عرض مشاركة واحدة
  #24  
قديم 02-05-2017, 11:25 PM
 

الفصل الخامس والعشرون


لا مزيد


كانت نانسي وحيدة عندما استيقظت صباحا ..هبت مجفلة فوق السرير .. ونظرت حولها بتوتر عبر الغرفة الفارغة .. ثم ضمت الملاءة إلى جسدها العاري وهي تستعيد بذل ذكرى ليلة الأمس .. لقد استسلمت له تماما .. منحته نفسها روحا وجسدا بكل ضعف وخضوع .. ما حدث بعد ظهر امس داخل شقته قد تكرر مجددا وهذه المرة برضاها التام .. وبدون أي ضغط منه .. صحيح ان الأمر كان مختلفا .. إذ غمرها محمود بمشاعره العاصفة والعنيفة وكأنه بفرغ كل يأسه وإحباطه اللذين استمرا طويلا .. لمساته المتلهفة كانت بعيدة تماما عن الحنان رغم كلمات الشوق الجارفة التي أمطرها بها
لقد فعلها مجددا .. أليس كذلك ؟ لقد أثبت لها من جديد الصورة التي يراها فيها .. ودون حتى أن تعترض هذه المرة
هل نجح محمود في ترويضها اخيرا؟ .. هل انتهت نانسي راشد التي عرفتها لعشرين عاما وبدأت أخرى بالكاد تبدو مثلها ؟
جرت نفسها من السرير جرا وقد استخرجت ما تبقى داخلها من قوة وكرامة .. ودخلت إلى الحمام بقرار ضعيف بالاستمرار في المقاومة .. أي شيء .. أفضل بالتأكيد من الحطام الذي بدأت ترى نفسها تتحول إليه
لا .. نانسي راشد لا تستسلم بسهولة .. أليس كذلك ؟
مشطت شعرها المبلل خلف رأسها .. وارتدت فستانا أزرق بسيط التصميم .. بالكاد تمكنت من وضع شيء من الزينة على وجهها بيديها المرتعشتين .. فمواجهة محمود ثانية تتطلب منها القوة والشجاعة .. خاصة بعد ما حدث بالأمس .. تمنت لو أن اليوم لم يكن عطلته الأسبوعية .. تمنت لو تنزل إلى الأسفل لتجد أنه قد ذهب إلى الشركة لسبب طارئ .. ولكنها ستواجهه عاجلا ام آجلا .. ولتكن المواجهة بين افراد العائلة حيث يمكنها التسلح بحرصها على مظهرها امامهم .. بدلا من محاصرته لها بين أربعة جدران فتفقد قوتها مجددا أمامه
نزلت الدرج ببطء وهي تنظر حولها بحذر .. لم تر أي شخص بعد وكأن أحدا لم يستيقظ رغم تأخر الوقت .. وجدت غرفة المكتب مفتوحة .. فسمعت صوت محمود يتحدث إلى شخص ما مما جعل قشعريرة قوية تسري في جسدها .. رغم رغبتها في الهرب بعيدا عن طريقه .. إلا انها لم تستطع مقاومة إلقاء نظرة سريعة نحوه دون ان يشعر .. وكأنها ترغب في النظر إليه وقراءة مشاعره قبل أن تواجهه
اقتربت بحذر وهي تدرك من كلامه بأنه ليس وحيدا .. ولم تعرف إلا متأخرة بان محدثه لم يكن إلا ريم .. تراجعت إلى الخلف وهي تكتم فمها بيدها كي لا تطلق صرخة ألم مدوية تهز أركان المنزل .. وبدون ان تفكر .. قفزت تعتلي الدرج نحو غرفتها مجددا .. حيث اخرجت حقيبة كبيرة من داخل الخزانة .. وبدأت تلقي فيها أغراضها كالمجنونة .. قبل أن يخذلها جسدها المرتعش .. وينهار أرضا في نوبة بكاء مريرة عجزت عن السيطرة عليها .. لقد راته بعينيها هذه المرة .. لم تكن إحدى أكاذيب ريم 00 أو إحدى شائعات الكلية .. لقد رأت ريم تجلس في حجره على مقعده الجلدي الكبير .. قبل أن يتبادلا تلك القبلة الساخنة غير مدركان لمراقبتها لهما
ما الذي تنتظره بعد أن رأت خيانته بأم العين ؟ ان يصارحها بها ؟ ما الذي تبقى لها في هذا المكان ويوقفها عن الرحيل ؟ حبها لمحمود ؟ فلتحل اللعنة على هذا الحب إن لم يكن يستحقه .. وإن كانت ستدفع ثمنه من كرامتها وكبرياءها
تمالكت نفسها .. ومسحت دموعها وقد اشتدت عزيمتها .. ونهضت تتابع بإصرار جمع حوائجها الضرورية في الحقيبة .. حتى انها لم تشعر بمحمود يدخل إلى الغرفة وينظر مذهولا إلى ما تفعله .. انتفض جسدها عندما دوى صوت انصفاق الباب العنيف .. ودوى صوت محمود يصرخ بحدة :- ما الذي تفعلينه ؟
نظرت إلى غضبه الشديد واستنكاره .. فلم تستطع إلا ان ترى ريم بين أحضانه تقبله بشغف .. فتماسكت وهي تقول بعنف :- كما ترى يا محمود .. أنا راحلة .. لن ابقى في هذا المكان دقيقة واحدة .. سأتركك وأطلب الطلاق لأنني لن أستطيع العيش معك اكثر
قطع المسافة بينهما ليمسك بذراعيها ويمنعها من إكمال ما تقوم به ..وهزها بقسوة صائحا بغضب :- انت لم تذهبي إلى أي مكان .. وأنا لن اطلقك أو أسمح لك بالرحيل .. انت ستبقين هنا ما دمت انا اقول هذا
حاولت التملص منه وهي تصيح :- بل ستطلقني يا محمود .. وأنا سأغادر هذا المكان وبلا رجعة هذه المرة
شدها إليه وهو يقول من بين أسنانه :- إلى أين ستذهبين ؟ فأنت لا تملكين مكانا تلجئين إليه سوى هذا المنزل .. أنا هو وسيلتك للعيش بكرامة يا نانسي أم انك نسيت
تذكيره لها بطريقة زواجهما جعلها تفقد أعصابها وتصيح بجنون :- كرامة ..رامة بقيت لي في العيش تحت سقف منزلك الكريه يا محمود ؟ ..أفضل الف مرة ان أجوب الشوارع متسولة اللقمة على ان أعيش معك لحظة أخرى .. لقد سئمت .. سئمت من كل شيء .. من عجرفتك وغرورك وخيانتك الصريحة لي .. من نظرتك الدونية التي لن تتوقف أبدا نحوي .. من عائلتك التي أكلها الغل والحقد.. عمتك التي كرهتني لظنها بانني سأحتل مكانها كسيدة للمنزل .. ريم المتربصة بك في الزوايا تنتظر دورها كأي ساقطة رخيصة كي تنال نصيبها منك .. عمك الغامض الذي لا يكف عن منحي ذلك الإحساس بانه يكيد لي .. لقد سئمت .. سئمت ولن احتمل هذا الوضع أكثر
لم تعرف بانها استغرقت في احتقاره وعائلته حتى هوت كفه على وجنتها تصفعها بقوة كادت ترميها أرضا لو لم يكن ممسكا بها .. اتسعت عيناها رعبا عندما كادت نيران الغضب الملتهبة في عينيه تحرقها .. راقبت كلماته القاسية وهي تنساب من فمه :- أنت لا تتعلمين يا نانسي .. مهما حدث تظلين تلك الفتاة المغرورة والمتكبرة السليطة اللسان التي تحتقر جميع الناس وتمعن في إذلالهم ناسية بأنها ابنة لص حقير مات في السجن .. وأنها لولا إحساني لسلكت طريق والدها نفسه بحثا عن الرفاهية ورغد العيش اللذين اعتادت عليهما .. إياك أن تهيني عائلتي مجددا يا نانسي لأن ظفر أصغرهم يساوي لدي كل ما تملكين
أحست نانسي بثقل كبير يطبق على أنفاسها .. وبطنين يدوي في أذنيها .. وغثيان قاومته حتى اللحظة الأخيرة وهي تضربه بقبضتيها على صدره بكل ما تبقى لديها من قوة وهي تهتف بانهيار :- إياك أن تتحدث عن أبي ..أنا أكرهك .. أكرهك
لم تسمع ما قاله محمود ردا على تصريحها .. فقد لفها الظلام خلال لحظة .. ووجدت نفسها تغرق بدون مقدمات في عالم اللاوعي


