عرض مشاركة واحدة
  #167  
قديم 07-15-2017, 11:21 PM
 

إحساس خانقْ يحيط بقلبه ويأس عميق تأصل بداخله , لم تسعفه الأيام الماضية في معالجة ما يشعرُ به ولم يرحمهُ الفؤاد من سلاسلُ الندم التي تقيدهُ بإحكام .
ترك مسافة شاسعة بينه وبين من يحيطون به من كل جانبِ .. وانغلق داخل زاوية ظلماء خانقه !
كان كمن نزعت روحه من جسده ! فأصبح خالياً من كل شيء .. فقط ما جعله يعيشُ هو قلبه النابض ورئتيه التي تتنفس !
لم يعدْ للطعامِ لذةٌ ولا نكهة .. ولم يرويّ الماء عطشَه !! ..
في كل يومِ ينطوي يختنقُ أكثر ورؤيا مأساةِ قلبه تعادُ مراراً وتكراراً .
انتهى كل شيء بالنسبة له ولم تعدْ تعني له هذه الحياةُ شيئاً . ..
فكانَ آخر قرار ليتحرر من بئسِ مصيره هو أن ينهي صفحة حياته التعيسة تلك .

أغلقَ الكتاب سريعاً دونَ أن يكمل الصفحة الأخيرة التي تنهيّ فيه الرواية التي بين متناولِ يده .. قطبّ حاجبيه بانزعاج شديد ولوى شفتيه كطفلِ صغيرِ يخفي بكاءَ يريدُ إطلاقه.
ـ لا تستحقُ أن تنهي حياتك بالموت بعدَ أن خضتَ فيها الكثير .. كانَ بإمكانك الصمودَ قليلاً أنتَ حقاً أحمق بقرارك هذا .

فُتحَ البابَ وصدرت ضجة أخرجته من انغماسه في سطورِ الكتاب الذي يحتضنه فكان أول ما سمعه هو صوتها الذي يحملُ الكثير من اللوم والذي قطعَ عليه الشعورُ العميق الذي كان يعيشه.
ـ بل أنتَ الاحمق الذي زلتْ قدمه عندما أراد النزول وانتهى بالكسرِ !! .
وضعت بعض المياه المعدنية والوجبات الخفيفة التي أشترتها بكل فوضوية على إحدى الطاولاتِ الصغيرة التي بجانبِ سريرِ أخيها الأبيض .
لمعت عيني ألفريدو بفرح وهو يرى بعض قطع الشكولاتة التي يحبها فلطما كانت هوايته بأن يأكل بعضاً منهما عندما يقرأ أي كتاب .. مدّ يده ليلتقطها متجاهلاً جملتها التي تؤنبه فيها فامتدت يدها لتمنعه من الوصول إليها قائلة بنبرة واثقة .
ـ يجب عليك أن تأكل وجباتِ صحية... أنت مريض الآن .
وضع كتابه بجانبه واعتدل في جلسته أخذَ نفساً عميقاً ونطق بجزع قد تأصل بداخله من كلمة مريض التي أصبح يكرهها بسببها .
ـ أولا لستُ بمريض فقط قدمي كسرت !.. ثانياً ما دخلُ قطعة الشوكولا إن أنا أكلتها ستذهبُ لمعدتي ولن تذهب إلى قدمي !.. .
قال جملته في محاولة واهنة لإقناعها .. ومدّ كلتا يديه كالأطفال عندما يريدونَ بعض الحلوى وحاولَ مرة أخرى أن يستلطفها .
ـ دعيني اتذوقُ قليلاً لعلّ لذاذة الشوكولا وذوبانها في فمي تعطي شجاعة لأكمل آخر صفحة في الرواية حيثُ كيفَ انتحر البطل .

عبست أليسا بفمها بعناد بالغ وحركتْ رأسها نافية ..
هي مقتنعة بقرارة نفسها أنه مضر لصحته بما أنّه في المشفى .. فجميع المرضى في المستشفيات كما تعرفُ عنهم لا يتناولون إلا طعاماً صحيَا معقماً ومقدمٌ من المشفى نفسه .
أدرك ألفريدو أنه لن يستطيع إقناعها مهما حاولَ عدةِ مراتِ فأظهر الاستياء على محياه ورفع الملاءة البيضاء ليغطي بها على رأسه ويُبيّن لها أنه لم يرضى بما قالته ..
لكن ذلك لم يكنْ ذا تأثير عليها فها هي أخذت ما اشترته مرة أخرى في يدها لتبعده عن متناولِ يديه ووضعته في مكان آخر لا تصل إليه أصابعه .. واستلقت على أريكة كانت بالقرب منها .
تنهدَ بعدمِ حيلة فأخته عنيدة بشكلِ لا يكسر ..... لاحظَ تأخرُ بِيْن عنه فقالَ بتعجب من تحتِ الملاءة.
ـ لماذا لمْ يأتِ بِيْن بما أنّه ذهبَ معك ! .

