عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 09-15-2017, 01:52 PM
 



الفصـل الثانـي
أيمكن أن تعتادني ؟





«إلومي ؟!»

رددت الآنسة باول ترمش في خليط من الدهشة و الحيرة ، و تطلعت إلى الآنسة ديبيترو سائلة بنبرة استهجان :

«ما هذا الاسم الغريب ؟!»

هزت المعنية منكبيها و عبوس خفيف نادر يرتسم على ملامحها

«لا أدري.. » و استدركت بعد لحظة «لكنه لم يخبرنا غير اسمه الأول !»


فتعجبت الأخرى حين لاحظت ذلك ، و عادت سريعا تسأل الطفل مستعينة بالطريقة السالفة :

أشارت بسبابتها نحو صدرها و تحدثت ببطء شديد «أنا .. إميلي .. باول !» ثم أشارت نحوه «أنت .. إلومي .. ؟» مغلفة آخر نبرتها بلكنة استفهام واضحة.


بدا أن الطفل فهم سؤالها ، أو بالأحرى أدرك أن في جوابه السابق نقصا ما . أخذ يفكر و يدير عينيه يمينا و يسارا بسرعة مرتبكة ، لكنه لم يجد في عقله أيما تكملة يمكن أن تملأ الفراغ بعد اسمه ، فاكتفى بالتطلع إليها بعينيه الغارقتين في الحيرة و البراءة.


فأطلقت الآنسة باول تنهيدة طويلة و استقامت واقفة ، و تحدثت الآنسة ديبيترو بالنيابة عنها عاقدة حاجبيها الدقيقين في استغراب :

«ليس لديه اسم ثان .. أو أنه لا يعرفه على الأقل»


و في محاولة أخيرة من الانسة باول التي قلما ما تيأس أشارت إلى الرسالة في يد المديرة و سألته عن كاتبها .. و كما توقعت الأخيرة لم تجن أي جواب ، فما كان منها غير أن زفرت بصوت عال واضح السخط جعل الصغير يجفل و يطرق رأسه في اضطراب أقرب للخوف.

فخاطبتها الآنسة ديبيترو معنفة :

«تمالكي أعصابك إميلي ! أنت تخيفينه !»


ثم انحنت إليه و مسدت على شعره بحنان :

«لا بأس يا صغيري .. إلومي ! ما من مشكلة !»

على الرغم من أنه لم يكن يفهم لغتها ، إلا أن نبرة صوتها الرقيقة المطَمْئِنة أفلحت في تهدئة نفسه المضطربة.


«إن له اسما ثان بالطبع ، كيف لا تعرفانه ؟!»

هتفت السيدة هولت بثقة عارمة و ابتسامة ساخرة تتأرجح على أطراف شفتيها ، فالتفتت الانستان و الطفل بدوره نحوها في تفاجؤ و فضول حتى أضافت و نبرة التهكم في صوتها تعلو :

«لقد جاء في يوم الغربان ، لذا فإن اسمه الثاني يجب أن يكون .. رَيْفِنز/Ravens ! أليس كذلك ؟! إنه يعود إليهم في النهاية !»


كانت جادة في اقتراحها على الرغم من السخرية الطافحة من ابتسامتها و صوتها ، و مع أن اختيارها لهذا الاسم بالذات كان ناجما عن تشاؤمها الصارخ من الطفل إلا أن الانستين اللتين لم توافقاها يوماً في معتقداتها لم تجدا فيه بأسا ، بل ربما كان فيه بعض الملاءمة لإلومي بسبب لون شعره القاتم !


تنهدت الآنسة ديبيترو ، و حين مدت للصغير يدها باسمة و هي تقول :

«هيا تعال معي .. (و قربت يدها من فمها ثم أخذت تحركها كما لو كانت تدس في جوفها طعاما) لتناول العشاء !»

لم يتأخر في قبول دعوتها و وضع يده في يدها الدافئة ، و سار بصحبتها إلى غرفة الطعام ، و بعد لحظات تبعتهما الآنسة باول ، ثم السيدة هولت التي ما فتئت تردد بينها و بين نفسها عبارات الاستياء و التبرم.