فتحت نانسي عينيها دفعة واحدة وهي تشهق مذعورة .. للحظة .. ظنت بأن كل ما حدث كان كابوس مريع .. تصريحات ريم الفظيعة .. إذلال محمود لها وقسوته عليها .. المشهد الغرامي الذي جمع بين ريم ومحمود .. خاصة عندما وجدت نفسها نائمة على سريرها ترتدي أحد قمصان نومها الدافئة .. بدون أي أثر حولها للحقيبة التي بدأت بتوضيبها .. إلا أن وخزة الألم في خدها أفاقتها على الواقع .. ما حدث لم يكن حلما .. كل لحظة مذلة عاشتها على يدي محمود كانت حقيقة .. الشعور بالألم القاتل عاد ينهشها مجددا وهي تتذكر كل ما حدث .. انتهاءا بصفعة محمود القوية .. كلامه المهين .. مهما فعلت .. فهي لن تضاهي قيمة عائلته لديه .. وريم ستبقى دائما بينهما مهما حاولت إبعادها
نهضت بسرعة .. وبدلت ملابسها بيدين مرتجفتين .. ارتدت أول ما وجدته أمامها .. سروالا من الجينز .. وكنزة زرقاء .. نزلت الدرج بحذر دون أن تصدر أي صوت .. سمعت صوت محمود فتجمدت مكانها .. ارتجفت أوصالها وتزايدت سرعة أنفاسها وهي تسمعه يتحدث من غرفة الجلوس بشيء من الانفعال .. تجاوزت الباب بسرعة نحو باب المنزل .. وخرجت لتجد حنان برفقة مأمون .. يتبادلان الحديث أمام السيارة .. التفت الاثنان نحوها متفاجئين من وجودها .. قالت حنان بقلق رغم اللون الوردي الذي كسا وجنتيها :- ما الذي تفعلينه هنا يا نانسي ؟ لقد قال الطبيب ....
أسرعت نانسي تقاطعها بحدة :- ما الذي تفعلينه أنت هنا ؟ تثرثرين مع السائق وكأن لا عمل لديك تأخذين عليه أجرا
فتحت حنان فمها مذهولة من الهجوم المفاجئ . . في حين التفتت نانسي نحو مأمون قائلة :- أنت .. جهز السيارة
قال بارتباك :- آه .. نعم .. سأبلغ الدكتور محمود ثم ...
قاطعته صارخة بجنون :- هل تجرؤ على معارضتي ؟ أقسم بأنني إن لم تتحرك في هذه اللحظة وتنفذ ما أقول سأصرخ كالمجنونة متهمة إياك بالتحرش بي
نقل نظرات الذهول بين نانسي وحنان التي أومأت له بعينيها مؤكدة بان مخدومتها لا تمزح ... فأسرع يجلس خلف المقود مستسلما وهو يدعو الله ألا يخسر وظيفته .. بينما جلست هي في المقعد الخلفي وهي تتذكر المرة السابقة التي غادرت فيها البيت على إثر صفعة محمود .. هل كان عليها أن تعرف منذ ذلك اليوم الاتجاه الذي ستسير عليه علاقتهما ؟ هل كان عليها ان تغادر البيت بلا رجعة منذ عرفت الشكل الذي يراها فيه محمود .. والسهولة التي فضل فيها ريم وعائلته عليها ؟
كانت ترتجف وهي تخفي وجهها بيدها .. دون ان تدرك كم كانت تبدو شاحبة وضعيفة لمأمون الذي أخذ ينظر إليها عبر المرآة بقلق دون أن يجرؤ على قول كلمة .. طلبت منه التوقف فور دخوله المدينة .. وترجلت من السيارة غير مبالية بصراخه ومحاولته اللحاق بها ليعرف وجهتها .. أو وقت عودتها .. استقلت اول سيارة أجرة وانطلقت بها بعيدا عن الرجل الذي حاول العودة إلى سيارته ليتقفى أثرها بعد فوات الأوان .. إذ كانت نانسي قد اختفت تماما من أمام عينيه .. فلم يجد امامه غير الاتصال عبر هاتفه بمحمود ليبلغه بالأخبار السيئة
وقفت نانسي شاردة الذهن على أحد الأرصفة تراقب السيارات الرائحة والغادية .. والناس تسير من حولها دون ان تشعر بهم . حتى سمعت صوتا مألوفا يقول :- نانسي !
