عرض مشاركة واحدة
  #22  
قديم 02-05-2017, 11:17 PM
 
الفصل الثالث والعشرون


إلى الأرض



انتهت الأيام الثلاث وكأنها حلم .. وعادت نانسي مع محمود إلى البيت في مساء اليوم الرابع وهي تشعر بالحزن لانتهاء شهر العسل الرائع الذي قضته مع محمود .. لقد ظنت بأنها لا يمكن أن تحب محمود أكثر مما فعلت ولكنها كانت مخطئة .. الأيام التي قضياها معا أثبتت لها بأنها لا تحبه فحسب .. بل تعشقه بجنون .. كانت سعيدة جدا وهي تنام فوق صدره بعد أن عادا إلى البيت .. وأكثر سعادة عندما قال لها :- أنا أكثر منك أسفا لانتهاء عطلتنا يا عزيزتي .. أعدك برحلة أطول قريبا ..
صباح اليوم التالي احست بقبلته في وقت مبكر للغاية .. نظرت إليه بعينين ناعستين فرأته قد ارتدى ملابسه استعدادا للذهاب إلى العمل .. همست متذمرة :- هل أنت مضطر للذهاب ؟
ابتسم قائلا :- بقائي في البيت لن يطعمنا خبزا .. سأحاول ألا أتأخر .. وأنت عديني بأنك ستدرسين في غيابي
أومأت برأسها موافقة .. فقبل جبينها ثم غادر الغرفة .. فتقلبت برضا وهي تفكر ..أدرس !.. لا أعدك يا زوجي العزيز فأنا من سيطهو لك العشاء هذا المساء
استيقظت متأخرة .. وكان أول ما فعلته هو الذهاب إلى المطبخ لتناول إفطار سريع والتحدث ‘إلى الطاهية حول العشاء.. اتفقت معها على كل شيء ووضعت معها قائمة بما تحتاجه فرحبت تلك بمساهمة سيدة البيت في المطبخ وتشوقت لمساعدتها .
صعدت لرؤية الجدة وقد استبد بها الشوق للحديث معها والتماس بعض الحنان منها .. فرأتها تحت رحمة الممرضة التي انهمكت في حقنها بإبرة ما في ذراعها .. إلا أنها أحست على الفور بوجودها فقالت وهي تنزل أكمامها بصوت مشرق :- صباح الخير يا نانسي .. كم أنا سعيدة لسماع صوتك .. أرجو أن تكوني قد استمتعت برحلتك مع محمود
قالت نانسي بخجل :- هل أخبرك ؟
:- بالتأكيد .. يزورني محمود كل صباح مهما كان مستعجلا .. تعالي واجلسي إلى جانبي وأخبريني .. هل أعجبك منزل محمود الجبلي .. لم أذهب إليه قط رغم محاولاته الكثيرة لإقناعي .. فأنا لا أحتمل ساعات السفر بالسيارة
قالت نانسي باسمة :- خسارة .. لكنت أحببته كثيرا ..