عند وصولهم كان معظم الأطفال قد فرغوا من تناول طعام العشاء ، و شرعوا يرفعون أطباقهم و أكوابهم عن الموائد ، ثم يجمعونها على طاولة بجوار الباب و يصفونها فوق بعضها البعض في انتظام و ترتيب ، كل بحسب حجمه و شكله.
أما القلة الباقون -و كان أكثرهم من المراهقين الذين نشؤوا و تربوا في رعاية الآنسة ديبيترو الرحيمة- فآثروا انتظار المديرة حتى تعود و يتناولوا العشاء سوية.

اعتذرت لهم بحرارة و قد خالطها الشعور بالذنب لكونها السبب في تأخير وجبتهم أكثر من ربع ساعة ، و طلبت من السيدة هولت بلطف أن تقوم بتسخين الطعام البارد و تجلب طبقا و كوبا لأجل إلومي.

كانت ردود أفعالهم متفاوتة لرؤية الصغير الغريب ، منهم من بدت عليه الدهشة و أخذ يحملق في فضول ، و منهم من أظهر الاستغراب لكن سرعان ما أدار رأسه و استأنف عمله من أكل و ترتيب صحون ، و آخرون استقبلوه بابتسامة رحبة أو ضحكة مرحة و كان معظم هذا الصنف من الفتيات الكبار ، و ثمة أيضا ثلة صغيرة لم تراع آداب السلوك و أخذت تضحك و تتهكم بصوت مرتفع على لباس الصغير متنافر الالوان.


لم يبد على المعني بالسخرية أيما ضيق أو حرج من اساءتهم ، لأنه ببساطة لم يفهم لغتهم و بالتالي لم يعرف بالضبط عم يتكلمون ، لكن الانستين رغم ذلك لم تتساهلا في نهر المجموعة الأخيرة و تأنيبها بالصرامة اللازمة.


كان في الغرفة ثلاث موائد طويلة تفصل بينها مسافة موحدة و يحيطها من جوانبها الأربع أربعون كرسيا خشبيا ، تجلس كل من الآنستين باول و ديبيترو إلى المائدتين المتماثلتين في الطول و الارتفاع ، أما السيدة هولت فتتحلق على المنخفضة المخصصة للصغار تحت سن العاشرة و التي تم اقتياد إلومي إليها.

سحب له أحد الأطفال اللطفاء مقعدا و جلس غير مسرور بجوار السيدة هولت العبوس التي وضعت أمامه طبقا من الحساء الساخن ، و رغيف خبز ، و كوبا من الحليب ، و ما كادوا يجلسون و ينعمون بوجبة هادئة حتى أطلت مشكلة جديدة !

فقد أسقط إلومي ملعقته للمرة الثالثة و لوث المائدة و نصف وجهه بالحساء الأحمر ، و أوقع رغيف الخبز في الصحن و تلاحقته السيدة هولت متبرمة قبل أن يسكب كوب الحليب بلحظة !

ثم شرعت تنظف ما خلف من فوضى و السخط يفوح من كلماتها و تجاعيد وجهها السمين ، في حين انشغل الجميع عن الأكل و الكلام بمراقبة الصغير غريب الأطوار بعين العجب ، لم يقتصر جهله على اللغة وحدها بل تعدى ذلك إلى آداب السلوك و طرق تناول الطعام .. و ما خفي أعظم !


و بعدما فرغت من تنظيف وجهه تنهدت ، و التقطت ملعقته ، ثم غرفت بها من الحساء و قربتها من فمه قائلة ببرود :

«كُلْ !»


لكنه لم يستجب ، ظل مطبقا شفتيه في أنفة و تقطيبة خفيفة تعلو عينيه ، إن كان في مقدورها إكراه نفسها على إطعام شخص لا تحبه ، فهو لا يقدر و لا يرضى أن يقبل منها تلك المِنَّة ، و إن كانت تشمئز منه فهو يستنكف من مجرد النظر إليها ، هذه الأمور لا تحتاج أن يلقنه إياها أحد ، فهي مغروسة في أعماق نفسه ، متأصلة في جيناته ، هذا ما استخلصته الآنسة باول من نظراته الأبية المصوبة بثبات على وجه السيدة هولت الذي أخذ يحمر و يحتقن غيظا جراء عناد الصغير و ترفعه !


«لم لا تأكل أيها الصغير ؟!»