التفتت نحو ماهر الذي نظر إليها بقلق وهو يقول :- لقد أتيت بأسرع ما استطعت .. ما الأمر ؟
رؤيتها لماهر الحبيب .. بالعقدة الدائمة بين حاجبيه ..في عينيه .. جعلت ألمها يتجدد مرة أخرى .. ارتجفت شفتها السفلى .. وتدفقت الدموع من عينيها .. ووجدت نفسها تندفع نحوه رامية نفسها بين ذراعيه وهي تبكي بمرارة أجفلته وأثارت ذعر وهو يمسك بها ويقول :- نانسي ما الذي حدث ؟
لاحقا .. وداخل أحد المقاهي المتواضعة .. طلب لها ماهر شرابا دافئا عل ارتجاف جسدها يتوقف .. ثم نظر إليها منتظرا بصمت أن تفضي ما لديها .. بينما أمسكت هي بالكوب الساخن يديها تنظر إلى السائل الذي تصاعد منه البخار وكأنها تبحث عن طريقة تبدأ بها حديثها .. فلم تجد إلا أن تدخل مباشرة في صلب الموضوع :- لقد تركت منزل محمود يا ماهر.. ولن اعود إليه مجددا
صمت ماهر لدقيقة كاملة لم تجرؤ خلالها على النظر إليه .. حتى قال بهدوء :- أهو من سبب لك هذه الكدمة ؟
امتدت يدها تلقائيا نحو موضع الصفعة وقد احمر وجهها إذلالا للذكرى .. عادت الدموع تتجمع في عينيها فمنعتها بعزيمة من الانهيار .. وتمتمت :- وهل يشكل هذا فارقا ؟ حياتي مع محمود قد انتهت .. أي تفاهم بيننا مستحيل تماما .. وأنا أفضل أن أموت أولا قبل أن أعود إلى ذلك المنزل
قال بلطف :- ألا تستطيعين إخباري بأي شيء ؟ سيريحك هذا قليلا .. وأنت تعلمين بأنني مستمع جيد .. كما أنني لن أستطيع مساعدتك إن لم أفهم الموضوع
هزت رأسها وهي تغمغم :- مشاكلي مع محمود أكبر من أن تشرح بالكلمات .. كما أنني لا أبحث عمن يفهم مشاكلي ويحاول حلها لي .. ما أريده هو ان أنسى محمود تماما وكانه لم يدخل إلى حياتي يوما
تأمل وجهها الشاحب بإمعان .. وقارن نانسي الجالسة أمامه بتلك التي عرفها لسنوات .. نانسي الجميلة الفخورة والقوية .. الفتاة الجالسة أمامه لم تكن إلا نسخة باهتة عنها .. ما الذي فعله محمود فاضل ليدمر نانسي راشد وقد فشلك كل ظروفها في تحقيق هذا ؟
تمتم :- ما الذي تنوين فعله الآن ؟
وضعت الكوب من يدها قائلة بتوتر :- لا أعرف .. لم أفكر بالأمر عندما خرجت من هناك .. كان همي الأكبر هو الرحيل قبل أن يتمكن محمود من منعي .. كل ما أردته هو ترك ذلك المنزل حتى وأنا اعرف بانني لا أمتلك مكانا يأويني .. حاجتي إليه هي ما أبقاني معه كل هذا الوقت .. حتى انه ...
احتبست الكلمات في حلقها إذ لم تستطع أن تواصل الكذب .. فما أبقاها لم يكن حاجتها إليه .. بل حبها له .. حبها الذي لم يستحقه أبدا
كتمت فمها بيدا كي لا يخرج النشيج منه .. بينما انهمرت الدموع بلا توقف مما جعل ماهر الذي لم ير نانسي باكية حتى عندما توفي والدها .. يرتبك ويعجز عن قول أي شيء لمواساتها .. تركها تفرغ مافي داخلها للحظات قبل أن يقول :-
هيا بنا يا نانسي .. لنذهب من هنا
مسحت دموعها وهي تهمس :- إلى أين ؟
:- أنت لست مضطرة لإخباري بمشاكلك مع الدكتور محمود يا نانسي .. ولكن إياك أن تفترضي عدم وجود من تلجئين إليه في الأزمات .. أنا معك دائما .. وبيتي مفتوح لك في اي وقت تريدين ... أنت ستأتين معي .. وتمكثين مع والدتي وشقيقتي حتى ترتبي أمورك كلها
نظرت إليه بارتباك إذ كان اللجوء إلى أي أحد لطلب المساعدة أمر جديد عليها .. ولكنه لم يترك لها مجالا للتفكير والتردد .. وقف راميا حفنة من الأوراق المالية على الطاولة .. وقال لها بحزم :- هيا يا نانسي .. أنت متعبة وبحاجة لنيل قسك من الراحة
لم تجادله أكثر .. فقد كانت بحاجة شديدة لإيجاد صدر حنون يحتويها ويحميها حتى من الرجل الذي تحبه بجنون . وقد وجدت هذا الصدر لدى ماهر كالعادة ..
مجددا يثبت لها ماهر بأنه الشخص الوحيد الجدير بصداقتها واحترامها .. شعرت بالراحة والاطمئنان وهي تقف .. وتسمح له بالتربيت على كتفها برفق أثناء خروجهما من المقهى في اتجاه سيارته الحمراء الصغيرة .. في اتجاه المجهول

__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر