عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 02-01-2017, 05:44 PM
 

الفصل السادس





جاري الغامض





بالكاد كانت نانسي قادرة على الوقوف أثناء عجنها العجين .. بينما كانت صاحبة المخبز تصرخ بها بين الحين كلما ضبطتها مغمضة لعينيها وكأنها تسترق لحظات من الراحة خلال نهار العمل المتعب .. رفعت ذراعها لتمسح العرق الغزير عن جبينها بكم قميصها .. ثم عادت تكمل عملها .. غادرت في نهاية النهار متشوقة للعودة إلى البيت والتمدد في فراشها الدافئ .. داخل الباص .. استسلمت لإرهاقها الشديد .. وأغمضت عينيها في غفوة قصيرة .. انتهت عندما نبهها السائق إلى وصولها إلى وجهتها اليومية
ترجلت من الباص .. وسارت نحو البيت وهي تشعر وكأنها تسبح شبه واعية .. شعرت بأن الطريق يزداد طولا وأنها لن تصل أبدا إلى البيت .. وعندما وصلت أخيرا .. ترنحت وهي تتشبث ببوابة المنزل .. وخلال لحظات كانت قد تهاوت على الأرض فاقدة للوعي .. وللإحساس بما حولها تماما

عندما فتحت نانسي عينيها أحست بالبرد الشديد .. وبجسدها يرتعش بقوة رغم البطانيات التي غطتها من عنقها حتى أخمص قدميها .. الألم كان شديدا في حلقها حتى كانت تجد صعوبة في بلع ريقها .. سمعت صوت أمها تقول :- افتحي فمك يا عزيزتي
رفعتها ذراع دافئة كي تتمكن من فتح فمها وتلقي الدواء المر .. ثم همست بضعف :- ما الذي حدث ؟
قالت أمها بحنان :- لقد أصبت بالأنفلونزا يا حبيبتي .. وسرعان ما ستشفين .. لقد وصف لك الطبيب بعض الأدوية ونصح ببقائك في الفراش دافئة حتى تتحسني
تمتمت :- وماذا عن العمل ؟
صاحت أمها بغضب :- ألا تفكرين إلا بالعمل ؟ فكري بنفسك .. لقد قال الطبيب بأن سبب مرضك هو إرهاقك لنفسك وانتقالك المتكرر من جو شديد الحرارة إلى آخر شديد البرودة دون أن تدفئي نفسك جيدا .. أنت حتى لا تأكلين كما يجب من فرط الإرهاق
كانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها أمها في هذه الحالة من الغضب .. بعد دقائق أحضرت حنان لها شرابا دافئا وساعدتها على احتسائه وهي تقول فور مغادرة أمها :- الحمد لله أن جارنا كان موجودا
تمتمت نانسي :- جارنا ؟
:- جارنا الجديد .. لقد أخبرتك عنه من قبل .. لقد وجدك فاقدة الوعي في الخارج فأدخلك وأحضر لك الطبيب ثم ذهب لإحضار الأدوية بنفسه .. إنه شاب ممتاز للغاية
شعرت نانسي بالغيظ للطريقة المحرجة التي قابلها فيها الجار الجديد لأول مرة .. سألتها :- ما الذي يفعله هذا الجار في مكان نائي كهذه ؟.. هل هو من سكان المدينة ؟
:- لا .. لقد جاء في إجازة .. وسيبقى لأسابيع قادمة .. وقد استأجر أحد البيوت المجاورة لقضاء وقت هادئ ومنعزل عن الناس .. إنه شاب وسيم للغاية وأعزب
غمزت بعينها لنانسي التي قالت ساخرة :- أي أنه سيشكل زوجا جيدا لك بعد السنوات التي قضيتها مع نبيل
عبست حنان قائلة :- لا يمكنك أبدا مقارنته بنبيل .. كما أنه لن ينظر إلي أنا على الإطلاق .. بل إلى فتاة توازيه رقة ورقيا .. مثلك أنت ..