و انهمك الجميع بلا استثناء في التحديق إليهما في ترقب يحدوه التوتر و الدهشة ، و همت الآنسة ديبيترو بالنهوض و التطوع لمساعدة الطفل و إنهاء المشكلة عند هذا الحد .. لكن الأخير لم يمهلها وقتا ، فقد أشاح بوجهه عن السيدة البدينة في إعراض سافر ، ثم دفع كرسيه و نزل و خرج من الغرفة !


لبرهة من الزمن ظلت الغرفة صامتة ، يد السيدة هولت الحاملة للملعقة معلقة في الهواء ، أفواه الأطفال فاغرة ، و عيون النساء شاخصة ، و كانت الطباخة الغاضبة هي أول من شق جدار السكون بقولها :

«لست أستغرب .. فمنذ متى تأتي الغربان بشيء حسن ؟!»


فأطلقت الآنسة ديبيترو تنهيدة مهمومة يبرز فيها شيء من الحنق و قالت :

«كان عليك أن تكوني أكثر لطفا و أناة يا سيدة هولت ، إنه مجرد طفل صغير !»


ثم دفعت كرسيها هي الأخرى و أسرعت الخطى نحو الباب تتبعها مجموعة من الأطفال بدافع الإخلاص أو الفضول أو حتى الفرار من حضرة المرأتين الأقل تفضيلا في الدار.
لوت السيدة هولت شفتيها في امتعاض ، و عادت تأكل و تتمتم بكلمات متباعدة غير مفهومة ، في حين اعتصمت الآنسة باول بصمت رزين و أخذت تلقب في رأسها أفكارا تنحصر جميعا حول الطفل عجيب الاسم و الطباع .. إلومي.


*****


فيما كانت الآنسة ديبيترو تشق طريقها بعجالة إلى مدخل الدار حيث توقعت أن يتواجد إلومي علق أحد الفتيان الكبار قائلا :

«يا له من طفل ! لم يسبق أن رأيت أحد منا يعامل السيدة هولت بذلك الترفع العجيب و من أول يوم له في الدار أيضا ؟! شيء يستحق الاحترام !»

ضحك و شاركه رفاقه بصدق ، و زمت الآنسة ديبيترو شفتيها في محاولة شبه فاشلة لمنع ابتسامتها من الظهور.

قالت بلهجة تأنيب شبه مصطنعة :

«لا يصح أن تقول ذلك يا كاميرون !»

فأضافت فتاة كبيرة تجمع شعرها الأشقر في ظفيرة طويلة تتراقص وراءها :

«فلنكن صريحين يا آنسة ديبيترو ، السيدة هولت امرأة بغيضة !»

و أردف كاميرون ساخرا قبل أن يسع مديرته الرد :

«بلا ريب جوليا ، تلك البلونة المنتفخة دوما ما تتشاءم مني و تدعوني بجالب النحس ، فقط لأن يوم مولدي صادف اليوم الذي دهست فيه سيارة قطة جارها التي كانت تخلصها من الجرذان !»

ضحكت جوليا قائلة :

«ليتها كانت محل القطة المسكينة !»

نهرت الآنسة ديبيترو :

«لا تقولوا ذلك يا أولاد !»

و هتف مايك عندئذ متخذا صفها :

«أجل ، لا تتمنوا لها السوء ! السيدة هولت ليست بتلك الرداءة التي تصورونها !»

و رد كاميرون بمكر :

«أوه بالطبع كيف غفلنا عن ذلك ؟! لا يجب أن ندعوا عليها يا رفاق ، فهي من ستعد كعكة ميلاد مايكي و بدونها لا كعكة و لا حفلة !»


أخذوا يقهقهون في سخرية في الوقت الذي لوى المعنى فمه و لم يضف حرفا ، يا لهم من مزعجين ! إنهم يفسدون الأمر ، لقد بذل قصارى جهده كي يظل ولدا صالحا حتى نهاية هذا اليوم و يكون أهلا للهدية الرائعة -التي تظاهر بعدم معرفته بأمرها- في حفل ميلاده ، حتى أنه لم يسخر من ملابس إلومي مع أنها بدت في عينيه مثيرة للضحك حقا.


في تلك اللحظة وصلوا إلى المدخل ، لكن الطفل لم يكن موجودا في أي بقعة هناك ، كانت كومة ملابسه الثقيلة ما تزال متروكة على الكرسي العريض المجاور لخزانة الأحذية ، و هو ما طمأن الآنسة ديبيترو ، ذلك أنه يدل أو بالأحرى يقلل من احتمالية هروبه إلى الخارج.

فاستدارت و الأطفال وراءها إلى الرواق الآخر مواصلة بحثها اللحوح.

سألت جوليا فجأة :

«بالمناسبة يا آنسة .. ماذا كان اسمه ؟! أعني الطفل الجديد»

«آه.. إلومي !»

كرر كاميرون متعجبا :

«إلومي ؟! ما هذا الاسم ؟!»

أضاف مايك عاقدا حاجبيه :

«لم أسمع به قبلا ! أهو أجنبي يا ترى ؟!»

قالت جوليا غير موافقة :

«لا أعتقد .. غرابة اسمه لا تعني بالضرورة أنه أجنبي.. » و بعد لحظة من التفكير و الهرولة الصامتة عبر الرواق هتفت بحماس «لحظة.. ربما يكون مشتقا من الكلمة الانجليزية illumination/الاضاءة ، و بذلك يكون لاسمه معنى النور ! ما رأيك يا آنسة ؟!»

اتسعت عينا المعنية في دهشة صادقة

«كيف لم يخطر ذلك ببالي ؟! قد تكونين على حق يا جوليا ! أحسنت التفكير !»

طربت الفتاة لهذا الثناء و ما كادت هي أو الأولاد الباقون يأتون بكلمة حتى مدت الآنسة ذراعها أمامهم آمرة بالتوقف ، ثم رفعت سبابتها إلى شفتيها مشيرة لهم بالصمت.

و حين نظروا قبالتهم عرفوا السبب .. فوق كرسي عديم الذراعين وقف إلومي ، يداه الصغيرتان على إفريز النافذة ، رأسه ينحني نحو بقعة صغيرة شفافة من الزجاج المتجمد ، و عيناه البديعتان ترمقان الجو العاصف في الخارج بتحسر يخالطه الأسى .. لم يمض على وجوده في الدار ساعة واحدة و ها هو الآن يحن إلى الرحيل !

لم تستطع الآنسة ديبيترو و هي تراه على هذه الحال أن تمنع وخز ضميرها على الرغم من أنه لا دخل لها بما ينتاب الصغير من ضيق.


و حل التعاطف محل الهزء في صوت كاميرون حين قال :

«أفهم ما يمر به .. لقد انتابني نفس الإحساس في يومي الأول .. كرهت الدار و تمنيت حقا لو كان لي مأوى آخر ألجأ إليه .. و كنت لأستمر في كرهي و محاولاتي اليائسة للهرب لولا وجود الآنسة ديبيترو !»

وافقته جوليا بابتسامة حزينة :

«أنا أيضا.. »


مكث الأولاد في مواضعهم و تقدمت الآنسة نحو الصغير بخطى خافتة و لم تكد تقف بجواره حتى انتبه و أدار مقلتيه نحوها .. تبسمت له بود و رفعت يدها إلى فمها و حركتها مشيرة إلى فعل الأكل .. لكن لم تبدر منه استجابة مرضية ، و عاد يطل بناظريه من النافذة بذات الطريقة المغمومة.

بدا كما لو أنه كان يترقب ظهور أحد ما ، لكن ذلك الأحد أيا كان لم يفعل ، فأصابه الإحباط و انخفضت روحه المعنوية .

و في غمرة تكدره و تحديقه اليائس أعياه التعب و أثقل النعاس جفونه ، فأخذ يفرك عينيه في محاولة غير مجدية لتنشيطهما ، و انتهزت الآنسة الفرصة لتلفت انتباهه و تضم راحتيها تحت جانب وجهها مشيرة إلى النوم.

لم يظهر أنه فهم الإشارة جيدا ، رفت عيناه بضع مرات في حيرة و تردد قبل أن يقتنع في النهاية بأن مقصديهما واحد ، و يهبط من الكرسي متجها نحوها.