اطل الدفء من عيني المرأة العجوز وهي تقول :- أنا سعيدة لأنكما قد تمكنتما من حل مشاكلكما أخيرا .. لا تسأليني عن الطريقة التي عرفت فيها .. فصوت محمود بدا مختلفا منذ أيام .. إنه سعيد ومرتاح البال وأنا لم أره بهذا الشكل منذ سنوات طويلة .. وأنت أيضا تبدين أكثر استرخاءا .. الحمدلله أنني قد عشت لأرى حفيدي سعيدا أخيرا
سالت دمعة ساخنة من عيني الجدة فأسرعت نانسي تقول بصوت أجش :- لا تبكي يا جدتي .. أعدك بأننا لن نتشاجر مجددا .. ومحمود سيظل سعيدا إلى الأبد
مسحت الجدة دمعتها قائلة :- أهذا يعني أنني سأحظى بأحفاد جدد قريبا
احمر وجه نانسي حرجا إذ أنها لم تفكر بأمر الأطفال مطلقا .. ولكنها تمتمت :- بالتأكيد
لم تعرف نانسي إلى أي حد تسرعت في إطلاق الوعود للجدة حتى ذهبت إلى غرفة المكتب حيث جلست خلف مكتب محمود الكبير في محاولة للدراسة إرضاءا لزوجها .. مر بها الوقت دون أن تدري وهي تتصفح الأوراق وتكتب الملاحظات .. وتحاول استيعاب الدروس المتراكمة .. حتى أنها لم تشعر بأنها لم تعد وحيدة إلا متأخرة
رفعت رأسها إلى ريم التي وقفت عند الباب تنظر إلى نانسي بكراهية شديدة أجفلت نانسي التي تماسكت وقالت بهدوء :- أهلا بك يا ريم .. لا يبدو مزاجك جيدا اليوم .. هل طار منك عريس جديد ؟
برق الحقد في عيني الفتاة وهي تتقدم إلى داخل ا لغرفة وتصفق الباب خلفها مما جعل نانسي تقفز من مقعدها متحفزة .. قالت ريم بغضب :- تظنين نفسك ذكية للغاية بانتصارك الباهت هذا .. ما أسهل أن تجعلي رجلا مجنونا بك فور ان تمنحيه ما يريد وتكونين له الساقطة التي يحتاجها .. إلا أن العبرة في احتفاظك بتعلقه يا عزيزتي
قالت نانسي متأففة :- ألا تملين من محاولاتك الفاشلة هذه في التفريق بيني وبين محمود .. انسي أمر الرجل .. فهو لا يريدك .. ل ا ي ر ي د ك .. كم من الصعب استيعاب هذه الكلمة
قالت ريم بغل متجاهلة كلام نانسي :- إلى أين أخذك هذه المرة ؟ هه .. إلى منزله الجبلي الصغير الحميم .. هل أعد لك وجبتك المفضلة .. وأشعل المدفأة ناشرا في المكان جوا رومانسيا كاذبا .. هل أشعل لك الشموع ونثر الورود فوق سرير الزوجية
تجمدت نانسي وهي تنظر إلى الحقد المطل من كل خلجات الفتاة .. فقالت بغضب :- هل تتجسسين علينا يا ريم ؟ كم دفعت للعائلة المسؤولة عن الاهتمام بالمنزل كي تعرفي بعقلك المريض ما حدث بالضبط بيني وبين محمود
ابتسمت ريم أخيرا بتشفي وهي تقول :- عن أي عائلة تتحدثين يا عزيزتي .. أنا لم أسأل أي أحد .. لقد عرفت بنفسي ما حدث بالضبط .. أتعرفين كيف ؟ لأنه تماما ما كان يفعله محمود لأجلي قديما عندما كان يأخذني إلى الكوخ دون علم عائلتي .. نعم يا عزيزتي .. لا ألومك على ذهولك .. فعلاقتي بمحمود كانت بهذا العمق .. لقد كنا حبيبين منذ الصغر .. وبعد نضوجنا لم يستطع إبعاد يديه عني كعادته كلما تواجدت أمامه امرأة جميلة .. لقد كنا نتقابل خارجا كلما أتيحت الفرصة لنا دون أن نشعر أحدا ممن حولنا .. التقينا في شقته في المدينة .. وفي المنزل الجبلي .. وفي مكتبه بالجامعة .. في أي مكان لا تصل إليه العيون ..
