع بعض العاملين للإسلام، والمتحمسين للدعوة، ممن ينقصهم العلم الشرعي، وهذا خلل في المنهج، وخطأ في التصرف، وبخاصة أن هؤلاء يحتجون دائما بقصة الحديبية، عند كل تنازل يقدمونه.
من أجل هذا أبين أن هناك قضايا لا تقبل التنازل أبدا، وهذه هي الحكمة، وهذا كثير جدا في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم وفعل الخلفاء الراشدين، ومن ذلك سبب نزول سورة (الكافرون) (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) (الكافرون:1، 2).
وكذلك قصة قريش مع رسول الله، عندما طلبوا أن يخصص لهم مجلسا دون الضعفة من المسلمين، فنزل قوله -تعالى-: (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الأنعام: من الآية52). وقوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف:28).
وكذلك عندما جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ودعاهم إلى الإسلام، اشترطوا أن يدع لهم اللات ثلاث سنين -لا يهدمها- فأبى رسول الله -صلى اله عليه وسلم- ذلك، حتى إنهم تنازلوا شيئا فشيئا إلى أن طلبوا إمهال هدمها شهرا واحدا، فأبى رسول الله صلى الله عليه و سلم .
ولكنهم عندما طلبوا ألا يكسروا أوثانهم بأيديهم، وافقهم على ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم للفرق بين الطلبين، وهنا يتميز الحكيم عن غيره، وهو الذي يتنازل عن الكل أو يرفض الكل مع الفرق بينهما (7).
أما أبو بكر وقصته في حرب الردة، وعدم تنازله عن شعيرة من شعائر الإسلام، وقوله كلمته الخالدة: " والله لو منعوني عناقا -أو عقالا- كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم عليها".
وحيث يبين أنه سيسوي بين من ترك الصلاة، ومنع الزكاة، ولن يقبل التفريق بينهما، والقصة مفصلة في كتب الحديث والسيرة (8).
وهذه هي الحكمة كما عرفناها، هذا ما شهد به عمر -الفاروق- حيث كان مخالفا لأبي بكر في أول الأمر، ثم عرف أنه الحق لما شرح الله صدر أبي بكر وثبت عليه.
5- أما أعظم أمر رأيت الحكمة متمثلة فيه من خلال منهج القرآن الكريم، وسنة الرسول صلى الله عليه و سلم فهو معالجة قضية المنافقين، وهو العلاج الذي استمر منذ هجرته صلى الله عليه و سلم إلى المدينة وحتى غزوة تبوك، بل إلى وفاته صلى الله عليه و سلم .
وكما شغل حيزا كبيرا من وقته صلى الله عليه و سلم في المدينة، فقد نزلت فيها آيات كثيرة جدا في كتاب الله، حتى نزلت سورة كاملة في هذا الموضوع.

وقد اتسم علاج هذه المشكلة بعدة سمات، من أبرزها:
1- طول المدة، وهي ما بين هجرته إلى قبيل وفاته صلى الله عليه و سلم وهذا يدل على الصبر العظيم، الذي تحلى به رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يعالج هذه المشكلة العويصة بتؤدة وروية.
2- الآيات الكثيرة التي نزلت في القضية، حيث لا يقاربها قضية أخرى إلا قضية الشرك والمشركين، وقضية أهل الكتاب. والله -سبحانه- قادر على حسمها في آية واحدة، ولكن القرآن جاء ليرسم منهجا للبشر فيه صفة الشمول والديمومة، لأنه دين عالمي.
3- الحرص على وحدة الصف، مع عدم السكوت عن الباطل، وإقراره، أو هذه مسألة يغفل عنها كثير من الدعاة، وقد تحقق الأمران، فبقي الصف المسلم موحدا، وتم القضاء على فتنة المنافقين بأساليب عدة.
4- أخذ الناس بظواهرهم، وترك سرائرهم إلى الله، وهو منهج فريد تميز به الإسلام عن سائر النظم والأديان، ومع أن المنافقين أشد كفرا من المشركين فلم يؤاخذوا إلا بما ظهر منهم، مع علم الرسول صلى الله عليه و سلم بما هم عليه من النفاق والكفر.
ولكن القضية قضية منهج، وليست قضية أفراد يتم القضاء عليهم، ثم ينتهي الأمر، لأن المسألة أعمق من ذلك وأبعد، فجاء العلاج متوازيا مع حجم المشكلة وأبعادها وآثارها.
5- المحافظة على هيبة المجتمع المسلم في نظر الأعداء والخصوم، "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" (9) وبخاصة مع كثرة الأعداء، واستغلالهم لكل فرصة تسنح لهم داخل الصف.
6- تركيز القرآن على الصفات وعدم ذكر الأفراد، حيث لم يرد في القرآن اسم منافق واحد.
وهذا المنهج حقق آثارا إيجابية ضخمة، وكان كفيلا بالقضاء على هذه الحركة مع تجاوز السلبيات المتوقعة، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه و سلم في نهاية المطاف ردا على عمر -الفاروق- الذي طالما طالب بقتل المنافقين حمية لدين الله: "أين عمر؟ لو قتلنا هؤلاء يوم طلب عمر لأرعدت لهم أنوف تريد اليوم قتلهم" (10). وهذا المنهج هو الذي أدى إلى قتلهم معنويا، دون الحاجة إلى قتل أي فرد منهم حسيا.
وهذه -والله- هي الحكمة في أسمى معانيها.
إننا اليوم بأمس الحاجة إلى دراسة منهج مواجهة حركة النفاق في الصدر الأول، ومن ذلك دراسة الآيات التي نزلت في هذه القضية، وبخاصة في سور (البقرة -التوبة -الأحزاب -المنافقون).
وبهذا نستطيع أن نحقق ما يلي:
1- معرفة الوسائل الموصلة إلى الكشف عن هوية المنافقين في مجتمعنا، ومدى تأثيرهم في المجتمع.
2- رسم منهج شرعي لمواجهة هذه الحركة، وأسلوب التعامل معها.
3- شل فاعليتها، ثم القضاء عليها دون إحداث فتن داخل الصف المسلم.
ولن يتحقق هذا الأمر إلا بالالتزام بالحكمة التي رأينا بعض مظاهرها، وسماتها في منهج القرآن، والسنة، عند معالجة هذه القضية الكبرى.


رواه البخاري (2782).
2 - رواه البخاري (2784).
3 - أحمد (4/194)، صحيح الترمذي للألباني (3/139) وانظر: الحكمة في الدعوة إلى الله ص 47.
4 - عدا الواجبات وفروض العين.
5 - مسند الإمام أحمد 5/256، وقد صححه الألباني.
6 - صحيح البخاري 3/100.
7 - انظر: سيرة ابن هشام 4/197 وتخريج العلماء للأثر في كتاب الحكمة في الدعوة إلى الله ص 74 وقد ضعفه الألباني في فقه السيرة وحسنه غيره.
8- انظر: فتح الباري 3/362 كتاب الزكاة.
9- رواه البخاري 4/160.
10 - انظر: تفسير الطبري 28/76، وسيرة ابن هشام 3/327.


خوارم الحكمة وموانعها

من المهم ونحن نعالج موضوع الحكمة أن نذكر أهم الأسباب التي تمنع من تحقق الحكمة، وتحول دون وجودها.
ولم أجد من دون هذه الموانع (1) مجتمعة -حسب اطلاعي- ولكنني بالاستقراء والتتبع حاولت أن أقف على هذه الخوارم، وقد وفقني الله إلى شيء من ذلك، فله الحمد والمنة.
1- الهوى وعدم التجرد:
يقول -سبحانه-: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (صّ: من الآية26). ويقول: (أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ) (القصص: من الآية50). وقال: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) (المؤمنون: من الآية71). والآيات في ذم الهوى كثيرة جدا، وكلها تدل على استحالة اجتماع الحكمة والهوى، وتأمل في هاتين الآيتين ليتضح ما أقول: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) (المائدة: من الآية49). والحكم بما أنزل الله هو مقتضى الحكمة(2).
وفي آية أخرى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) (محمد:14).
وفي حديث الرسول صلى الله عليه و سلم في بيان وقت العزلة: " فإذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك… " الحديث (3).
وهذا دليل على فقدان الحكمة وذهابها. والحكمة منبعها العقل، بل إن معناهما واشتقاقهما متقارب، فكلاهما يدلان على المنع مما لا ينبغي، ومن هنا جاء الشاعر يبين تأثير الهوى على الحكمة:
وآفة العقل الهوى فمن علاعلى هواه عقله فقد نجا

والهوى يعمي، ويصم، كما قال شيخ الإسلام، فمن كانت هذه حاله فأنى له الحكمة.
2- الجهل:
والجهل ضد العلم، وما وجد الجهل في شيء إلا شانه، وما نزع من شيء إلا زانه، والتأمل في هذه الآيات يبين تأثير الجهل، وأنه والحكمة لا يجتمعان، حيث ذكر الله –سبحانه- في أكثر من آية أن سبب عدم توفيقهم للحق والحكمة هو الجهل:
(قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) (الزمر:64). (قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (البقرة: من الآية67). (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50). (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود: من الآية46). ومن خلال هذه الآيات وأمثالها يتضح لنا تأثير الجهل على الحكمة، وأنه من خوارمها، ولذا قال الشاعر:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسادهم دون القبور قبور


فهل ننتظر الحكمة من الأموات؟
3- الأخذ بظواهر النصوص، وعدم الجمع بين الأدلة.
وذلك كمنهج الظاهرية في الأخذ بظواهر النصوص، ولذا لم يوفقوا للصواب في كثير من المسائل، وهل الحكمة إلا الإصابة في القول والعمل -كما سبق-؟
أما عدم الجمع بين الأدلة فهو مزلق آخر من المزالق التي يقع فيها بعض طلاب العلم، فيعتمدون على دليل دون آخر، وهذا يؤدي إلى اتخاذ بعض المواقف بعيدا عن الحكمة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ففطن لشيء، ولكن غابت عنه أشياء.
ومن ذلك الاستدلال بقوله -تعالى-: (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم:38، 39). ويغفل عن الأحاديث التي تبين أن الإنسان قد يكون آثما إذا رأى منكرا عمله غيره فلم يغيره، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه، حسب استطاعته.
وكذلك يغفل عن الأحاديث التي تبين مشاركة المسلم لغيره في الأجر، كما ورد في أحاديث كثيرة. ومنها: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " الحديث (4).
ومثل ذلك الاستدلال بقوله -تعالى-: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف:204). على وجوب الإنصات مطلقا، ويغفل الأحاديث الواجبة في قراءة الفاتحة في الصلاة حتى مع قراءة الإمام (5).
4- الاستدلال بالأدلة في غير مواضعها:
وهذا يختلف عن السابق، لأنه استخدام للدليل في غير موضعه، والأمثلة توضح ذلك:
(أ) فكم سمعنا من الناس من إذا طلب منه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. قال: مالي وللناس، فلم أكلف بهم، والله يقول: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ( (المائدة: من الآية105).
وقد روى الإمام أحمد أن أبا بكر الصديق قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة: من الآية105). وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: " إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عزوجل أن يعمهم بعقابه " .
قال ابن كثير: وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة، وابن حبان في صحيحه، وغيرهم من طرق كثيرة، عن جماعة كثيرة، عن إسماعيل بن أبي خالد به متصلا مرفوعا، ومنهم من رواه عنه به موقوفا على الصديق وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره (6).
(ب) ومن الاستدلال بالأدلة في غير مواضعها، استدلال كثير من الناس بقوله -تعالى-: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: من الآية195). وبخاصة عند تبرير عدم المشاركة في الجهاد في سبيل الله، ولم يعلموا أن هذا الدليل حجة عليهم لا لهم، ولننظر في هذا الحديث.
روى الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران، قال: " حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار تحببا،فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه و سلم ونصره حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهم فنزل قوله -تعالى-: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: من الآية195). فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل والمال، وترك الجهاد" (7).
والأمثلة في هذا كثيرة جدا، والاستدلال بها على هذا الوجه يخالف الحكمة وينافيها.
5- عدم فهم الدليل:
وذلك بأن يكون الدليل صحيحا، والاستشهاد به في موضعه، ولكنه لا يفهم الدليل على وجهه الصحيح -وذلك فرع عن الجهل- وهنا يخالف الحكمة في تصرفه، وأسلوب تطبيقه. ومثال ذلك:
أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال: " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر " (8) الحديث.
فيأتي فيضرب ابنه ضربا مبرحا وغليظا، وهذا غير مراد من الحديث، وهو يخالف الحكمة، لأن المراد هو الضرب غير المبرح الموجع، لأن الطفل لم يكلف بعد، فمن كان في سن العاشرة أو الحادية عشرة فلم يبلغ سن التكليف، فكيف نعاقبه عقابا شديدا، والمراد هو التربية والتعويد، لا العقاب والتعزير.
وكذلك قوله -تعالى-: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ) (النساء: من الآية34).
فيأتي الزوج، ولا يفهم معنى هذه الآية، ويقول: إن الواو لا تقتضي ترتيبا، ولا تعقيبا، فيبدأ بالضرب قبل الوعظ والهجر، ويأتي آخر ويضرب زوجته ضربا شديدا مؤلما، وكل هذا خلاف الحكمة وناشئ من قصور الفهم.
6- قلة التجربة والفردية:
ولذا نجد أن بعض تصرفات الشباب تخالف الحممة لقلة تجربتهم ومحدوديتها وضعفها.
7- أما الفردية:
وهي من خوارم الحكمة الظاهرة، لذا قال الرسول صلى الله عليه و سلم " إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية " (9).
وقال الشاعر:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد برغم الخلاف، ورأي الفرد يشقيهاه

وسيأتي مزيد بيان لذلك في الحديث عن أركان الحكمة وأسسها.

ثلاث خوارم متقاربة
8- عدم تحديد الأهداف.
9- النظرة السطحية.
10- آنية التفكير وموسمية العمل والارتجال.
إن هذه العوائق الثلاثة متقاربة في معناها، وحقيقتها، وإن كان كل واحد منها يحمل معنى خاصا، ونستطيع أن نقول: إن بينها عموما وخصوصا.
فعدم تحديد الأهداف ورسمها بدقة يؤدي إلى آنية التفكير وموسمية العمل، وهذا هو الارتجال بعينه، وهذا الأمر لا ينشأ عادة إلا من النظرة السطحية للأمور، والوقوف عند ظواهر الأحداث، دون النظر في أسبابها، ومآلاتها وآثارها، والنتيجة الطبيعية لاتخاذ القرار، والموقف من الحدث، هو عدم تطابق ما يتخذ من قرار مع ما يستوجبه الحدث، وبالتالي يجانب الحكمة، لأن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه.
وهذا مثل: طبيب جاءه مريض، وقد بدت بعض البثور على وجهه، فقام الطبيب بوصف بعض المراهم التي تزيل البثور، دون البحث في تحليل أسباب هذا المرض، والنتيجة هي عودة البثور بين فترة وأخرى، لعدم القضاء على أسبابها.
ومثل ذلك: من في أسنانه تسوس، ويشكو من آلامها، فكلما جاء إلى الطبيب أعطاه ما يسكن الألم، ويستمر الألم يعاوده، والطبيب مستمر في وصف المسكنات، دون اتخاذ العلاج الحاسم بإزالة التسوس، حتى لو أدى إلى إزالة السن ذاته، لأن بقاء التسوس سيجعله يقضي على بقية السن، أو قد ينتقل المرض إلى العصب وبقية الأسنان إذا أهملت الأسباب، وتم تجاهل حقيقة المرض.
ومثل ذلك نقول في الأحداث، وما نواجهه من أمور تحتاج إلى علاج حاسم ذي أهداف محددة.
11- تقديم الجزئيات على الكليات
وهذا ناشئ من قصور العلم، وقصر النظر، وهذا الأمر ابتلينا به كثيرا في عصرنا الحاضر، وفي بعض دول العالم الإسلامي.
وأدرك أعداء الإسلام هذه الثغرة، فأقاموا بعض شعائر الإسلام الجزئية، وهدموا أصوله وأركانه.
يعاقبون المفطر في رمضان، ولكنهم لا يزيلون مظاهر الشرك، ولا يأمرون بالصلاة، فضلا عن أن يعاقبوا تاركها.
يقرأون القرآن في الإذاعة، وينقلون خطبة الجمعة في التلفزيون، ولكنهم يتحاكمون إلى شريعة الطاغوت.
ورأينا عددا من الناس يغضبون إذا رأوا شارب الدخان، وهو منكر -ولا شك-، ولكنهم لا يحركون ساكنا عندما يرون الربا، وقد ضرب في الأرض أطنابه، وينفعلون إذا خرجت امرأة سافرة عن وجهها -وهذا محرم بالكتاب والسنة- ولكنهم يتجاهلون دخول اليهود والنصارى والوثنيين إلى بلاد المسلمين، وإقامتهم بين ظهرانيهم.
ولتتضح الصورة أكثر أضرب هذا المثال:
مريض أصيب بالزائدة، فذهب إلى المستشفى مسرعا فأصابته شوكة في أصبعه، فلما وصل انشغل الطبيب بالأصبع وشوكته عن الزائدة، التي قد تنفجر بين لحظة وأخرى، فتودي بصاحبها.
أين الحكمة في هذا التصرف؟
12- العجلة وعدم ضبط النفس
العجلة من الشيطان، وإذا ابتلي إنسان بهذه الخصلة الذميمة، ستقوده إلى المهالك، ومن آثار العجلة ومظاهرها عدم ضبط النفس في المواقف التي تحتاج إلى تأن، وتؤدة وروية.
وأكثر أسباب الندم ناتج عن العجلة والانفعال غير المنضبط، وهنا تكون النتيجة غير محمودة.
من غرس الحنظل لا يرتجي أن يجتني السكر من غرسته


13 الخلط في المفاهيم
الحكيم لا بد أن ينطلق من مفاهيم صحيحة، وقواعد ثابتة، مستمدة من الكتاب والسنة، وإذا اختلطت المفاهيم لدى المرء وتشابهت الأمور، لن يصل إلى مبتغاه، وسيتخبط في سيره، ومن الملحوظ في عصرنا الحاضر اختلاط كثير من المفاهيم على كثير من طلاب العلم والدعاة ومن ذلك:
(أ) الخلط في مفهوم خوف الفتنة، حتى أصبح سيفا مصلتا على رؤوس الداعين إلى الله، الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، فكلما أمر آمر بمعروف، أو نهى ناه عن منكر، قيل له: إنك تثير الفتنة، ولم يعلم أولئك أنهم في الفتنة سقطوا، وكان من نتيجة هذا الأمر، أن استمرت الأمة تقدم التنازلات الواحد تلو الآخر، وبعض الدعاة ساكتون أو مسكتون خوف الفتنة، حتى ضرب الكفر أوتاده في بلاد المسلمين، وهذه هي الفتنة الحقيقية (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة: من الآية193).
(ب) ومن الخلط في المفاهيم، الخلط بين الحزبية والانتماء، حتى سوى الكثير بينهما، مع الفارق الكبير.
فالحزبية مذمومة، وهو تحزب المسلمين بعضهم ضد بعض، فالمسلمون لا يكونون إلا حزبا واحدا، ضد الكفر وأهله. (أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: من الآية22).
أما الانتماء لأهل السنة والجماعة ولجماعة المسلمين ومنهجهم فهو مشروع: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: من الآية103). (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (آل عمران: من الآية110). (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) (آل عمران: من الآية104).‏
والمذموم هو الانتماء لأهل الباطل وللأحزاب البدعية، وهذا ليس من الانتماء المشروع في شيء.
ونتيجة للخلط في هذا المفهوم جانبت الحكمة بعض المنتسبين إلى الدعوة، فبدلا من أن يدعو إلى الوحدة والائتلاف، دعوا إلى الفردية والتفرق، وهم لا يريدون ذلك -ولا شك-، ولكن من يزرع الشوك لا يقطف العنبا.
(ج) ومن الأمثلة -أيضا- في خلط المفاهيم الخلط بين الوسائل والغايات، وكذلك الخلط بين الثوابت والمتغيرات.
وكذلك عدم إدراك الفرق بين حب السلف، وفهم منهج السلف، والالتزام بمنهج السلف، فليس حب السلف وحده كافيا لأن يكون صاحبه ممثلا لمنهج السلف، فلا بد من:
1- حب السلف والذود عنهم، وعن منهجهم.
2- فهم المنهج، أي منهج أهل السنة والجماعة.
3- الالتزام بمنهج السلف، خلقا ودعوة، وسلوكا، قولا، وفعلا.
وأي إخلال بواحد من هذه الأسس يعتبر إخلالا بانتساب الفرد إلى السلف.
14- عدم إتقان قاعدة المصالح والمفاسد:
وهذا يؤدي إلى تقديم جلب المصلحة على دفع المفسدة، ودفع المفسدة الصغرى بالكبرى، وجلب المصلحة الدنيا، وترك العليا.
وليس الحكيم هو من يعرف الخير والشر، وإنما الحكيم من يعرف خير الخيرين، وشر الشرين.
وهذه القاعدة من أعظم قواعد الشريعة، والجهل بها يجر على المسلمين الشرور والويلات.
15- الغفلة عن مكائد الأعداء
نحن في عصر اشتد فيه الصراع بين الحق والباطل، وقد تطورت أساليب الأعداء في حرب الإسلام والمسلمين، وبخاصة عندما أثبت لهم التاريخ أن أي معركة مباشرة مع المسلمين لن تكون في صالح الكفر إن عاجلا أو آجلا.
وهنا لجأوا إلى أساليب المكر والخديعة والتلبيس، وقد انطلت هذه الأساليب على كثير من المسلمين، وانخدعوا بالشعارات التي يرفعها أعداء الله، ومن هنا كانت كثير من المواقف التي وقفها العلماء والدعاة في بعض بلاد المسلمين غير متكافئة مع خطط الأعداء ومؤامراتهم.
وهذه نتيجة الجهل بفقه الواقع، وها نحن ندفع ثمن هذا الأمر ربا فضل ونسيئة.
إن الحكمة هي فعل ما ينبغي، كما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي.
فكيف نفعل ما ينبغي كما ينبغي إذا كنا لا ندرك ماذا ينبغي؟ لأن الحكم فرع عن التصور، وتصورنا لعدونا يشوبه النقص والتقصير.
16- وأخيرا فإن من خوارم الحكمة: الغلظة والعنف والطيش
وما وجدت الفظاظة في شيء إلا شانته، وما نزعت من شيء إلا زانته، ويكفي لبيان ذلك أن نتأمل قوله -تعالى-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: من الآية159). وسرعة الغضب والانفعال من خوارم وقوادح الحكمة.
وبعد: فهذه أهم خوارم الحكمة، وموانعها، وحري بالدعاة إلى الله أن يتأملوها ليجتنبوها، وعلى طلاب العلم أن يحذروا أمتهم منها، ليكونوا مسددين في أقوالهم، وأفعالهم، ونياتهم.


انظر: مدارج السالكين لابن القيم في منزلة الحكمة 2/480 فقد ذكر بعضها، كالجهل والطيش.
2 - لأن تعريف الحكمة والعدل متقارب، بل العدل حكمة، والحكمة عدل لأن كلا منهما وضع الشيء في موضعه.
3 - ابن ماجة (4014).
4 - مسلم (1631)، انظر: تفصيل ذلك في تفسير ابن كثير 4/257.
5 - والمسألة خلافية، ومحل ذلك كتب الفقه، وإنما المراد التمثيل على استخدام دليل دون آخر.
6 - الترمذي (3059). أبو داود (4338)، ابن ماجة (4005). قال عنه ابن حجر جيد الإسناد انظر: تهذيب التهذيب.
7 - قال ابن كثير 1/228: رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد في تفسيره وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه كلهم من حديث يزيد بن حبيب، وقال الترمذي حسن صحيح غريب، وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
8 - أبو داود (496،4113)، وأحمد: 2/187. قال الأرناؤوط في شرح السنة: 9/22 إسناده حسن.
9 - رواه أبو داود (547)، النسائي 2/106 وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5701).

أركان الحكمة وأسبابها

ذكرت في المبحث السابق خوارم الحكمة وموانعها، وقدمت ذكرها على أركان الحكمة وأسبابها، لتكون واضحة جلية ونحن نتحدث عن الأسس والأركان، وذلك من قولهم: التخلية قبل التحلية، أي لا بد من التخلي عن الموانع والخورام، قبل التلبس بالأركان، والبحث في الأسباب.
وقد جمعت بين الأركان والأسباب لأن بينهما عموما وخصوصا، فكل ركن سبب، لا العكس.

1- التجرد والإخلاص والتقوى
هذا هو الأساس لكل عمل، والمنطلق لكل هدف وغاية، فالله -سبحانه وتعالى- يقول: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ) (البقرة: من الآية282). ويقول: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162، 163). ويقول -سبحانه-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة: من الآية5).
والرسول صلى الله عليه و سلم يقول: " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم " (1).
إننا لا نتصور حكمة بدون تجرد وإخلاص، ولذلك ذكرت أن من موانع الحكمة، الهوى، فإذا كان الهوى من موانع الحكمة فإن الإخلاص والتقوى أساسها. (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: من الآيتين 2، 3). (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (الطلاق: من الآية4). ونلمس هذا المعنى في قوله -تعالى-: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان: من الآية74). فإنه لن يكون إماما إلا إذا كان حكيما، وإذا كان إماما للمتقين، فالتقوى صفة للإمام قبل المأمومين.

2- التوفيق والإلهام
إن الحكمة مطلب عزيز، وغاية سامية، ورتبة رفيعة، ينال صاحبها سمة من سمات الأنبياء والرسل، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام- ولذا فليست متاحة لكل فرد، بل هي مع بذل الأسباب وتوافر الأركان فضل من الله ونعمة، ولذا قال -سبحانه-: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269). وبين أنه أعطى لقمان الحكمة (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) (لقمان: من الآية12).
وسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم ربه أن يلهم ابن عباس الحكمة، ويعلمه إياها. " اللهم علمه الحكمة " (2). رواه البخاري. وعندما نفقه هذه الحقيقة، فإنه يتعين علينا أن نتعامل معها بما يجب أن نعمله من أسباب، ليمن الله علينا بها، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269).
3- العلم الشرعي
والعلم من أهم قواعد الحكمة ودعائمها، فكما أن الجهل مانع من موانعها، فإن العلم سبب من أسبابها، وركن من أركانها.
ولهذا قال -سبحانه-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر: من الآية28). وخشية الله من الحكمة، وقال تعالى-: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر: من الآية9). لا يستوون في أشياء كثيرة، ومنها إدراك الحكمة.
وقرن الله بين الحكم -وهي الحكمة- والعلم في عدة آيات من كتاب الله، فيقول -سبحانه- عن لوط: (وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً) (الأنبياء: من الآية74). ويقول عن يوسف: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:22). ويقول عن داود وسليمان: (وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) (الأنبياء: من الآية79). وقال عن موسى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً) (القصص: من الآية14).
وهذه الآيات من أقوى الأدلة على اقتران الحكمة بالعلم، ولذلك يقول -سبحانه-: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: من الآية83). وعلم الأمر المختلف فيه أو ما يشكل على العامة هو الحكمة، وأولو الأمر هنا هم العلماء، وكذلك نفهم ارتباط العلم بالحكمة والحكمة بالعلم، من قول الرسول صلى الله عليه و سلم " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " والله -سبحانه- يقول: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269).
ومن خلال هذه الأدلة يتضح لنا هذا الأمر، بل إن بعض العلماء فسروا الحكمة بالعلم، وممن أطال في ذلك وفصل فيه رشيد رضا (3) وكذلك الرازي (4) وهذه حقيقة، فالزمها تؤت الحكمة.
4- التجربة والخبرة
وهما من أهم أسباب التوفيق للحكمة، وقد ورد عند البخاري في الأدب المفرد:
"لا حكيم إلا ذو تجربة"، والمثل المعروف يقول: "اسأل مجرب ولا تسأل طبيب"، إن التجربة في الحياة رصيد ضخم تعادل أعلى الشهادات، فإذا أضيفت إلى العلم أصبحت أهم من الشهادة، وهل الشهادة إلا علم وتجربة، مع أنها في الغالب تكون تجربة قاصرة.
ولقد وقفت طويلا عند آية وردت في القرآن، وهي قوله -تعالى-: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ) (الأحقاف: من الآية15). فإنني ألحظ أن ارتباط بلوغ الأشد والاستواء بسن الأربعين له عدة دلالات، ومنها أن المرء يكون قد حصل على رصيد مناسب من التجربة، بل إنني ألمس في حياة الناس أن ما قبل الأربعين رصيد التجربة فيه أقوى من رصيد العطاء، وما بعد الأربعين سمة العطاء فيه أقوى من التجربة ألا وهي الخبرة، حيث إن الأربعين مرحلة وسطية في عمر الإنسان، حيث إن ما قبلها من العمل يعادل ما بعدها في الأعم الأغلب.
ومما يجري في سياق الآية، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث على الأربعين، والله -سبحانه- يقول عن يوسف، عليه السلام،: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً) (القصص: من الآية14). قال الحسن: "بلغ أربعين سنة" (5).
وخلاصة الكلام:
أن التجربة عامل مهم في حصول الحكمة وتحققها.
5- الاستشارة
ذكرت أن الفردية من خوارم الحكمة، ومن وسائل تجنب الفردية الاستشارة.
والشورى لها مكانتها في الإسلام، وللدلالة على أهميتها وعظم منزلتها، أن الله -سبحانه- أمر نبيه صلى الله عليه و سلم وهو المعصوم الذي يوحى إليه، أن يستشير صحابته فقال -سبحانه-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: من الآية159). بل إن هذه الآية جاءت في سياق يفيد أن هذا هو مقتضى الحكمة، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159).
وقال -سبحانه- واصفا المؤمنين ومثنيا عليهم: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: من الآية38). بل إنني وجدت آية أخرى نصا في المسألة، وهي قضية فطام الولد فقد قال -سبحانه-: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) (البقرة: من الآية233). وفصل الولد وفطامه يحتاج إلى حكمة حتى لا يضار وهو صغير لا حول له ولا قوة، وقد يكون ضحية خلاف بين الوالدين، فجعل التشاور شرطا للفطام، وليس مجرد التشاور كافيا، بل لا بد أن يكون تشاورا حقيقيا، تكون نتيجته التراضي والاتفاق، وإلا فلا، ولذلك قال ابن كثير:
أي: فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد في ذلك من غير مشاورة الآخر، قاله الثوري وغيره (6).
ومن خلال ما سبق تتضح أهمية الشورى، وأثرها في مواجهة الأحداث، ولو استغنى أحد عنها لاستغنى رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي كان يشاور صحابته عند الملمات، بل إنه كان يأخذ برأيهم، ولو خالف رأيه -أحيانا- كما حدث في أُحُد.
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف، ورأي الفرد يشقيها

ولذا يقول الشاعر:
ومن الرجال إذا استوت أخلاقهم من يستشار إذا استشير فيطرق
حتى يحل بكل واد قلبه فيرى ويعرف ما يقول فينطق

ويقول الآخر:
إذا كنت في حاجة مرسلا فأرسل حكيما ولا توصه
وإن باب أمر عليك التوى فشاور لبيبا ولا تعصه


وقد قيل: الناس ثلاثة:
رجل كامل –أي الكمال النسبي- وهو الذي له عقل ويستشير، ونصف رجل: وهو الذي له عقل (7) ولا يستشير، والثالث: لا شيء، وهو الذي لا عقل له ولا يستشير (8).

6- بعد النظر وسمو الأهداف
إن الذي يعيش لقضية مصيرية يختلف عن إنسان يعيش على هامش الحياة، فعند وقوع حدث من الأحداث، أو مواجهة قضية من القضايا سنجد الفرق بين التفكيرين، لأن الأول سيربط القضية بالأهداف التي يسعى إليها، ويعالجها من خلال منظور معين، وهذا الذي يرمي إليه الشاعر، بقوله:
ومن الرجال إذا استوت أخلاقهم من يستشار إذا استشير فيطرق
حتى يحل بكل واد قلبه فيرى ويعرف ما يقول فينطق

والشاهد هنا: (حتى يحل بكل واد قلبه).
أما الثاني فإنه يعطي الرأي، ويتخذ الموقف بناء على الظروف المحيطة به، بعيدا عن النظر في الأسباب والنتائج والآثار فهو بادي الرأي.
ولذا فإن علو الهمة، وبعد النظر، سبب من أسباب التوفيق في الرأي، والسداد فيه، وصدق الشاعر:
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام


7 فقه السنن
وهي عامل مهم في نضوج الرأي وسلامة التفكير، لأن التفكر في السنن الكونية والشرعية مما حث القرآن على العناية به: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (الروم: من الآية9). (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (يوسف: من الآية109). حيث وردت عدة مرات، فنجد في سورة الحج 46: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) (الحج: من الآية46) فقرن السير في الأرض -وهو إما حسي أو معنوي- بالعقل، وهو موطن الحكمة، بل إن الآيات جاءت أمرا بالسير في الأرض، ولم تقتصر على الاستفهام فقال -سبحانه- في عدة آيات:
(فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (آل عمران: من الآية137). (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (الأنعام: من الآية11).
إن قراءة التاريخ والاطلاع على أحوال الأمم الماضية يضيف إلى رصيد التجربة رصيدا علميا من تجارب الآخرين، ولذا قال الشاعر:
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر
وكلما تعمق الإنسان في رؤية الماضي من خلال السنن الكونية والشرعية، كان أكثر قدرة على وضوح الرؤية في المستقبل، ضمن الضوابط الشرعية والعقلية.
8- رجاحة العقل
إن العقل مكان الحكمة وبيتها، وبين العقل والحكمة اشتراك لفظي ومعنوي، وقد يطلق العاقل على الحكيم، والحكيم على العاقل، فإذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
حيث إن الحكمة أعم من العقل وأشمل.
ومما يدل على علاقة العقل بالحكمة أن الله لما ذكر الحكمة فقال: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: من الآية269). ختمها بقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة: من الآية269). أي: أولو العقول، قال ابن عاشور: وقوله: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة: من الآية269). تذييل للتنبيه على أن من شاء الله إيتاء الحكمة هو ذو اللب، وأن تذكر الحكمة واستصحاب إرشادها بمقدار استحضار اللب وقوته، واللب في الأصل: خلاصة الشيء وقلبه، وأطلق هنا على عقل الإنسان؛ لأنه أنفع شيء فيه (9).
ولأثر العقل في تصرفات المرء وسلوكه، ذكره الله في القرآن كثيرا، تنويها بمكانته، وأثره في الحياة.
9- العدل
أمر الله بالعدل في كتابه في عدة مواضع، ولا يمكن أن تجتمع الحكمة مع الظلم، والحيف والجور.
يقول -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) (النحل: من الآية90). ويقول -تعالى-: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: من الآية8). وفي سورة الأنعام 152: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: من الآية152) وفي سورة الشورى 15: (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (الشورى: من الآية15) وعند التأمل في هذه الآية، تتضح علاقة الحكمة بالعدل، بل مكانة العدل من الحكمة (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل:76).
والحكم والحكمة اشتقاقهما واحد، ومعناهما متقارب، وعند النظر في دلالات الحكمة، نجد أنها في مآلاتها بمعنى الحكم، لأن الحكم هو الحكم بين المتخاصمين أو بين الخصوم، والحكمة هي النظر في أمرين أو عدة أمور، واختيار الصائب أو الأصوب منها، والله -سبحانه- قد جعل العدل أساس الحكم (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: من الآية58). فكما أن العدل من لوازم الحكم، فهو من لوازم الحكمة، بل ركن من أركانها، وأساس من أسسها، والعدل والحكمة معناهما: "وضع الشيء في موضعه"، وإن كانت الحكمة أعم من العدل -كما سبق بيانه-.
10- التثبت
من الوسائل التي تؤدي إلى الحكمة: التثبت، والتثبت: منهج شرعي دعا إليه القرآن، حيث قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات: من الآية6).
وبما أن العجلة والاستخفاف من خوارم الحكمة، فإن التأني والتثبت من دعائمها.
والعجلة من الشيطان، ولذلك قال الله -تعالى- لرسوله صلى الله عليه و سلم (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم: من الآية60). وهذه الآية أعم من التثبت، بل هي أمر بالصبر، والتثبت يحتاج إلى الصبر.
وفي آية الحجرات بعد أن أمر الله بالتبين، قال في الآية التي بعدها: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) (الحجرات: من الآية7). أي: لو أن الرسول صلى الله عليه و سلم استجاب لما يريدون دون تثبت ولا روية لأصابهم العنت والمشقة، الحسية والمعنوية، وهذا مما يخالف الحكمة ومقاصدها.
والذي يمعن النظر في كثير من الأحداث المعاصرة، يدرك أن من أبرز أسباب آثارها السلبية: العجلة وعدم التثبت.
ولقد أدرك الأعداء هذه الثغرة، فكثروا من الإشاعات والأراجيف، وتلقاها كثير من المسلمين بدون روية ولا تبصر، ولم يلتزموا المنهج الرباني، بالتثبت ورد الأمر إلى أهله، كما أمر الله -تعالى-: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: من الآية83). ولهذا فقدنا الحكمة في كثير من الأحداث التي مرت بالمسلمين، فجاءت النتائج كما نرى.
11- المجاهدة
قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: من الآية69). أي: لنوفقنهم لإصابة الطرق المستقيمة، كما فسرها الإمام الطبري (10) والحكمة هي التوفيق لإصابة الحق.
ولهذا فإن من أعظم الأسباب للتوفيق للحكمة، هي المجاهدة وهي مفاعلة من الجهاد، فهو جهاد بعد جهاد، وحمل للنفس على تحقيق مراد الله مرة بعد أخرى.
وهذه الآية وعد من الله بأن من جاهد نفسه طالبا للحكمة باحثا عنها أن يوفقه الله إليها، ولو بعد حين، وهذا وعد الله، ومن أصدق من الله قيلا؟.
12- الدعاء والاستخارة
قال الله -سبحانه-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:186). قال ابن عاشور: الرشد: إصابة الحق وفعله (11).
وقد تقدم أن من معاني الحكمة: الإصابة في القول والعمل. والدعاء له منزلة عظيمة، وآثاره مشاهدة، ملموسة، وتكرر في القرآن وروده، قال -سبحانه-: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) (النمل: من الآية62). وقال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: من الآية60).
وقال: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) (الأعراف: من الآية55).
والاستخارة قرينة الدعاء، بل هي نوع من الدعاء المشروع، عندما يعرض للمرء طريقان فأكثر، ولا يدري أيها يسلك، فإنه بالاستخارة يوفق للصواب والحكمة.
13- الصبر
الصبر مفتاح الفرج، ولقد وردت آيتان في كتاب الله، وقفت عندهما متأملا، وخرجت بعد ذلك مستنتجا، أن الصبر دعامة من دعائم الحكمة، بل سبب من أسبابها، وذلك في قوله -تعالى-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) (الأنبياء: من الآية73). وفي السجدة: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
إن الصبر من أعظم أسباب توفيقهم للإمامة، ولا يمكن أن يكون إماما للمتقين إلا إذا كان حكيما، قال الإمام الطبري:
وأريد بذلك في هذا الموضع أنه جعل منهم قادة في الخير، يؤتم بهم، ويهتدى بهديهم (12).
ولمنزلة الصبر وأثره في الحياة، وردت آيات كثيرة تحث عليه وتأمر به، ومن الآيات التي وردت تبين أثر الصبر في الحصول على الحكمة والتوفيق لها.
منها قوله -تعالى-: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:34، 35).
فإن الإنسان إذا سلك منهجا يجعل من عدوه حميما وصديقا، فإن ذلك دليل على الحكمة وحسن التصرف.
والقرآن يبين أنه لن يصل إلى هذه المنزلة إلا من كان صابرا موفقا، وهناك آيات كثيرة عند التدبر لها، يدرك المسلم منزلة الصبر من الحكمة، وأثره في التوفيق لها.
ومنها: قوله -تعالى-: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (البقرة: من الآية45). وقوله -سبحانه-: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: من الآية17). وقوله: (قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (الكهف:67). وقوله: (قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً) (الكهف: من الآية69). وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200).
ومن خلال ما سبق يتضح أن الصبر من صفات الحكماء، ولذلك أوصى الله به رسله، وأنبياءه، وعباده المؤمنين.
14- الرفق ولين الجانب
وخير ما أختم به هذا المبحث من الأركان والأسباب التي تؤدي إلى الحكمة هو: الرفق واللين، فإن الله رفيق يحب الرفق، والرسول صلى الله عليه و سلم يقول: " إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه " (13).
وكان صلى الله عليه و سلم وهو الرفيق بأمته يوصي صحابته بالرفق والسكينة دائما، وقد مدح الله -جل وعلا- رسوله صلى الله عليه و سلم فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) (آل عمران: من الآية159). فالرفق واللين من سمات الحكماء.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن هناك فهما خاطئا لمفهوم اللين؛ حيث يتصور الكثير أن الرفق واللين مرادف للضعف. وهذا فهم خاطئ، فإن الرفق واللين لا يضاد القوة، ولا يستلزم الضعف، وإنما يضاد العنف والفظاظة والغلظة، ومن الأدلة على ذلك:
1- أن الله -تعالى- وصف رسوله صلى الله عليه و سلم باللين، ومدحه بذلك، ونفى عنه الفظاظة والغلظة، ولا يمدح إلا بالممدوح.
2- أن الرسول صلى الله عليه و سلم من أقوى الرجال بل هو أقواهم، مع اللين والرحمة، والرفق وخفض الجانب.
3- أن الرسول صلى الله عليه و سلم أوصى الذي يريد أن يذبح ذبيحته باللين والرفق، والذبح من مظاهر القوة لا الضعف " وليحد شفرته وليرح ذبيحته " (14). وفي هذا الحديث دليل على أن القوة باللين والرفق، فحد الشفرة، دليل على القوة بلين ورفق.
4- أن الجهاد مظهر من مظاهر القوة، بل هو القوة بعينها، ومع ذلك ينهى فيه عما يؤدي إلى العنف والغلظة، فنهى عن المثلة ونحوها.
وبهذا يتضح أنه لا منافاة بين اللين، والرفق وبين القوة، وكلها من صفات الحكماء.
وبعد:
فهذه أهم وأبرز أركان الحكمة وأسبابها، حسب ما ظهر لي بالتتبع والاستقراء لكتاب الله عز وجل.
وقد تجتمع هذه الأركان في شخص واحد، وهو نادر وقليل، وقد تتوافر في مجموعة من الأفراد، فبمجموعهم تتوافر فيهم أركان الحكمة وسماتها.
وكما ذكر العلماء، أن المجدد قد يكون فردًا واحدًا، وقد يكونون مجموعة من العلماء، والدعاة يجددون لهذه الأمة أمر دينها (15).
ولهذا فإن الحكمة قد تكون كاملة وقد تكون نسبية، وهو الأكثر (16) وهذا المفهوم يساعدنا في البحث عن الحكمة والحكماء عند مواجهة الأحداث والأزمات.

مسلم (2564).
2- سبق تخريجه. .
3 - انظر تفسير المنار 3/75.
4 - انظر: تفسير الرازي 7/67.
5 - انظر: تفسير ابن كثير 2/473 مع اختلاف المفسرين في ذلك.
6 - انظر: تفسير ابن كثير 1/284.
7 - وأرى أنه لو كان له عقل لاستشار.
8 - انظر: حتى لا تغرق السفينة ص 68.
9 - انظر: التحرير والتنوير 3/64.
10 - انظر: تفسير الطبري 21/15.
11 - انظر التحرير والتنوير 2/180.
12 - انظر: تفسير الطبري 21/112.
13 - مسلم (2593)، (2594).
14 - رواه مسلم (1955).
15 - انظر: كتاب التجديد والمجددون.
16 - قال ابن القيم في مدارج السالكين 4/479: والله -تعالى- أورث الحكمة آدم وبنيه، فالرجل الكامل من له إرث كامل من أبيه، ونصف الرجل كالمرأة له نصف ميراث، والتفاوت في ذلك لا يحصيه إلا الله تعالى. وأكمل الخلق في هذا: الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم، وأكملهم أولو العزم، وأكملهم محمد، صلى الله عليه وسلم، ولهذا امتن الله -سبحانه وتعالى- عليه، وعلى أمته بما آتاهم من الحكمة، كما قال -تعالى-: (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم. وقال: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون).
أمور تندر فيها مراعاة الحكمة

هناك أمور وقضايا كثيرة يتساهل كثير من الناس في مراعاة الحكمة فيها، مع أنها أولى من غيرها، لأهميتها ولما يترتب على ترك الحكمة فيها من آثار سلبية.
ولست في مقام حصر هذه الأشياء وتعدادها، ولكن سأذكر بعضا منها على سبيل الإيضاح والبيان.
1- الوالدان، والأولاد والزوجة، والأهل والأرحام.
فموضوع بر الوالدين وتربية الأولاد، ومصاحبة الزوجة ومعاشرتها، وصلة الأهل والأرحام والأقارب موضوع وقع الناس فيه بين إفراط وتفريط، وقليل منهم من يوفق إلى الأسلوب الأمثل ويؤدي حق الله في هذا الجانب.
فمثلا: الزوجة، هناك من أساء فهم حق القوامة التي منحه الله إياها، (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) (النساء: من الآية34). فتسلط على زوجته واعتبرها مملوكة له، يعاملها كما يعامل السيد مملوكه، وتجاهل حقوقها، والمنهج الشرعي في معاشرتها، (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: من الآية19). وهذا استعباد لم يأذن به الله، وآخرون خضعوا لسلطان الشهوة. (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ) (آل عمران: من الآية14). فاستعبدتهم النساء، وأصبحت المرأة هي السيدة في البيت، فلا يقضى أمر دونها، ولا يعتذر عن مطلب من مطالبها، فضاعت القوامة، ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة.
والقليل من وفق إلى العمل بهذه الأدلة: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) (النساء: من الآية34). (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: من الآية228) (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء: من الآية19). وقول الرسول، صلى الله عليه و سلم " لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها خلقا آخر " (1). وقوله: " إنما هن عوان عندكم " (2). أي: أسيرات، وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تبين حق الزوجة والزوج.
2- التعامل مع المجتمع:
فلا يخلو مجتمع من المجتمعات من التناقضات، والمجتمع يحتاج إلى أسلوب حكيم في التعامل معه، جلبا وتنمية للإيجابيات، ودرءًا للسلبيات، فلا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا جفاء.

3- أهل البدع:
وهذا موضوع مهم للغاية، وقد بين العلماء المنهج الشرعي في التعامل مع أهل البدع، وفرقوا بين البدع صغيرها وكبيرها، والظاهر منها والمستتر، كما فرقوا بين الداعي إلى بدعته، والقاصرها على نفسه.
وليس هذا مكان بيان ذلك، ولكن أردت أن أشير إلى الخلل الواقع في ذلك من قبل بعض الدعاة وطلبة العلم، مما يجانب الحكمة ويضادها.
4- إنكار المنكر:
لماذا إنكار المنكر؟ وهل الأمر بالمعروف لا يحتاج إلى حكمة؟ ليس الأمر كذلك، ولست في بيان الأمور التي تحتاج إلى الحكمة، وإنما المراد هو الإشارة إلى ما يفتقر إلى الحكمة من حيث الواقع، والمشاهد أن الإخلال بالحكمة في النهي عن المنكر أعظم من الإخلال بها عند الأمر بالمعروف.
وكذلك فإن ضوابط إنكار المنكر قد تخفى على الكثيرين، أكثر من خفاء ضوابط الأمر بالمعروف.
وخلاصة القول: إننا بحاجة إلى الحكمة عند الأمر بالمعروف، ولكننا أشد حاجة إليها عند إنكار المنكر.
لأنه لا بد من مراعاة قاعدة المصالح والمفاسد، وقاعدة سد الذرائع، وغيرهما من القواعد الشرعية. والإخلال بالحكمة له آثاره التي لا تخفى، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)(البقرة: من الآية269).
5- إشاعة بعض الأخبار والمفاهيم:
يقول الله -سبحانه- وتعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83).
من القضايا التي تقل فيها مراعاة الحكمة:
إشاعة الأخبار، مما ظاهره المسرة أو الخوف، وقد يكون وراء هذه الأخبار أهداف تخفى على الكثيرين، وبخاصة وقت الأزمات والحروب.
ولأن الحكمة ليست متاحة لكل أحد أمر الله برد هذه الأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في حياته، وإلى سنته وعلماء الأمة بعد وفاته صلى الله عليه و سلم لأن أولئك هم الذين يدركون الحكمة، ويعلمون ما وراء هذه الأخبار، ومن ثم يقررون ما يناسب الحال.
وهم الذين يفقهون قول الرسول صلى الله عليه و سلم " كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع " (3). لأن كثيرا من الإشاعات والأخبار ليست على ظاهرها، بل قد تكون مكذوبة من أصلها.
6- النقد وبيان الأخطاء:
هذه مسألة ضل فيها كثير من الناس، فطائفة أطلقوا ألسنتهم دون حسيب أو رقيب، وديدنهم النقد والتجريح وإحصاء الأخطاء والمثالب، لا يسمعون بمنقصة إلا أشاعوها، ولا بمذمة إلا أذاعوها، وطائفة أخرى اعتبروا النصيحة فضيحة، والتنبيه على الأخطاء تجريحا، وجعلوا لبعض الأفراد والهيئات والجماعات قداسة لا تمس، ومنحوهم حصانة لا ترفع، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
ومن هنا فإن موضوع النقد وبيان الأخطاء موضوع حساس، له ضوابط يجب أن تراعى، وحدود لا يجوز تعديها وتجاوزها.
ومراعاة هذا الأمر هو الحكمة التي نعنيها، والضالة التي ننشدها.
هذه نماذج من أمور كثيرة يجب أن تراعى الحكمة فيها، ونلحظ تساهل كثير من الناس في ذلك، مما ترك كثيرا من الآثار السلبية في واقع المسلمين ومجتمعاتهم.

1
- مسلم (63،1470).
2- أخرجه الترمذي (1163) وقال: وهذا حديث حسن صحيح، وابن ماجة (1851).
3- مسلم (5).

مسائل متعارضة سوى الناس بينها

هناك مسائل وقضايا اختلط الأمر فيها على بعض المسلمين، فسووا بينها مع أنها متضادة ومتعارضة، وبينها خيط رفيع لا يدركه إلا الحكماء، ممن وهبهم الله البصر والبصيرة.
فمثلا نجد الخلط بين الإسراف وبين الكرم، والخلط بين البخل وبين التوفير أو الاقتصاد. والأول مذموم، والثاني ممدوح، ومطلوب.
ولذا فبعض الناس يصف الكريم بالإسراف، وآخرون يصفون المسرف بالكرم، وهكذا.
وسأذكر بعضا من هذه القضايا والمسائل، تنبيها إلى خطورة عدم التفريق بينها، وتصور أنها من المتماثلات، لنكون على بينة من أمرنا تجنبا لإطلاق الكلام على عواهنه، دون تبصر لحقيقته وآثاره.
فمن ذلك الخلط بين:
1- القوة وبين العنف والغلظة.
2- الرفق واللين وبين الضعف.
3- المداراة وبين المداهنة.
4- المصلحة وبين المفسدة.
5- النصيحة وبين التشهير.
6- الإسرار وبين السكوت عن الحق.
7- الغيرة وبين الاندفاع غير المنضبط.
8- العزة وبين التكبر.
9- التواضع وبين الذل.
10- التأني وبين البرود والخمول والكسل.
11- الشجاعة وبين التهور.
12- خوف الفتنة وبين الجبن والخوف.
وكثير من الناس يصعب عليه التفريق بينها، فتجد من يصف الشجاع بالتهور، وتجد من يُثني على المتهور ويصفه بالشجاعة.
ونرى من يسم الناصح بالتشهير، وآخرون يبررون عمل الذي يشهر بالناس بأنه ناصح، وهكذا.
والمنهج الصحيح هو تسمية الحقائق بأسمائها، ولا يتسنى ذلك إلا لمن رزق علما وفهما وقدرة على وضع الشيء في موضعه، وهذه هي الحكمة التي نتحدث عنها.
الخاتمة
وبعد:
فهذه هي الحكمة كما فهمناها من كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم حيث اتضح لنا الأثر الإيجابي الذي يتركه من التزم بالحكمة ووفق لها.
أما من لم يوفق للحكمة -وهم كثر، لا كثرهم الله- فقد جنوا على الأمة المصائب والويلات لتصرفاتهم التي سببت للمسلمين البلاء والمزيد، من تسلط الأعداء.
إنه حري بالعلماء وطلاب العلم والدعاة أن يلموا بالحكمة، ويلتمسوا سبلها، في وقت عز فيه الحكماء، وبخاصة أمام هذه الهجمة الصليبية المتقنة.
لأننا، وإن كنا بأمس الحاجة إلى القوة الاقتصادية والعسكرية، فإن حاجتنا إلى الرأي السديد والنظر البعيد أشد وأولى، وصدق الشاعر، إذ يقول:
الرأي قبل شجاعة الشجعانه و أول وهي المحل الثاني

والآخر يقول:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
وإذا كان يعز توافر الحكمة في فرد واحد، فإن توافرها في مجموعة أفراد أحرى وأجدى وأقرب للمنال، ولهذا قال الشاعر:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها

إن الأمة أحوج ما تكون إلى العلماء والدعاة العاملين المخلصين، الملتزمين بمنهج الرسول صلى الله عليه و سلم في وقت أصبح الحليم حيران.
إن العلاج بين أيدينا في كتاب ربنا، وسنة نبينا، حيث يقول المصطفى صلى الله عليه و سلم " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي " وقال: " تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك " (1).
وصدق الله العظيم حيث يقول: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: من الآية153). ولكن لن يفقه ذلك إلا من آتاه الله الحكمة، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (البقرة: من الآية269).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.


- رواه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني في صحيح الجامع (2937).

__________________
كيف ابدى باحرفى ما اريد ..... او بماذا تراه يحكى القصيد
كل يوم تدق بابى عظات........ ويهز الفؤاد خطب حديد
ويح نفسى الم تفق من هواها......او ما هز خافقها الوعيد :7b:


شبكة ومنتديات القمة
http://elqema.co.cc
http://elqema1.co.cc

نسعد بمشاركتكم معنـــا
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
لنتعلم الحكمه من أحد الحيوانات-_- زهرة اللافندر مواضيع عامة 9 11-27-2011 11:49 AM
شاهدوا اراده هذا الرجل...... وتعلموا الحكمه منه ابؤؤو خبر أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 9 06-16-2009 03:14 PM
الحكمه فى تحريم التماثيل *عائشه* نور الإسلام - 4 02-19-2009 10:37 AM
الحكمه من (العدّه)للنساءالارمله او المطلقه سمرا و ملوحه أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 4 05-11-2008 02:31 PM
قصة وجدتها في بريدي زهرة الرمال قصص قصيرة 16 10-12-2007 09:43 PM


الساعة الآن 04:36 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011