الموضوع: وريث الظلام
عرض مشاركة واحدة
  #19  
قديم 02-17-2018, 04:33 PM
 
الجزء19 + 20 الأخير (( كمثل المحيط تحت القمر ؛ مشاعري تجاهه ! ))

(( كمثل المحيط تحت القمر ؛ مشاعري تجاهه ! ))


قال لي والدي بالأمس " هذه الأيام السوداء التي لا يعرف ليلها من نهارها قد تكون قد مرت , وانتهت . لكنها ابقت في عقولنا ذكرى تظل تطوف.. و نظل نتذكر ذلك الخوف , الرعب.. لكنها أيضاً اظهرت لنا اشخاصاً لا يمكن نسيانهم كذلك.. هم ذلك الجانب , الأمان , الحماية.. بعد كل هذا.. سنمضي إلى الأمام مرتاحين.. "
وابتسم لي تلك الابتسامة الرقيقة الدافئة : ليس هنالك ما تخشين منه الآن , ولا جيني , أنا سأظل هنا لأجلكما , أحميكما و أحبكما..!
بقيت في فراشي , أتأمل السقف في غرفتي المعتمة قليلاً , لا أصدق بأني أسمع الآن بوضوح اصوات العصافير , والرياح تداعب الشجر مصدرة صوتاً رقيقاً.. رفعت جسدي بكسل , لكن رأسي لا يزال مثقلاً , وذلك الصداع .. آآخ ~

يفترض أن أذهب للمدرسة اليوم ! , كم هذا.. غريب , و سيء أيضاً.. مدرسة هه !! من يحتاج المدرسة في الصراع مع الظلال الشريرة ؟! , لكنها رغبة والدي .. ~.~
دخلت المطبخ اتثاءب ملء وجهي بقوة شديدة و كأنني لم أنم لسنوات..!
لكن آآه , بقي فمي مفتوحاً وأنا أحدق بدهشة !! , صحيح .. هو هنا..!
كان والدي يتحدث مع دآنييل بهمسات لطيفة وهو يعد فطيرة الصباح , ضيقت عيني , هل ارتدى الأبيض من قبل ؟!
لا أصدق , دآنييل يرتدي قميصاً ناصعاً أبيضاً على الجينز الرمادي وقد شمر عن ذراعيه وهو يسكب القهوة , وكأنه فرد من العائلة..!

التفتوا نحوي فقط عندما هتفت جيني بمرح لي : كلالا !!
ابتسم والدي بارتياح : هآي صغيرتي , لقد افقتِ باكرة هذه المرة , تعالي و تناولي هذا..
لم تعجبني كلمة صغيرتي جداً , لكني رفعت شعري جانباً أنه يبدو في حالة مزرية وحالتي كلها فوضى , هذا محرج !, بينما اختلستُ نظرة في عيني دآنييل الهادئتين بلا لون واضح , كان صامتاً يراقبني من خلف أبي بهدوء.. لا أدري كيف قفزت ببالي تلك الذكرى اللعينة !! , لكني كدت أقع قبل أن أجلس على الكرسي..!!!
سأل والدي فجأة وأنا احتسي شيئا من عصير البرتقال : أسترافقك كلآرا إلى المدرسة ؟
كدت اختنق بشرابي , وأنا أنظر سريعاً نحوهما , ثبتت عينيه علي قليلا ثم همس بهدوء : أجل . لكني سأعود باكراً لنظر حول المكان .
تجهزت سريعاً و قبلت جيني بقوة , بينما دآنييل يقول بهدوء : سيارتي هنا..
أومأت وأنا أرى حقيبتي بيده , آوه .. دائماً ما انساها رغم أنها أهم شيء للمدرسة !
ودعت أبي الذي كان مطمئناً تماماً و مرتاحاً , أما هو فكان يتصرف بتهذيب و هدوء شديد مريب..! , فتح لي باب سيارته التي أراها أول مرة .. سبورت زرقاء داكنة مركونة جانباً وتلمع حتى في الظل , وضع حقيبتي في الخلف , وجلس برشاقة لننطلق..
مرت ثوان من الهدوء وهو يقود على مهل وتروٍ شديد وكأن لا شيء ينتظرنا , .. كنت احدق في الخارج وثقل ما غريب يملئ قلبي.. أشعر بأني أود أن اتنهد كل ثانية و أخرى , الاكسجين لا يدخل كافياً إلى رئتيّ .. ربما لا تزال هناك بعض البرودة قد علقت بي إلى الأبد.. تذكرت تلك العلامة الغريبة بقدمي.. لا أعرف ما هي ولكن اخبروني بأنها لا شيء يثير القلق..
لكنها شيء بالنسبة لي.. أنه شيء سيظل يذكرني بما حدث حتى أموت.. لا اعتقد بأني سأنسى كل ما حدث !!.. بل سأظل اتذكر التفاصيل حتى.. لقد اخذت بثأر عائلتي , تعرضت للألم.. و دخلت ذلك المكان.. عدة مرات.. لا , لا اعتقد بأني سأنسى الظلمة والبرودة..

تنهدت بحده , و مالداع لهذه المدرسة السخيفة الآن ؟!.
_ ما كان هذا ؟!
التفتُ بسرعة وقد نسيت نفسي , لأقابل عينين ذهبيتين هادئتين ولمعة فضية غريبة بهما , همس بهدوء ويده على المقود :
_ هل أنتِ بخير ؟!.
أومأت كالخرساء وفمي نصف مفتوح بحاجة الى الهواء , الكثير منه , لم يبتسم لكنه همس بصوت عميق مجدداً وعينيه تضيقان قليلاً :
_ أتشعرين بألم ما ؟!
هززت أرسي كالخرساء مجدداً , لاحظت بلاهتي الغريبة المحرجة, فقلت بصوت غريب وكأني لم أتكلم لأشهر : لا .. أنا بخير..
عاد للنظر إلى الأمام قائلا بهدوء : أخبريني بأي شيء يضايقك كلارا , من فورك..
نطقه لأسمي اشعرني بحزن غريب طرق قلبي و كأن حرقة ما علقت بحلقي وكأن هذا الاسم لا ينتمي إلي بالفعل .. تماسكت و زفرت لأتنفس جيداً بعمق..
نظر نحوي وهو يوقف السيارة عند باب المدرسة , قائلا بريبة : أنتِ لا تبدين بخير , ربما شحوبك بسبب ما نعرفه كلانا وهو سيزول لاحقاً , لكنك لا تتنفسين جيداً.. وكأنك مختنقة.. مالأمر ؟!
توترت و تلعثمت قليلاً وقلبي يرجف بقوة تهزني : حقاً , لا.. لا أدري..!
قال بضيق وهو يهز رأسه قليلاً وعينيه تلمعان : آه أرجوك كلآرا.. ليست صدمة متأخرة.. أرجوك..
قلت بسرعة : آووه لا أنا بخير.. حـ.. حقا..!
شعرت بيدي ترتجفان , فتحت باب السيارة لأخرج منها بسرعة واقفة.. خرج بخفة هو أيضاً و جلب حقيبتي , ثم أتى من خلفي و أنا أحدق بمبان المدرسة والسيارات و الطلاب يسيرون بطبيعية و يثرثرون , شعرت به يقف قربي و ينظر بوجهي , ثم همس بعبوس :
_ آعتقد بأني سأظل معك اليوم كله , أنكِ فزعة جداً ولا أدري مالسبب..
آه أنا أعرف نفسي حقاً , إن الحياة تبدو لي غريبة أو ناقصة هنا.. و اشعر بأني لا أريدها.. أريد أن أكون وحدي , أو مع أبي.. أو أن أموت.. لا فرق , فليخرجني أحد من هذا الشعور بالنقص , قلبي به فجوة ما ! ..
تأوهت مجدداً والتفتُ بعيداً عن باب المدرسة لأسير بسرعة نحو الأشجار..