شحب وجه نانسي وكادت ساقاها تخوناها وهي تستند إلى طرف المكتب وتصيح بثورة :- أنت تكذبين .. تكذبين وبوقاحة أيضا .. لابد أنك مريضة نفسيا لتختلقي قصصا شائنة حول نفسك وحول ابن عمك .. محمود ما كان ليفعل هذا أبدا
ارتسمت ابتسامة مرارة على فم ريم وهي تقول :0 وهل أنت متأكدة ؟ هل تعرفين زوجك جيدا كما تتوهمين ؟ .. ألم تلاحظي بنفسك مدى شراهته الجنسية ورغبته التي لا تنتهي .. محمود لا يستطيع العيش بلا امرأة إلى جانبه .. لقد فطر على أن يحصل على ما يريد وقد كنت أنا لفترة طويلة ما أراد وسعى إليه .. هل تصدقين بأن رجل مثله قد يمنع عن نفسه فتاة جميلة تعيش تحت سقفه حتى لو كانت ابنة عمه .. حتى خلال زواجكما وتمنعك الواضح عنه .. وجد بي بديلا ومنفسا عن حاجاته .. أم أنك تظنينه ذهب إلى المنزل الجبلي أثناء غيابه وحيدا ؟؟؟؟ لقد كنت معه يا عزيزتي .. لقد لحقت به يوم رحيله ومكثت معه ليلة كاملة ..
تذكرت نانسي مذعورة .. هذا صحيح .. في اليوم التالي لرحيله رحلت ريم أيضا .. لقد قالت العمة منار بأنها ستمكث عند أقاربها لليلة واحدة .. هل كانت مع محمود ؟ لا .. مستحيل
قالت نانسي ب عنف :- أنت تكذبين .. إن كان كلامك صحيحا فلماذا تركك وتخلى عنك وتزوج بي .. لو كان يحبك ومازال يريدك لما تزوج بغيرك
قالت ريم وفي عينيها ألم كبير :- أنا لا أتحدث عن الحب يا عزيزتي .. محمود لا يعرف أبدا كيف يحب .. إنه يرغب فقط .. وقد تخلى عني حقا كما تقولين .. أتعلمين لماذا ؟ لأنني منحته ما يريد .. لأنني لم أمنع نفسي عنه كما كان علي أن أفعل .. لقد منحته كل شيء .. كل شيء .. ولهذا فقط تجدينني أجلس مثل الأرض البور في انتظار من يأخذها .. لأنني لم أعد متاحة لأي رجل آخر .. لقد أخذ محمود ما يريده ثم انسل من بين يدي خارجا عندما مل مني .. بكل بساطة وبكل هدوء .. توقف عن الخروج معي .. بالكاد صار يتحدث إلي .. وانتقل لمعاشرة فتاة أخرى تشكل له شيئا من التحدي .. هذا هو أسلوبه يا نانسي .. لقد انتقل من فتاة إلى أخرى أمام عيني بنفس الطريقة حتى سقط في شرك نسرين .. نسرين هي المرأة المناسبة له .. وهو ما أسكتني وجعلني أتوقف عن انتظاره .. فهي أكثر من أثار جنونه بجمالها وقوتها وأصلها العريق .. لقد كانت ندا له في كل شيء حتى أنه كاد يتزوجها .. الكل كان يعرف بأنه سيتزوجها في النهاية حتى جئت أنت
عاد الحقد يطل من عينيها ويشبع كلماتها التي سقطت فوق رأس نانسي المذهولة :- لقد جاء بك من لا مكان وجعلك زوجته .. هكذا بدون مقدمات .. كعادته لم يمنح نسرين أي توضيح .. لم يقطع علاقته بها حتى بشكل لائق .. لقد سمعت بنبأ زواجه من الآخرين كما كنت أراه بنفسي وهو يتنقل بين أذرع الأخريات .. أنت دون غيرك تمكنت من الحصول على لقب زوجة .. ما الذي فعلته حتى استحققت هذا اللقب .. هل تمنعت كثيرا .. هل وجدك من النوع الصعب التنازل ووجد بأن الزواج بك أسهل طريقة للحصول عليك .. هل كنت قطة شرسة كثيرة الخدش وأدخلت إلى حياته الحماسة والإثارة التي كان ينشدها ؟ ولكن إلى متى ؟ فها هو قد حصل على ما أراد .. وأصبحت طوع بنانه .. وانضممت شئت أم أبيت إلى قائمة فتوحاته .. لا تتوقعي أن يمنحك أي إشارة قبل أن يبدأ بغزوة جديدة يا عزيزتي .. ستسمعين بهذا بنفسك من مصادر أخرى كما فعلت العشرات
