عرض مشاركة واحدة
  #15  
قديم 02-22-2018, 05:50 PM
 
[align=center][tabletext="width:100%;background-image:url('https://f.top4top.net/p_772ibz7i5.png');"][cell="filter:;"][align=center]
الفصل الخامس والعشرون
---------------








كيف تنام العيون وقد فقدت كل الاحبة فى ليلة واحدة ...كيف ترتاح القلوب بين الصدور اللآهجة ...
ألتف الجميع حول النساء الثكالى فى بيت أم فارس محاولين أن يخففوا عنهم ولكن كيف السبيل لذلك ...
دفنت مُهرة وجهها فى صدر أم فارس تبكى وهى تستمع لكلام عزة وعبير عن ما حدث معهم هم ايضا فى بيوتهم قبل الفجر
كل منهم تبكى دماً بعد أن جف نبع دموعهن ,, الناظر اليهن لا يعلم من يواسى من ومن يطمئن من ومن يربت على كتف من ..
الجميع مكلومين فى أحبائهم كل منهن تحتاج الى صدر حنون يضمها ويطمئنها على رفيق دربها
ولقد كانت مُهرة هى ملهمتهم فى ذلك عندما ألقت نفسها بين أحضان أم فارس تبكيه وتخفف عنها فى نفس الوقت ..
كذلك فعلت عبير عندما ألقت نفسها فى حضن أم بلال وكذلك فعلت عزة وهى بين ذراعى أم عمرو وكأنهم بهذه الاحضان
يتساندون ويشدوا أزر بعضهم البعض فالمفقود واحد .. ألتف حولهن بعض الجارات يستمعون لماساتهم محاولين التخفيف عنهم ومواساتهم ببعض كلمات الصبر ...بينما ذهب الرجال يبحثون عنهم فى كل الاقسام وبنايات أمن الدولة المبعثرة فى كل مكان فى بلدنا
وفى النهايه عادوا بخُفى حنين ..
لاشىء غير موجودين فى أى مكان بشكل رسمى
وقف والد عمرو على باب شقة أم فارس من الخارج هو وبعض الرجال وقال بغضب وهو يكاد يمنع نفسه من البكاء بصعوبه
هاتفاً :
- لفينا الاقسام كلها وروحنا كل مبنى بيقولوا عليه بتاع أمن الدوله وبرضه مفيش حس ولا خبر عنهم هما التلاته
هيكونوا ودوهم فين يعنى
رد والد عزة بحنق :
- للدرجادى أى حد يتاخد من بيته بسهوله كده ويختفى ومالوش اثر أحنا فى مصر ولا فى شيكاغو
تدخل محمود أخو عمرو قائلا :
- أنا عارف كل ده ليه علشان اصحابه مربين دقنهم

أجابه يحيى :
- طب وأيه المشكله يعنى
قال محمود :
- المشكله ان اى واحد مربى دقنه يبقى أرهابى وش
هتف مينا أبن العم عامر جارهم قائلا:
- يا سلام طب ما أحنا عندنا القس مربى دقنه هو الموضوع بالدقن يعنى
تمتم محمود حانقاً :
- يا عم انتوا مسيحين أحنا بنتكلم على المسلمين دلوقتى
قال عامر بحزن :
- يابنى انتوا جرانا من زمان وعمرنا ما شوفنا منكم حاجه وحشه فارس وعمرو وصاحبه بلال
اللى زى المرهم ده يتعمل فيهم كده ليه أرهاب ايه وبتاع ايه الارهاب ده مبنشفهوش غير فى الافلام والمسلسلات
ربت الحج عبد الله على كتف عامر وهو يقول مؤكدا :
- معاك حق والله يا عامر متزعلش من محمود ميقصدش

نظر له عامر وقال متفهماً :
- بالعكس يا حج عبد الله كلام محمود خلانى أفهم حاجه كانت غايبه عنى ويمكن غايبه عن ناس كتير زينا ..
لما يقبضوا على مسلم مربى دقنه ويقولوا عليه ارهابى وفى نفس الوقت المسيحى اللى عاوز يربى دقنه ويترهبن
يبقى براحته ومحدش يقدر يكلمه يبقى هما قاصدين يكرهونا فى بعض هما اللى بيزرعوا بذرة الفتنه الطائفيه فى البلد
وبيروها بافعالهم دى اللى ميرضهاش اى دين ....
قال والد عمرو مقاطعاً :
- طب دلوقتى هنعمل ايه هندور فين ولا هنلاقيهم ازاى بس يا ناس
أنتبه يحيى فجأة وقال :
- الله هى مش مرات الاستاذ فارس محاميه أكيد هى ممكن تعرف تتصرف هى والمحامين اللى فى مكتبه
تقدم والد عمرو بسرعة وطرق باب الشقة المفتوح وهو يقول :
- يا ست أم فارس أومال مرات الاستاذ فارس فين أكيد هى محاميه وهتعرف تتصرف
رفعت عزة راسها من صدر أم عمرو وقالت بلهفة :
- ايوا يا طنط الله يخليكى هى فين يمكن تعرف تلاقيهم
صوب الجميع نظره اليها حتى مُهرة رفعت راسها تنتظر جوابها فقالت وهى تمسح دموعها بكلتا يديها :
- مردتش أتصل بيها وهى لوحدها وابلغها أتلهيت فى اللى حصل وخفت اقولها وهى لوحدها يحصلها حاجه
كلمتها بس وقولتلها تيجى ضرورى ومش عارفه اتاخرت ليه لحد دلوقتى ؟!
أستندت عبير الى ظهر أريكتها وأغمضت عينيها المتورمتين من البكاء فى حسرة وقد لاحت صورته فى عقلها وومض به قلبها
وهى تستمع اليه وهو يقول لها بمرح :
- أوعى تاخرى الصلاة مره تانيه فاهمه ولا افهمك بطريقتى

وجدت الابتسامة المتألمة طريقها الى شفتيها وهى ترى ملامحه المداعبة لها وهى تتذكره وهو يداعب أطفاله بشغف طفولى
ويجرى بينهم وهم يحاولون أمساكه ولا يستطيعون فيقفز ليعبر واحدا ويلتف حول الاخر بخفه ويجرى من الطفلان الاخران بسرعه
ليدور حول المائدة
وهم يدورون خلفه وهم يتضاحكون ويسقطون من فرط ضحكاتهم المجلجلة قبل أن ينجحوا فى الامساك به اخيرا فيتكاثروا عليه
ويتصنع هو السقوط فيتكالبون فوقه وهو يصرخ بمرح مستنجداً بها أن تنقذه من بين براثنهم ...
فرت دمعة من عينيها وأعتصر قلبها من الألم ...
دخلت دنيا شارعهم وهى ترتدى نظارة سوداء تخفى بها عينيها وجزء كبير من وجهها ومرت بين نظرات الناس حولها المشفقة عليها
ومما حدث لزوجها فجراً .. صعدت الدرج فى أضطراب وهى ترى الرجال مجتمعين أعلى الدرج أمام شقة زوجها ...
تنحوا جانباً عندما رأوها وهو يقولون :
- قلبنا معاكى يا بنتى
عبرت من بينهم ودخلت الشقة لترى هذا الجمع الغفير من النساء وترى مُهرة بين ذراعى أم فارس
وعيناها تكاد تختفى من كثرة البكاء ودموعها التى لا تجف ابدا ..كان الوضع اشبه بمأتم أجتمعت فيه النساء فقاالت فى تلعثم :
- خير فى ايه يا طنط ايه اللى حصل
نظر لها الجميع بإشفاق حتى مُهرة نظرت لها برحمة وشفقة وهى تتوقع رد الفعل بعد علمها بما حدث ...
وقفت ام فارس واقتربت منها وهى تبكى وقالت :
- فارس خدوه يا دنيا دخلوا علينا قبل الفجر وخدوه من وسطينا
قالت باضطراب وهى متوترة :
- هما مين دول

نظر لها الجميع بدهشة كبيرة فرد فعلها لا يتواكب مع ما تسمع من والدته بينما قالت ام فارس :
- بيقولوا مباحث امن الدولة يابنتى ومش هو وبس لا كمان خدوا عمرو وبلال معاه
كان لابد أن تظهر بعض رد الفعل والا شك بها الجميع فتصنعت البكاء ولكنها لم تخلع عنها نظارتها السوداء
حتى لا يعلم الجميع بخداعها ..استندت الى الحائط وأخذت تشهق بقوة وهى تضع يدها على فمها ..
ربتت أم فارس على كتفيها وهى تقول :
- امسكى نفسك يابنتى ده انتى اللى المفروض تقوليلنا نعمل ايه أحنا مش لاقينه فى اى حته
تماسكت دنيا سريعاً وتناولت منديلاً لتجفف دموعها التى لم تنزل أصلاً وهى تقول :
- معاكى حق يا طنط أنا هدور عليه فى كل حته لحد ما الاقيه عن اذنكم وخرجت سريعاً وهى تشعر ان بكائهم قد اصبح لعنة
تطاردها اينما ذهبت .. نظرت النساء الى بعضها البعض متعجبةً من رد فعلها ولكن عادوا الى ما كانوا عليه منذ قليل ..
كلَ يبكى على ليلاه ......


********************************************

عادت دنيا إلى بيت والدتها وأول ما فعلت أجرت أتصالاً هاتفيا بباسم الذى اجابها فى سئم شديد :
- أيوا يا دنيا خير ؟
قالت فى سرعة :
- عاوزه أطمن عليه وأطمن أمه
زفر فى ضيق وقال حانقاً :
- هو طلع رحلة يا دنيا وعاوزة تطمنى عليه ..أنتى عارفه كويس هو فين ولا ناسيه
هتفت بغضب :
- أمه هتموت نفسها عليه حرام عليك
صاح غاضباً :
- هتعمليلى فيها حنينه ياختى ولا أيه ولا تكونى ناسيه أنك أنتى اللى بلغتى عنه ياام قلب حنين
تحشرج صوتها وقالت ببكاء :
- عارفه أنى أنا اللى أتزفت وبلغت بس عاوزه أطمن أمه وأطمن أنا كمان أنت وعدتنى محدش هيأذيه
رفع حاجبيه مندهشاً من كلامها الذى هو عكس تصرفاتها تماماً وقال ساخراً:
- والله أنتى لُغز يا دنيا طب لما أنتى قلبك عليه كده وافقتى ليه من الاول
هتفت باكية :
- علشان هو اللى اضطرنى لكده بغباءه ومثاليته الزايدة فاكر نفسه عايش فى الجنه

صمت باسم قليلاً ثم قال بهدوء حاسم :
- بصى يا دنيا أنا هتكلم فى الموضوع ده لاخر مرة علشان زهقت منه ومش عاوز وجع دماغ تانى ...
فارس هيفضل فى المعتقل لحد ما القضيه تتقفل وتخلص خالص يعنى اربع خمس شهور بالكتير
وصلى الكلام ده لاهله بطريقتك المهم متوجعليش دماغى تانى فاهمه
أبتلعت ريقها بصعوبه وهى تحاول تنظيم أنفاسها وهى تمسح دموعها بتوتر وقالت :
- طب وهنعمل ايه فى القضية
رفع حاجبية متهكماً وقال :
- ايوا هو ده المهم دلوقتى كده أنتى دنيا اللى أنا أعرفها ...ركزى معايا كده وفتحى مخك ...
أستمعت إليه بإهتمام وتركيز وهو يقول :
- أولا مفيش مخلوق فى المكتب عندكوا هيعرف بحكاية الاعتقال دى ولا حتى الدكتور حمدى وكويس أن نورا أجازه
علشان هى اللى هتعمل قلق ومكنتش هتسكت دلوقتى انتى المسؤله عن كل حاجه فى المكتب وده فى صالحنا
علشان كده عاوزك اول حاجه تعمليها أول ما تروحى المكتب النهارده ... تكلمى الراجل صاحب القضيه وتبلغيه ان فارس طالب نص الاتعاب
على الاقل دلوقتى وبعد ما توصلك الفلوس هقولك الخطوه اللى بعدها
قالت معترضة :
- لاء لازم أعرف كل حاجه دلوقتى

زفر بقوة قم قال بملل :
- هقولك ..أنا خلاص وصلت لسكرتير النيابة اللى هيسحبلنا الورقه المطلوبه من ملف القضية قبل ما تروح على المحمكة وهتفاوض معاه النهارده على المبلغ اللى هياخده ... ومش كده وبس ..أنا كمان وصلت لشهود الاثبات وبرضه هتفاوض معاهم على المبلغ ..
والفلوس اللى هتاخديها من الراجل فى اقرب وقت هنكيشهم منها .. وكده لا هيبقى فيه دليل ولا شهود والحادثة هتبقى قضاء وقدر
ومش مقصودة والواد يطلع من عقوبة القتل العمد وبعد كده ممكن نفاوض أهل القتيله لما يبقوا فى موقف الضعيف
وممكن ساعتها يتنازلوا بقرشين وتبقى القضيه بخ.. فهمتى؟
قالت بشك :
- طب ماهو محامى البنت اللى ماتت ممكن يقدم فى المحكمة صورة من الورقه اللى هتتاخد دى وساعتها يتهمونا بالتزوير
قال بثقة مخلوطه بالسخرية :
- وأنتى يعنى فاكره أن حكايه زى دى تعدى عليا ..
المحامى بتاعهم أطلع على القضيه بس ومصورش منها نسخه يعنى مفيش فى ايده ورقة ضد يتكلم بيها ..فهمتى يا فالحه

أعتدل فى جلسته ولمعت عينيه بخبث وهو يقول :
- ومذكرة المرافعة انا اللى هكتبهالك وهتحفظيها زى ما هى كده علشان تجلجلى بيها المحكمة
ولما الحكم يتغير شوفى بقى ساعتها أسمك هيلمع أزاى ..
لمعت الفكرة فى راسها فلقد عرف باسم كيف يقضى على النبضة الاخيرة من نبضات ضميرها ..
تخيلت حكم البراءة وكيف سيلمع اسمها بعد ذلك فى سماء المحاماه لتتهافت عليها القضايا كما حدث مع فارس
ويقصدها الناس ولكنها لن تفعل مثله لن تعيش بمثاليته التى دمرته وستدمره سيكون الحكم الوحيد فى قبول اى قضية هو الاتعاب
فقط ليس إلا ..
وستخطو فى نفس طريق باسم فى حل القضايا الشائكة ... وضعت الهاتف بجانبها وقد نسيت تماماً أمر فارس
ولم تعد تذكر الا مستقبلها فقط ..والذى ستجنيه من خلفه


*******************************************

حل المساء على النساء وحالهن هو البكاء .. لا يزلن مجتمعين فى بيت أم فارس ما بين متضرعة وباكيه ومنهارة .
.مُصابهن واحد بتلمسن أى خبر ولو غير مؤكد أى شىء يطمئنهن على الازواج والاحبة ورفقاء الدرب ولكن لاشىء ..
كأنهم أختفوا وذهبوا جميعاً ..خلف قرص الشمس ..ولم يعثروا على أجابة شافية من أى جهة ..
الاجابة الوحيدة التى وجدوها كانت عن طريق دنيا
بعد أن ابلغتهم بها فى الهاتف وقالت :
- عرفت أنهم فى المعتقل بس لسه مش قادرة أحدد مكانهم بالظبط ولا حتى قدرت أعرف تهمتهم ايه ..
ثم أردفت وكأن أمرهم لا يعنيها :
- انا هفضل بقى فى بيت ماما لحد ما نعرف طريقهم هناك بتحرك اسرع ..سلام

وقبل منتصف الليل بقليل نهضت أم عبير وهى تمسك بيد أم بلال قائلة :
- يالا يا حجه أحنا هنروح تعالى معانا
قالت أم بلال وقد بلغ منها التعب والحزن مبلغهم :
- مينفعش يا أم عبير أنا هروح البيت

قالت أم عبير بتصميم:
- لاء هتروحى لوحدك فى البهدله اللى حصلت دى أزاى طب على الاقل باتى معانا النهارده
تدخلت عبير وقالت لوالدتها :
- معلش يا ماما انا كمان هروح بيتى ..ثم نظرت امامها فى شرود وتصميم وهى تقول :
- بيت بلال ميتقفلش أبدا مهما حصل
ذهب الجميع وتركوا أم فارس وحدها على وعد اللقاء فى اليوم التالى لبداية رحلة بحث جديدة ...
ذهب الجميع وبقيت مُهرة بجوارها بعد أن قالت أم فارس لوالدتها وهى تتشبث بها فى حضنها :
- سيبيها معايا النهارده يا أم يحيى

أغلق باب الشقة عليهما وحدهما ..ظلت مُهرة بحضنها تتلمس فيها رائحتة بينما ظلت أمه متشبثةً بها تتلمس فيها حبيبة قلبة ...
رفعت مُهرة راسها قائلة :
- يالا يا طنط قومى أرتاحى فى أوضتك شويه أنتى شكلك تعبانه أوى
نهضت أم فارس بمساعدتها ولكنها قالت :
- لا انا عاوزه انام فى أوضة أبنى ثم عادت للبكاء مرة أخرى وهى تقول :
- وحشنى أوى يا قلب أمه
أنهمرت الدموع من عينيى مُهرة وهى تحاول تهدئتها وتقول بصوت متقطع:
- كفايه بقى أنتى كده هتتعبى بزيادة وكمان مخدتيش الدوا النهارده ..

.أخذتها مُهرة الى غرفته كانت مبعثرة أشيائها واثاثها نتيجة الاقتحام الغاشم المباغت ..
عدلت مُهرة من وضع الفراش وساعدتها على الاستلقاء فيه
وجلست بجوارها وهى لا تعلم هل تداوى جرح والدته ام تداوى جرحها الغائر ..

تناولت والدته الدواء من يدها وأغمضت عينيها بعد أن شعرت ان سقف الغرفة يدور حول نفسه وراحت فى سبات عميق ..
ظلت مُهرة تنظر حولها تتلمس أشيائه المبعثرة فى تأثر ودموع صامته حتى غابت عن الوعى
وهى تجلس على مقعده خلف مكتبة الصغير ..أبت أن تنام على فراشه التى تقاسمه فيه أمرأة أخرى
خافت أن تشتم رائحتهما معاً ممزوجة فى بعضهما البعض ..
كانت تعلم أنه لايسمح لاحد غيرها بأن يعبث بمكتبة لذلك فضلت أن تنام خلفه وهى متأكدة أنه لم يلمسه بعده سواها...

******************************************

لا يستطيع أن يتكلم أحد عن الظلم الا من ذاق مرارتة ولا يقدر أحداً على وصف الظلام الا من عاش فيه ...
كانت غرفة اقل ما يقال عنها نتنة الرائحة تفوح منها رائحة النجاسة لا يوجد ولا حتى نافذة صغيرة لا يوجد
الا بصيص نور صغير يأتى من اسفل عقب الباب الحديدى لا يصدر عنها سوى صدى صوت الانين الهامس
والتأوهات الخافتة التى تخشى من الظهور رغم عِظم اللآلم...
والصمت هو سيد الموقف ... لا يقطعه سوى تمتمت بلال لبعض آيات القرآن الكريم ... همس عمرو فى أذن فارس
قائلا:
- أحنا هنا من أمبارح ومحدش قالنا تهمتنا ايه ولا حد عبرنا

مال فارس على أذنه وقال همساً :
- شكلنا كده مش جايين هنا رسمى والا كانوا حققوا معانا
شق الصمت صرير المزلاج الحديدى وهو يدور ليفتح من الخارج ويُرمى على الارض شخصاً آخر لا يعرفونه.. شهق الجميع
وأنتفضوا عندما دققوا النظر به ..لقد كان عارياً تماماً كما ولدته أمه ومؤخرته تنزف دماً ...
كان الرجل يأن أنات متواصلة دون أنقطاع وهو مازال مكانه لم يتحرك ..
تردد بلال قليلا ثم اقترب ببطء وهو يتفحص وجهه فوجده متورماً تماماً حتى أنه لا يستطيع لاحد ان يتعرف على ملامحه أو يميزة ...
حاول بلال مساعدته ولكن الرجل أنتفض للمسته لذراعه ثم زحف الى ركن من اركان الزنزانة بعيدا عنهم وظل يبكى
ويأن ويبكى عرضه المنتهك حتى أنقطع صوته تماماً فظنوه قد نام من التعب من شدة التعذيب ...

أنتفض عمرو وقد أدرك أنها النهاية ..حاول بلال أن يسرى عنهم
وقال :
- متخافش كده يا عمرو أحنا مش متهمين فى حاجه
نظر اليه فارس
وقال بحدة :
- يعنى المسكين ده كان متهم فى ايه يعنى يا بلال هى وصلت للدرجادى
شق الصمت الغرفة صوت آخر ولكنه آتى من الخارج ... صوت صياح رهيب وأصوات تصرخ وتستغيث شق سمعهم
وأنتفض له قلوبهم وخصيصاً أنهم استطاعوا تميبز أصوات نساء تصرخ صرخات غير منقطعة وتستغيث ... هب عمرو واقفاً بحركة لا ارادية
وهو يقول :
- ده صوت ستات فى هنا ستات كمان بتتعذب ..أنتفض قلب كل واحداً منهم وقد حل فى عقولهم صور زوجاتهم ..
كان هذا هو العذاب الحقيقى كل رجل منهم يتصور أن زوجته من بين النساء التى تصرخ فى الخارج وهو مكبل
لا يستطيع الفكاك للذب عنها لا يستطيع أن يحمى شرفها
من الانتهاك ..
أنتفضت قلوبهم مرة أخرى عندما دار المزلاج ثانية ودُفع داخل الحجرة رجلين آخرين سقطا على الارض فور دخولهما
من شدة العذاب ... حاولوا مساعدتهما على الجلوس وتفقد جراحاتهما وكل رجل منهم يبكى من شدة التعذيب كالنساء ..
الا رجل واحداً كان صامدا رغم انه كان أشدهم عذاباً ولم يكن لسانه يفتر ابدا عن قول لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين ...
هدأت الاصوات فى الخارج ولم يعودوا يسمعون شيئاً فهدأت نفوسهم قليلاً..
نظر أحد الرجلين الى الرجل المعرى فى ركن الزنزانه وبكى
وهو يقول :
- لا حول ولا قوة الا بالله أغتصبوا زوجته قدامه وأغتصبوه قدامها وهما بيضحكوا وبيهزروا مع بعض

أنتفض عمرو وفارس وبلال مرة اخرى وأهتزت أجسادهم بعنف وهم يسمعون عن اغتصاب النساء أمام أزواجهن
نكاية بهم وفرطاً فى تعذيبهم ... نظر ثلاثتهم الى الرجلين وقال لهما فارس:
- أنتوا تهمتكوا أيه
قال رجل الاول بخفوت :
- أنا أصلا مش من القاهره أنا من سينا عندى محل تصليح غسالات من يومين لقيتهم هجموا عليا وقلبوا المحل
وغمونى وخدونى فى عربية ولقيت نفسى هنا قدام الظابط وواحد تانى بيقولوا عليه وكيل نيابه هتف فارس فجأة عذبوك قدام وكيل النيابهاومال مين اللى بيطبق القانون
أجابه الرجل :
- قانون مين يا استاذ ,, وكيل النيابه هنا زيه زى الظابط اللى بيعذب بالظبط
ثم اردف قائلا :
- وكل اللى طالع عليهم مين اللى اشترى منك التايمر من يومين ..اقولهم انا بصلح غسالات وطبيعى اى حد يشترى تايمر غساله من عندى ..يقولولى أنت كداب يابن ال ـــــــــــــــــ وفجأة لقيت الظابط ولع سيجارة وقالى لو السيجاره دى خلصت من غير ما تعترف
هتكره اليوم اللى اتولدت فيه .. فضلت احلفله مفيش فايدة لحد ما قام من ور ا مكتبه وقالى أنا هعرفك مين هاروون باشا
وبعدين ندى على المخبر وقالوا حضرلى التونيك
قال عمرو :
- ايه التونيك ده
أجابه الرجل :
- ده الجهاز اللى بيصعقونا بيه بالكهربا
وفضلوا يعذبوا فيا بالكهربا وانا عريان وفى الاخر ... ثم اشار للرجل الاخر وقال لقيت الراجل ده جايبينه
برضه متغمى وبيقولولى هو ده اللى اشترى التايمر منك ؟..بصتله كده وقلت لاء نظر لهم الرجل الاخر وقال :
- انا اصلا من القاهرة اللى هيودينى سينا علشان اشترى تابمر غساله
خدونى من بيتى من وسط ولادى وشدوا النقاب من على وش مراتى وكانوا عاوزين يعتدوا عليها قدامى لولا ستر ربنا وكل اللى طالع عليهم أنت بتصلى الفجر فين وسايب دقنك ليه زى ما تكون صلاة الفجر تهمه ودقنى جريمه ...
فضلوا يعذبوا فيا اربع ساعات كهرباء ولما عرفت أنطق قلتلهم عاوز اصلى وقف الظابط قدامى وقالى انا القبلة صليلى ...
قول سبحان هارون وبحمده سبحان هارون العظيم ....فضلت ابكى واقوله خاف ربنا ..يقولى ربنا مين مسمعتش الاسم ده قبل كده ..
تابع الرجل الاول حديثه قائلا :
- كان حلقى بيتقطع من كتر التعذيب قلتلهم عاوز اشرب رد عليا واحد منهم قالى مينفعش يا حبيبى أحنا خايفين عليك
أنت متوصلك كهربا فشر السد العالى لو شربت هتموت..أول مرة أحس ان روحى بتطلع وترجع تانى مكانها وهما معلقنى على العروسه بتاعتهم

أردف الرجل الاخر :
- أنا لقيوا عندى سيديهات عن الويندوز وتصليحه والبرامج ولقيت وكيل النيابه وهو بيقرا عناوين السيديهات بيقول للى بيكتب جنبه ..
انهم لقيوا سيديهات عن ازاى تركب قنبله وتفجرها عن بعد ومرسومات لكنسية ازاى تتسلق وتدخل تحط قنابل
فى اماكن محدش يكتشفها ..وفضلوا يكهربونى لحد ما أغمى عليا خمس مرات ورا بعض
أنتفضت أجسادهم مرة اخرى عندما سمعوا صوت الباب يفتح من جديد وكانوا يظنون أن هناك المزيد من المعذبين
سيدخلوا عليهم ولكن هذه المره سمعوا صوت ينادى اسمائهم الثلاث ...بلال ..فارس ...عمرو

نظروا الى بعضهم بعضا وكأنهم يودعون بعضهم ويشيعونهم ونظرا اليهم الرجلين نظرات شفقة وخوف زادت من فزعهم ...
نهض ثلاثتهم ولكن بلال أمسكهم من أكتافهم ونظر اليهم قائلا :
- حافظوا على دعاء اللهم أكفنيهم بما شئت وكيف شئت ...