سمعت ما قاله فمددت قدميها على الأريكة لتستريح وبيدها كتابٌ مصور كانت قد أخذته عندما ذهبت للشراء .
ـ أرسلته ليجلب لي بعض ملابسي بما أنّي سأمكثُ هنا لرعايتك .

وكأن صخرة هوت عليه من أعلى جبل ما إن سمعَ إجابتها .. فزع من مكانه ورمى بالملاءة على الأرض , استقامَ جالساً بعدمِ تصديق وهو يتمنى ألفَ مرة أن تكون دعابة منها .
ـ تمزحين أليسَ كذلك ! .

أطلت برأسها وقالت ببراءة تامّة لتجيبه وهي جادة فيما تقول .
ـ كلا ألستَ أخي ! .. إنه واجبي أنْ أقومُ برعايتك .
ضربَ يده على رأسه وأطلق تنهيدهً عميقة .. فلن يحتمل ذلك ..
سيكونُ يوماً صعباً بالنسبة له .. فأخته أليسا لطيفة ومدللة وتتصرفُ بشكلِ طفولي لكنه لن يحتملَ بقاءها معه في المشفى !.. قبل قليل منعته من أكل بعض الشكولاتة فكيفَ سيكونَ باقي اليوم إذاً ..
قطعَ عليه حبلُ أفكاره جملتها التي زادت الطينِ بلة بالنسبة له .
ـ سأخبرُ أبي أنك يوماً ماً ستفكرُ بالانتحار بما أنك تقرأ رواية كان ختامهاُ تلكَ الميتةَ البشعة .
أسقط نفسه على الوسادة وقد نالَ ما يكفيه منها وأخذ ينظرُ للسقفُ وشفتيه تتحركانِ بهمسِ مرددة .
ـ أريدُ أخذ حريتي .. أريد تناول الشوكولا .
نظرَ إلى قدمه اليمنى التي غلفت بجبيرةِ ثقيلة بيضاء وقال بنبرة مضحكة اختلط فيها بعض اليأس .
ـ لماذا كُسرتِ يا قدمي العزيزة .
استقامت أليسا جالسة ونظرت إلى أخيها وقلبها غير مرتاح .. أخذت تدقق النظر إليه.. حيثُ اللصقة الطبية التي وضعت على خده الأيمن وبعضُ لصقات الجروح على أصابع يديه وبحزنِ وتألم ظهرَ جلياً في صوتها نطقت .
ـ هل تتألم كثيراً ! أخبرني إن كان هناك مكان يؤلمك سأحضر الطبيب حالاً .


رأى عيناها التي اتضحت فيها معالم القلق والتي تجلت في جملتها التي قالتها , ابتسمَ بطيبة فهي حقاً قلقة عليه كثيراً وهذا ما لا يريده أبداً ..
لا يريدها أن تشغلُ نفسها بالقلق عليه ولا يريدُ رؤية عيناها الجميلة تلمعُ بالحزنِ ..فكم مرة قامت بتكرارِ نفسِ السؤالِ عليه ..
أخذَ نفساً عميقاُ ليغيرَ من الجوِ الذي صنعته ... ورويداً رويداً بدأت ملامح الألم تظهرُ عليه فقال وهو ينظرُ إليها بمحيّا وجهه .
ـ أنا حقاً أتألم ..
كادّ قلبها أن يقفزُ من شدّة الخوف ما إن سمعت ما قاله .. اقتربت منه وجلست على السرير بقربه تريدُ أن ترى موضعُ الألم الذي يقوله ..
ـ سوفَ أتحسن بما إن أتذوق شيئا ما تملكينه .
عبست بشفتيها ما إن انسابت جملته تلك وظهرت ابتسامته الماكرة على شفتيه ابتعدت عنه معرضة وهي وتحدثت بغضبِ :
ـ لن تخدعني أبداً .
محى التقاسيم المزيفة التي أظهرها وأطلق ضحكاتِ متتابعة فقد استطاع إبعاد لمعة القلق في عينيها.. فلم يكن الأمرُ كبيراً..
كل ما حدث أن تعثر عندما كان يريدُ النزول للطابقِ السفلي فسقط على الأرض وانتهى الأمرُ بكسرِ قدمه واصاباتِ طفيفة لا تذكر .. هو يتمنى من كل قلبه العودة إلى سريره في قصره وقضاء الوقت فيه ولكن رغبة لتحقيق ما أراده والده الذي تلقى اتصالاُ منه وترجاه بالبقاء على الأقل لمدة يومين حتى يطمئن أكثر عليه وهذا ما فعله تماماً .