تراجعت نانسي وقد تجمعت دموع الصدمة في عينيها وهي غير قادرة على استيعاب ما تقوله ريم .. همست بذهول :- لماذا تخبرينني بهذا ؟ لماذا تقولين لي هذا الكلام البشع ؟
ارتجفت شفتا ريم وهي تقول :- لماذا ؟ .. لأنها الحقيقة .. لأنك ستعيشينها عاجلا أم آجلا .. أردت أن تعرفي ما ينتظرك مستقبلا .. أن تفهمي ما أحسه لأنه ستحسينه بنفسك في وقت قريب .. ستعرفين شعور المرأة العاشقة المنبوذة وهي ترى رجل حياتها يسعى خلف نساء أخريات بينما هي تخفي عارها عن أقرب الناس إليها غير قادرة على تفسير رفضها للزواج .. ستعرفين ما معنى أن تصبح المرأة كالكرسي القديم عديم الفائدة عندما يرميها رجلها في القبو كالنفاية عندما تنتفي حاجته إليها
كانت صوت ريم يتهدج أثناء كلامها ويزداد انفعالا .. حتى أجهشت في البكاء منهارة بعد انتهاء كلماتها فلم تستطع نانسي الصمود أكثر .. أسرعت تخرج من الغرفة كالمجنونة وتصعد إلى غرفتها مغلقة الباب ورائها وتستند إليه لاهثة .. لا .. ريم كاذبة .. إنها كاذبة كبيرة .. محمود يحبها هي .. ولن يفعل بها هذا أبدا
تذكرت دموع ريم وانهيارها .. لا يمكن أن يكون هذا تمثيلا .. تذكرت اللوم في نظرات نسرين وهي تحدثه في الحفلة .. تذكرت استنكار هديل عندما عرفت بزواجه وكأنه كان محجوزا لأخرى .. تذكرت نظراته التي افترست نسرين رغم وجودها على بعد أمتار عنه وكأنه لا يعترف بحرمة وجود زوجة له تقف إلى جانبه .. وكأن زواجه لا يعني أن يمنع نفسه عن المتع الأخرى المتاحة .. تذكرت الطريقة التي صبر بها عليها حتى نال ما أراد .. وما قاله لها عندما نفذ صبره .. إنه يعرف جيدا كيف يجعل فريسته أكثر شهية باللعب بها ومنحها كل الوقت قبل أن يأكلها .. وقد أكلها في لقمة واحدة .. كم كانت سعادته كبيرة عندما وجدها في انتظاره تفتح له ذراعيها مرحبة ومستسلمة أخيرا ..
كم سيمر من الوقت قبل أن يمل منها ومن استسلامها ويسعى خلف أخرى
استبد بها الذعر حتى كادت تصاب بالهستيريا .. لا .. محمود لها .. لها وحدها .. ستموت لو تخلى عنها أو خانها .. لن تحتمل الألم والعذاب وهي تسمع بغزواته بعيدا عن البيت
لم تعرف كم ظلت تقف ذاهلة مكانها حتى طرقت حنان الباب وهي تقول :- نانسي .. هل أنت هنا ؟ لقد أحضرت لك غداءا
فتحت الباب فذهلت حنان لشحوب وجهها .. وضعت الصينية على الطاولة واستدارت قائلة بقلق :- ما الأمر يا نانسي ؟ هل أنت مريضة ؟