_ حسنا كان عليك القول , أريد البقاء وحدي قليلاً.. لا أن تركضي هاربة بعيداً!
ظهر صوته الهادئ من خلفي بعد دقائق من جلوسي تحت اشعة الشمس الخفيفة الظاهرة من خلف السحاب فوق جذع شجرة ضخمة قديمة.. رغم أني أشعر بالدفء لكني كنت أضم كل جسدي إلي و فمي مفتوح قليلاً , كم أكره النسمات الباردة التي تمر علي..!!
همست وأنا أشعر بوقوفه خلفي : فقط.. احتاج للهواء..
_ ...والدفء , أنا أعرف.. ذلك التأثير عميقٌ جداً وصعب التخلص منه.. لكن مع الوقت سيتركك..
أخذت انفاساً كثيرة وشعرت به يتحرك ليجلس على نفس الجذع بجانبي , حسناً لا اعتقد هذا تماماً.. همست :
_ أنت واثق ؟!.
زفر بهدوء : يمكنك قول كل ما تريدين , أو حتى الصراخ عالياً إن كان هذا يريحك..
هززت رأسي ببطء : لا أرغب بفعل أي شيء.. قلتم , بأن كل شيء سيختفي.. أظن.. إلا هذا..
كان يعرف تماماً ما أقصد , تلك العلامة , فقال : أننا لا نقول بأن تنسي كل شيء تماماً.. هذا محال.. خاصة بك , أنه مثير للقلق قليلاً..
تمتمت: مثير للقلق حقاً , إن قلبي قاسٍ ,.. اخبرك أنا آسفة أني لست تلك الفتاة الطيبة جداً البريئة أو المرحة مهما كانت التي تنسى الماضي السيء وتمضي قدماً .. أنا قلقة من شيء ما لا أدري ما هو..
_ أنه نفس السؤال !.
نظرت نحوه بضيق كان بجانبي تقريباً ويحدق بي بعينيه الذهبيتان الهادئة من بين خيوطهما الرمادية , ارتجف قلبي بيأس وألم و كأن أضلعي تطبق عليه..
كررت ببطء احاول فهمه : سؤال... ماذا ؟!.
أومأ عابساً : ها أنتِ حية , والسؤال الذي سألته و أنت تكتبين شيء ما كوصية .. هل سيسامحني والدك ؟. لم نعرف جوابة حقاً , لكن الآن هل ستسامحيني أنتِ على ذلك العذاب..؟! خداعي لك ؟!. وذلك الألم.. يستحيل أن ينساه أيُ شخص مهما كان !
توترت قليلاً , همست مترددة : بالطبع.. لن أنساه.. لكن لن.. أ.. أكرهكم أو.. احقد..
مد يده التي كانت ترتاح فوق ركبته فجأة نحوي وقال ببرود : لنرى أيتها الكاذبة , دعيني أمسك برسغك..
توترت أكثر وقلت عابسة وأنا أضم يداي : لا , لا يمكن أن تعتقد هذا.. وهو ليس بالأمر المهم..
_ أننا نعرف بأنك كائن عجيب مختلف عن بقية البشر , تصرفاتك غير متنبأ بها , الجميع قلق مما سببه لك الولوج لعالم الظلام بضعة مرات !.. هذه صدمة كبيرة للجميع..
_ بالطبع !, ولا حتى أنا ظننت بأني سأعيش !.
رفع حاجبيه هامسا : لكنك تعيشين الآن , وبعدها لا تدرين مالعمل ؟! , ربما رغبتك بحياتك قلت بشدة , صحيح ؟!.
صدمتُ حقاً بما يقول , أنه محق بهذا, جزء منه..! , من الصعب التعمق كثيراً بما أشعر به , أنا نفسي لا أعرف ما أريد ومالذي أنفر منه الآن , رغم أني أحب عائلتي و أريد البقاء قربها لا الابتعاد .. لكني ها أنا أتكور وحيدة.. رغم ثأري , لا أشعر كثيراً بنشوة الانتقام , لقد ظننت بأني سأعمل على هذا الشيء و بعدها تنتهي حياتي ولست أفكر أبعد من هذا.. اطمأنت قليلاً لعودة الآمان لعائلتي.. لكن ماذا عن المستقبل..؟
تمتمتْ وأنا أحاول لملمة أشتاتي والسيطرة على الدوامة في داخل عقلي و ذكرياتي : أنا.. قلقة من.. المستقبل.. أني و والدي.. عرفنا بوجود.. ذلك المكان , أو العالم المظلم الموحش.. أشعر.. بالقلق المتواصل منه.. قد.. أخاف حتى من ظلي.. و .. والدي لا أعلم بما يشعر به..
نظرت نحوه في عينيه العميقتين هامسة : لا يمكنك القول , بأن كل شيء بخير الآن وإلى الأبد..
_ لا , ليس تماماً , لكن.. نحن حولكم دائماً..
هززت رأسي : ستغادر بعد بضعة أيام..
بنبرة غريبة همس : لا يجب أن ترونا , رغم أن البشر أقوياء جداً وتلك الأشياء تهابكم بالفعل..
مستحيل !, أنها مرعبة شريرة وخطرة , هزأت ببرود : في ذلك الظلام اللانهائي البائس.. هي التي تملك شكلاً مريعاً و تختفي وتعبر الجدران وتمد أذرعها كالسكاكيـ..
_ كلارا.. هذا يكفي.. أنت تلومين العالم بأكمله..!
فجأة تكلم بحدة خافتة وعيون حادة تومض كالنار الصفراء , أكمل بعبوس شديد في وجهي :
_ ولكن كان هنالك الظل المتشكل الذي أنقذ حياتك أيضاً , أليس كذلك ؟!. انسي قليلاً انتمائي أنا و ليو وتيرآ ورآف و دآليا إلى ذلك المكان.. تلك الجيوش التي تحت أمرة أبي , والذي ينتمي كلياً إلى هناك .. من الظلال التي تؤمن بالعدل والحياة !.
زفرت ببطء ,ثم همست بحزن يؤلمني ناظرة في عينيه الثائرة : أنا لا ألوم شيئا.. أني فقط.. لا اقدر.. على العودة..
تنهد وهو يرفع رأسه عالياً : ليتك شخصاً عاديا نستطيع محو ذاكرته.. مع أننا فعلنا هذا بك قبلاً أنا و ليون.. لكنك لم تنسي شيئا..! لمَ لا تنسين الأشياء المؤلمة كلارآ ؟! لماذا ؟!.

اخفض رأسه ليسألني بهدوء شديد وعينيه تعودان لهدوئهما العميق محدقا في عيوني أنا , شعرت برغبة عارمة في البكاء.. أنا شخص فضيع جداً يا ألهي لو يعلمون !!.. أنني أكره و أحقد أكثر مما أحب و أصفح..! , لا يمكنني السيطرة على هذا.. طبيعتي غريبة تميل إلى كره الغير .. و أخشى بأني بعد زمن اتذكر من آن لـ آن ما حدث فأشعر بالغضب و أن كان هذا ماضياً.. ستظل تدور و تدور بعقلي.. الذكريات , الألم !.. و أفكر بما سأفعله مستقبلاً لو تكررت حادثة ما..

هكذا أنا , أعيش متعذبه بالماضي , و أفكر بيأس في المستقبل والذي أظنه مظلماً قاتماً بعيداً أو ربما غير موجود !!.. و انسى عيشي في الحاضر.. لا أبالي به .. أنما.. مالذي أفعله ؟!. هل أقطّع نفسي لعدة قطع , أخرج عقلي السوداوي و انظفه , أو ربما يكون مسوداً جداً فألقي به...؟! , فأصبح نهائياً بلا مشاعر ..!
هم قالوها بأنفسهم.. لا نقدر على فقدك الذاكرة.. هذا لأني أعيش متمسكة بقوة بالغضب والكره , الذي استمر بتذكره دائما و أبداً.. هذه ليست حياة.. هذا جحيم... ربما لهذا لدي رغبات انتحاريه..!!
فهمت لمَ رغبت أن أموت حقاً في سبيل الدفاع عن عائلتي.. سيكون هذا شرف أبيض في سوداوية عمري.. و أيامي.. سيقولون كلارا تلك الفتاة الباردة التي تحتفظ بكل انواع المشاعر السيئة و تنسى كل جيد.. قد ماتت من أجل عائلتها.. على الأقل لم تكن سيئة في النهاية..!!
شهقت قائلة و حلقي يتقطع : لا أريد أن أكون سيئة..!!
دموعي تحرقني , لهذا البرودة والظلام لا يتركانني.. أني كالبيئة الممتازة لهما..! يا ألهي.. أقسم بأني أحب والدي و جيني..!
_ لا ! , كلآرا ..؟
شهقت بقوة وأنا أغمض عيني بشدة لعل الحرقة تنطفئ..
_ بما تتفوهين ! , فجأة غامت عيناك..!
_ ليتني مت بذلك الوقت.. آآآآه .. لا أريد أن أعيش هكذا..
_ لا لن تفعلي.. اهدئي فقط..
لم أقدر على التنفس !! أقفل شيء قاسٍ على قلبي , أريده أن يفهم هو على الأقل شيئا ما , أنا لم أقصد أن ذلك الظلام سيء تماماً , هم حقاً منه يفكرون ويهتمون بنا ويستخدمون كل طاقتهم لحمايتنا , همست بألم : لقد ساعدتنا كثيراً , جميعكم , حـ.. حتى والدي أحبكم بصدق.. و.. جيني التي.. لا تفقه شيئا.. تحبكم.. لكن.. أنا لا أعرف..
_ هيه , لا بأس اهدئي ..
همسه ناعم هادئ جداً و ..دافئ أيضاً قريب من قلبي الذي تصعقه البرودة بقوة لتنتشر في اطراف جسدي مع دمي , هذا يؤلم .. أريد التخلص منه سريعاً , تأوهت ويدي على وجهي : يحدث بداخلي شيء سيء.. البرودة تتملكني.. لا اقدر على التخلص منها..
_ هذا وهم كلآرا.. آه أنها بالفعل صدمة متأخرة..
بالكاد ركزتُ على صوتِه , أقسم بأني أشعر بالبرد في عظامي , وعينايّ تتألمان من الضوء العادي , أنا لست بخير.. سأمرض و أموت من هذا..!!
بكيت شاهقة : لا !, أنا أعرف ما يحدث لي.. أنها لن تتركني.. سأجن !
ما هذا البؤس ؟, الموت كان أرحم بكثير من هذا..! , سوف أظل هكذا حتى المستقبل , و ستشتد علي كل لحظة , فأتغير كلياً ببطء سيستحوذ علي الظلام.. لا أعتقد بأنه سيتركنا نعيش هكذا بسلام !, لقد قالوها بأنفسهم , نحن بحاجة للحراسة من آن لآخر..
_ الأسوأ , أننا .. نعـرف... لا .. لا أريد هذا..
كان صوتي يتقطع , والماضي البعيد السعيد لن يعود.. كل شيء لن يعود كما كان..

_لا يمكنك حتى التركيز على الأشياء الحسنّة التي حدثتْ , آهٍ منك كلآرا.. أنكِ مكتئبة جداً..
حاولت أقسم , و بيأس اشحت بوجهي كي أمسح الدموع اللعينة التي بدأت تسيل بلا استئذان.. ارتجفت هامسة بضعف :
_ أخشى.. أخشى المستقبل بشدة.. دآنييل..
_ أنا هُنا , لأجلك.. لأجلكم.. اهدئي..

احسستُ بيديه على كتفيّ , التفتُ نحوه , لكنه انحنى بهدوء نحوي لفنيّ بلطف غريب دافئ ووضع رأسي على صدره, أنه أكثر دفئاً مني حتى !!.. رغم كونه ينتمي إلى هناك أو نصفٌ منه لا يهم.. لكنه قوي جداً لا يزال يحافظ على قوة قلبه ودفء دمه..
احببتُ حقاً وجوده معي .. رفعتُ يدي لأضمه إلي أقرب شاعرة بحرارته , بشعره الأسود الناعم على جبيني وانفي , متمسكة بقوة بكتفيه القويين , قلبي سينفجر حقاً من شدة طرقاته , آووووه لا أريده أن يبتعد... كيف يمكنني قول هذا له !!.. .. أنا.. متعلقة به تماماً.. ان ابتعد عني سأتحطم.. تركتُ دموعي تسيل بصمت انصت لقلبه القوي ! اعتقد بأني.. أحبه.. دآنييل.. , تنهدت باسمه اسأله شيئاً لا اعرف ما يكون , لكنه رجاءً أن يبقى معي أطول..
شعرت بصدره يعلو وهمسه يلامس اذني بلطف : استمعيّ.. لهذا كلآرا .. أنتِ.. لا تحتاجين لأحد..
ممماذا ؟!!.. رفع رأسه , وشعرت بشفتيه تضغطان على قمه شعري , لا.. أرجوك..
نظرت نحوه وهو يتركني ببطء , واجهني بعينيه الذهبيتين اللامعتين وهو يلمس طرف وجنتي بيده : هذه حقيقة.. لحظة عن لحظة ستعرفين هذا حتماً.. امنحي نفسك بعض الوقت.. اطلب فقط أن تمنحي نفسك الوقت !
تمتمتُ بتردد وأنا اخفض يدي ببطء عن كتفيه و أنظر بعيداً : لكن.. آه.. صدقني لا استطيع أن أقـف وحدي..
_ تستطيعين بالتأكيد.. استمعي إلى هذا..
همس بنعومة جعلتني التفت للنظر إليه : اخبرني والدي بهذا.. لقد وصفك بالمحارب القوي.. قال نحن نتعامل مع شخص قوي لا يخاف الموت تقريباً.. رغم كونك فتاة.. الأشخاص مثلك ومثل جدك برآين و والدك الذي ولج العالم نادرون..

نظرت نحوه بدهشة , أوصفني والده بالمحارب القوي ~.~"؟؟ .. هذا لا يرفع معنويات الفتيات غالباً , لكن شيء لطيفاً مس قلبي كالسعادة لأطراء غريب كهذا..
أومأ لي باسماً نصف ابتسامة : ها أنتِ , الأنثى البشرية الثانية التي دخلت عالم الظلام و قلبت موازينه !.
عدت للتحديق به بتوتر.. تمتم ببطء وهو ينظر إلى الأشجار : والدتي فعلت الكثير لأجل والدي الذي لا يفقه شيئا بالمشاعر , لقد دخلت لأجله بمساعدة جدتي , حسناً والقصة منذ البداية كانت مأساة !...هو بالمقابل يلاحقها لأجل السلسلة ..وكم كان هذا مضحكاً اخبرتني جدتي بأنه صعد بأمي أعلى ناطحة سحاب و ألقى بها من فوق ليجرب شيئا ما..
شهقت مرتعبة !, مالذي فعله والده ؟؟!!! ما هذا ؟!

ضاقت عينيه وهو يكمل بعبوس طفيف : كان فقط يريد التأكد أن كانت القلادة تعمل و تنقذ أمي.. حسناً هو كان يفترض !, وحياة أمي لم تكن تعني شيئا له...!
سقط فكي وأنا أحدق به..!! السيدة فلورا.. الجميلة العذبة , الرقيقة , وذلك ال.. ذو العيون المعدنية البارد .. كيف.. اجتمعاً بعدما حدث...؟! هذا جنون ماذا لو ماتت...!!
ضاقت عيونه بحده طفيفة ليهمس : لا أريد أن أفكر ماكان سيحدث لو تحقق الافتراض الثاني !.
ابتلعت غصتي , والده هذا الرجل ><!!! مؤكد بأن السيدة فلورا كان مجنونة تماماً بحبه ذلك الوقت =="
همست سألته خجلة ومصدومة بينما هو لزم الصمت وكأنه يفكر : و.. ولكن.. لقد اصبحا.. والديك..
أومأ بتكشيرة شديدة وعينيه تنظراً بعيداً : وهذا ما يصدمني.. كان على أمي البحث عن رجلٍ أفضل.. حتى أنه في صغري , كان يحاول التخلص مني!
_ مــــاذا ؟!!
لم استطع منع صدمتي الأخرى... سيد الظلام هذا.. هناك شيء ما خاطئ بعقله ××"!!
ضحك دآنييل ساخراً قائلا وهو يلتفت لينظر في عينيّ : حسناً.. لولا جدتي , كان يفتح مدخلاً صغيراً سريعاً ويلقيني به دون علم أحد قائلاً لي "افعل هذا لمصلحتك كي تعيش هناك و تتعلم ".. فتجن أمي و جدتي و يدخلان بحثا عني.. بينما هو يتكأ جانباً يفكر بطريقة أخرى لأبعادي..
قلت بلا تصديق : دآنييل أنت تهزأ بي.. مستحيل أن يفعل الأب شيئا كهذا لأبنه..
همس بهدوء : هذا عندما كنت في الخامسة.. وحتى العاشرة تقريباً , ثم بدأ يقدرني , هو ذو مشاعر غريبة تجاهي..
شعرت بشيء من التعاطف معه , همست بأي رقة استطيعها : بالتأكيد هو مهتمٌ بك الآن..
طرف بعينيه قليلاً و كأنه يقيم نبرتي.. أومأ مسترسلاً بكلامه بهدوء : هو لم يكن يكرهني قط.. أنما يغار قليلاً ويخشى أن تهتم بي أمي أكثر منه , أنه مضحك.. مسكين أبي , هو لم يعرف الـ.. ذلك الشعور أبداً , لكن والدتي تهتم به كثيراً .. أنا لا خوفٌ علي من ناحية هذه الأشياء.. فهو مهتم بي كثيراً جداً , يريد منحي الكثير كي أكون وريثه ..!
ابتسمت بلا شعور , قلت هامسة : هذا واضح , رغم أنه كان قاسياً قليلاً معك..

نظر بعيداً وابتسامة لطيفة تظهر بوجهه , تمتم : حسناً , تلك لم تكن قسوة.. أنا لم أجرب قسوة أبداً , ولا نريد فعل هذا.. أنه ظلامي تماماً لولا وجود جدتي سيسا معه في حياته هناك ربما لتدمر عالمكم الآن..! , لكننا بخير أليس كذلك؟.
~.~" , حسنا سأعترف بيني وبين نفسي بأن والده خطير وذو عقل عجيب جنوني قليلاً رغم أنني رأيته بضعة مرات كان يبدو لي هادئاً رصيناً ..و الجميع لا يحاولوا اغضابه !. لكن حمداً لله لوجود السيدة فلورا معه وكذلك ابنه ..
لم أعد للمدرسة بقينا نتحدث قليلاً بعد , ثم نهض قائلا بهدوء : سأنظر حول المنطقة هنا قليلاً , أستبقين جالسة هكذا؟.
أومأت ببطء وأنا أتأمله وهو واقف هكذا , سألني مجدداً : هل لا تزالين تشعرين بالبرودة ؟!
_ لا , ليس تماماً ..
بعدما غادر , تمددت على العشب تحت اشعة الشمس الضعيفة على جانبي ويدي تحت رأسي , ثم أغمضت عيني اتنفس بهدوء , حسناً , بعدما تمضى الأيام سنرى.. سأرى هل ستتغير حياتي للأفضل أم للأسوأ ..؟ أم تعود إلى ما كانت عليه.. هادئة مسالمة .. لا اعتقد بأن ردة فعلي غريبة حقاً , فلو دخل شخص ما ذلك الظلام و خرج منه.. هل سيعود لحياته بكل طبيعية وكأن شيئا لم يكن.. أم يظل قلقاً يترقب..! هذا إذ لم يمت مثلي.. أتسال ما شعور والدي.. أنه يبدو أهدأ مني بكثير.. و سيحاول أصلاح حياتنا و عودتنا كما كنا..

لا أدري كم مر من الوقت لكني عيني اطبقتا بثقل و نمت بهدوء , فقط لدقائق.. أنا لن أمكث هنا..
سرت رجفة بجسدي.. آآه البرودة لاسعة أيضاً . لكنها ليست تلك البرودة , التقطت اذنيّ صوت مشي خافت على العشب الرطب.. أشعر بأن الجو ثقيل و الهدوء غريب.. من هذا .. صوت الخطوات يقترب قليلاً ببطء.. تنفست بعمق و حاولت الحركة رغم أن جسدي يؤلمني قليلا..

فتحت عيني وأنا أجلس متألمة قليلاً من وضعي الخاطئ في النوم , كان الجو قد اعتم بالفعل.. لكن هناك بعض الأضواء.. هذه أشجار الغابة.. رأيت شخص يقف مقابلاً لي , على بعد اربعة امتار تقريبا.. طويل وذا ملابس داكنة ومعطف .. شاهدتُ عينيه الزرقاوين وشعره الفاتح واضح تحت الضوء الخافتة.. من هذا الغريب..؟!
سألني بصوت هادئ وذا نبرة مميزة ناعمة : لمَ تنام آنسة مثلك هنا ,تحت هذه البرودة ؟!, هل أنتِ بخير ؟!
لم يبدو لي خطراً قط.. : من أنت..؟!
همست و أنا أفكر أين اختفى دآنييل !!.
تمتم بهدوء راداً علي : لم تجيبين لكن اعتقد بأنك بخير, تلك العلامة جميلة !
ماذا ؟! , أي علامة , نظرت لقدمي , البنطال يغطيها , توترت لكن بقيت جالسة بمكاني.. كيف يرآها ؟!..
فجأة همس وهو يرفع رأسه قليلاً : مرحبــاً..!
نظرت الى خلفي بسرعة , كان دآنييل يقف قربي , وعينيه إلى عيني ذلك الشخص الغريب.. أتاني وهو يمد يده إلي :
_ انهضي كلارا.. هاتِ يدك..
امسكت به و نهضت اطبطب عن نفسي , يالا الفوضى ~!
وضع على كتفي معطف أسود وقربني منه قليلاً .. سمعه يتكلم : غريب وجودك هنا ,لآيريك .
رد الشخص بهدوء شديد وهو ثابت بمكانه : لقد شعرت بوجودها وحدها فجئت للاطمئنان !.
أومأ دآنييل ثم التفت وهو يمسكني معه ونغادر بعيداً , قلت بتوتر : من هذا ؟!. هل هو.. حارس ؟!.
كان يبدو أكبر سناً بقليل من دآنييل و الحراس , هذا واضح بوجهه.. هدوءه ربما..
_ كلا.. دعك منه.. كيف أمكنك النوم هناك !.
تمتمت غير قادرة على الاستيعاب ونحن نصل للسيارة : لقد غابت الشمس .. و...
قاطعني وهو يفتح لي الباب ويدفعني برفق : لم تغب !, أنها الغيوم تنذر بعاصفة , لقد نمت لساعتين تقريباً , تعالي سنعود لبيتك ..
قلت باضطراب وهو يركب السيارة بسرعة لينطلق : وماذا سأقول لأبي..!
_ أنك لم تقدري على مواصلة اليوم الدراسي .. لم تقدري على البدء به بالأحرى.. لكننا لن نخيف والدك أليس كذلك ؟.
عدنا للبيت و مضى بنا اليوم بشيء عادي تقريباً غير أن العاصفة حلت بالفعل فوقنا وبقي دآنييل حتى العشاء رغبة من والدي , ثم غادر قائلاً بأنه سيكون دائما بالجوار.. و سيأتي عندما نحتاجه !.

امضيت ساعة كاملة بعد العشاء في المياه الساخنة , فكرت به و تذكرت محادثتنا النادرة تلك , علمت بأننا لن نتكلم مثلها أبداً , أفصح لي بالكثير وكذلك أنا.. , وما كان شعوري ذلك بحق ال... , مؤكد بأنه وليد اللحظة .. أنا.. بالتأكيد ممتنة له بحياتي , وهو شخص جيد.. لكن لا.. لا أظن بأنني أحبه , لم اقع في الحب الذي يتحدثون عنه , لا اعرفه لكني واثقة حدثتُ نفسي بأنه لن يأتي الآن , أنا لست متفرغة له.. يجب أن اعتني بعائلتي..
تنهدت , آآه كنت اشعر بالفزع الغريب هذا اليوم ..!, بعدما انتهت كل تلك الفوضى , أنهم محقين .. أنا أعاني من صدمات متأخرة ××؛ , هو كان محقاً.. فقط أن اهدأ واسلم الأمر للوقت.. سيتحسن كل شيء ويعود لطبيعته مع بعض الوقت..

~*~

في صباح اليوم التالي , مر بنا لوك فرآنس .. وكان يطمئن علينا , لقد انقطعنا عن الوجود لثلاثة ايام تقريباً , رغم أني أشعر و كأنها سنوات ..!!
تشجعت واستعدت للذهاب للمدرسة , وعلى الإفطار , سألني والدي بهمس بينما الطبيب لوك منشغل بمداعبة جيني :
_ ألم تري دآنييل اليوم ؟!
احمررت خجلاً , لما يسألني عنه ؟! أبي يتصرف بغرابة أيضاً ,... رددت بارتباك : لا .. لم أره ~~" !
همهم أبي بعبوس ثم التفت نحو لوك يدعوه لتناول الإفطار.. بعدما انتهينا , اقترح فجأة : يمكنني أن أوصلك بطريقي إلى المدرسة كلارا..
وابتسم لي بلطف , نظر نحونا والدي أيضاً و وافقه : إذا كان هذا لا يعطلك عن عملك في المستشفى..
_ بالتأكيد لا.
لم انطق بشيء , ودعتُ والدي و جيني , ثم خرجت لسيارته البيضاء الجميلة , قال ونحن ننطلق : يذهب أليكس عادة مع رفاقه , ولا يدعني أوصله كثيراً..
ابتسم وهو يركز على الطريق : أظنه يكبر بسرعة..
ابتسمت وأنا أهز رأسي , نزلت و شكرته بلطف , ثم ما ان غادرته سيارته و التفت أنا لأواجه المدرسة والناس , حتى خفق قلبي بشكل غريب.. آوه ها أنا أعود للحياة الطبيعية , يجب أن اتصرف بهدوء , ما حدث في الأيام القليلة الماضية لا يمكن قوله كدردشة عادية لأصدقاء المدرسة..! , وهذا سيبقى سر.. الجميع يعرف دون أن ينطقوا شيئا بأمره..
تمنيت بشدة لو أنه هنا معي.. افتقده , افتقد ليون , تيرآ .. و داليا , وحتى رآفييل.. ويقول أنت قوية و لا تحتاجين لأحد..!

أنه لا يعرف شيئا عني.. أنا بحاجة لشخص قربي يدعمني.. وليس فقط عند مسألة , الحياة أو الموت !! , بدأت اشعر بالغضب , لمَ يتركوننا .. يتركوني قائلين بأن كل شيء بخير الآن..
بدأ اليوم الدراسي بملل رهيب رغم أني قابلت سيلآ و لونا اللطيفتان واللتين اطمأنتا علي , بينما اخبرني الأستاذ المرشد بأن عذر غيابي بأصابتي بمرض الانفلونزا موجود , و حمد الله على سلامتي..!! , تسألت , أي عذر..؟؟! , لا شك بأن أصحاب الظلال تدبروا الأمر بطرقهم المميزة..
سألتي سيلآ في فترة الاستراحة : غريب , ألن يأتي اقربائك الى هنا مجدداً..؟!
حدقت بها بغرابة , عماذا تتحدث ؟!.. آووووه .. قلت بتردد طفيف : لا.. لا أظن , أنهم يعيشون بعيداً..
_ حقا...!
و تنهدَت بأسى.. , و تنهدتُ مثلها.. افتقدهم بشدة..
امضيت الصفين الأخيرين بالنوم العميق.. ولم يضايقني أحد.. حتى افقت و خرجت بهدوء من البوابة لأقف قليلاً و اشاهد الطلاب الأخرين يتمشون بمجموعات و يضحكون بسعادة لأنهم اطلقوا للحرية الآن ..
مشيت قليلاً خارجة سارحة بعقلي , لكن صوتاً خلفي ناداني ..
_ هآي كلآرا..!
التفتُ بهدوء و دهشت لرؤيته لم اكد اعرفه بالبداية , اقترب مارك بابتسامة مترددة وهو يرتدي تيشيرت ازرق و حقيبته على كتفه , وقف أمامي قليلاً وهو يسألني بحرج احسسته :
_ أنها أنتِ , كيف حالك , لم أرك لوقت طويل.. أكل شيء بخير ؟!
رددت بسرعة : آه أنا بخير الآن , شكراً لك..
أومأ وبدا أنه اضاع الكلمات قليلاً , لكنه تمتم بلطف : اراك وحدك , أين صديقك ؟!
ماذا الآن ~.~" !!, لماذا يتذكرونه , هو سيذهب ولن يعود , رددت بهدوء : أنه ليس هُـ....
_ كلآرا !.
التفتُ مصدومة , و رأيته , واقفاً قرب سيارته الداكنة بقميص أسود بلا أكمام عضلات ذراعيه بارزة وهو يضع يديه على وسطه ,
مرتدياً بنطالاً رمادي داكن مشابه للون عينيه , والتي عرفت منهما كالعادة بأنه في مزاج ليس جيد..!
قال مارك بتردد : ذلك هو.. هل يدرس هنا ؟.
قلت شاهقة وأنا أعود للنظر نحوه : لا..
همس : إذن لا يمكنني رؤيتك مجدداً..
_ بلى !..
لا أدري لكني نطقت بهذا بيأس غريب آلمني , أكملت و أنا أشعر بالعيون الرمادية الباردة معلقه في ظهري :
_ سوف أراك مجدداً.. أعنى لنتحدث..
ابتسم باشراق قائلا : آه حقاً.. بالتأكيد..!
ودعني وهو يلمس يدي شيئا طفيفاً , ثم مشيت بحذر من قرب دآنييل , الذي بقي يحدق بالفتى , ثم التفت لينظر نحوي قائلا :
_ مهلك !, تعالي إلى هنا.. سأعيدك أنا..
قلت بهدوء وغضب طفيف ينمو قرب قلبي : آه , حقاً , ظننتك تركتنا..!
فتح لي باب السيارة وأنا أسمع زفيره الحاد وهو يأخذ حقيبتي ببرود , ثم انطقنا بسرعة هادئة
مرت لحظات ثقيلة من الصمت المزعج , قلت وأنا أحاول أن أكون طبيعية : لا بأس , اعتقد بأني سأعود لحياتي الطبيعية..
همس بتكشير وعينيه على الطريق الخالي الجميل : نعم , أسرع مما توقعت !.
مالخطب ؟!. نظرت و حدقت بعينيه الرماد يتموج بحده مع الذهب كالبركان , نعم كما كان قبلاً , دآنييل لا يتغير لكن لديه هذين الجانبين .. , لكن عندما يختلطان بعنف هكذا.. ما يكون شعوره ؟!.
_ لما تحدقين بي هكذا ؟!.
التفت نحوي بضيق , همست له بلطف : اطمئن عليك.. تبدو منزعجاً..
_ لا أنا لست كذلك ..
رد بسرعة و تكشير.. ثم قال وهو ينظر إلى الأمام : كيف كان يومك ؟!.
_ كان مملاً للغاية..
_ لا يبدو لي هكذا حتى اللحظة الأخيرة !.
_ أتتحدث عن مارك ؟!. أنه شاب جيد.. أنا أشعر بهذا..
زفر مجدداً , واطبق شفتيه.. وعندها تذكرت تلك اللحظات التي كالخيال.. كخيال غريب في وقت ما , أو أن الوقت اختفى , مالذي كان يحدث.. أنا هناك اشعر بالتشوش.. و.. آه ضيق في التنفس..
التفت بوجهي بسرعة الى هواء النافذة و اخذت اتنفس بعمق..
_ مالأمر ؟!. لا تستطيعين التنفس مجدداً..!
سألني بضيق وهو يلتفت نحوي.. قلت بتوتر وقلبي يخفق خفقات غريبة , بطيئة لكن قوية تزعجني..
_ آه لا أدري.. مالذي يجري..
هدأ السيارة حتى توقف جانباً , ليتفت نحوي بكامل جسده , سائلاً بقلق خفي شعرت به :
_ وأنا كذلك لا أدري ما يصيبك عندما اقود السيارة بالذات , هل علي تغييرها ؟!
كان يهزأ بي.. نظرت نحوه وعيوني تحرقني قليلاً : اني افتقد ليون و تيرآ وداليا بالمدرسة.. وكذلك راف.. هل حقاً لن أراهم مجدداً..
سألني بنبرة بدت لي يائسة , وكانت عينيه تتموجان بالذهب السائل , صدمة لعبوسه بوجهي , التفت لينطلق بالسيارة بسرعة قائلا بنبرة باردة :
_ آوه حسناً.. اتركي هذا للوقت أيضاً.. تفكيرك بالمستقبل يزعجني..
كان مسرعاً و وصلنا للمنزل بلمح البصر , نزلت متضايقة و اختطفت حقيبتي قبل أن يأخذها , ذهبت لغرفتي بسرعة لأبدل ملابسي.. ما خطبه , لا أريد بروده , هل يمكن أنه يكره مارك ؟! , ولكن كذلك عندما ذكرت الحراس بقي عابساً..
جاء الليل سريعاً وهو باقٍ هنا مع والدي , بينما أنا ألاعب جيني في الردهة , لكنها ملت مني سريعاً و اخذت تزحف إلى المطبخ وهي تمتم بسعادة
_ دآآن .. دآآن ..
حقاً , هذه الصغيرة ><" , لكني نهضت خلفها أحاول تعليمها المشي , قبضت على يديها الصغيرتين و أخذت اسير الى الوراء وهي أمامي وأنا أشجعها : هاهي كعكتي اللذيذ تتعلم المشي.. من هي جميلتي الفاتنة الذكية.. نعم أنها أنتِ... أ...آه..
اصطدمت بأحدهم من الخلف وكدت اقع , لكن يداً قبضت على خصري لأثبت بمكاني.. رفعت رأسي لأراه الشخص الذي تتغنى به جيني قبل قليل .. قال بضيق وأنا اتوازن واقف : احذري..!
_ اسفة..!
مر العشاء بهدوء و كذلك اليوم التالي , والذي يليه , حسنا كنت حقا استعيد حياتي الهادئة الطبيعية , اتحدث مع الفتيات صباحاً و وقت الغداء اتناوله مع مارك متحدثين عن أي شيء.. كان أليكس ابن لوك فرآنس يمر بي دائما يلقي التحية ونتحدث بمرح..
بينما اتى والدي ليعيدني للمنزل , لم تكن المسافة بعيدة , سأحاول أقناعه بأن أعود مشياً مثل سيلا ولونا بيوتهما على نفس الطريق , و تسألت لم لا أرى دآنييل كثيراً , يأتي ليتحدث قليلا مع والدي قرب الغروب و يختفي بعد العشاء.. لا أراه صباحاً أبداً..
حتى أتى نهاية الأسبوع , وقد خرج صفي باكراً لأن الأستاذ متغيب, فقررت عندها أن أجرب العودة وحدي للمنزل.. لا بأس سأستنشق الهواء و أحرك دمي قليلاً عن كثرة الجلوس في الصف..!
مشيت حتى صفوف الأشجار على نواح الطريق , و أنا أشعر بأني وحيدة , لكن حرة.. أو أن الحرية قد تعني الكثير من المعانِ الأخرى.. اشعر احياناً بأني فقدت جزء كبير من حياتي , أنا لن أحاول نسيان الماضي.. حتى جيني أحيانا عندما اتركها وحدها تناجي تيرآ و داليا وليو بطريقتها الخاصة.. و تظل عينيها الواسعتين الزرقاوين لامعتين تحدقان بالفراغ , بانتظار ظهورهم...
لكنهم لم يظهروا قط..

شهقت رغما عني وأنا ابطء الحركة .. يجب أن نراهم مجدداً قريباً.. المنزل.. خالٍ جداً.. حتى ولو أرى رآفييل سأكون سعيدة للغاية.. هل يمكن أن يوافق سيد الظلام ؟ , اعتقد بأنه أبعدهم من أجل مشاعرنا نحن.. حراس من ذلك المكان , يحرسوننا من المكان نفسه..!!
فجأة سمعت صوت الرعد , لكنه بعيد والغيوم متجمعة بالفعل فوق رأسي , لم امشي سوى خطوات بسيطة حتى هطل المطر بطيئاً قليلاً , فأسرعت في مشيتي ..

اقتربت من المنزل وقد تبللت كثيراً تحولت القطرات البسيطة لزخات غزيرة باردة تطير مع الرياح بعنف على كل سنتيمتر من الأرض , ومن جسدي أيضاً..!
دخلت المنزل بسرعة و خطواتي مكتومة , لكني سمعت والدي يتحدث بالمطبخ قائلا : هل يجب أن تغادر الآن ؟! , إن الوقت باكر.. وكلارا لم تعد بعد من المدرسة..
_ يجب أن اغادر سيد موند , والدي اخبرني بهذا.. اشكركم لكرمكم معي..
توقفت مصدومة قبل أن أدخل , هل سيغادر الآن !!. أيضاً كالأخرين.. لقد كنت اتجنب هذه اللحظة منذ أيام.. لكن الآن.. أنا غير مستعدة...!
_اعتقد بأن كلارا تود أن تودعك.. ألن تنتظر قليلاً..؟ وجيني نائمة أيضاً..
جاء صوته الهادئ : لقد ودعتُ جيني في الصباح , لا أريد أن أكون فظاً . لكني ودعت كلارا بوقت سابق..
سمعت صوت مصافحة و والدي يقول : يجب.. أن تعود يوماً ما لرؤيتنا , جميعكم..
_ سأرى سيد موند.. حقاً.. شكراً لك..
_ أنا أشكرك بشدة لاعتنائك بنا.. أنت شاب صالح مسرور جداً بمعرفتكم..
تنفست بضيق , بل توقفت عن التنفس المتقطع المؤلم , مالذي يجري..؟ , هذا اللعين يريد المغادرة دون قول أي شيء لي.. لو لم أخرج باكرة من المدرسة .. لعدتُ ولن أجده.. أبداً..
صوت صراخ جيني أرعبني لثانية وجعلني اضم نفسي جزعة .. خرج والدي مسرعاً من جانبي قائلا : لقد استيقظت , سأراها سريعاً..

ربما لم يلاحظني.. لكني جمعت انفاسي والتفتُ لأدخل بسرعة الى المطبخ , رأيته قد خرج من الباب الآخر مغادراً تحت المطر.. بعيداً.. ترددت كيف يغادر , مالذي .. آآه...!
اسرعت خلفه و انزلقت و وقعت بسرعة على ظهري وسط الوحل والمطر وكأنني أشعر بارتجاج في جسدي !!, لكني وقفت بسرعة وهتفت بصوت متقطع غريب : مهلاً... أنت !!
كان قد التفت مندهشاً وقد خرج من سور المنزل .. عيناه غريبتان علي ..
هرعت نحوه وأنا في حال مزرية , مسحت عن وجهي المياه و الأشياء التي طارت عليه , قلت و أنفاسي تتسارع في سباق متعب :

_ هل أنت مغادر الآن !. دون أن تنتظرني لأعود من المدرسة...!
لكن قال شيئا آخر : أنت مبللة تماماً , عودي للداخل و إلا أ...
قاطعته بعيون حارقة و أنا أرى العينين الذهبيتين القاتمتين كالعسل الأسود ربما للمرة الأخيرة : دعك مني الآن , أنا لم اعتقد بأنك ستغادر اليوم !.
_ ماذا ؟! , يجب علي هذا.. لا تقلقي سيكون هناك حرس آخرون في المنطقة لـ..
قاطعته مجدداً شاعرة بالغضب من برودته الغريب التي تنافس برودة المطر : لا نريد حراسة ! , لم كذبت على والدي قائلا.. أنك ودعتني.. لـ..
تمتم بهدوء وهو ينظر إلى شعري الذي يقطر من شدة البلل : ليس هنالك أي حديث يقال بعد ذلك الحديث.. أنت تعلمين أنني مغادر , لا أفهم سبب انفعالك , عودي للداخل قبل أن تصابي بالمرض !.
_ آوووه فلأموت ! , لا تتحدث هكذا.. أريد.. أريد أن أتأكد بأنك... أنك..
لا أعرف ما أقول , لكن مهما كان ما يدور بعقلي أو قلبي الذي يطرق بقوة تهزني هزاً , يجب أن يخرج بسرعة على لساني.. ليس لدي الوقت..! لم أشعر بأني اتشبث بسرآب !
_ أني ماذا كلآرا ؟ , أني بخير ؟, نعم هذا صحيح , ليس على كلانا أن يشعر بالذنب , حتى لو تظنين بأنك سيئة , أنت تعرفين بأنك مهما فكرتِ , سيكون كل شيء بخير في النهاية..!, ليس عليك امتلاك تلك النظرة السوداء مجدداً.. هل تدركين ما لون عينيك الآن..؟!
اقترب مني خطوات حتى تلامست اطراف قدمينا وأنا أحدق بعنقه غير قادرة على استيعاب الكثير , همس هو بهدوء :
_ لونهما أخضر قاتم جداً كالزمرد غريب من نوعه , عندما تنفعلين هكذا و تضيعين تماماً , أفهم هذا الشيء منك على الأقل , أنتِ لن تحقدين علينا في نهاية المطاف..
رفعت رأسي قليلا و نظرت في عينيه الذهبية اللامعة في عتمة الجو.. كان المطر يتساقط من شعره أيضاً.. همست بتعب :
_ لن .. أفعل.. لكن.. أنا.. آسفة كل ما سببته لك... من متاعب.. حتى ذلك اليوم القريب.. لقد غضبت لكني لم أفهم لماذا؟ , رغم هذا.. سامحني..
طرف بعينيه ببطء و اختلفت نظرته قليلاً للقتامة وهو يسبلهما قليلاً , ثم همس وهو ينحني شيئا يسيراً نحوي :
_ لا بأس , آسفٌ أنا أيضاً.. حاولي مسامحتي.. و.. غضبي ذلك اليوم.. ربما لأنني لن أترك أثراً جيداً كما فعل الحراس بالنسبة إليك.. ها أنا أقولها صراحة .. بعدها لن أوجد كي أنطق بأي شيء..
ابكاني تبا له , دموعي الساخنة تحترق فوق بشرتي المبللة الباردة وشفتي تنتفخان وعيني تحمران بشدة , ها هو يقولها , لن يعود مجدداً.. يقول بأني لن افتقده ؟!!! أيمزح معي... ما عساي أفعل بحياتي المتبقة بعد اختفائه ؟؟!!
لمس وجنتي بيده متمتماً : آششش , لم هذه ؟ أنت مبللة كفاية ؟! , ها نحن نتصافى , لا بأس عليك..
شهقت قائلة لا اصدق ما يقول : سأفتقدك.. يجب أن تعود.. يوماً ما..
لم استطيع تمييز نظرته لأنني رفعت كفي لأغطي كامل وجهي محرجة باكية يائسة.. لا أدري مالعمل..؟
شعرت به فقط يميل نحوي و يغمرني بذراعيه ويقربني من صدره.. همس بهدوء : أقول لك.. بأن الأيام كفيلة بكل شيء.. كوني بخير اتفقنا.., أنك قوية كفاية للعناية بنفسك وعائلتك..! , سأتركك الآن.. حسناً ؟.
كلماته تقتل كل أفكاري , الأيام كفيلة !!. هل يمزح معي وأنا غارقة ببؤسي هذا..! شعرت بشفتيه على رأسي , ثم تراجع سريعاً بضع خطوات , وشفتي ترتجفان , لا تتركني.. ,فوجئت بملابسي جافة دافئة وهالة فضية تختفي , ثم رأيت عينيه الذهبيتين الداكنتين ذاتا الخطوط الفضية فقط.. ليختفي في موجة من رياح المطر البارد...
بقيت متجمدة مكاني.. أحدق بمكانه الفارغ..
لقد غادر.. لقد... اختفى...
...

ظللت احدق بقطرة ندى صغيرة لامعة على طرف العشبة و وجهي على الأرض و جسدي كله ممدد على العشب الرطب و الشجرة من فوقي تقطر من الأمطار الغزيرة في الأيام الفائتة.. , التي مضت كسراب.. تكورت على نفسي.. ودمعة حارة تسيل مجدداً بنفس مسار سابقتها فوق خدي حتى شفتي , لم أعد أرى جيداً من انتفاخ عيني.. زفرت .. ها أنا أتنفس.. و اشهق الهواء البارد.. و اخرجه ساخناً كبخار متكثف أمام وجهي..
اغمضت عيني بقوة و تنفسي يضطرب.. جزء آخر من قلبي مفقود .. وقد ترك فجوة أكبر و أعمق من سابقتها , و أشد ألماً , بينما لا أقدر على التفكير بأي شيء.. سوى أنني لن أرى تلك العينان مجدداً..

ليتني أحلم عنه.. لقد مر أسبوع كالعذاب رغم تفاهة ما يحدث في الأيام.. لهذا لا اتذكرها.. فقط.. أريد البقاء في هذه البقعة التي تكلمنا بها أنا وهو .. عن أشياء راكزة في قلوبنا.. و تكلم معي.. كثيراً.. صوته.. كان جميلاً.. اتذكره.. ما عساي أفعل .. لأعيده...
شهقت .. وانهمرت الدموع... لم اعد استطيع فتح عيناي.. لا أريد هذه الحياة من دونه.. من دونهم جميعاً..

غبت في دوامة من الظلام الهادئ , كنت اسمع انفاسي كآهات ~ , و يدي تضمان جسدي.. هناك بعض البرودة.. والضيق..
لا أعرف كيف لكني تعبت من نومي, ففتحت عيني بصعوبة , لم أرى سوى العتمة قليلاً.. لكن هناك شيء ما فوقي , ثقيل , بارد قليلاً لكنه جاف و مريح .. معطف...؟!
رفعت عينيّ قليلا لأجد شخصاً ما جالساً أمامي على بعد قصير.. ينظر نحوي.
.
لم أرى ملامحه جيداً بسبب ركونه في زاوية الشجرة المظلمة .. لكنه كان ينظر نحوي منتظراً.. لا يمكن...!
هتفت بصوت مبحوح : دآنييـــل !!
و الأمل.. هل الأمل يعو... هز رأسه هامساً مقاطعاً حبلاً من الشوق :
_ آسفُ حقاً أنني لستُ هو..
من هـ...؟!, تذكرت.. تلك النبرة , وقد اعتدتُ قليلاً على عتمة المكان لأرى عينيه الزرقاء الفاتحة ,وشعره الفاتح.. تمتم بينما بقيت أنظر نحوه :
_ خفتُ عليك , فبقيت هنا لأجلك .. هل أضعتِ الطريق لمنزلك يا صغيرة فنمت هنا في الغابة ؟!
مؤكد بأن المعطف الذي فوقي هو له , اشغلني عن دوامات بؤسي , فسألته بتعب : هل أنت حارس؟!
رد بهدوء ورصانة وهو جالسٌ بمكانه : لا , هل احبطتُ أملك مجدداً , رغم أنني غطيتك بمعطفي ؟!
من يكون ؟!, لقد ذكر دآنييل اسمه.. لكنه ليس شريراً.. مؤكد شعوري بهذا , لكنته غريبة وقديمة وكأنه من زمن آخر..
سألته بخفوت : هل أنت مصاصُ دماء ؟!.
تنهد بوضوح أمامي وهو يرفع رأسه عالياً قليلاً : آيه , بدأت أشعر بالخيبة .. يبدو بأن ذوقك صعب , آنستي..
تنهدت أنا كذلك , يا له من غريب ما يكون ؟؟!! , استويت جالسة ببطء وألم شديد في عظامي وأنا أشد معطفه علي لعلي أدفئ ..
فجأة أتى صوته الخافت الهادئ : إذن.. عدتِ إلى هنا.. بحثاً عن طيف حبيبك؟ مر زمن طويل قبل أن أشعر بالحزن لأجل بشري ما.. ألم تجدي أي شخص آخر سوى وريث الظلام , آنسة ؟!.
بقيت متجمدة بمكاني ذكرني بسخرية رآفييل لكنه يغلفها بكلمات مهذبة , رغم هذا تظل سخرية !, قلت ببرود له : لا شأن لك يا سيد مهما كنتْ..!
اخذت أدلك ساقيّ قليلاً كي انهض واتحرك.. لا أدري منذ متى وأنا هـ...
_ كنتِ تخططين للموت هكذا طريحة بين الوحول ؟, هذا سيء آنستي..
نهضت واقفة و أنا أرفع معطفه من فوقي بسرعة و غضب , نهض هو أيضاً بسرعة و بلمح البصر كان يقف بالقرب مني , قائلا بأسف مهذب :
_ اعتذر جداً عما قلته الآن , لا تنزعي المعطف أرجوك.. البرد سيء جداً عليك..
رفعت رأسي بحده فرأيت وجهاً جميل التقاسيم وكأنه نبيل ما من عصر قديم ذا شعر أشقر فاتح جداً كلون الشمس وعينين زرقاء كالسماء الصافية.. طويل رشيق و يبدو بآواخر العشرين ..
ابتسم لي برقة هامساً : كنتُ عابر سبيل , لكني رفيق جيد للبشر , أنا أعرف من تكونين آنسة كلآرا , وأعرف بأن سيد الظلام بنفسه مهتم بأمرك و عائلتك.. لكني صديق , ألا تتذكرين اسمي.. أدعى لآيريك شايروس. اسمحي لي بمرافقتك للمنزل..
حاولت نزع المعطف وأنا أقول بهدوء : لا .. شكراً.. خذ معطفـ..
_ كما تشائين , أردتُ المساعدة , لكن.. الآنسة كلآرا ليست بحاجة لأحد !.
همس بهدوء وهو يومئ برأسه.. قلت بألم وأنا أسلمه معطفه بينما الدموع تهدد بالانهمار : مهما يكن.. شكراً على هذا.. وأرجو أن تكمل طريقك بسلام..
قال فجأة من خلفي : لكن ذلك غير صحيح , ما قاله وريث الظلام.. الجميع , كائن من كان .. بحاجة لصاحب بحياته..
التفتُ نحوه لكنه اختفى فجأة و هبت ريح باردة خفيفة في المكان..
_ أنه التهاب في الرئة ! , وحرارة سيئة, اعتقد بأن كلارا ستلازم الفراش هذه الليلة هنا !.
تحدث لوك لوالدي وأنا بالكاد أنظر نحوهما من شدة التعب و النيران التي تتأجج بداخلي.. كنت بالمشفى , عندما حاولت النهوض صباح اليوم فوقعت من السرير غير قادرة على حمل نفسي..!! آآخ ولما وضعوا هذه الإبرة ذات الأنبوب هنا بيدي ××"
تمتم أبي بقلق : ارجوك أن تعتني بها جيداً..
أوما الطبيب قبل أن أطبق عيني و شفتي تهمسان : آسف أبي..
كنت أعلم بأنني حلمت عنه , أو الذكرى الأخيرة تدور بعقلي.. كنا تحت المطر وهو يهمس بتلك الكلمات الغبية التي تثيريني دوماً ولا تتركني إلا مع موجة بكاء متعب.. لذا سأقبع هنا قليلا في الظلمة الدافئة حتى استيقظ.. أنه حلم..
شعرت بيد تمسح على يدي.. آه والدي الحبيب لا يزال هنا.. لكن.. أليس الوقت متأخر؟ وهو غير مسموح بوجوده ؟؟
من الذي يداعب يدي واقسم بأن هنالك ثقل ما معي على السرير !!, لأفتح عيني بسرعة...
لكني فعلت بصعوبة و بعد وقت طويل.. ولم... لم أجد.. شيئاً..
اغمضت عيني بقوة و أنا أقاوم البكاء و الحرقة.. لا شك بأن هذا وهم..~!

بقيت يومين في المشفى , لقد اشرف لوك على علاجي سريعاً و كان أليكس يزورني وكذلك فعلت سيلا و لونا .. في اليوم الأخير أتى مارك ومعه باقة صغيرة لطيفة من الزنبق الأبيض..
في المنزل مضت الأيام بهدوء و من يساعدني على الدراسة والعناية بـ جيني هي.. ليندآ , لقد عادت للمساعدة و والدي قبل بها.. تأتي منذ الصباح ثم تغادر ظهراً لتعود مع عودتي من المدرسة فندرس حتى وقت العشاء ..

كان فقط تحب رفقتنا و مساعدتنا قليلاً.. وبفضلها تجاوزت الدرجة الأدنى من النجاح..!, لقد اعتدت عليها ولست أكرهها الآن..
رغم أنني أنهيت الدراسة بمعدل جيد .. وانتهت السنة وبدأت الأجازة , إلا أنني في كل ليلة وعندما أضع رأسي على الوسادة.. اتذكره , و اتذكرهم جميعاً ..!
لم يعد أحد لزيارتنا..!!..
كنت اتخيله.. و أغمض عيني بقوة لأرى عينيه مطبوعة في عقلي.. أحاول تذكر كل تفاصيل عنه.. لكن الأشياء بدأت تختفي.. وأنا لم أعد قادرة على التشبث كثيراً بالأمل.. أنه لن يعود.. قط..
اعرف.. بأنني وقعت بحبه.. وأنا خائفة من هذا.. أظن بأني أسلك طريقاً يدور بي بلا نهاية.. , لكن يجب أن ينتهي.. وأخشى بأنها لن تكون نهاية سعيدة..!.. ليتني أراه مجدداً.. مرة اخرى فقط.. هنالك الكثير مما أود قوله.. لا أعرف تماماً.. لكن أن رأيته سأتحدث ... يجب هذا..
لعلي ارتاح قليلاً من همي و بكائي في الليالي.. و نحيبي لن ينفع , لكني لا أملك غيره الآن ..
و أتى الصباح التالي وأنا أفزع لرؤية وجهي الشاحب في المرآة.. وعيناي المنتفختين جداً تثيران الرعب..
لا أذكر آخر مرة نظرت بالمرآة و كان شكلي مرتباً جيداً..! ما هذه الحال , ربما لهذا أنا فاشلة مع الناس أمثالي ولا أملك سوى القليل من الأصدقاء...!!
بقيت نصف ساعة في الحمام واضعة الكمادات الباردة على عيني كي يزول الانتفاخ , طرق والدي الباب بقلق فطمأنته بصوت غريب مبحوح..

جلست على الأفطار معه , وجيني تلهو بكرسيها الخاص .. شعرت بنظرات أبي الدقيقة علي.. فلم أرفع بصري لرؤيته , أكملت طعامي بهدوء..
همس فجأة برقة : ما بك عزيزتي.. لم تبدين كعجوز في الخمسين ! بشرتك شاحبة وعليها خطوط الغطاء وعينيك منتفختين..!
قلت ببرود : أن كنت تحاول فتح حديث طيب معي, فأنت تفعل العكس..!
عبس قليلاً ثم أكمل : هيه يا كلاري , أنت تخيفيني طوال الوقت.. منذ مغادرتهم.. أنا أفهم هذا و أراه..
القيت بنظرة هادئة نحوه ثم عدت للأكل , همس برقة : جميعاً نفتقدهم.. وأنا أتذكرهم تماماً.. و ما نفعله الآن هو أن نمضي إلى الأمام..!
بعد دقائق قصيرة , رن جرس الباب فجأة , نهضت قائلة : سأفتح..
لا أعرف من يأتينا الآن , ربما لوك..؟! , لكن صدمت عندما فتح الباب لأجد عينين ذهبيتين دافئتين أولاً و صوت ناعم جميل يهتف : كلارا..
ثم اجدني اعانق بقوة وأنا اشتم رائحة عطرة من شعرها الجميل.. هذا.. لا يصدق.. رفعت رأسي و قابلت عينين كالمعدن البارد ثابتتين علي..
أتى والدي قائلا : كلارا من....؟!
بعد ثوان كنا في الردهة والسيدة داركنس و كذلك السيد بالطبع جالسين على اريكة واحدة طويلة وهي تحمل جيني بحجرها و تضمها إليها بحب شديد..
_ لا شك بأن هذه الملاك جيني.. آووه ما أروعها !
ابتسمت انا بارتباك.. بينما كان والدي أيضاً مندهشاً قليلا , قال بأسف : ليتني أعلم بقدومك , لجهزت طبقاً جيداً من الكعك..
وأنا أتأمل ملامح المرأة الشابة الجميلة الهادئة وعينيها المشابهتين لعيني ابنها , مهلا أين هو..؟!
_ لا أبداً , لا بأس علي .. كنت أود زيارتكم منذ أمد طويل.. لكن آرثر يستمر بالقول بأنكم بخير..
وهي تلقي بنظرة تخفي الكثير من التعب نحو زوجها الصامت بجمود .. سيد الظلام لا يبدو مرتاحاً هه ..!
كان والدي يرد : بالطبع نحن بخير.. أشكرك سيدتي , آمم ليس عليكم القلق..
_ بالطبع !.
تحدث سيد الظلام بنبرة هادئة وهو ينظر نحو والدي , ثم التفت إلي مكملاً : أنا أحاول ابعاد تلك الحياة قدر المستطاع عن طريق حياتكم..
عبست أنا بوجهه و والدي يقول بلطف : لكن.. أين دآنييل ؟!
لم يسأل عن دآنييل كثيراً ! , هذا غريب بالنسبة لأبي.. بينما هما اتيا بدونه , فهو بالطبع لم يرد القدوم..!
تحدثت السيدة فلورا بعبوس : آوه اخبرته أن يأتي.. لكنه لا يبقى كثيراً في المنزل حتى.. يقلقني أنه يعمل كثيراً..
وهي تنظر نحو زوجها , الذي قال ببرود : إن أراد أن يأتي , فهو سيفعل .. أنه دائماً ما يفعل ما يشاء..!
اخفضت بصري افكر , بينما سمعت صوته مجدداً يذكرني : وأنتِ يا كلارا كيف هي حالك , تبدين لي مرهقة ؟!
رفعت عيني نحو عينيه الثابتة الباردة , قلت بتوتر طفيف : لا أنا بخير..
رفع كلا حاجبيه فوق عينيه ذاتا النظرة الباردة الغريبة بينما السيدة فلورا و والدي يتحدثان عن جيني , سألني هو بهدوء :
_ يبدو بأن الأيام لا تتغير عليك كثيراً , أعلم بأن ذلك الظلام يجعلك تكره حياتك .. لكن أن اردت المحاولة , أو لا تفعلي..
قلت بتعب و عيناي تؤلمانني : لا أفهم ما تقول سيدي..
نظر نحو والدي قليلاً , ثم نحوي هامساً : أي نوع من التجارب كانت تلك , أنا لا أؤيد أن تنسي ذلك.. أنه شيء مهم بالنسبة إليك..
منحني نصف ابتسامة مسترخية , ثم نظر نحو زوجته التي تلاعب جيني..
عندما ذهبت للمطبخ , لم انتبه إلا بالسيدة فلورا لاحقة بي قائلة بلطف : لقد انهيت المدرسة تهانينا عزيزتي , مالذي تخططين له مستقبلاً ؟
_ لا أدري.. حقاً, افكر بمساعدة أبي في عمله.. ربما ان سمح لي..
ابتسمت لها بتوتر وأنا أضع الفناجين في المغسلة , أومأت و همست برقة وهي تلمس خدي : آوه تبدين متعبة جداً وهذه الهالات.. أنا أعرف بأن فتاة حساسة مثلك مرت بتلك التجربة لن تكون بخير تماماً.. اردتهم أن يبقوا فترة أطول , لكن آرثر يستمر بالقول بأنه سيراقبكم من بعيد.. و دآنييل أيضاً يقول بأنكم اكتفيتم من وجودهم..
تسمرت.. كنت أشعر بوجود شيء كهذا !!.. قالت هي برقة اكثر وعينيه مشفقة : يظلون لا يشعرون بالارتياح تماماً.. لكن ليس عليهم هذا أليس كذلك ؟!
تنهدت و قلت محاولة جعل صوتي هادئاً طبيعياً : أعلم , نحن نفتقدهم..
عانقتني بلطف هامسة : لا أفهم لما التظاهر .. سأجعلهم يمرون بكم لاحقاً.. وذلك ال دآنييل لا أدري أين يختفي !!, السيد موند بنفسه سأل عنه..!

~

لكن مرت الأيام بسرعة , وأنا لم اعد انتظر أي شيء..

جلست بغرفة الرسم أتأمل لوحات جدي "برآيـن" والسيف معلق جانباً قرب درج أدواته , الضوء الوحيد القادم من النافذة يبدو شاحباً خافتاً , إن الاضاءة سيئة قليلاً هنا , رغم أنها غرفة للرسم.. نظرت نحو لوحة الظل الغريبة.. تذكرت ذلك الظل.. تنهدت حزناً.. قد يكون أسوداً لكنه ذو روحٍ نقية..
مشيت في الخارج بين الأشجار , لكن الوقت ربيع والأمطار خفيفة والجو منعش.. جلست وحدي ثم تكورت وسقطت على جانبي اتذكره , ليس لدي سوى تذكر حديثنا الأخير..
يتحدث عن ترك أثر طيب ! , لقد اختفى و سلب معه عقلي و قلبي , تاركاً فجوة سحيقة مؤلمة في داخلي في نومي و صحوي..

تساقط مطر خفيف , ليته يطفئ الحريق الذي بداخلي... بكيت بصمت ودموع تسيل يائسة للسقوط إلى الأرض.. واحدة تلو الأخرى..
سأبقى هنا إلى أن أتعب أو أجد سبباً لأكرهه !.. هو لا يهتم بما يجري لي حقاً.. ربما كان يشفق علي في النهاية..
اطبقت عيني بألم .. كيف سأكرهك.. دآنييـل ..
شعرت بدوار طفيف.. فتحت جزء يسيراً من عيني المرهقة.. رأيت الأرض بعيدة تتحرك في الأسفل.. ورأسي متكأ على شيء ما.. أنا محمولة !!
طرفت بضعف هامسة : أبــي ؟!.

لكن لا جواب.. باب غرفتي يفتح وأنا انخفض لأتمدد على السرير والغطاء يرفع فوقي.. لا استطيع الرؤية جيداً , ضباب خافت وشخص ما يقف بجانبي..
أنّ السرير تحت ثقله وشعرت بيده تزيح شعري عن وجهي , تنفست بعمق و راحة.. كنت أشعر بالأرض صلبة باردة مؤلمة تحتي لكن الآن بسريري مرتاحة .. تمتمت بإرهاق : أشعر بالألم..
_ آششش لا تتكلمي.. نامي..
ارتجفت شفتي : لا أريد.. رؤيته في احلامي.. أنا أكرهه..
سألني صوت خافت للغاية قرب اذني : من ؟! , مالسبب ؟!
حاولت كتم شهقتي والدموع تسيل مجدداً من عيني المغمضتين بقوة : لقد رميت نفسي من خلفه بذلك المكان.. وهو لم.. لم يعد حتى لأجل أي شيء..!
_ آسـف... ظننتك تنسين .. لكنني نسيت أنك لا تفعلين , كلآرا..
فتحت عيني بسرعة و ألم شديد يتصاعد في جسدي كله.. انحنى ليتمدد بجانبي على السرير فوق الغطاء , اضطررت لالتفت بجسدي لأصدق ما تسمعه أذناي !!... هذا صوته... يا ألهي.. !!
وهذه .. عيناه !!. هاهما أمامي تماماً تبعدان عني فقط مسافة انفينا.. داكنيتين قليلاً , أرى لمعان الذهب الخافت وسط ظلمة الغرفة..
مسح وجهي ببطء بأصابعه ماسحاً اثر الدموع .. بينما أحدق به بصدمة.. قلبي لا يتحرك, ودمي يتجمد..
حركت شفتين : دآنـ..ييل...؟!
_ أنت.. لا تحلمين.... وأنا أيضاً .. لا أريد أن أحلم.. أريد رؤيتك هكذا أمامي..!
وضعت يدي على قلبه الخافق بقوة.. أنه حقيقي.. همست بألم : لا تذهب بعيداً..
_ سأظل أقرب .. آسف.. لكني لا اتحمل العذاب أكثر من هذا..
مد ذراعيه من حولي و ضمني بقوة إليه , وأنا اتشبث به وكأنه حبل نجاة.. أنه حبل نجاتي حقاً من الجنون..
تمتمت مستمعة لصوت قلبه : أحبـك.. دآنييل.. أنا أحبك..
_ كلآرا , ظننتك تكرهيني.. لأني كنت مجنوناً بك.. أحببتك منذ أن منحتك قوتي منذ أن قلتِ أنك تثقين بي.. هل لا تزالين ؟!
_نعم !!
_ غداً سيأتي الرفاق لرؤيتكم.. أننا حقاً سنظل قربكم..
تنفست مستنشقة الحياة أخيراً.. أنه حياتي سأموت من دونه حتماً .. أنه دفئي و دعامتي.. لا أصدق هذا الشعور , بعدما كدت أيأس..
_ لا داعي للقلق الآن.. لا أريدك أن تنتظريني حتى تمرضي كتلك الليلة..! سأبقى قربك يا فتاتي الشجاعة السوداوية..
شعرت بشفتيه تضحكان فوق جبيني.. فابتسمت لأول مرة منذ زمن طويل..
_ أنت.. كنت تراقبني..؟!
_ حاولت ألا أفعل , يوجد الكثير من الحراس.. لكني.. لن استطيع.. أنا أريدك قرب قلبي..!
أظن بأن هنالك مستقبل رائع لي.. سأعيش حاضري وحياتي كلها مع دآنييل الآن.. عائلتي واصدقائي.. والماضي لم.. يكن بذلك السؤ نهاية المطاف..!
هل أنا ايجابية متفائلة الآن ؟!!.
لا يهم.. المهم ... أني سعيـدة ~





النهاية
__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر
رد مع اقتباس