لم تمضِ فترةِ طويلة حتى جاء بيْن وبيده حقيبة جلدية بنيةِ قد ملأها ببعض الملابس وبعضَ الأغراض المهمة التي طلبها منه سيده ...
كان الجوّ هادئاً عندما دخل بعكسِ ما كان عليه تلفت حلوه فوجدَ أليسا قد نامت على الأريكة بغيرِ شعورِ منها وكذا الحال مع ألفريدو الذي غفى هو الآخر واصبعه على كتاب روايته .
ابتسمَ لرؤيتهما فعندما يجتمع كلاهما تحلُّ الفوضى خاصة من صاحبة المركز الأول الآنسة الصغيرة ..
حملَ ملائة بيضاء ووضعها عليها لتكمل نومها ولم ينسى بأن يحمل وجباتها الخفيفة التي خبأتها بشكل فوضوي بالقربِ منها والكتاب المصور الذي بينَ أحضانها .
خففّ الإضاءة قليلاً وعادَ إلى سيده اللطيف .. مدّ أصابعه بكل حذر حتى يأخذ الكتاب الذي بين يديه ..
كان يأمل عدمَ استيقاظه لكن بعكسِ أليسا .. تحركت عيناه ما إن أحس بحركة قريبة منه وفتحها وأول ما وصل إلى سمعه هو صوتُ بِيْن الهامس الذي يتضح فيه تأنيب الضمير .
ـ أنا آسف على إيقاظك
ما إن وقعت عيناه الناعسة على رؤية بيْن حتى ابتسم واستقامَ جالساً قائلاً بابتسامة لطيفة .
ـ لا عليك .. لم أرد النوم حقاً .

تلفت حوله عندما شعرَ بالهدوء المحيط به فأخذت عيناه تبحثُ عن أخته اللطيفة .
ـ لقد نامت .
ابتسمَ بحنية عندما سمعَ ما قاله بيْن فهو حقاً يحبُ شقيقته رغمَ دلالها المفرط وشقاوتها إلا أنّ لها نكهة مميزة ولطيفة فكم افتقد وجودها عندما سافرت لبعضِ الأيام ..
اطمئن ألفريدو ووجد أنّه الوقت المناسب للبدء بعمله فقالَ بصوتِ خافت لكبيرِ خدمه .
ـ هل جلبتَ ملفاتِ أعمالي ! .
أومأ له واتجه نحو الحقيبة التي أحضرها وبدأ بإخراج بعض الأوراق والملفات المهمة بالإضافة إلى حاسوب شخصي ..
قرّبها من سيده وقبل أن يباشر ألفريدو بعمله قال بكلِ صدقِ تجلى في حروفه مع ابتسامة صافية نقيّة .
ـ شكراً لك بيْن ... يبدوا أن سأثقل عليك هذه الأيام بما أنّ قدمي أصيبت .
أومأ برأسه نافياً .. فلم يتعجبْ من ذلك فلطالما كان سيده لطيفاً معه ومع من حوله وهو يخدمه بكلِ صدق وإخلاص .

بدأ ألفريدو بعمله بكلِّ جديّة في أجواء رائحة المشفى فلن يدعَ شيئاً يعيقُ عمله فعليه أن ينجح في المطعم الذي يقيمُ بإدارته ثمَ سيخطط بفتحِ فروعِ له أيضاً لا زال يفكرُ بمشاريع أخرى فلن يعتمدَ على أبيه فقط .




من ناحيةِ أخرى حيثُ محيطُ عملَ رولند ..
أخذَ يستمعُ لصراخ جايد المزعج بل والأشدّ صخباً ..
كان صامتاً يتنظرُ اللحظة التي يهدأ فيها بركانه الثائر التي يفجره أمامه .. لم يكنْ الأمر جلياُ ولكنّ قذارة شخصية الواقف أمامه هي ما آلت على أن يكونَ في هذا الموقف ..
لم يكن عقلُ رولند أن يحتمل كل ذلك الصخب الذي يصبُ على رأسه بما أن عقله مشغولٌ بعدةِ أشياء أخرى .
ـ أيها الأخرق لقد رأيتها وهي تحاولُ التقرب منك لماذا لم تتقربَ منها !! .. أيضاً الفتاة الأخرى التي كانت تنتظرك في الخارج وقمت بالاعتذار إليها !! جميعهنُ جميلات ألم أخبركَ أن تقدمهنّ لي !! لماذا !! لماذاَ !! .
هكذا أخذَ يثرثرُ بلسانه بدناءة شديدة , جلُّ ما يريده هو أن يكونَ مُحاطاُ بفتيات جميلاتِ شابات بينما مظهره المقرف هو لرجل عجوز ... ما ينقصه هو خسارة كادحة ليتعلمَ درساً قاسياً لكن بدى هذا بعيد المحال .
نطق ليّبين له علّه يخمدُ غضبه وكان ذلكَ من حقه تماماً .
ـ أخبرتك من قبل أني لا أهتم بهؤلاء الفتيات ! مهمتي أن أقومَ بعرضِ بضاعتك ومحاولة بيعها للزبائن أليسَ هذا ما علي فعله !! ... إذا لم يعجبك ذلك فقم بطردي .
صكّ جايد على أسنانه الصفراء المقرفة وهو يستمعِ لرده ذاك الذي يعارضُ محاضرته التي كان يلقيها عليه قبل قليل .
تناولت يده قطعة حلي كانت بالقرب منه فقد تلبسّ به الحنقْ .. وما لبثَ أن رماها بكل قسوة باتجاهه رولند وهو يقول بغضب شديد وصراخ يهزّ المكان .
ـ أنتَ خادمي الآن في هذه الفترة .. لذا نفذ كل ما أطلبه .
ضربة مؤلمة تلقاها في وجهه.. فلم تلتقط عدسة عينه اللحظة التي تنبأ بالخطر فقد حدثَ ذلك سريعاً .
لم يشعر إلا بشيء دافئ يلطخُ أصابعه فأنزل يده لتعكسُ حدقهُ عيناه الجميلة قطراتِ الدم التي تنسابِ من الجرح الذي تسببت به القطعة الفضية التي رماها عليه فقد كانت الضربة موجعة نظراً لكونها على مسافة قريبة .
وضعَ أصابعه على موضع الألم حيثُ جاءت بشكل عرضي من جبهته ونزولاُ بالقرب من عينه حيثُ كادت أن تصاب ..

طأطأ رأسه واختفت عيناه المرهقتين تحت خصلاتِ شعره .. تنهد بعمقِ شديد وتعب مما يحصل له .. هوَ ليسَ متفرغَ لترهاتِ ذلك الشخص المسمى جايد ! يعلمُ يقيناً أنّ هذا ما سيحدث له !! فمن جعله يعمل هنا وتحتِ إمرته هو ميلان !
نطقَ بكل هدوء تجلى في حروفه وكان في عمقُها ثقة لا تهتز .
ـ أنا فقط خادم في قصر آل ماليان وليس هنا .. .

جفلتْ عيني جايد لما حصل .. خصوصاُ لقطرات الدم التي انعكست في عينه و لطخت يدَ من أمامه اقتربَ منه بفزع وقد تلاشى كل صخبه.
ـ تباً .. لقد فعلتها بلحظة غضب .
أمسك بيدِه التي تغطي على جرحه وأبعدها بكل لطف لينظر إلى ما تسبب له فبدا وكأنه للتو قد توشح بصفة اللطف والخوفِ عليه بشكلِ مقزز ... أخذَ يضغط على الجرح ويصرخُ في الموظف الآخر ..
ـ أيها الأحمق الآخر تعالَ إلى هنا بسرعة ! .
لم يكتفي بذلك بل أخذَ ينظرُ حوله بارتباك .. حيثُ جنبات محله الذي انتعش من جديد منذُ مجيء رولند ..فلن ينكر بأن مبيعاته قد ازدادت بشكل كبير مما جعله يقول بكل قلقِ وأنانيه شديدة .
ـ يا إلهي أتمنى بألا يخرب ذلك وجهك الوسيم فيتوقفَ الفتيات الجميلات عن المجيء إلى هنا .
استسلم رولند لما يحدثُ , ولم يعد يشعرُ بوخز الألم الذي أحسّ به قبل قليل ... فروحِ هذا الشخص هي نتنة ولن تتغيرَ بمجرد أحاديث
وأقوال أغلق سمعه عن المحيط الذي فيه وتركَ الأمر كما هوَ فليسَ بمخير وإنما هوّ مسير ..
لم يشعرُ بنفسه إلا وهو جالس على كرسي .. وجايد المريض لا زال يضغط على جرحه وهو يطالبُ بسيارة إسعاف ! .. بينما الموظف الجديد قادم مع حقيبة إسعافات وهو يحاولُ أن يشرحَ أنّه لا داعٍ لحضورِ سيارة إسعاف ! .

__

عادت إلى شقتها وعقلها مشغول على صديقتها أليسا التي لا تعلم لماذا لم تحضر هذا اليوم ! فليسَ من عادتها ..
كان يوما كئيبً بالنسبة لها فالقلق والفضول يسيطرُ على قلبها .. حتى لو أرادت السؤال عنها فليسَ لديها أي وسيلة اتصال ! لا تعلم أن تعيش أو حتى أي شخص على مقربة منها .
أقنعت نفسها بأنها لم يحصل لها أي مكروه وأنها ستلقاها غداً أو بعد غد ..
دفعة من السعادة أنعشت قلبها ما إن رأت عيناها التوأمين قد عادا للبيت مع إيفان وجميعهم قد غفوا بطريقة فوضوية على الأرض .. شقت شفتيها ابتسامة جميلة فلم تكن هناك أي حياة في هذا المكان التي كانت تعيشُ فيه وحيده !! فإيفان لم يأتِ إلا في وقت قريب .. ورولند كان منغمس في أعماله وكأنما هناك وزن كبير وثقل عميق على عاتقه فلم يأتِ لزيارتها إلا نادراً .

محظوظة جداً بطفلين صغيرين لا تعرف عنهما شيئاً فلن تدعهما يعيشانِ حياة حزينة وكئيبة مثلما كانوا هم .. فقد التقطهما رولند في محيطِ دار أيتام كان سيصيرُ بيتهم ومكانهم ! .
حملت ملائة سريرها ووضعتها عليهم .. لم تكن راضية بنومهم في هذا الوقت لكن لا بأس ستوقظهم بعد مرور القليل من الوقت .
وضعت حقيبتها وأخرجت محاضرتها وبدأت في استذكار ما أخذته وقد طمأنت قلبها تماماً بأنه لم يحدث شيء لصديقتها .
__

عند رولند انقضى نصفُ اليوم كالمعتاد فقد عادَ إلى عمله كل ما كان مختلفاً هو عينه اليمنى التي تأثرت قليلاً بما حصل له وتلك القطعة البيضاء الكبيرة والتي غطت على جرحه ...
بينما ازداد مجيء الفتيات الذي كانوا يخرجون بفرحة فشابٌ وسيم طيب المعاملة .. وحسنِ الأخلاق قد اجتذبهم كثيراً في تلك المنطقة التي كان يقلٌ فيها أمثاله ولم تأثر إصابته على عمله قط ! .
كما أن جايد قد تداركَ نفسه قليلاً في التجارة فبعدَ نوبة الغضب تلك ها هو الآن منشغل بجلبِ بضائع جديدة ذاتِ تصاميم جيدة وجميلة .
أنهى ما كان عليه وسلمَ ما فعله بعدَ يومِ شاقِ ومليء بالعمل وقد التزم الصمت الكامل أمام مديره الذي لم يحس بالذنب إلا لأنّه خربَ قليلاً من شكله الوسيم .. بينما هو مقتنع انه كان يستحقُ كل ذلك الجدال والخصام .
أغلقَ المحل مع الموظف الآخر وانطلق لوظائفه الأخرى فالوقت يمضي وعليه أن يجمعَ المال حتى لا يتكرر ما حدث ! .

أخذَ يمشي وحيداً في الشارع بين حشدِ الناسِ وعقله فيه كومة من الانشغال والأفكار فذلك الجرح الذي أصابه لا يعني له شيئاً بل قد نسيّ أمره تماماً ! كل ما يتمناه ويرغبُ به هو أن يستطيعِ اكمال المبلغ المطلوب قبل أن يعود سيده ميلان .
تركَ كل ما هو له خلفَ ظهره .. راحته ونومه وحتى طعامه !! كل ذلك من أجل طفل غريب رأى نفسه فيه ..
قلّ كلامه وتصرفاته صارت تتوشحُ بالغموض والصمت وكأنما هو شخصٌ آخر يستميتُ بالوقت الذي يمضي ..
يشدّ عضده فجراً ولا يعودُ إلا متأخراً ولا يغفو إلى قليلاُ .


__


وفي المشفى كانَ يوماً مختلفاً على ألفريود الذي لا زالَ ملازماً السرير .. فقد امتلأت الغرفة بأنواع الهدايا ومختلف الورود والزهور الملونة .. كان يومه حافلاً ما إن فتحَ باب الزيارات فأكثر من شخص قد جاء إليه ..
خرجَ آخر شخص كانَ على معرفة سطحية به فكل ما يعرفه أنه صديق لوالده .. فأغلب من أتى هم أصدقاء والده الذين على مقربة منه سواءُ في تجارات أو صفقات أي في مجالاتِ العمل ...
طرقَ الباب بخفة فاستقام جالساً من جديد للزائر القادم ... ما إن رأت عيناه من جاء حتى اتسعت ابتسامته كثيراً فلم تكن سوى السيدة روزا التي تحملُ سلة كبيرة من الورد الاحمر وبجانبها جولي الخجولة التي كانت بينَ يديها شيئاً ما بدى كمغلف حلوى .
وضعت السيدة روزا سلة الورد على الأرض بجانب السرير بما أنها لم تجد مكاناً لتضعه نظراً لازدحامِ كل زاوية بالهدايا .. جلست بقربه وبابتسامة مطمئنة وهي تنظرُ إليه قالت :
ـ كيف أمسيت أيها المدير ! .

بابتسامة سعيدة أجاب وهو يكادُ يطيرُ فرحاً بهذه الزيارة التي ينتظرها :
ـ أنا بخير .. أعتذر عن غيابي هذا اليوم .
أومأت برأسها نافية ونطقت لتزيح عنه شعور الذنب .
ـ لا تقلق كل شيء يسير بسلاسة فقط ارتح قليلاُ .. تعلم أن الكسر لن ينجبر بسرعة !! يحتاج لأكثر من شهر حتى يُشفى .
اقتربت جولي منه وناولته ما في يدها الذي كان مربوطاً بشرائط حمراء وهمست بصوتِ لطيف خجول .
ـ أرجوا لك الشفاء ...
نظرَ لما أعطته إياه حيث كانت ألواح شوكولا متعددة وبحشواتِ مختلفة ومن نوعه المفضل أيضاً فصرخ بسعادة وهو يضمها لصدره .
ـ وأخيراً .. .
أخذَ يختلسُ النظر للباب بقلق شديد وعندما اطمئن ناولها مرة أخرى إلى جولي وقال لها بكل حذر .
ـ قومي بإخفائها قبل قدوم أليسا .
أشار بإصبع يده إلى زاوية في الغرفة وأتبعَ قائلاً .
ـ هناك خبئيها حتى لا تلاحظ .

أومأت له جولي ببراءة وهي لا تعلم لماذا يفعل ذلك .. وقامت بإخفائها جيداً كما طلب في المكان الذي أشارَ إليه .
أطلق ألفريدو تنهيدة عميقة وكأنه للتو قد أنهى مهمة صعبة وتكللت بالنجاح ... وسريعاً ما قال بنبرة طفولية ليبينَ لتلك العيون المتسائلة ردة فعله .
ـ سوفَ ترسلها أليسا إلى القصر كما فعلت بالبقية !! تريدني أن آكل فقط بعض الفواكه والأكل الصحي .
ضحكت السيدة روزا لذلك وتبعتها ابتسامة جولي التي جلست بقربها

وهكذا بدأوا بالأحاديث الممتعة والشيقة .. فشخصية ألفريود وابتسامته الجميلة التي لا تفارقه قد اجتذبتْ كل شخص وجعلته محبوباً من الكل .. كذا الحال مع السيدة روزا وجولي الصغيرة اللتان تعملان معه في مطعمه ...
ولم ينسى أن يسأل عن إيفان وكيفيه عمله بما أنه لا زالَ جديداُ فكانت الإجابة بأن طمأنته السيدة روزا بأنه يعمل جيداً وهو حالياً في مناوبة عمله ...
انغمست جولي بقراءة الكتاب المصور الذي جلبته اليسا من قبل والتي لم تأتِ حتى الآن .. وسرعان ما جاء والدها للاطمئنان عليه
فكان نهاية اليوم حافلة بالنسبة له فقد كانت آخر زيارة له ..