نظرت نانسي إلى وجه حنان الطيب .. هل تخبرها بما عرفته من ريم ؟ هل تخيب أملها بعد أن أحست بالراحة أخيرا لسعادة الفتاة التي تربت إلى جانبها والتي تشعر بمسؤوليتها اتجاهها .. ابتلعت ريقها قائلة :- لا .. متعبة قليلا فحسب .. كما أنني لست جائعة .. سأنتظر حتى العشاء
قالت حنان بابتسامة ماكرة :- العشاء الذي تنوين إعداده لحبيب القلب ... هل يعرف الدكتور محمود أي حظ يناله بتنازل نانسي راشد شخصيا ودخولها إلى المطبخ خصيصا للطهي له
منحتها نانسي ابتسامة مرتعشة وهي تقول :- .. سيعرف قريبا
عندما بقيت وحدها ظلت تحوم في الغرفة كالمجنونة .. ماذا تفعل ؟ هل تواجهه ؟ هل ترمي في وجهه ما عرفته من ريم عنه ؟ .. وهل ستحتمل الحقيقة إن رماها في وجهها ؟ تذكرت اعترافه بتأثره بنسرين .. محمود لا يكذب .. ولن يتردد في تأكيد أقوال ريم .. لا .. لن تحتمل الحقيقة .. ولن تحتمل أيضا أن تمثل دور البلهاء فتمنحه ما يريد حتى يتركها أخيرا .. أمسكت رأسها وقد شعرت بالدوار من فرط التفكير .. ثم انتهى بها الأمر إلى البكاء كما فعلت ريم بالضبط ألما وحيرة
وفت بوعدها رغم ما تحس به من تشوش .. وأعدت وجبة لذيذة مع الطاهية حاولت أن تنسى خلال عملها فيها كل الواقع .. ولكنها تذكرته كله حين عاد محمود في المساء .. ودخل إلى المطبخ بحثا عنها ليجدها منهمكة في إعداد اللمسات الأخيرة للوجبة .. فوجئت العاملات من دخوله النادر الحدوث إلى المطبخ .. وراقبنه بجذل وهو يقبل رأس نانسي التي لم تشعر به إلا في تلك اللحظة .. قال برقة وهو ينظر إلى وجهها الذي لطخته بقعة من الصلصة :- الشائعات صحيحة إذن .. وزوجتي تطهو لي العشاء .. ألست محظوظا ؟
أحست بالغضب يطفو ليغطي على الألم .. ألن يحب أن يرى القطة المتوحشة وهي تتحول إلى دجاجة تجري وراءه كالمعاقة بحثا عن رضاه .. كبتت توترها وقالت :- من الأفضل أن تخرج كي لا تفسد المفاجأة
رغم محاولتها لإخفاء مشاعرها إلا أنه كان حساسا للغاية بالنسبة لمزاجها .. فعرف فورا بأن ثمة ما يشغلها فابتسم على الفور وقال :- حاضر يا سيدتي .. سأخرج وأنتظر بفارغ الصبر تذوق ما صنعته يداك
عندما خرج .. اسندت نانسي نفسها إلى طاولة المطبخ بتعاسة .. لكم يؤلمها قربه منها .. مجرد لمسه لها كفيل بجعل ساقيها تتحولان إلى هلام .. فكيف ستصمد إن لمسها مجددا
قدمت نجوى العشاء بينما اجتمعت العائلة كلها حول المائدة باستثناء ريم .. بررت العمة منار قائلة :- إنها متعبة اليوم .. الصداع لا يفارقها
قال محمود بقلق :- هل تحتاج إلى طبيب ؟
:- لا أظن .. بعد ليلة من النوم الجيد ستشفى تماما
نظرت نانسي إلى وجه زوجها الجالس إلى جانبها وهي تتساءل بتوتر عن سبب قلقه الشديد ... أهو قلق ا بن عم طبيعي .. أم قلق رجل على حبيبته السابقة
لاحظ نظراتها فمنحها ابتسامة دافئة لم تستطع الرد عليها .. بل غاصت في طبقها وأخذت تأكل وكأن حياتها متوقفة على الطبق الموجود أمامها .. قال العم طلال باسما :- أهنئك يا محمود .. زوجتك ليست جميلة فحسب .. بل طباخة ماهرة