احتضنت كفه الصغيرة بقبضتها الرقيقة و خطت نحو السلالم بعدما طلبت من جوليا أن تحمل ثيابه و تلحق بها.
لم تكن الملابس ثقيلة و لا كثيرة بالنسبة لفتاة في الثالثة عشر من العمر ، لكن كاميرون عرض عليها المساعدة بشهامة جلية الزيف ، فقط كي تتاح له حجة مقنعة لمرافقتهم .. فاقتسم الحمل مع جوليا و سارا معا خلف المديرة و إلومي.

و فيما هما يقهقهان بخفوت و يلقيان الطرف هنا و هناك انزلق جسم ما من جيب معطف إلومي المحمول بين ذراعي جوليا على غفلة منها ، و ارتطم بالأرض الخشبية دون أن يصدر عن ذلك أيما صوت ، و أخذ يرتد فوق الأرضية حتى اختطفته يد سريعة و دسته في جيب !

إن للشر أنواعا ، منها ما يمكن أن تستأصله بالطيبة و التربية الصالحة ، و منها ما يمكن أن تخفف منه أو تحده بالسلوك القويم ، و منها أيضا ما لا يتضاءل و لا يتأثر مهما صنعت ، لكنه يتظاهر بالضمور و ينكمش على نفسه حتى تحين اللحظة المواتية ليكشر عن نابيه و يطل بوجهه البشع.
و من الصنف الثالث جاءت ميول إرني الرديئة ، فحنان الآنسة ديبيترو لم يزده إلا احتقارا و تعنتا ، و صرامة الآنسة باول لم تزعزع شيئا من خلقياته القميئة و لا أفكاره المؤذية ، بل أبقتها خفية غير ظاهرة للعلن ليس أكثر !


تحسس الجسم المكور داخل جيبه .. فتسللت ابتسامة خبيثة إلى وجهه ، و أخذ يرتقي الدرجات مسرعا إلى حجرته.


كانت الغرفة التي وقع الاختيار عليها لتكون مخدعا للطفل الجديد واقعة في الدور الثاني من المبنى ، صغيرة ، مربعة الشكل ، تحتل مساحتها أربع أسرة حديدية على شكل طابقين ، و دولابان خشبيان على جانبي النافذة ، و مدفأة كهربائية ضئيلة الحجم في الزاوية.

اقتيد إلومي من قبل الآنسة ديبيترو إلى السرير السفلي ، أجلسته على حافته ، و فيما تعاون كل من جوليا و كاميرون على ترتيب حاجياته داخل الدولاب الأيمن ، بادرت الآنسة إلى تبديل ثيابه بأخرى قطنية مريحة ، و بعد أن أضجعته في سريره و أحكمت الغطاء حوله طبعت قبلة حانية على جبينه و تمنت له ليلة طيبة ، ثم أطفأت النور و غادرت مع الولدين.

و لم تمض دقيقة على رحيلهم حتى جلس إلومي وسط العتمة ، أخذ يرمق بهدوء باب الغرفة الموصد ثم النافذة و أثاث الغرفة الذي أظله السواد .. ثم تبسم فجأة !


انبطح إرني على سريره العلوي ، و بابتسامة مفعمة برضا هجين التقط الشيء من جيبه و أخذ يتفحصه بنظرة عجب تشوبه الخيبة ، لم يكن الجسم أكثر من كرة زجاجية عادية لا فيها زخرفة و لا ألوان و لا أي شيء مميز !
كان يتوقع شيئا ذا قيمة أو على الأقل أكثر إثارة من هذه الكرة المملة ، فانحسرت بهجته و تضاءلت ابتسامته و الغيظ يتصاعد في صدره

«مجرد كرة سخيفة تافهة !»

و لوح بيده ليقذفها في سلة المهملات وراء الباب .. لكنها لم تسقط فيها ، بل لم تتحرك من الأصل !
انسلت من بين أصابعه و مكثت حيث هي طافية في الهواء !


ارتعد و تراجع للوراء حتى اصطدم ظهره بالحاجز الحديدي لسريره ، جحظت عيناه و انقطع نفسه ، و ما كاد يأت برد فعل آخر حتى تحركت الكرة و ضربته في منتصف جبهته مرة ، و اثنتين ، و ثلاث ، قبل أن تهبط إلى الأرض و تختفي تماما !