تقدم الثلاث وهم يرددون الدعاء فى خفوت ولقد كان قلب فارس يُعتصر اعتصارا منذ أن علم ان التعذيب يتم بمعرفة وكيل نيابة مباحث امن الدوله وتحت نظرة ..
سار الثلاثة فى رواق ضيق طويل وصدورهم تلهج وتجأر الى الله سبحانه وتعالى
وبلال يتمتم اللهم انهم لا يعجزونك اللهم عليك بهم ..

دخل ثلاثتهم غرفة صغيرة أخرى ولكن هذه المره يتوسطها مكتب يجلس خلفه رجل عرفه فارس من اول وهله ..
حدق فارس به لبرهة فنهض الرجل قائلا :
- تعالوا
وجد فارس نفسه يقول دون وعى ..
- أنت ازاى تشوف التعذيب ده وتسكت عليه
قال وكيل النيابه الذى كان زميلاًً له فى الكلية :
- مفيش وقت للكلام ده يا فارس كويس أنى عرفت أنك هنا بالصدفه ربنا وحده
هو اللى خلانى اشوف اسمك بالصدفه فى اللى جم أمبارح .....
اسمع أنت هتترحل دلوقتى على طره أهو أحسن من هنا على اى حال ...
أعاد فارس سؤاله مرة اخرى هاتفاً به ان يجيبه :
فقال وكيل النيابه صديقة :
- يا فارس انا كنت زيك بحلم ابقى وكيل نيابه وربنا حققلى حلمى مكنتش اعرف أنى هشتغل فى أمن الدوله
ولما شفت المهازل اللى بتحصل هنا عملت فيها شجيع وقلت اروح اقدم بلاغ للنائب العام وقبل ما ادخله
قابلت ولاد الحلال اللى يعرفونى وقالولى هو أنت مكنتش تعرف أنه كان بيتشغل فى مباحث أمن الدوله عشر سنين وكان راضى عن اللى بيحصل هتدخل تقوله ايه ...
حافظ على نفسك وعيالك وحاول تتنقل لاى جهة تانيه من غير ما تقول حاجه ولا تفتح بؤك ...
وانا يا فارس قدمت طلب نقلى وهنفذه قريب والحمد لله انك جيت قبل ما انا أمشى ولا مكنتش هتخرج من هنا على رجلك زى ما دخلت ولا أنت ولا اصحابك أنت متوصى عليك جامد يا فارس
نظر عمرو الى بلال بزهول بينما حدق به فارس قائلا :
- مين اللى موصى علينا وليه

قال صديقة :
- معرفش كل اللى عرفته أنك متوصى عليك أنت بالذات ومكنوش هيخرجوك سليم من هنا ...أنا أدخلت وهرحلك أنت وصحابك على طره لحد ما تشوف هتخرج منها ازاى وأوعدك انى اساعدك على قد ما اقدر
ضغط أحد الازرار امامه فدخل على فور أمين شرطه يرتدى زى ملكى وقال له بلهجة صارمه :
- خد دول يابنى على عربية الترحيلات اللى طالعه طره دلوقتى اوراقهم اهى
أستقل ثلاثتهم سيارة الترحيلات وهم يعتذرون فى داخلهم للوحوش والحيوانات التى يقال عنهم انهم مفترسين وبلا رحمة فربما نجد فى هؤلاء السباع والحيوانات قلب ينبض بالرحمه أما هؤلاء الزبانية لا رحمة فى قلوبهم لانهم ليس لديهم قلوب ..
لقد أنتزعوها ووضعوا اماكنها حجارة قاسية بل هم اشد قسوة من الحجارة...

*******************************************

نهضت مُهرة من نومها فزعة وهى تصيح,, الدكتور حمدى,, ..وأخذت توقظ أم فارس وتهزها بقوة جعلتها تستيقظ فزعة
ونهضت جالسة وهى تهتف بها :
- مالك يا مُهرة فيكى ايه
صاحت مُهرة وكأنها غريق قد وجد قطعة خشب فى قلب المحيط يتعلق بها لعلها تنجيه من الغرق وقالت :
- الدكتور حمدى يا طنط مفيش غيره هو اللى هيعرف طريق فارس ..فارس كان بيقول عليه بيحبه وبيعتبره زى ابنه

تلقت دنيا أتصالا هاتفياً وهى غارقة فى نومها على فراشها الوثير فى بيت والدتها ..
تململت فى الفراش وهى تنظر للرقم أتسعت حدقتاها وخفق قلبها خوفاً واجبت بتردد :
- الو
قالت ام فارس لهفة :
- معلش يا بنتى صحناكى من النوم ...انا عاوزه رقم الدكتور حمدى صاحب المكتب يا دنيا
هو الوحيد اللى هيعرف طريق فارس ليه معارف كتير

ابتلعت دنيا ريقها وقد غارت عيناها وقالت :
- بس الرقم مش معايا هنا دلوقتى بكره اروح المكتب اجيبه
قالت ام فارس برجاء:
- ارجوكى يا بنتى مش هقدر استنى للمغرب مينفعش تروحى المكتب بالنهار

توترت دنيا أكثر وقالت بتلعثم :
- اه اه هحاول اشوف ينفع ولا لاء وهرد عليكى فى اقرب وقت وبعدين مفيش داعى تتعبى نفسك انا لما اروح المكتب هكلمه واطلب مساعدته متخافيش
أغلقت دنيا الهاتف وهى تلعن اليوم الذى جعلها توافق على اقتراح باسم
وقالت بعصبية :
- هعمل ايه دلوقتى لو الدكتور حمدى عرف كل حاجه هتبوظ أعمل ايه بس ياربى
ظلت تفكر منذ طلوع الفجر وحتى قرب وقت الظهر وهى ترتشف القهوة كوباً تلو الاخر حتى هداها شيطانها لفكرة لمعت فى راسها على الفور وبلورها لها عقلها ...أنتظرت حتى بعد الظهر بقليل ثم اعادت الاتصال بام فارس مرة اخرى
وقالت لها باسى :
- انا اسفه يا طنط الدكتور حمدى تعبان اوى وسافر بره يتعالج مش موجود فى مصر ومش عارفه اوصله


********************************

أجرت مُهرة أتصالا هاتفياً تقوم به لاول مرة منذ زواجها وقالت بارتباك :
- علاء من فضلك محتاجه منك حاجه مهمه اوى
قال بتثاقل وهو ينهض من فراشه :
- طب مش تقولى صباح الخير يا حبيبى الاول

قالت بصوت مرتجف :
- ارجوك يا علاء مش وقته انا محتجالك
أنتبه وهو يجلس على فراشة وقال :
- خير يا مُهرة عاوزه ايه محتاجه فلوس ولا حاجه
قالت بصوت باكى :
- فارس جارنا أمن الدولة خدوه ومش عارفين نلاقيه بيقولوا معتقل بس فين مش عارفين
وأنت أكيد ليك اصحاب كتير معروفين ورجال أعمال ممكن يعرفولنا طريقة

هتف بها حانقاً :
- مش فارس ده اللى ضربنى ؟
بكت بشدة وأخذت تشهق وترجوه بمرارة أن يصفح عنه ولكنه قال بتشفى:
- أحسن خاليه يتبهدل ولا يقتلوه ويرحونا منه ربنا خادلى حقى

شهقت بشدة واخذ صدرها يعلو ويهبط وهى تبكى وتقول :
- ارجوك يا علاء علشان خاطر ربنا أعمل كده لوجه الله طيب ..طيب علشان خاطر امه المسكينة
صاح بها وهو ينهى المكالمة :
- بقولك ايه يا مُهرة بلا امه بلا ابوه أنا راجل نجم عاوزه حد يعرف انى اعرف واحد معتقل عاوزه تضيعى مستقبلى ...
واغلق الهاتف وهو يزفر بقوة بينما سقط منها الهاتف وسقطت على الارض من شدة البكاء ثم سجدت وهى تقول بنحيب :
- يارب مالناش غيرك يارب نجيه يارب نجيهم يارب ده غلبان وعمره ما اذى حد يارب