قال محمود وهي يأكل دون أن تفارقها نظراته :- لا أحتاج إلى من يذكرني بـأنني محظوظ
لم تستجب نانسي هذه المرة أيضا إلى مداعبته .. بل لم تنظر إليه على الإطلاق .. وبعد العشاء صعدت إلى غرفتها متعللة بالتعب .. فلحق بها محمود بعد دقائق وقد كانت قد بدلت ملابسها واستعدت للنوم
قال بقلق وهو يلمس جبينها وهي ممددة فوق السرير :- هل أنت بخير ؟ ما الذي يؤلمك بالضبط ؟
أشاحت برأسها بعيدا عن يده قائلة بجفاف :- أحتاج فقط إلى أن أنام
تأملها بهدوء ثم قال متفحصا :- ما الأمر يا نانسي ؟ الأمر يتعدى التعب .. هناك ما يزعجك
قالت بنزق :- ما دمت تعرف هذا .. فلم لا تتركني أنام بسلام ..دون أن ترهقني بأسئلتك
أمسك بذقنها الدقيق وأجبرها على النظر إليه .. وقال بقسوة :- راقبي كلماتك جيدا يا نانسي عندما تخاطبينني
لمسته كادت تفقدها صوابها .. خلال لحظة تذكرت كل اللحظات الحلوة التي جمعت بينهما .. ثم تذكرت كل ما قالته لها ريم فشعرت بفؤادها يتمزق .. كيف يستطيع أي انسان أن يظهر كل هذا الحب لشخص دون أن يعنيه حقا .. كيف له أن يكون رقيقا معه بذلك الشكل ثم يقدم بكل قسوة على خيانته
فاضت دموعها رغما عنها .. وظهر حزنها الشديد وهي تهمس بصوت مرتجف :- أرجوك يا محمود .. أرجوك .. أريد فقط أن أنام
اختفت قسوته بنفس السرعة التي ظهرت بها .. وظهر التعاطف في عينيه الدافئتين وهو يربت على وجنتها قائلا :- سأتركك تنامين الليلة دون أن أزعجك إذن ..
راقبته وهو يخرج من الغرفة مغلقا الباب خلفه بهدوء .. فانزوت نانسي حول نفسها تبكي بصمت وهي تهمس بألم :- ماذا أفعل يا إلهي .. ماذا أفعل ؟
استمرت نانسي في تجاهل محمود ومنعه من لمسها لعدة أيام بعد ذلك .. في كل مرة كانت تمنحه أعذارا مختلفة حتى طفح الكيل به ذات ليلة فانفجر بها قائلا :- إياك أن تستعملي إحدى حججك الواهية يا نانسي .. أعرف بأن هناك ما يشغلك ويجعلك تتمردين وسوف تخبرينني به الآن
قالت بوقاحة وهي تتملص منه كالعادة وتتراجع بعيدا عنه وتقف أمامه متحدية :- كم أنت مغرور .. لماذا لا تقول بأنني وبكل بساطة لم أعد أطيق لمستك .. وأنني أنفر في كل مرة تقترب فيها مني ؟
قال محاولا كبت غضبه :- لأنني أعرف بأن هذا غير صحيح .. منذ أيام كنت تذوبين بين ذراعي عندما كنا وحيدين في المنزل الجبلي .. هل أنت غاضبة لأنك كنت راغبة في بقائنا هناك أكثر ؟ لقد سبق ووعدتك بأنني سأعوض عليك لاحقا
قالت بانزعاج واضح :- بالله عليك .. لا أحتمل حتى مجرد التفكير ببقائي معك في مكان واحد .. فكيف سأفكر بالعودة إلى هناك بصحبتك
لم يعد قادرا على احتمال غضبه فسحبها إليه متجاهلا مقاومتها الشرسة وقال وهو يكبل حركتها :- ستتكلمين الآن وتخبرينني بالضبط عما يزعجك .. لقد أوضحت لي سابقا بأن المنزل الجبلي قد أعجبك وبدوت سعيدة جدا عندما كنا هناك .. ولن أتركك حتى تخبرينني بما غيرك
حاولت ضربه بقدمها فمنعها بسحبها نحوه أكثر .. وعندما أحست بحرارة صدره وصلابته أحست بنفسها تكاد تجن من مجرد التفكير بريم في الوضع ذاته فصرخت فجأة بغضب :- بكل بساطة أنا لن أعود إلى مكان يكاد ينفجر من حرارة ذكريات نساء أخريات
عبس قائلا بغضب :- هل أنت مجنونة ؟ من أين أتيت بهذه الترهات ؟ عن أي نساء تتحدثين
سمح لها فجأة بالابتعاد فأصلحت قميص نومها المحتشم وهي تنظر إليه تكاد تنفجر غيظا من كذبه الصريح .. فصاحت به كالمجنونة :- هل تنكر بأن امرأة غيري قد ذهبت إلى ذلك المكان معك يا محمود ؟ دعني أطرح السؤال بطريقة أخرى .. عندما تركت البيت وذهبت إلى هناك ل3 أيام كاملة .. هل تستطيع القول بصدق بأنك كنت وحيدا طيلة هذه الأيام الثلاثة ؟
لاحظت تلك النظرة التي تجمدت في عينيه .. والشحوب الذي علا وجهه وهو يقول :- ما الذي قالته لك ريم بالضبط؟
أحست نانسي وكأن صفعة قاسية قد سقطت على وجهها .. وطعنة نجلاء اخترقت صدرها بلا رحمة .. لقد كان معها .. لقد اعترف الآن بشكل غير مباشر بأنه قد كان معها ..
تراجعت وهي تهز رأسها وتحاول جاهدة منع الدموع التي تجمعت داخل عينيها من الهرب .. قالت كالمذهولة :- يا إلهي .. أنا حتى لا أستطيع النظر إليك .. لا أستطيع حتى البقاء في مكان واحد معك
اندفعت نحو الباب فأسرع يعترض طريقها قائلا بتوتر :- إلى أين تذهبين ؟
انكمشت رافضة أن يلمسها بأي طريقة فلاحظ جيدا ردة فعلها وهي تقول :- سأنام في غرفة لينا .. لا أريد النوم معك تحت سقف واحد
زمجر قائلا من بين أسنانه :- أنت لن تتحركي من هنا حتى نتحدث يا نانسي
حاولت تجاوزه فأمسك بها .. قاومته وهي تصرخ كالمجنونة بينما حملها هو إلى السرير ورماها فوقه بقسوة .. وعندما حاولت القفز عنه مجددا عاد يمسك بها ويكبل يديها تحت ثقله فنظرت إلى وجهه الغاضب وصاحت بثورة حاقدة :- أنا أكرهك يا محمود فاضل .. أكرهك وأتمنى لو أنني لم أعرفك يوما .. ولن أنام معك في غرفة واحدة ولو كلفني هذا حياتي
قال بلهجة مخيفة :- احذري ما تقولينه يا نانسي لأنني قد أدفعك لتمني الموت حقا إن استمريت بالتصرف كالمجنونة .. أنت لن تغادري هذه الغرفة .. ولن تنامي في سرير آخر .. وأنا لن أجري وراءك مجددا كما أعتدت أن أفعل منذ قابلتك .. إن رفضت الاستماع إلي فإنني لن أرغمك .. ولكنني أقسم بأنني لن أكتفي بضربك إن قللت يوما من احترامي أو أسأت إلي أمام الآخرين .. أتفهمين ما أقول ؟
التقت عيناهما في نظرات تحدي قوية كادت تفجر الغرفة بما فيها .. نظر إلى وجهها المحمر من الغضب .. والنيران الخضرا في عينيها الجميلتين التين نطقتا بالكراهية الخالصة .. فأخذ نفسا عنيفا وهو يقول :- يا إلهي .. أظنني أنا لن أستطيع البقاء معك في مكان واحد
تركها فجأة .. وغادر الغرفة كالعاصفة دون أن يقول أي كلمة إضافية ..
أما نانسي .. وكأنه صار جزءا من روتين ما قبل النوم بالنسبة إليها .. دست رأسها في وسادتها الوثيرة .. وأجهشت في البكاء


__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر