عرض مشاركة واحدة
  #48  
قديم 03-12-2018, 12:02 AM
 
الفصل السادس.

[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:90%;background-image:url('https://e.top4top.net/p_74644baq2.png');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]




مدينة أركاديا – الساعة الثالثة عصرًا.

شمسُ القارةِ السوداء لا تهدأ، لا تنضب ولا تخفتُ أبدًا. الشمسُ المقدسة، الطاغية، الثابتةُ التي لا تُنازَع تضربُ رأسهُ بلا هوادة، تقتاتُ على الضعفِ الذي ينمو كطفيليٍ على وجهه. غمرهُ العرق، أتعبهُ اللهاث، باتَ يقطعُ هذهِ الصحراء لستةِ أيامٍ متواصلة، إلا أن لا نهايةً واضحةً قد بانتْ له طيل هذه المدة. الماءُ على وشكِ النفاذ، وإن نفذ ستنفذُ حياتهُ معه! سقطَ على ركبتيه يحاول التقاطَ أنفاسه، كثبانُ الرملِ الجامحة أقوى مما يمكن لقدميهِ أن تتحمله. نظر إلى الأفقِ الساطِع وعيناهُ تنطفئانِ تدريجيًا بفعلِ الإرهاقْ، لعق شفتيه الجافتين، جاهدَ نفسه، أجبرَ الجسدَ المنهار على الانصياع، وقف ونادى السماء بصوتٍ مبحوح: أنا ابنُ الشمس.. ولن تفتكَ بِي والدتِي، ليس الآن!


قارة كاميلوت – السادسةُ مساءً.

يعانقُ دخانُ القهوةِ حاسة شمِهَا، تحتضنُ الكوبَ بيدينِ باردتين وتراقبُ الضبابَ الكثيف من النافذةِ الرطِبة. تتساءلُ أيُ الكائناتِ تتوارى خلفَ هذا الحجابْ، أيُ اندثارٍ يتربصُ بما يعيشُ على الخوفِ والهلع؟ عيونُ الذئابِ ذاتِ اللونِ الفضي تلمع مخترقةً الغطاءَ الكثيفَ للغابَة، تراها وتكتسحُ الطمأنينةُ قلبها الخائِف. ارتشفت القهوة وإذ بذئبٍ أبيض يظهرُ من الطرف الآخر للنافِذة، أخذَ ينظرُ إليها، وضعت كفهَا على الزجاجِ من النافذةِ مرخيًا رأسهُ على الزجاجِ البارد. ابتسمت له وحاورتهُ بهدوءِ الليلِ الطويل: أترى بقاياي هذه؟ إن هذا الخرابَ يفتكُ بنخاعِي، يخنقُ عقلِي.. إنهُ ضمُورٌ مؤلمٌ بطِيء. حدّق فيها بعينينِ فضيتينِ عميقتين، كعمقِ مناجِم الأرض وأعماقِ المحيط. أرخى رأسهُ على النافذةِ مجددًا وكأنما ينتظرُ تتمةَ حديثها. خلقتْ لحظةً من الصمتِ حتى أفضتْ بضوضاء مشاعرها إليه: لوعةُ العمالقة التي تنسلخُ من فؤادِي تضربُ شطرينِ من شطُورٍ لا تلتئم، إنها لا تناسِبُ عظمِي، لا يحتويها صُغرُ جسدِي، ذاك العواءُ الذي لا يسمعهُ سواي، مصيرهُ إيواءٌ صامِتٌ أزلِي، إلى أن يفضي القدرُ بأناةِ الانتصار.

حملقَ فيها وفِي الأسى الذي يتمركزُ في مقلتيهَا اللطِيفتين، أصدر عواءً طويلًا كعزاءٍ لها، كمرثيةٍ يخلدُهَا بشهادةِ القمَرْ. اعترتهَا السكِينَة وراقبتهُ يغادِرُ متلاشيًا في الضَباب كما لو أنهُ ولدَ مِنهُ وإليهِ يعُود.


مملكة سافانا – منتصف الليل.