******************************

طرق الاستاذ صلاح باب حجرة مكتب إلهام ودخل وقد بدا القلق على محياه فاعتدلت وقالت بسرعة :
- ها يا صلاح وصلتوا لحاجه عرفتوا عمرو مبيجيش ليه
أومأ براسه وقد ارتسم الحزن على قسمات وجهه وقال :
- أتصلت كتير محدش رد عليا خدت عنوانه وروحتله وعرفت اللى حصل
هتفت بقلق :
- اتكلم بسرعه يا صلاح فى ايه
قال بحزن :
- أتقبض عليه من يومين ... خدوه الفجر من بيته
هبت واقفة وقالت بفزع :
- مين دول اللى خدوه وليه
رفع كتفيه باسى وقال بحيرة :
- مش عارف يا بشمهندسة بس طريقة القبض عليه دى بتقول انهم مش مباحث عاديه شكلهم كده أمن دولة
هوت الى مقعدها وارتجف قلبها بين اضلعها واتسعت عيناها وهى تفكر وفجاة تناولت سماعة الهاتف وضغطت عدة ارقام ثم قالت بسرعة لمديرة المكتب :
- وصلينى بالباشا حالاً ...
---------
الفصل السادس والعشرون
------------



عالم السجون ... إنه فى عالم إختلفت فيه المعايير وتغيرت المقاييس .. لم يعد السجن هو مصير المجرمين والسفاحين فقط
بل أصبح السجن مصير المتدينين وأصحاب الرأى أيضا وكل حر شريف يأبى أن يضع راسه فى التراب ويدفنها بين حبات الرمل
ويصدح بالحق لا يخشى فى الله لومة لائم ..
دُفع ثلاثتهم بقوة داخل العنبر وأُغلق الباب الحديدى خلفهم ليصدر صريراً مزعج أيقظ على أثره النيام داخل العنبر ...
وقف ثلاثتهم ينظرون الى بعضهم البعض وأعينهم تفيض بسؤال واحد فقط ..وماذا بعد ... وقعت أعينهم على رجل ملتحف ببطانية سوداء
فى أحد الاركان على أرض العنبر فقال عمرو :
- وده نايم على الارض ليه ده مش كل واحد هنا ليه سرير
أقترب بلال منه بقلب مقبوض وكأنه يشعر لماذا هذا الجسد قد سُجى هكذا وقبل أن يلمسه
هتف أحد الرجال الاخرين من زملاء العنبر :
- سيبوا ده ميت
أصابتهم غصة فى حلوقهم وهم يتبادلون النظرات ..أنحنى بلال لينظر فى وجهه فوجد ما كان يعتقده ..
أخ صغير فى السن له لحية صغيرة واضح عليه اثار التعذيب بشدة أغمض بلال عينيه بألم وهو يقول :
- إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم اجرنا فى مصيبتنا واخلف علينا خيرا منها
غادر أربعة مسجونين سرائرهم واقتربوا منهم متسائلين :
- أنتوا جايين فى ايه مفيش مظاهرات الايام دى شكلكوا كده كنتوا بتحضروا درس فى المساجد وبتكلموا فى السياسه صح
قال الرجل الاخر :
- بس أنتوا حظكوا حلو والله أنكوا جايين فى الوقت ده اصلكوا لو كنتوا جيتوا الصبح كنتوا حضرتوا حفلة الاستقبال
عقد فارس بين حاجبيه وقال :
- حفلة استقبال أيه
قال الرجل :
- حفلة الاستقبال دى يا سيدى بيستقبلوا بيها كل عربية ترحيلات بتوصل السجن ..
الاول بينزلوا المساجين من العربية بالكلاب البوليسيه وأنت وحظك ..
وبعد ما تنزل وانت بتجرى من الكلاب قبل ما تتعض يستقبلوك العساكر بالعصاية الكهربا والكرابيج ساعه ساعتين
لحد ما كله يقع على الارض ويستسلم للضرب بعدها بقى يوزعوهم على العنابر ده غير الشتيمه وقلة الادب وسب الدين .. دى بقى حفلة الاستقبال

أومأ بلال برأسه وهو يربط على كتفهم مطمئناً ونظر لهم نظرات مطمئنة أنهم قد عبروا تلك المرحلة بأمان
فمن الواضح أن وكيل النيابة صديق فارس كان يعلم هذا ايضا لذلك أمر بترحيلهم فى هذا الوقت من الليل ..
شعر فارس بغصة فى قلبة وهو يرى بلاده لاول مرة بصورة حقيقية غير التى كان يراها فى الخارج ..
فى خارج ذلك العالم .. عالم السجون والمعتقلات .. أخذهم زملاء العنبر الى أفرشتهم كل واحد منهم على سرير صغير
عليه بطانية خشنة ..

جلس عمرو على طرف فراشة مشدوهاً لما رأى فى تلك الايام أولا فى أمن الدوله وثانيا هنا فى السجن ..
وقال بغضب وعصبية موجهاً كلامه لفارس :
- وبعدين يا فارس هنفضل كده لحد أمتى حتى منعرفش تهمتنا ايه
جلس أحد الرجال على السرير بجواره قائلا:
- لا لازم تهدى وطى صوتك اللى بيعلى صوته هنا بيتسحب على عنبر التأديب
ألتفت عمرو إليه وحدق به قائلا :
- ايه عنبر التأديب ده كمان

أبتسم الرجل وقال :
- اه معلش كان المفروض أشرحلكم من الاول .. النظام هنا ... السجن متقسم كذا عنبر ..عنبر التأديب وده متقسم زنازين صغيره مترين فى مترين وده بيبقى أنفرادى ..
وعنبر الجنائى ودول بقى تجار المخدرات وقتالين القتله وغيرهم وعنبر التخابر وده بقى مخصص للجواسيس وده بقى أنضف عنبر هو وعنبر القضاة وافراد الشرطه اللى بيجى هنا متهم فى قضية رشوة ولا فساد والمعامله فيهم معامله خمس نجوم ..
وهنا بقى العنبر السياسى وده كل اللى بيقول رايه فى البلد دى ومعظمه مشايخ زى ما أنت شايف ..ابتسم بلال وهو يومىء براسه
وقال :
- ونسيت عنبر الاخوان
ضحك الرجل بصوت خفيض وقال ل بلال :
- اظاهر انك جيت هنا قبل كده يا شيخ
قال بلال بجمود :
- جيت مره واحده بس عرفت كتير
كتم عمرو غضبه وقال :
- برضه محدش جاوبنى هنفضل كتير ومن غير ما نعرف تهمتنا ايه ؟
ربت الرجل على كتفه قائلا :
- طالما محدش حقق معاكوا يبقى مفيش تهمه وبما أنكوا جايين دلوقتى يبقى انتوا مش معتقلين رسميين
قال فارس بإقتضاب :
- يعنى أيه مش رسميين
تكفل بلال بالرد عليه قائلا :
- يعنى زي ما صاحبك قالك .. متوصى علينا
أقترب عمرو من فراش بلال وجلس على طرفه قائلا :
- مين اللى هيوصى علينا يتعمل فينا كده مين
قال بلال وهو ينظر أمامه بشرود :
- مش عارف يا عمرو بس الموضوع ده شكله هيطول ولازم نحاول نهدى علشان نعرف نفكر..
قال كلمته الاخيره ثم نهض قائلا:
- تعالوا نصلى على الأخ اللى مات ده
قال الرجل الذى يحدثهم :
- هيجوا يخدوا جثته الفجر مع انهم عارفين ان فى واحد ميت هنا من بعد العشاء

**************************************

-
ميرسى يا فندم ..
نطقت دنيا بهذه العبارة وهى تتناول الشيك من والد هانى المتهم فى قضية القتل
وبرقت عينيها وهى تنظر للمبلغ المدون فيه وقالت بابتسامة :
- حضرتك أطمن خالص أبنك هيبقى فى حضنك قريب جدا
قال الرجل بلهفة :
- يارب يا استاذه ربنا يسمع منك ... ثم قال بتسائل :
- هو الدكتور فارس مجاش النهارده ولا ايه
قالت بتمساك:
- الدكتور فارس مش بيجى كل يوم ولما بيكون مش موجود انا ببقى مكانه

أومأ الرجل برأسه متفهماً وقال :
- المهم عندى أنه هو اللى يشتغل القضية بنفسه
رفعت حاجبيها بدهشة مصطنعة وهى تقول :
- طبعاً يا فندم القضايا اللى زى دى الدكتور فارس هو اللى بيكتب فيها المذكرات وهو اللى بيترافع
واحنا بس بنعمل الشغل الادارى والمالى بتاعها يعنى حضرتك هتشوفوا فى المحكمه ان شاء الله ..
بعد قليل أنصرف الرجل ودخل خلفه وائل مسرعا ً وقال بعينين لامعتين :
- أداكى الشيك

ابتسمت بثقة وهى ترفع الشيك امام عينيه ثم وضعته فى حقيبتها قائلة بقلق :
- أهى الفلوس بقت معانا أهى والراجل جاب الاتعاب كلها مش نصها زى ما كنا فاكرين عاوز ابنه بأى طريقة
يارب بقى باسم يخلصنا من القضية دى بسرعة بقى انا قلقانه اوى
قال وائل مشجعاً :
- متقلقيش يا استاذه انتى قدها وقدود والاستاذ باسم خلاص ظبط الناس مش ناقص غير الفلوس علشان ينفذوا
ربتت على حقيبتها وهى تقول :
- وأهى الفلوس أهى يلا بقى كلمه وخليه يخلصنا
تحدث وائل هاتفياً مع باسم وأخبره أن المال قد اصبح بحوزت دنيا .. مد وائل يده بالهاتف الى دنيا قائلا:
- الاستاذ عاوز يكلمك
تناولت الهاتف وقالت بتعالى :
- أيوا

ابتسم باسم عندما لاحظ نبرة صوتها المتعاليه وقال بسخرية :
- طب حتى استنى لما تصرفى الشيك وبعدين ابقى اتغرى براحتك
مطت شفتيها بضيق وقالت :
- خير يا أستاذ باسم
- بكرة هنروح نصرف الشيك سوا ونطلع على طول على سكرتير النيابة نكيشه ونخلص معاه
وبعدين نقعد مع بعض ونقسم الاتعاب علينا زى ما أتفقنا ماشى ..
قالت بإقتضاب :
- بس هنقعد فى مكان عام مش عندك فى المكتب
أطلق ضحكة عاليه اشعرتها بالاشمئزاز وقال بخبث :
- ايه موحشتكيش ولا ايه
أتسعت عينيها وشعرت انها ستتقيأ عندما ذكرها بما حدث سابقاً ..
أغلقت الهاتف فى وجهه وهى تتمتم :
- حيوان

**********************************


وقف صلاح ينظر الى إلهام التى كانت تتحدث فى الهاتف بلهفة وهى تقول لمحدثها :
- طبعاً يا باشا من رجالتنا ومينفعش نسيبه كده دى حتى تبقى وحشه فى حقنا وبعدين اللى موصى عليه ده مش أكبر من معاليك
صمتت بعض الوقت تستمع إليه ثم قالت بثقة :
- يافندم ارهاب ايه عمرو ده راجل روش سينيمات ومسارح يافندم دى رنة التليفون بتاعة عشره بلدى
صمتت قليلا مرة ثم قالت وهى تنقر على سطح مكتبها بأطراف أصابعها بعصبية ..
- ماشى يا فندم اللى تشوفه ساعتك المهم بس ميطولش كتير..
أغلقت الهاتف وزادت عصبية نقرها على المكتب فقال صلاح متلهفاً:
- ها يابشمهندسة ايه الاخبار

ضربت المكتب بقبضتها وهى تقول بضيق :
- لو كان لوحده كان طلعه بسهوله المشكله فى الاتنين اللى معاه علشان كده بيقولى الموضوع هياخد وقت
قال صلاح بحزن :
- يعنى الولد المسكين ده هيفضل مرمى كده من غير ذنب
قالت بعصبية :
- مش قادره اعمل اكتر من كده يا صلاح انا وصلت لاعلى المستويات كل اللى وعدونى بيه أن محدش هيقربله
وهيفضل هناك معزز مكرم لحد ما يطلع .. خبطت سطح مكتبها مرة أخرى حتى آلمتها قبضتها ففركتها بغيظ وضيق وهى
تقول :
- لو كان لوحده كنت عرفت اطلعه النهارده المشكله فى الاتنين اللى مربين دقنهم اللى معاه دول ..انا عارفه ايه الاشكال اللى بيعرفها دى ..!!!

********************************

فُتح باب العنبر مرة أخرى فتعلقت ابصار الجميع به .. دخل الشاويش المسئول عن العنبر وتقدم بأتجاه عمرو وفارس وبلال
واشار إليهم بحزم وقسوة قائلا:
- تعالوا معايا أنتوا التلاته
نظر ثلاثتهم الى بعضهم البعض بتسائل فصرخ بهم بصوت كرية مرة اخرى :
- بقول قوم انت وهو
نهض ثلاثتهم وهم ينظرون إليه بحنق وتعلقت به ابصار شركائهم فى العنبر وهم ينظرون إليهم بشفقة ..
سار ثلاثتهم خلفه وبعد أن أغلق العنبر أمرهم ان يسيروا خلفة ..ساروا قليلاً حتى توقف بهم أمام أحد الزنازين
وشرع فى فتح بابها وهو يقول متبرماً :
- حظكوا من السما ...
فتح الزنزانة ثم دفعهم داخلها بقسوة مرة أخرى وأغلقها خلفهم
كانت الزنزانة اقل عددا من العنبر الاخر بكثير فلا يوجد فيها الا خمسون رجلاً فقط ..
أما العنبر فكان به حوالى ثلاثمائة رجل .. ولقلة العدد فيها كانت تبدو أكثر آدمية من التى قبلها ..
والفُرش والاغطية كانت تبدو أكثر راحه من العنبرالاول نوعاً ما ...نظر زملائهم إليهم متسائلين كما يُفعل مع كل مُعتقل جديد
فالقى بلال السلام ..أجابة الجميع بنفس واحد خافت :
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
ألقى ثلاثتهم أجسادهم على فُرُشِهم بإنهاك الشديد ولاول مرة تذوق عيونهم طعم النوم منذ أعتقالهم ...
بعد ساعة استيقظ بلال على هزات خفيفة ..أنتبة من نومه دفعة واحدة بإنفعال فربت الرجل الذى كان يوقظه على صدره يهدئة
وهو يقول :
- أهدى يا اخى أنا بصحيك علشان تلحق الصلاة متخافش
نهض بلال وهو يشعر أن عظامه مختلطه ببعضها البعض فى ألم شديد ..توجه الى فارس وعمرو وأوقظهم بنفس الهزات الخفيفة
فأستيقظوا بنفس الانتباه المفاجىء واتساع حدقاتهم بإنفعال شديد فطمئنهم وهو يقول :
- يلا قوموا علشان نلحق الصلاه

زفر عمرو بقوة وو يقول :
- يا اخى حرام عليك ده انا مصدقت يغمضلى جفن
توجه فارس أليه وهو يمسك بيده لينهضه رغماً عنه قائلا :
- قوم صلى يا عمرو الله اعلم احنا أعمارنا هتخلص أمتى
وقف بلال بعد ان توضأ ليصلى بهم ولكن الرجل الذى ايقظه اقترب منه وقال محذرا :
- كل واحد يصلى لوحده يا دكتور .. صلاة الجماعه ممنوعه هنا

أومأ بلال برأسه وقد تذكر بخبرته السابقة أن صلاة الجماعه ممنوعه داخل السجن ..
فألتف إليه فارس قائلاً :
- ويمنعوا صلاة الجماعه ليه
قال الرجل :
- هى الاوامر كده ممنوع صلاة الجماعه وممنوع صلاة الجمعه واللى بيظبطوا بيصلوا جماعه بيتحولوا للتأديب

ضرب عمرو كفا ً بكف وهو يقول :
- هو أحنا فى غوانتانمو ولا ايه

أنتهى الثلاثه من صلاتهم تباعاً واحداً تلو الاخر.. مر يومان والحال هكذا لم يتغير ..
كانت بوابة الزنزانة تغلق عليهم فى تمام الخامسة والنص مساءا وكذا يكون أنتهى اليوم داخل السجن
فيبدأ بلال فى أعطائهم بعض التمرينات الرياضيه التى تقوى عظامهم لتستطيع تحمل خشن العيش داخل السجن
وليستطيع مقاومة الرطوبة المنتشرة فى كل مكان فيه ... كان الجميع يستجيب له الا واحداً لاحظ بلال أنه يرمقهم بنظرات غاضبة
وكارهة لهم يظهر ذلك فى عينيه جلياً كلما التفت إليهم على مدار يومين كاملين
ولاول مرة يتدخل هذا الرجل بالحديث عندما راى فارس ينهض من فراشه ويجلس على طرف فراش بلال وهو يقول
بقلق :
- مفيش أى وسيلة هنا نطمن الناس اللى برا علينا .. زمانهم دايخين علينا فى كل حته دلوقتى ومش لاقين لنا أثر ..
فقال هذا الرجل هاتفاً :
- والله أهلكوا زمانهم مستريحين منكوا ومن التشدد بتاعكوا
ألتفت إليه فارس بغضب بينما ربت بلال على ذراعه حتى لا يرد عليه بغضب فصمت فارس وترك المجال لـ بلال بالرد

