عرض مشاركة واحدة
  #21  
قديم 01-22-2018, 09:30 PM
 
الفصل الثالث.

[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:90%;background-image:url('https://e.top4top.net/p_74644baq2.png');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]

[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:90%;background-image:url('https://e.top4top.net/p_74644baq2.png');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]





يبدُو كُل شيءٍ مُفرغًّا، تائِهًا، غير واضِح. لا تزالُ تقبعُ فِي تِلكَ النُقطَة، حيثُ تستلقِي على رمالِ السَاحِل الذي فتحتْ عينيهَا عليه، لا تزالُ عالقةً في ذلكَ الشلَلْ، في ذلِك الوهنْ، فعقلهَا لم يستوعِب حتَى الآن وقوعهَا فِي الرِقْ، تأخرٌ عصَبِي منعَ حواسّهَا التعلُميّة تمامًا. هذهِ الجمجمةُ المجوفَةُ الخفِيفَة، إلى متى ينوِي ما يسكُنهَا التكاسُل عن العَمَل؟ زفرتْ مُنزعِجة، تراقُبُ الخطواتِ الثقِيلَة لمالِكِهَا دُون أن تحدِّدَ شيئًا تشعرُ بِه، هو لم يتحدّث إليهَا بعدما عرّف بنفسِه، حسنًا هي لم تتوقع شايًا ودردشة وتبادلًا ممتعًا للأحادِيث إلا أنهَا توقّعت نوعًا مُختلِفًا من الألفَة، نوعًا مِن التواصُل.. لكنها لا تدري لما توقعت كُل هذا!

هُو يبدُو كعهدٍ مُنصَرِم، كقصِيدةٍ منسِيةٍ على نافِذةِ بيتٍ مهجُورْ، ظهرهُ العرِيضُ يمثِّل سكُونًا ووحدة، نوعٌ مِن الحُزنِ الشبحِي. فِي سَيرهِ المتوازِن يبدُو فِي عالمٍ آخر، وفِي نفسِ الوقتِ يبدُو مالِكًا لكُلِ شيءٍ حوله، وكأنمَا الطريقُ ينحَنِي تحتَ قدمِيه المُتناغِمتِين. سيِّدُ الساداتْ، ملكٌ دُونَ عرْش.. حقِيقتهُ مُبهَمةٌ وشجِية.

وخِلالَ فكِرهَا.. استوقفتها خصلاتٌ شقراءُ رمادِيَة، هيئةٌ جمِيلة وخطواتٌ خفيفَة مرِحَة، تحرّك جسدهَا تلقائيًا صارِخةً باسم من ظنّتهُ هو: ( سيفُون )! التفتَ الصبيُ المهلوعْ، يراقُبَ من جنّت فظنتهُ شخصًا آخر، هربَ ما أن رأى شعرهَا الأسود وبقيتْ هي متسمرّةً تستوعِبُ أنهُ لمْ يكُن صغِيرهَا سيفُون. بقيّ لي رين معاينًا إياهَا مِن بعِيد، معاينًا الخيبَة، الحزن وخورَ القِوى الذي أودى بهَا لأن تكُون على ركبتِيهَا، هِي تُدركُ جيدًا أنها فِي عالمٍ آخر ولكنهَا تمسّكتْ بأوهنِ قشةٍ للأمل.. دون فائِدة.

دنَى مِنهَا، ولا يزالُ يعاينُ الشعُور الخُلُقِي، مُحللًا إياهُ لمئاتِ الأفكارِ فِي عَقلِه دون أن يتحدثَ عنهَا، أفكارٌ يتِيمةٌ وحِيدَة تتربعُ عرشًا خاصًا فِي عقلِه، لكلٍ منها ذكرى خاصّة أو خريطةٌ ما كونتهَا. ناداهَا بصوتِه السلِس: ( شيفا )، اتبعِيني. تحرّك وهو على درايةٍ بإنها ستتقفاهُ بسرعَة، فلا مكان آخرَ يمكنها اللجوءِ إليهِ في الوقتِ الحَالي. حينمَا أدركَت أنه بدأ يبتعِدُ عنهَا حتَى تحرّكتْ سائِرةً خلفه، لا تُحِبُ الرِق، لكنها لن تُحب أيضًا أن تتحوّلَ إلى حساءٍ ما، أو أسوأ.. إلى كيسِ ملاكمَةً لكل من يتربصُ بهَا.

- أينَ يقعُ منزِلُك؟
سألتهُ بفضُولِ بسِيطْ، لم يُجبِهَا، فباتتُ تراقِبُ خصلاتِه الطوِيلَة التي تتناثرُ بفعلِ سيره حتى أتاهَا ردٌ قصِير: قصرُ عائِلةِ فانغ قرِيبٌ مِن الحدُود، ليس بعيدًا عن هنَا. حسنًا، لم تُرد حقًا أن تسمعَ كلمة قصر، فكلمةُ قصر تعني كبير والكبير يعني مشاكِل أكثر وأكبَر. صمتتْ وتاهَتْ مُجددًا في أفكارِهَا حتى اصطدمتْ بهِ بقوةٍ بعدما توقفَ عن المشي فجأة، شعرتْ وكأنّ أنفهَا قد كُسِر لصلابةِ جسده، التفتَ إليهَا وقال: شعرُكِ الأسود، سيكُون حديث المدينَة، عليكِ أن تحذري في كُلِ مكان، حتى في قصر عائِلةِ فانغ.

كثيرٌ مِن الأسِئلةِ تكوَّنتْ فِي صدرِهَا، إلا أنها بَادرتْ بمَا صنّفتهُ مهمًا: أوليس في عائِلة فانغ المزيد من ذوي الرؤوس السوداء؟. نظراتهُ في تلِكَ اللحظةِ أخبرتها أن الضبابُ لن ينحسِر من عينيه، والضلالُ الذي يقودهُ في أظلمِ بقعةٍ مِن قلبِه لا يكادُ يبقى حبيسًا، فهي تراهُ جيدًا، يحَاوِل أن يكسر جسدهُ ليهرُبَ مِنه. في لحظةٍ ما مِن بعدِ الصمتِ أجابهَا بهدوءٍ: كلا، أنا وحدِي من أملِكُه. أرادتْ أن تستفسِر أكثر إلا أنها آثَرتِ الصمتَ كيّ لا تزعجهُ أكثر.

وقفَ بعد مدةٍ بسِيطَة أمامَ سورٍ ضخمٍ يرتفعِ عشرةَ أمتارٍ عن الأرضْ، يحوِّط مساحةً هائِلَة ويحتِوي في الداخِل صمتًا مُريبًا. اقتربَ أكثر حتَى توضّح البابُ الضخمْ المزينُ بالياقُوتِ والزمرد ويحمِلُ صورة زهرةِ الأقحوانْ، شِعارُ عائِلةِ فانغ. فُتِحَ البَاب ودخَل إلى الداخِل، بقيّت تتأملُ المساحاتِ الخضراءَ الواسِعَة وأشجار الكرزِ التي تملأُ المكان، شاهدت النهر الأبيضَ الصافِي ورائِحَة الريحانِ التي داعَبتْ أنفهَا بحنِّية، ثلاثةُ قصُورٍ كبيرة على الطرازِ الصيني اتخذتْ مكانَها على مسافةٍ ليستْ ببعِيدة، أكبرهَا هو القصرُ الأوسَط.. ذو اللونِين الأبيضِ والأسود.

اصطحَبَها إلى الداخِل وسارَ بها بينَ الأروقةِ الواسِعة والخاوِية، المكانُ صامِتٌ بارِدْ ولا أثر لشخصٍ آخر يعيشُ فِيه. أدخلهَا إلى مكتِبهِ الخاص المملوءِ بالمخطوطاتِ والكُتبِ القدِيمَة والتِي عرفتْ عنهَا لاحقًا بإنها مكتوبةٌ بلغةٍ لم تعد تستخَدَم وقليلونَ هم من لا يزالُون يعرفُونهَا. فكّ عنهَا القيُودَ واتجه صوبَ المِنضدة ليسكُبَ لهَا كوبًا مِن الشاي، ناولهَا إياهُ وأخبرهَا: أشربيهِ. كُل كلمةٍ تصدرُ مِنهُ تبدُو كطلبٍ أكثر من أمر، وهذا ما تستغرِبهُ من نبرتِه الهادِئَة.

- هل من أحدٍ آخر هنا ؟
- كلا، أقطنُ وحدِي في هذا القصر، باقِي العائِلة يقطنُون في القصرين الباقيين.
- هكذا إذن..

محادثةٌ قصِيرةٌ لم يتخللهَا سوى الهدوء التام، استغربتْ كونهُ يقطنُ وحِيدًا فِي مكانٍ ضخمٍ كهذا، تساءلتْ عن سببهِ خلفَ قناعِه اللطِيف. ارتشفتْ الشَاي وبدأ هو بقراءةِ مخطوطةٍ ما كانتْ لا تزالُ ملقاةٍ على مكتبهِ بإهمال وكأنهُ تركها مُسرعًا لسببٍ طارِئ، أُصِيبتْ بدوخةٍ مُفاجِئَة، ترنّحَتْ وبدأتْ تسعلُ بقوة، سقطَتْ على رُكبتِيهَا وقد اشتّد ألمٌ مفاجِئٌ بصدرِهَا حتَى ما عادتْ تستطِيع التنفسَ أو الوقوف، تشنّجَتْ عضلاتُهَا وشعرتْ أن الدمَ الذي يجري في عروقهَا قد بدأ بالغليَان، دنَى منهَا بهدوءِه المعتاد، أمعنَ النظَر إليهَا جيدًا وقد قال بحِدَة: عجبًا، من كان يتوقع؟

ما الذي يتحدثُ عنهُ هذا المجنُون؟ ما الذي وضعهُ في الشَاي؟ جلسَ على كرسيهِ وتحدثَ إليهَا وهي تقاسِي أوجاعًا مُتناوِبَة: شكِيتُ بالموضوعِ حينمَا رأيتُكَ واقِفةً هُناك، من كانَ يتوقعُ مفاجأةً كهذه؟

لا تستطِيعُ التركِيزُ فيمَا يقوله، فصوتهُ مُتضخِمٌ وعالٍ لدرجةِ أنها شعرتْ بانشقاقِ جمجمتِهَا إلى نصفِين إثرَه، بقيَّ معاينًا والدمُ يهرعُ إلى عينيهَا محولًا إياهُما إلى اللونِ القرمزِي، ضاقتْ عينَاه ببرودٍ وحشِي وقد عرفَ أنها مسألةُ وقتٍ حتَى تفْقِدَ وعيهَا. وقد كان مُحقًا فهي لم تعُد تستطِيع رؤيةَ او سماعَ شيء، كُل شيءٍ قد أبتُلعِ مِن الدُجنَة وإلى صمتٍ عمِيق هي خلدَت.

وفِي ديجُور سُباتِهَا القصِير، تحوّل الغليانُ إلى زمهريرٍ عصفَ بكُل خليةٍ في جسدِهَا، صُورٌ عِدَة، مقتطفاتٌ مُلطَخَةٌ مشوشّة تتناوبُ بسرعةٍ كبيرة في عقلِهَا، عيُونٌ حمراءُ قرمزِية مُرعِبة ، ليلةٌ لم يكتمِل فِيهَا البدْر، امرأةٌ بشعرٍ ذهبيٍ تسقطُ مِن السماءِ وثوبهَا الأبيضُ مُلطخٌ بالدماء، يتساقطُ منهَا كبدايةٍ قطراتِ المطر. نيرانٌ تلتهمُ كُل شيء، ضبابٌ مُفاجِئ، ضوءٌ أبيض أكل كُل الموجوداتْ، صوتٌ تكسُرٍ أشبهُ بتفتتِ العِظام، وأخيرًا صورةٌ هادِئة لفتاةٍ لم تكن أكبر من ثمانية عشر عامًا، ذاتُ خصلاتٍ بلونِ اللافندر وعيونٌ فضيّة.

استيقظَتْ بعد بضعةِ ساعاتٍ في غرفةٍ خفِيفةِ الإنارَة، يداهَا مقيدتانِ بالأصفادِ إلى الفِراشْ ولا شيءَ آخر فِي الغرفَة، كانتْ تشعرُ بالدوارِ والعطَشْ ولم تكنْ عيناهَا تريانِ جيدًا، كانتا مشوشتينِ مُرهقتِين كأنهما كانتا مفتوحتِين منذُ آلافِ السنِين. فمهَا جافٌ جدًا وجسدهَا يكادُ يتجمّدُ مِن البردْ، لِمَا فعل ما فعله؟ وما كان ذلك الحُلمُ الغرِيب؟ هِي تتذكرُ رؤية صاحِبة شعر اللافندر أكثر من مرةٍ في أحلامِهَا ولكنهَا لم تكنْ بهذا الوضوحِ قبلًا. نظرتْ صوبَ البابِ المعدنِي، وقد استطاعتْ أن تسمعَ صوت خطواتِه تقتربُ من الباب.

فُتِحَ البَاب، شاهدتهُ يحمِل إبريقًا من الماءِ بينَ يدِيه، دنَى مِنهَا وأشربَهَا كميةً منهُ حتَى ارتوتْ. نظرتْ إليهِ بغضبٍ شدِيدْ، فيما تبسّم بهدوءٍ ليعترف: كذبتُ في شيءٍ قُلته، وأنا لستُ كاذبًا، أخبرتكِ أنّي شكيتُ فِي الأمرِ حينمَا شاهدتُكِ واقِفةً في السُوق، العكسُ تمامًا شكّيتُ حالما سمعتُ اسمَ ( فيرميليون ) من فاهِك..

وما بهِ اسمُ عائلتهَا الآن؟ وقفَ ففكَ الأصفادَ التي تقيدهَا، يا لهُ من شخصٍ غامِضٍ حقًا، نظرَ إليهَا بعيونهِ الناعِسَة وقال: ألم تستغرِبي لون عينيكِ يومًا؟ او اسمَ عائِلتكِ الذي لا يتناسَبُ مع المكانِ الذي تربيتِي فيه؟
أضافَ بعدَ بُرهةَ: آسِفٌ على تقييدِك، كُنتِ تُصارعِين نوبةً مِن الصَرع، مجرّد أثرٍ جانِبي للتعوِيذة التي ألقيتهَا.

لم تُركِز على آخرِ جملةٍ قالهَا. هي تُدركُ أن لون عينيهَا الفاتِحَ جدًا والشبيه بلونِ عيون الذئابِ غرِيب، إلا أنهَا لم تُعطِي الأمر أهميةً قبلًا، أمسكَ بخُصلاتٍ مِن شعرِهَا وقبلهَا بحُزْن، عيونهُ التمعتْ بشجىً كان أعمقَ مِن أن تفهمه، جلسَ بقُربِهَا، نظرَ إليهَا مُطولًا حتَى نطق: الدمُ يحكُم ( شيفا )، والنارُ التي تستعِرُ عمِيقًا فِي احشائكِ لن تنطفِئ أبدًا..

لن تفهمهُ أبدًا! ما الذي ينطِقُ بِهِ هذا المجنُون؟ غيرّت وضعية رقودِهَا وأخبرتهُ بامتعاضٍ شديد: كفاك! كفاكَ غموضًا وأخبِرنِي عمّا تُريده؟ وما الذي تعرِفهُ عنِي؟
ساعدهَا على الاستلقَاءِ مُجددًا، فلا طاقةَ لديهَا على البقاءِ قائِمَة، أغمضَ عينيهِ مُرتِبًا أفكاره ثم أخبرهَا تاليًا: زهرةُ الأقحوانِ ستكُونُ دليلك، فقط لا تكسرِي الزجاج الذي صُنعَ بتضحِية ثلاثة آلافِ روح.

- تضحية؟ ما الذي تتحدثُ عنه؟
ابتسمَ ابتسامةً عمِيقةً مُبهمَة، أغمضَ عينيهَا وقال لهَا: هُنا يعيشُ السحرَة، أنتِ لم تري السحر حتَى الآن ولكنّي سأستخدِمهُ عليكِ لتنامِي..
-لحظة..

وضع يدهُ على جبِينِهَا، شعرتْ بهالةٍ بارِدَة وضوءٌ أزرقُ هادِئ قد خرجَ مِن راحةِ يدِيه، عادتْ للنومِ بعدهَا ليخرُجَ هُو مِن الغرفةٍ مُنتظِرًا بزوغَ فجرٍ جديد، كاسِرًا لهُ روتِين حياتِه الممل.


[/ALIGN][/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]

التعديل الأخير تم بواسطة Crystãl ; 02-08-2018 الساعة 10:05 PM
رد مع اقتباس