تِلك الهيعَة، البلطجَةُ التِي تناسلَتْ وأعطتِ الحياة للهرطقاتِ المُفزِعَة، الصمتُ المطبِق الذي عزلَ الصوتَ المدوي للرعد وكثافةِ المطر. رائحةُ الجثثِ المُتفحِمة تصِيبهَا بالغثيان، تريدُ التقيؤ إلا أن جسدها مُتصلِبٌ لا يستجِيب. سمِعت إهنافًا، بأصواتٍ ممتزجَة لشياطِينِ عقلِها، تسخَرُ مِن حيرتِها، ضعفها وسذاجَتِها. تضرَّج دماغُها، أو هذا ما اعتقدته. فِي هذا الليلِ المضطرِب، الداجي، والمنعزِل، الليلُ الغربيبُ غيرُ المنتهٍ يحتوِي الذنبَ القاهِر. هذهِ المذبحَة، لها تأثيرٌ ارتطامِي، لها وقعُ شعرِ شعراءِ العربِ الحزِين، كيف سوّلتْ لهُ نفسه؟ كيفَ تحمّل؟ وهذا الجسَد، كيف نجَى؟ كيف قهرَ بطشَ النار وخرجَ منها كانسلالِ الشعرةِ من العجين؟ لا تستطِيع الوقُوف، تبًا لهذا الجسد.. تبًا! حطّت خطواتٌ هادئة قُربهَا، ترمقهَا عيناهُ الساخطتَين، قدْ تأخّر كثيرًا، هي قد توغّلت عميقًا مسبقًا، فلا خيارَ إلا اكمالُ الطريقِ معها. اقتربَ مِنهَا، جلسَ على ركبتيهِ أمامهَا وحدثهَا كما اعتادَ قبلًا: شيفا.. آن أوانُ أن تستعِيدي المَجد، وتصححِي طريقَ الأسلافْ. هِي لمْ تهتم كثيرًا بما قاله، عانقتهُ بقوةٍ لتبدأ بالبكاءِ بقوةٍ بعدهَا، باتتْ تنادِيه بلا توقُف: سيفون! سيفون! سيفون!. عانقهَا بأقوى ما أمكنه، كزّ على اسنانهِ بألم: آسِف.. آسفٌ يا عزيزتِي..
الألمُ الذي احتبسَ متجذرًا في قلبِها قدْ حرّر بذورهُ فِي دموعِها الحارّة، هو كاد ألّا يتمالك نفسه، أراد الصراخ أيضًا إلا أن التدارُكَ كان خيارَه، باتَ يهدئها والحسرةُ تسدُ حنجرتَه، قررَ أن يُخفِها بينَ ذراعيهِ كما اعتادتْ أن تفعلَ له، ريثمَا تزايدتْ ظلمةُ الليل مع ازدِيادِ المطَر وهيمنةِ البرد على الأجواء.


قارّةُ كاميلوت – الغابةُ الضبابية.

لمْ يسمَع عواءَ الذئابِ وهذا أمرٌ لم يعتادَه، فقُبيل الفجرِ يتكومًون كالأجسادِ المُتراصّة ويعزِفُون سيمفونيتهم حتَى مطلعِ الفجْر؛ تخليدًا لذكرى ( هيورا ) التِي تركتهم دون أثرٍ يقُودُهم إليهَا. وقفَ منتظِرًا ظهورَ فايلين، إلا أنّ الدقائق الطويلة التِي مرّت قدْ أثبتتْ لهُ أنهُ لن يأتِي اليوم. خمُلتْ عيناه، سارَ أعمقَ فِي الغابةِ حتَى شعرَ أنّه يمتزِجُ معهَا وببطءٍ هو يصبحُ جزءًا منها. الضبابُ يعانِقُه والهواءُ الخانِق يقاتِله. وصَل إلى بحيرةِ هيورا بعد ساعةٍ من المسيرِ المضنِي، شاهدَ فايلين واقفًا على المياهِ الكرستاليَة التي تعكس ضوءَ القمرِ الضخمْ والذئابُ الأخرى متجمعةٌ على أطرافِ البحيرة، فايلين كان يحدِقُ بالقمر والحزنُ يتغذى على ضوءِ عينيهِ الجميلتَين، التفتَ حالما شعرَ بسيفيروس، باتَ يحملقُ فيه للحظات، أصدرَ عواءً مفاجِئًا ففعلتِ الذئابُ مثله، شعرَ سيفيروس وكأنما الحياةُ قد دبّت في الغابة دون انذارْ، وكأنما جزيئاتُ الماءِ ترقصُ على صوتِ العواءِ المتجانِس. العواءُ الطويلُ ذو النوتةِ العالية المُهدِئ للأعْصاب استمر لعدةِ دقائق حتّى هدأوا تدريجيًا. سار فايلين بخطواتً متجانسَة على سطِ الماء، ومع كُل خطوةٍ يصدرُ الماء صدًى مسمُوعًا مع الموجاتِ المتلاشيَة. جلس أمامه رافعًا رأسهُ لينظر مباشرةً في عينيه. انحنى سيفيروس اليه، داعب رأسه قليلًا إلا أنّه توقفْ، عانقَ فايلين بقوة وحدّثه: لا شيء سينهِي هذهِ الوحشة، ستتمزقُ في منفَى هذا العالم، ولا بقايا منكَ ستعِيش.. حتى تنجو بها! عينا الذئب قد لمعتَا، الوِحدةُ التِي تغمرُه.. لا يمكن اغتيالُها.


فِي مكانٍ مجهُول.

يعانِقُ الشيطَان، يعاقِرُ الذنب، هو، في هذا المنفى الفارِغ، يحتسِي الشاي مع العفاريتِ التِي تعيشُ فِي عفنِ أعمالِه، تختلسُ الأوهام مضجعه، ويكادُ المَرَدةُ ينهشُون رغبَتَه؛ فلا يبقَى منهُ إلا الذنب، فيعاقبُ عليهِ وحيدًا. النشوةُ التِي تضربُ كلحظةِ اليقظة التِي تتبعُ السُكْر لا تفتأُ تحيي فيهِ ما نمى في نخاعِه من الشّر. خفقانٌ لا يتوّقف، لهيبٌ لا ينطَفِئ، صراخٌ لا يفرُ مِن حلقِه وصورةٌ مشوشَة لا يتعرّفُ على صاحبَتِها. فتح عينيهِ على البياضِ الساطِع، وسوسِ بهمساتٍ لنفسه، محاوِلًا أن ينفخ الحياة فِي حلمٍ قدِيم: تمنيتُ لو تفنَى البشريةُ معِي!



[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]
رد مع اقتباس