لم يجرؤ أن يتحرك أو يدير رأسه أو حتى يطرف .. ظل متخشبا في مكانه ، متجمدا على الوضعية و التعابير ذاتها ، و عندما دخل مايك و رفاقه الحجرة و رأوا ما هو فيه من صدمة غير معهودة سألوا باستنكار :

«ما خطبك إرني ؟!»


لكنه لم يرد .. لم يجرؤ أن يفتح فمه !



******


كان إلومي الصغير آخر من استيقظ في الغرفة ، و لولا فريد الفتى الأكبر بين الأربعة لاستمر في النوم حتى الضحى لشد ما هو متعب معتاز للدفء.

جلس يتثاءب و يفرك عينيه و يراقب في الآن ذاته الأولاد يرتبون أسرتهم و يطرحون ثياب النوم ثم يصفونها في الدواليب ، واتته الرغبة لتقليدهم ، فنزل من فراشه و شد الملاءة بطريقة رديئة ثم فرد البطانية فوقها بصورة غير منظمة أبعد ما تكون عن الترتيب ، و حين أخذ يقارن بين أسرة رفاقه و سريره .. عبس ، و في الوقت نفسه ضحك فريد ثم ساعده على إعادة ترتيبه بشكل أفضل ، و ظل قريبا يقدم العون حتى فرغ الصغير من تبديل ملابسه و غسل وجهه و تمشيط شعره.

لم يكن قد تبادل مع شركائه في الغرفة أي كلمة ، فلا لغة تجمعهم و تشد رباط التواصل بينهم ، و لا يمكن احتساب لغة الإشارة البسيطة هنا لما فيها من اختلافات و نقائص.


أخذ الأطفال يهبطون السلالم ، الفتيان و الفتيات الكبار يقطعونه سريعا لكن في هدوء ، أما الصغار فيتسابقون و يقفزون فوق الدرجات بمرح و نشاط .. باستثناء إلومي طبعا ، كان ينزل درجة درجة بتأن و حذر و يده تمسك بدرابزون السلم بين حين و آخر .. و بدا الأولاد الآخرون منشغلين عن الالتفات إليه إلا واحدا !

يقف على قمة الدرج و يرشق ظهر الصغير بنظرة حقد . كان مرهقا يقاسي صداعا حادا ، فلم يكن قد غفا لحظة واحدة ليلة أمس ، بل لم تواته الشجاعة ليغمض عينيه أصلا بعد الذي رآه ، و كل ذلك بسبب هذا الطفل الغبي إلومي و كرته الزجاجية السخيفة.

تملكه غضب جامح على إثر هذا الخاطر و تمنى لو ينهال على الصغير بعشر لكمات دفعة واحدة ، لكنه كان يدرك أنه لن يستطيع تحقيق مناه ، و بدلا من ذلك باشر بعبور السلم في عجلة و عندما مر بإلومي ركل كاحله بمقدمة حذائه فتعثر و تدحرج ثم سقط على ركبته من الدرجة السادسة.

صرخ بعض الأولاد الذين كانوا على مقربة و تجمعوا حوله كي يروا ما أصابه ، و تسلل إرني من بينهم دون أن يلحظوا الابتسامة المنتشية على وجهه.


و خلال لحظات أتت الآنسة باول مهرولة عبر الممر و جوليا التي تحمل صندوق الاسعافات الأولية تسرع للحاق بها.

جذبت الضجة مايك فأطل برأسه من غرفة الطعام ، و هبط كاميرون -الذي كان قد خرج لتوه من غرفته- درجات السلم في ثانيتين ، و وقف يتطلع إلى الصغير الممسك ركبته بنظرة إشفاق و قلق.

«ابتعدوا !»

شقت الآنسة باول الجموع بصوتها قبل جسمها .. تقدمت إلى حيث جلس إلومي مصابا و ركعت قربه ، ثم كشفت عن ركبته .. فشهق بعض الأطفال و صدر عن بعضهم صوت تقزز ، كانت متورمة تنزف الدماء ، لكن الإصابة رغم ما يصحبها من أوجاع مبرحة لم تكن جسيمة بأي حال .. مع ذلك فقد أدهشها أن وجدت عيني الصغير جافتين تماما ! كان الألم بارزا من تعابير وجهه و عقدة حاجبيه ، لكنه لم يذرف دمعة واحدة ! أي طفل يقوى على ذلك ؟!

التفتت إلى الأولاد سائلة :

«كيف حدث ذلك ؟!»

قالت جوليا متجهمة :

«لا ندري يا آنسة.. لقد سمعنا صوت السقطة فقط»

أيدها الآخرون بالهمهمات و هزات الرؤوس إلا طفلة واحدة اندفعت للأمام و قالت :

«لقد تعثر عندما مر إرني بجواره ، لقد رأيته !»

ردد كاميرون مقطب الجبين في حدة :

«إرني ؟! ذلك الصعلوك الحقير !»

و سألت الآنسة باول بجدية :

«لوسي ! هل رأيته و هو يدفعه ؟!»

فهزت المعنية رأسها في غير ثقة

«لا.. لم ألحظ إن كان فعل..»

فقالت الآنسة و هي تستدير و تصب اهتمامها على إصابة إلومي
«إذن لا تتسرعي في إلقاء التهم ، سنحقق في الأمر لاحقا و سينال الفاعل أيا كان عقابا وخيما !»


استلمت صندوق الاسعافات من جوليا ، فتحته و التقطت زجاجة المعقم و قطعة من القطن ، ثم شرعت ببطء و حذر تطهر جروحه ، و ما كاد السائل المعقم يلامس ركبته حتى أطلق آهة نصف مكبوتة و أغمض عينيه مقاوما الالم.


فجأة هتفت الآنسة في الأولاد :

«ماذا تفعلون هنا ؟! اذهبوا لتناول الفطور !»


فتفرق الأطفال ، غادر معظمهم ، و تلكأ البعض مثل جوليا و كاميرون بحجة تقديم المساعدة ، لكن الآنسة صرفتهم جميعا بلا نقاش.


و في الوقت الذي أخرجت لفافة الشاش الطبي و أخذت تلفه حول ركبة الصغير جاءت الآنسة ديبيترو مسرعة و قلق مصحوب بالخوف يعتلي قسمات وجهها.

حبست صيحة رعب حين وقع بصرها على جراح إلومي نصف المضمدة ، قرفصت بجواره و مسحت على خده مواسية ، ثم نظرت نحو رفيقتها مستفهمة :

«ما الذي حصل ؟!»

تنهدت المعنية عابسة :

«لست واثقة .. لكن يبدو أن أحد الأطفال قام بدفعه من الدرج !»

فشحب وجه الآنسة ديبيترو في رعب حقيقي

«أوه ! من عساه يفعل ذلك ؟!»

«سنعرف قريبا !»


و بعد أن ثبتت اللفافة بدبوس صغير توقفت عن الحركة و أضافت بصوت قلق :

«اسمعي يا ديبورا.. أنا لست مطمئنة لهذا الطفل ، و أرى أن نعرضه على طبيب مختص !»

حدقتها إليها المعنية في دهشة

«و لم ؟!»


«هل أنت جادة في سؤالك ؟! لا أظن أن أحدا في الدار كلها لم يلاحظ غرابة هذا الصغير ، إنه غير طبيعي ! إنه يبدو في الرابعة من عمره أي في السن التي يكثر فيها الطفل الثرثرة ، و مع ذلك فهو لا يتحدث مطلقا ! و لا تقولي لي أن علة ذلك اختلاف اللغة ، هذا ليس مبررا لصمته ، إنه لا يتحدث حتى إلى نفسه ! كما أظنني اكتشفت شيئا جديدا عنه قبل قليل .. هذا الصغير لا يبكي !! (فغرت المستمعة فاها و طرفت في ذهول أخرس) أجل ! أترين إصابته هذه ؟! إن كل ما صاحبها من ألم لم يستل منه دمعة واحدة ! كيف لطفل أن يفعل هذا ؟! حتى كاميرون أنضج الأولاد كان ليصرخ و تدمع عيناه !»


أخفضت المديرة عينيها لحظة ثم عادت ترمق إلومي - الذي انشغل عنها بمحاولة تحريك ساقه - بنظرة طويلة حائرة.















التعديل الأخير تم بواسطة Mygrace ; 09-15-2017 الساعة 04:00 PM