___


في الثلثِ الأخير من الليل عادَ بعد يومِ شاق كسابقيه .. وجدَ باب الشقة مفتوحاً فدخل إليها رغم القلق الذي شعرَ به من تركَ ميدوري الباب مفتوحاً له حتى آخر الليل .
وجدها نائمة كما هي العادة بقربِ الأريكة بانتظاره فشعر بالندم يتسلل إليه .. فمكوثه وعمله في قصر آل مليان أفضل من أن تنتظره كل ليلة على هذا الحال .
اقترب منها وجلسَ بقربها .. وأخذَ ينظرُ لوجهها النائم , خصلاتِ شعرها التي انسابت على جبينها .. خدّيها المتوردة كذلك تنفسها الهادئ .
.. ميدوري .. هذه الفتاة التي كبرت بينَ ناظريه كانت إضافة جميلة لحياته البائسة في ذلك المكان العفنِ .. والذي لم يكن من المفترض أن يكونَ ملجأ لطفلة مثلها ..
حياةِ اليتمِ والقهر حيثُ انعدام الوالدين وحصارهما تحتِ رحمة الشخص الذي ارتبطت به بطريقةِ نحسِة قادها إلى ذلك القدر .
حملها بين ذراعيه ليعيدها إلى سريرها ..
شعرت به .. بشخصِ تحملُ كل الحب له .. لمسة يده التي أحست بها جعلتها تدركُ من هو .. بدأت بفتحِ عينيها وأول ما رأته هو وجهه الذي لم تره بشكلِ واضح بسببِ خفوتِ الأضواء من حولها ..
ـ مرحباً بعودتك .

ابتسم بكل حنان لصوتها الناعس وعاود المسير حتى يوصلها إلى سريرها فلا يريدُ للنومِ أن تنقطعَ جميعُ حباله منها ..
تشبثت به وأمسكت بملابسه بكل رفق بأصابع يدها وقد غمرتها سعادة دافئة .
وضعَ رأسها على الوسادة وغطاها بالملائة .. وقبل أن يحركُ قدميه ذاهباً شعرَ بأصابع يدها التي أمسكت بملابسه .. دنى منها بكل رفق فنطقت قائلة .
ـ أبقيتُ لك بعض الطعام .

أومأ لها برأسه موافقاً .. ورفعَ يديه ليغمضَ عينيها حتى تنام مجدداً
مشى بخطواته مبتعداً ولم ينسى بأن يلقيّ نظرَ للتوأمين اللذينَ كانوا نائمين بعمق .. تمنى من كل قلبه أن ينام بينهما ويقبلَ وجنتيهما ولكن لأنه لا يريد لميدوري ملاحظة ما حدث لوجهه .. قرر الابتعاد سريعاً .
جلسَ على الأريكة التي بالخارج وأخرج النقود التي حصّلها .. أخذَ يقومُ بعدها مع تلك التي حصل عليها من قبل .. اطمئن قلبه وهمسَ بخفوت.
ـ لم يتبقى إلا القليل .

أسقط نفسه على الأريكة بعد أن خبأها عله يحصل على بعض النوم حتى يحين موعد الفجر .. وضعَ يده على موضعِ جرحه ولمعت عيناه بقلق ِ فلن تختفي تلك اللمعة حتى يقضيّ حاجته التي وكلّ بها نفسه ..
أغمضَ عينيه مستسلما للنوم بعد يوم شاقِ ومتعب وهو لا يعلم ما يخبأ له الغد من أحداث
حيثُ ميلان الذي أخذَ يستعدُ للعودة !! .




[نهاية الفصل السادس عشر]


اعتذااااار كبير على الانقطاع الطويل الذي دام مطولاً
ولكن مع عودتي اعدكم بأن اكملها حتى النهاية .
رد مع اقتباس