لهجتها جعلت نانسي تقول بإعياء :- توقفي عن مدحه أمامي .. عندما أفكر بالزواج أو الإيقاع برجل ما .. سأطلب منك النصيحة .. أما الآن .. فكل ما أريده هو أن أنام
استغرق شفاء نانسي بضعة أيام .. وكان اول ما فعلته فور شفائها هو أن ذهبت إلى المدينة لتتابع عملها رغم اعتراض والدتها .. وهناك .. كانت المفاجأة في انتظارها عندما وجدت فتاة اخرى تعمل مكانها .. صرحت صاحبة العمل بأنها لن تنتظرها حتى تتكرم وتعاود العمل عندما يطيب لها ذلك .. دفعت لها ما يحق لها من المال وأدارت لها ظهرها .. وعندما أرادت الخروج لحقت بها إحدى الفتيات قائلة :- لم ترغب السيدة بطردك .. إلا أن رجلا جاء ومنحها مبلغا كبيرا من المال مقابل أن توظف غيرك
عقدت نانسي حاجبيها قائلة :- من يكون هذا الرجل ؟
:- لا أعرفه .. قد يكون من طرف الفتاة الأخرى
عادت نانسي إلى البيت غاضبة .. ألقت المال على المائدة وهي تصيح :- أي فوضى هذه ؟ ما ان أغيب عن العمل لأيام بسبب المرض حتى يوظفون غيري
قالت أمها بهدوء :- في جميع الأحوال .. لم تكن هذه الوظيفة مناسبة لك
صاحت نانسي قائلة بغضب :- وماهي الوظيفة المناسبة في مدينة صغيرة كهذه ؟ هل عرضت علي وظيفة رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات ورفضت ؟
قالت أمها بعناد :- لا بد أن تجدي وظيفة أفضل
جلست نانسي وهي تلتقط أنفاسها محاولة استعادة هدوئها فأكملت أمها :- على الأقل وظيفة أقل إرهاقا .. هذه المرة فقدت وعيك أمام البيت .. ماذا لو كنت قد سقطت في مكان بعيد دون أن يشعر بك أحد ؟.. لو لم يفكر جارنا بالمرور بنا مساءا للاطمئنان علينا حيث وجدك على الأرض لبقيت مكانك حتى يكتشفك أحد .. يجب أن تذهبي إليه وتشكريه فقد تعب كثيرا بسببك
شعرت نانسي بالضيق لفكرة أنها تدين لأحد بشيء ما .. تمتمت :- سأذهب لأشكره ما إن أتأكد من وجوده
أسرعت لينا تقول وهي تطل برأسها من النافذة :- سيارته موجودة
كتمت نانسي غيظها وهي تخرج للقاء الجار الغامض الذي أنقذ حياتها كما تحب أمها أن تقول .. سارت الأمتار الفاصلة بين بيتهم وبيته ..ومرت إلى جانب السيارة الفارهة والجديدة ..ثم قرعت جرس الباب عدة مرات دون أن تتلقى أي رد..
لم تعد فورا إلى البيت .. بل سارت عبر طريق جانبي نحو الشاطئ .. حيث اعتادت أن تهرب إليه كلما أحست بالانزعاج .. وقفت فوق الرمال الرطبة تنظر إلى البحر الهائج بسبب الهواء العاصف .. وضمت معطها إليها لتقي نفسها من برودة الجو وهي تفكر بما عليها فعله صباح الغد من بحث عن عمل جديد .. كانت الشمس قد أتمت الرابعة مساءا .. والشمس كانت تسير نحو مخدعها ببطء .. أجفلت عندما سمعت صوتا رجوليا يقول بهدوء :- الجو بارد للغاية هنا
استدارت بسرعة .. فاتسعت عيناها بشدة وهي تنظر إلى محدثها الذي أكمل :- وقد يؤذيك هذا نسبة إلى شفائك القريب من مرضك
عقد لسانها .. ولم تعرف ما تقول .. وبصعوبة خرج اسمه من بين شفتيها بصوت مختنق :- دكتور محمود
كان الدكتور محمود فاضل يقف أمامها كما عرفته دائما .. بثقة وكبرياء وحزم .. إلا أنه لم يكن يرتدي بذلته الثمينة الداكنة هذه المرة .. بل سروالا أسود وقميصا رماديا أسفل كنزة داكنة صوفية .. ثم معطف أسود طويل من الصوف الثقيل الغالي الثمن .. وقد أحاط عنقه بوشاح صوفي رمادي اللون .. حتى الآن .. لم يتخلى عن هيبته التي لطالما تمتع بها بالرغم من كونه أصغر أستاذ في الكلية
كانت تطل من عينيه نظرة متفحصة .. شملت كل جزء من ملامحها المصدومة ..وجسدها الذي أخذ يرتعش تحت المعطف السميك الذي ترتديه .. قال بهدوء :- كيف تشعرين الآن ؟
لم تستطع التفكير بسؤاله .. إذ سألته مذهولة :- أنت هو الجار الجديد
رد عليها دون أن يبتسم :- تبدين كمن تلقى لتوه خبر احتضاره .. أتزعجك رؤيتي إلى هذا الحد ؟
هزت كتفيها متظاهرة باللا مبالاة وهي تقول :- لماذا قد تزعجني رؤيتك ؟ المشاكل التي كانت بيننا لم تعد
مهمة بعد تركي للجامعة .. وأنت فعليا لم تعد أستاذي
عقد حاجبيه بشدة وهو يكرر :- تركت الجامعة .. أي قول سخيف هذا ؟.. ما هو تبريرك لقرارك الطفولي هذا ؟
قالت بغيظ :- لست مضطرة لتقديم أي تبريرات لك .. أو لأي شخص آخر
لم يرد عليها .. بل ضيق عينيه وهو ينظر إليها بإمعان وكأنه يحاول قراءة أفكارها .. بينما كان الغضب والانفعال يملآن نفسها بسبب معاملته لها وكأنها ماتزال طالبة لديه .. تساءلت عن سبب وجوده هنا .. من بين جميع الناس .. يتواجد هو هنا في هذا المكان .. دون غيره من الأماكن .. ترجمت أفكارها على شكل سؤال :- لم ينتهي الفصل الدراسي بعد يا دكتور محمود .. فما الذي تفعله هنا في هذا المكان بالذات
لوى فمه وهو يقول ساخرا :- من المؤكد بأنني لم آت إلى هنا لاحقا بك
تورد وجهها وقد أدركت بأنه قد قرأ أفكارها .. ولماذا قد يلحق بها شخص يكرهها كما تكرهه ؟ .. كما أن اكتشافه لمكان وجودها من المستحيلات إذ لا أحد على الإطلاق يعرف بهذا المكان .. حتى ماهر .. بل هي لم تتحدث إلى ماهر إطلاقا بعد حادث الاعتداء الذي تعرضت له بل سافرت على الفور حتى تنسى كل ما يذكرها بما حدث
قال بهدوء :- أنا في إجازة .. فالأساتذة بشر أيضا كما تعلمين .. ويحتاجون إلى فترة يبتعدون فيها عن أجواء العمل .. وعندما جئت إلى هذا المكان الذي سمعت بهدوئه وخلوته في هذا الوقت من السنة .. لم أتوقع أن أصادفك هنا .. هاربة من أعين الناس حتى قابلت والدتك .. وعرفت منها من تكون
صاحت بحدة :- أنا لست هاربة
قال بقسوة :- لماذا تختبئين هنا كالفئران بعيدا عن الناس إذن .. بل بعيدا عن أقرب أصدقائك
صاحت بعنف :- لا أصدقاء لدي .. ليس هناك من يستحق بقائي لأجله
:- وماذا عن ماهر ؟ على ما أظن تركت قلبه محطما ورحلت دون أن تخبريه حتى بمكان وجودك
حاولت السيطرة على انفعالاتها وهي تقول :- ماهر سيقدر بأنني فعلت هذا مكرهة
قال ببرود :- فعلته مكرهة ؟ .. أم اكتشفت بأنه ليس من النوع المفضل لديك .. وأنك ربما ستحتاجين إلى رجل أكثر ثراءا ليلملم نفسك المكسورة وكرامتك المبعثرة ؟
قالت بغضب :- ماهر مجرد صديق .. لطالما كان صديقا وفيا فحسب لا أكثر
قال ساخرا :- لا أعتقد بأنك كنت بالنسبة إليه مجرد صديقة .. الكل يعرف منذ البداية بأن ماهر مغرم بك حتى أذنيه .. وأنك تتلاعبين به لاستخدامه لأغراضك الخاصة
أحست بالغضب يكاد يعميها .. ولكنها تماسكت قائلة ببرود :- ليس من حقك أن تناقش حياتي الخاصة .. سواء كان ما تقوله صحيحا أم لا فهو ليس من شأنك .. وأنا لست مضطرة لقضاء مزيد من الوقت معك .. فلدي الكثير لأقوم به
تمتم بهدوء :- كالبحث عن عمل جديد مثلا
كانت تهم بالرحيل إلا أنها توقفت فجأة وهي تنظر إليه بريبة .. كيف عرف بتركها لعملها .. فهي لم تخبر أمها إلا منذ دقائق .. اتسعت عيناها وهي تقول :- أنت هو الرجل الذي تسبب بطردي
لم يظهر أي تعبير على وجهه الجامد .. وكأنه يعترف بفعلته .. لم تستطع كبت غضبها وهي تصيح :- بأي حق تفعل هذا ؟..كيف تجرؤ على التدخل في حياتي وتسيير أموري ضد رغبتي ؟
قال بصرامة :- بحق امك التي توسلت إلي بان أفعل ..أمك الإنسانة الرقيقة التي لن تحتمل ان تتعرضي لأي نكسة جديدة امامها .. لم تكوني واعية عندما أخذت تبكي محطمة وهي تراك على فراش المرض .. أم أن أمك لا تمثل لا أي قيمة هي الأخرى ؟..
قالت بغضب وقد برقت عيناها بشدة :- إياك ان تتجرأ وتتحدث عن علاقتي بأمي بهذه الطريقة مجددا .. وإلا فأنا أقسم على أنك ستندم
قال متهكما :- ما الذي ستفعلينه ؟ سترمينني في الشارع .. أم تسلطي المجتمع ضدي ؟
ابتلعت سخريته عندما ذكرها بتهديدها القديم والسخيف له .. سارت محاولة تجاوزه لتعود إلى بيتها .. إلا أنه أمسك ذراعها بحركة حادة جعلتها تشهق مجفلة .. رأته يعقد حاجبيه وهو ينظر إلى آثار كدمة أسفل خدها .. تمتم بقلق :- هذه الكدمة ....
لم يكمل .. بل مد أصابعه يتحسس مكانها فوق بشرتها الناعمة التي ارتعشت تحت ملمس انامله الرقيق .. صدمها الاهتمام الكبير الذي أطل من عينيه .. وصدمها هذا الاحساس الذي انتابها وجعل صوتها يرتعش وهي تقول كاذبة :- لقد اصطدمت بالباب
وقبل أن تتلقى أي تعليق .. كانت قد انسحبت هاربة ..
هاربة من ذكرى هذه الكدمة التي أصابتها تلك الليلة المشؤومة .. ومن نظرة عينيه التي تثير داخلها مزيجا غريبا من الغضب والحيرة .. والاضطراب والخوف


__________________
مهما زاد عنائي
لا يمكن أن أنساك
حتى إن تنساني
باقية لي ذكراك
لأن الروح داخلي
لا زالتْ تهواك


نبع الأنوار ايناس نسمات عطر