فقال له بابتسامة :
- هو فى اهل فى الدنيا يبقى مستريحين وولادهم فى السجن
ترك زملائهم فى الزنزانة ما كانوا منشغلين به وبدأوا فى متابعة الحوار ظنا منهم أنه سينتهى بمعركة تكون نهايتها زنزانة تأديب منفردة لكل منهما...
نظر له الرجل بحنق قائلاً :
- لا طبعا بس اللى زيكوا أنتوا اهلهم هيستريحوا منهم تلاقى كل واحد فيكم عنده أخت بيجرجرها من شعرها وينزل فيها ضرب لو شافها بتسمع أغانى ولا بتتفرج على فيلم
آخر عبارة نطقها جعلت فارس وبلال ينظران الى بعضهما البعض ويبتسمان رغماً عنهما ..
مال فارس للامام وهو يقول له :
- حضرتك العنوان غلط اللى بيعملوا كده الممثلين اللى بيطلعوا فى التلفزيون مش أحنا
نظر له الرجل بتهكم وقال :
- الممثلين دول بيمثلوا حياتكم واللى بتعملوه فى أهلكوا بسبب تشددكوا فى الدين

تدخل بلال قائلا:
- ممكن اسأل حضرتك سؤال ..مش زمان كنا بنسمع أن الممثل علشان يندمج فى الدور بتاعه لازم يروح يعيش فى وسط الناس اللى هيمثل دورهم فى المسلسل
يعنى مثلا كنا زمان نسمع ان واحد راح دخل السجن علشان يعرف يمثل حال المساجين صح ولا لاء
أومأ الرجل براسه قائلا:
- أه طبعا سمعنا كده كتير
ابتسم بلال ثم قال :
- طيب هل الممثل اللى بيمثل دور الملتزم ده بيروح يعيش مع الملتزمين فى بيوتهم وبيشوفهم بيعاملوا أهاليهم أزاى واخوتهم وزوجاتهم
قال الرجل ساخرا:
- هيروح ازاى يا شيخ يعيش معاهم فى بيوتهم هو طبعا بيتصور حياتكوا مع اهاليكوا
رفع بلال حاجبيه وقال بهدوء :
- طيب مش يبقى ده ظلم أنه يحكم علينا اننا بنضرب اخواتنا وزوجاتنا وهو عمره ما عاش وسطنا ونجرجرهم من شعرهم كمان علشان بيسمعوا أغانى ويطلع يمثل كده فى التلفزيون ويخلى الناس تصدق عننا كده وتخاف مننا وأحنا مش بنعمل كده أصلا
تدخل زميلاً آخر لهم وقال :
- والله أنت معاك حق يا شيخ ده أنا ليا جار زيك كده لما مراته بتقعد مع مراتى يرغوا مع بعض شوية بترجع مراتى تقولى أنت مش رومانسى ليه زى جارنا الشيخ

قال الرجل الاول معترضاً والله بقى أحنا خدنا عنكوا الفكره دى بسبب التشدد اللى أنتوا فيه
وكل حاجه حرام حرام حرام حرمتوا علينا عيشيتنا
أتكأ بلال على أحدى جانبيه وقال :
- طب ممكن اسألك سؤال كمان ومعلش تعالى على نفسك وجاوبنى
قال الرجل بملل :
- أتفضل

قال بلال بجدية :
- حضرتك عندك سخان غاز ولا كهربا؟
نظر له الرجل بدهشة وقال متهكماً :
- سخان غاز يا سيدى ليه
ابتسم بلال قائلاً :
- ممتاز ... فاكر حضرتك أول مرة ركبته فيها
- فاكر
أعتدل بلال فى جلسته وقال باهتمام:
- يا ترى شغلته لوحدك
زاد الرجل مللاً وهو يجيب قائلاً :
- لاء طبعاً صاحب المحل قالى معاه كتالوج ولازم أمشى على الخطوات اللى فيه بالظبط
قصد بلال ان يقول ببرود:
- وسمعت كلامه ليه

هتف الرجل بعصبية :
- يعنى ايه سمعت كلامه ليه مش هما اللى عاملينه وأدرى بيه
عقد بلال بين حاجبيه وقال :
- صاحب المحل اللى اشتريت منه السخان متشدد زينا

صوب الجميع نظرة لبلال الذى كان يتحدث باريحيه وسلاسه فى الحديث والغلاف الذى كان يميز حديثه هو المنطق والهدوء ...
وخصيصاً عندما ظهرت علامات الدهشة على وجه الرجل وقال بحيرة :
- مش فاهم
عقد بلال ذراعيه بهدوء وهو يقول :
- يعنى ربنا سبحانه وتعالى هو اللى خلقنا وهو اللى قالنا عن طريق رسولنا محمد صل الله عليه وسلم أن ده حرام وده حلال سواء فى القرآن أو فى السُنة ..
يعنى القرآن والسُنة دول ومن بعديهم اقوال السلف الصالح هما الكتالوج بتاعنا
علشان كده لما أنا أقرا فى الكتالوج ده وأعرف أن ده حرام واقولك عليه مينفعش حضرتك تقول عليا متشدد لانى كل اللى عليا أنى بنقل لحضرتك كلام ربنا وأوامره ونواهيه مش أكتر من كده يبقى انا متشدد ليه بقى

أطرق الرجل مفكراً وسادت همهمه بسيطه خافته بين شركائهم فى الزنزانة معجبين بحديث بلال
بينما ابتسم فارس وهو ينظر لبلال بإعجاب شديد ..ولكن الرجل تمتم بإعتراض :
- اه بس فى حاجات بتقولوا عليها حرام مش موجوده فى القرآن ولا فى السنه ..
يعنى مفيش آيه ولا حديث بيقولوا المسلسلات حرام والافلام حرام ..
أجابة بلال بهدوء :
- أزاى بقى يا راجل .. يعنى أنت مثلا عمرك ما عديت على الايه اللى بتقول :
(قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِ‌هِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُ‌وجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ‌ بِمَا يَصْنَعُونَ . وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِ‌هِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُ‌وجَهُنّ )
ثم تابع قائلا :
قولى بقى حضرتك هتسمع كلام ربنا وتغض بصرك أزاى وأنت قاعد تتفرج على الممثلات المتبرجات وأزاى زوجتك أو أختك هتسمع كلام ربنا وتغض بصرها عن الرجاله وهى قاعده تتفرج على ممثل ومعجبه بشكله شويه وبطريقة كلامه شويه ورومانسيته شويتين ..
يبقى أنا لما اجى اقولك ان الحاجات دى حرام ليه تقولى انت متشدد وانا كل اللى بعمله انى بوضحلك ربنا قايل ايه فيها يعنى من الاخر بشرحلك من الكتالوج ...
وأردف قائلاً:
وزى ما حضرتك متأكد ان المصنع اللى صنع السخان وعمل الكتالوج وحط فيه ضوابط للتشغيل هو أدرى بالسخان وباللى ينفعله واللى مينفعلوش
واللى يبوظه واللى ميبوظوش يبقى برضه لازم حضرتك تبقى متأكد أن الحرام والحلال دول مش علشان يضايقوا حضرتك,, لاء,, ده علشان ربنا سبحانه وتعالى هو اللى خلقنا وهو أدرى بينا وبقلوبنا وايه اللى يخلينا عباد الله المؤمنين وايه اللى يخلى قلوبنا فاسدة والعياذ بالله .


**************************************************

فتحت عبير باب شقتها لعزة التى دخلت مسرعة وقالت بلهفة :
- عبير عرفنا مكانهم يا عبير
أتسعت عيناها وتشبثت بملابسها وهى تقول بلهفة أكبر :
- بالله عليكى يا عزة عرفتوا مكانهم طب هما فين وعاملين ايه وعرفتوا ازاى ؟
جائت أم بلال على صوت عبير الملهوف وتعلق بصرها بعزة وهى تنقل ابصارها بينهما
وتقول :
- الاستاذ صلاح اللى عمرو كان شغال عندهم فى الشركة كان جه سأل على عمرو من يومين كده
ولما عرف اللى حصل قالى أنهم هيحاولوا يعرفوا طريقهم وكتر خيره أتصل بيا النهارده من شويه
وبلغنى أنهم عرفوا أنهم موجودين فى سجن طره وأنهم كويسين اوى وبيتعاملوا كويس أوى ومفيش تهمه معينه متوجهالهم وهيخرجوا قريب ان شاء الله
وضعت أم بلال يدها على صدرها وهى تقول :
- الحمد لله

ولكن عبير هوت الى الارض ساجدة تبكى وتدعوا وهى تشعر أن قلبها لم يعد ينبض
منذ أن غادرها فى ذلك اليوم المشئوم ولكنها بدأت تطمئن شيئا قليلاً بعد هذه الاخبار
وأخذت تدعوا الله أن يرده اليها رداً جميلاً وأن يحفظه لها ولأمه ولأبنائه.......

عانقت أم فارس مُهرة وهما يبكيان من الفرحة لمجرد أن علموا أنه بخير
ولم يصبه مكروه مما كانوا يسمعوا عما يحدث للمعتقلين من قبل ...
أبتعدت مُهرة قليلاً وهى ممسكة بيد أم فارس وقالت بهيستيرية :
- لازم نعمل المستحيل ونروح نشوفه يا ماما

أبتسمت أم فارس وهى تستمع لتلك الكلمة من فمها لاول مرة
وقالت :
- يابنتى الحمد لله اننا عرفنا مكانه وأنه بخير هو وصحابه الحمد لله مش عارفه بقى حكاية الزياره دى هتنفع ولا لاء وهنعملها ازاى ... صمتت قليلاً
ثم قالت :
- انا كده كده هتصل بـ دنيا علشان ابلغها الاخبار الحلوه دى وأكيد هى مش هتسكت وهتحاول تروحله وساعتها تبقى تاخدنا معاها ...
هرولت مُهرة الى الهاتف وهى تقول بلهفة :
- طب يا ماما كلميها دلوقتى مش لازم نضيع وقت

أخذت أم فارس الهاتف وقصت عليها ماحدث مما جعل دنيا تبتلع ريقها بصعوبة
وأستشعرت الخوف من أحتمالية خروج فارس بهذه السرعه فالقضيه ما زال امامها شهرين على الاقل قبل النطق بالحكم
سمعت ام فارس وهى تقطع عليها افكارها فقالت :
- ايوا معاكى معاكى ..
طيب انا هشوف الحكايه دى وابلغك بالتطورات قريب أوى ان شاء الله انا هقفل دلوقتى علشان معايا شغل مهم ..
أغلقت أم فارس الهاتف وهى تنظر له مندهشة وتقول متعجبةً:
- غريبة اوى كنت فكراها هتطير من الفرحه مش عارفه كلمتنى كده ليه أنا قلبى مش مطمن
قالت مُهرة بسرعة :
- خلاص يا ماما متزعليش نفسك انا هحاول مع علاء تانى

نظرت لها أم فارس غير راضية وقالت بإستنكار :
- لاء مش عاوزين منه حاجه مش كفايه اللى عملوا فيكى قبل كده هترجعى تتذليلوا تانى
نظرت امامها بشرود وهى تقول بخفوت :
- زى بعضه تانى وتالت كله فداهم

****************************************


وضعت أم يحيى أكواب الشاى أمام علاء ومُهرة وهى
تقول برجاء:
- معلش يا علاء علشان خاطرى انا حاول
هز علاء رأسه نفياً وهو ينظر الى عينيى مُهرة الراجية ويقول :
- كله الا سمعتى ,, مقدرش ,, أنا نجم ولو سُمعتى حصلها خدش واحد موهبتى مش هتنفعنى
نظر له يحيى بإزدراء لاول مرة يراه على حقيقتة زال الابهار الذى كان يشعر به تجاهه وقال بنفور :
- كل ده ميجيش حاجه قدام حياة تلاته كنا بنعتبرهم مثلنا الاعلى
نظر له علاء متهكماً وقال بسخرية :
- مثلك الاعلى أنت مش أنا
شعرت مُهرة ببغض شديد تجاهه وهى تتبادل النظرات المعاتبة مع والدتها وهى تقول موجهةً الحديث إليه :
- والدكتور بلال ميخصكش هو كمان مش ده كان ليه فضل عليك بعد ربنا
وضع علاء كوب الشاى بعصبية وقال :
- أنا أول مره اعرف أن لما راجل يروح يزور مراته تقعد تكلمه على رجاله تانين أنا لو كنت اعرف كده مكنتش جيت من اساسه ..
هب واقفاً وأنصرف بعصبية ..كان يشعر بوخز الضمير تجاه بلال ولكن كرهه لفارس جعله يتناسى امرهم جميعاً ..
أقترب يحيى من أخته وهو يقول باسى :
- معلش يا مُهرة متزعليش نفسك
نظرت لوالدتها مرة أخرى وهى تقوله :
- انا مش زعلانه منه أنا زعلانه عليه اللى زى ده بيفضل طول عمره عايش لنفسه وبس
علشان كده لما عمره هيخلص محدش حتى هيفتكر يترحم عليه ..

*****************************************

مر شهراً كاملاً ثلاثون يوماً حتى تكونت صداقه بين أبطالنا الثلاث وزملائهم فى الزنزانة
حتى جاء ذلك اليوم الذى فُتحت فيه بوابة زنزانتهم الحديدية معلنةً عن قدوم احد ما ...
دخل الشويش المسؤل عنهم و بصوته الغليظ أشار ل عمرو قائلاً :
- يالا علشان هتخرج يا عمرو
هب عمرو واقفاً غير مصدق لما سمع ونظر الى بلال وفارس وقال :
- طب وهما
صرخ الشاويش فيه بنبرة قاسيه :
- يالا ياخويا هى رحله ,, أنت بس اللى هتخرج

نهض فارس وبلال عانقاه بحرارة وقد دمعت عينيه وهو يقول :
- مش هسيبكوا وأمشى
أبتسم فارس وهو يدفعه فى كتفه قائلا:
- يالا يابنى هتعملى فيها بطل ولا ايه ده أحنا مصدقنا حد يطلع يطمنهم علينا يالا ..
أمسكه بلال من كتفه قائلاً بعينين دامعتين :
- خلى مراتك تروح لمراتى وتطمنها عليا ثم ابتسم وهو يردف قائلا:
- وعلشان تصدق أنى أنا اللى باعتلها الرساله الشفويه دى خاليها تقولها..
بلال بيقولك أنتى وحشتينى أوى وبضمير.. أومأ عمرو وقد حفظ رسالة بلال ونظر لفارس الذى أحتار ماذا يقول
ماهى الرساله التى يرسلها لاهله فقال :
- وانا كمان روح البيت عندنا وطمنهم كلهم عليا وقولهم ان شاء الله أننا هنخرج أحنا كمان
تقدم الشاويش وجذب عمرو من ذراعه بقسوة وهو يصيح به :
- يالا ياخويا بدل ما خاليك تكمل معاهم هنا

خرج عمرو ينظر إلى الطريق غير مصدق أنه مازال على قيد الحياة حتى هذه اللحظة نظر خلفه وكأنه يرى اصدقاء محنته قابعون فى زنزانتهم يودعونه بنظراتهم الدامعة ..
أخذ شهيقاً كبيرا ليملىء صدره بالهواء النقى خارج حدود اسوار السجون المظلمة
بما فيها من رائحة الرطوبة العفنة واصوات المعذبين وأتجه الى أول سيارة أجرة قابلته ..
لم يسال عن وجهتها كل ما كان يريده هو الابتعاد ....
الابتعاد وفقط ...
غادر عمرو سريعاً وهو يتذكر تلك الليلة المظلمة التى دخل عليهم فيها ذلك الاخ الملتحى متقطعة أنفاسه من كثرة التعذيب ..تفوح منه رائحة شواء جلده من كثرة الكهرباء التى تعرض لها وكل هذا ليس لذنب اقترفه ولا ذنب ألم به
سوى أنه قال لظابط أمن دولة كان يقبض على صديقة دون حق قال له اتقى الله ..
لم يلبث الفتى الصغير بينهم سوى دقائق ثم نطق بالشهادة
سالت دموعهم عليه تروى جرحه كما تروى السحب بامطارها حشاش الارض
ثم أخذ ينشد بصوت مدبوح

غرباء و لغير الله لا نحني الجباه
غرباء و ارتضيناها شعارا في الحياة

ان تسال عنا فإنا لا نبالي بالطغاة
نحن جند الله دوما دربنا درب الاباة

غرباء غرباء غرباء غرباء

لا نبالي بالقيود بل سنمضي للخلود
فلنجاهد و نناضل و نقاتل من جديد
غرباء هكذا الاحرار في دنيا العبيد

غرباء غرباء غرباء غرباء

كم تذاكرنا زمانا يوم كنا سعداء
بكتاب الله نتلوه صباحا و مساء

غرباء غرباء غرباء غرباء

غرباء و لغير الله لا نحني الجباه
غرباء و ارتضيناها شعارا للحياة


وفاضت روحه إلى بارئها
-------------
يُتبع

[/align]
[/cell][/tabletext][/align]

__________________
"لبّيك إن العمر دربٌ موحشٌ إلا إليك "
يا رب