...


" عودة للوطن"



أبت الطبيعة إلا أن تعلن عن أحقيتها في الإستيلاء على طاقة قاطنيها بهجير نهار داعب أجسادهم و بحرارة عناق أحاطهم في ثنايا رحبه...
استقبلتهم كثبان رملية و حادثتهم صخور عتية بينما كان الجفاء نصيب المأكل و رفيق المشرب...

... فما كان من تلك الأجساد إلا الرضوخ قهرا لسلطتها حتى بدأت الأعين تجهل ما ترى و اللسان أصبح يبتغي سبيل نجاة لجفاف استولى عليه...

ازدرأت صاحبة الأعين العسلية الجاحظة ريقها و بينت اكتفائها مما أسدل عليها حلة الإرهاق و الظمأ: إلى متى سنظل على هذا الحال ؟...

صوبت الأخرى لها نظرات قلق متفحصة مع صمت يتخلله أسف لما تعانيه سيدتها ، بينما صرح ممسك لجام فرسها بجواب واقعي لا مفر منه: ماذا تظنين؟... نحن في بيداء قاحلة، يجب أن نتحلى بالصبر حتى نصل لمحطة ما .


لم يكن لها سلوة ولا عزاء بما سمعت حتى تهدأ أساريرها فبينت بتفصيل قد يريحها: لنا ثمانية عشر عاما نسير دون هدى، حتى أنك لاتدل طريق النطاق الشمالي أيها الأمير عديم النفع.

ابتسم رادا بلهجة عفوية: لست كأميرتكم لاتدل طريق منزلها.

انفعلت بوجهه صارخة: ماذا قلت؟...كيف تجرأ؟

أما أسود اللون ظل ينظر لهما ضاحكا في سره على مناقشتهم الودية ( تأخذ حقها بلسانها السليط...يالها من شابة جريئة)

لمحت عين الهادئة شيئا على بعد أمتار عديدة لتجلب انتباه مرافقيها بقولها و هي تشير بسبابتها نحو مقصدها: لقد بان لي شيء هناك.

حال نظرة الأمير القاصرة عن الإقرار و الإذعان بما صرحت به الأميرة توا: لا أرى شيئا ... يبدوا أن الإنهاك سلب منك تركيزك.

صمتت ممتعضة حتى أشاد بصدقها رفيقه بصوته الرزين: لا، يبدوا أن هناك شيئ هناك حقا... لنلق نظرة، لا شيئ نخسره على كل حال.

***********************

الوهم قاطع للآمال كما حد السيف البتار قاطع للآجال، لامفر من اليأس عندما تتزلزل ثقة الوهم بسيف اليقين...

هد أملها خيبة كادت تجرها لبكاء مرير ، لكنها انحنت عن ظهر فرسها لترتجل بمعونة الخادم المنعوت بالخيانة منذ زمن غير يسير: حقا، لا أقوى على التقدم أكثر.

ترائى لمينا استخفافا لما حصل معهم: و لم نحصل على شيئ سوى السراب... يبدوا أن أحلامنا ستدفن مع أجسادنا هنا قريبا.

لم يكن وضعا يتيح للحديث الخاوي من النتائج، لذا اتخذ سيتي جانبا يمتنع فيه عن الإصغاء لأحاديث مرافقيه، مغمضا جفنيه..صابا جل تفكيره في حل به سر نجاتهم.




دقائق فصلت بين جهل و معرفة ، و بدلت حيرته لخيار توحد في تصدره فكرة لا تتزعزع ...
و هذا ماجر أميره للإنصياع للعزيمة التي تلألئت بحدقتيه مبلغا : لنتحرك نحو الجهة اليسرى..ذلك هو المسير الصحيح.

نفضت المزعومة بالخدمة رداءها و نهضت مستهجنة فكرة أخرى لتغيير مسار تقدمهم نحو ديارها: و هل يجب الإعتماد على رأيك؟...قد تكون اكتسبت الحماقة من سيدك .

رمقها بنظرة هادئة قائلا: الإعتراض لاجدوى منه..فالتتحركوا معنا.

أما مينا فقد،جهز ركب برفيسيا بينما لسانه تكفل بالرد على مقللة الشأن تلك: بريفيت..هل لك،حقا،خيار غير الأخذ برأيه... ؟ قد يحالفنا الحظ و تندمين، ثقي أنني لن أعود لأخذك معي.

تنهدت معلنة رضاها الناتج عن يأس في حل آخر... و أسى على نفسها التي لابد لها من التأقلم مع كلمات تنخر عقلها...

****************************

أرض ندية ..لكنها خاوية على عروشها ...!
انثنى مينا يتلمس الرمال ناطقا ما اختزل نتيجته : أرض صالحة للزراعة، ما رأيك سيتي؟

ارتسم سيتي ابتسامة عفوية: حسنا، أجل... هل تريد زراعتها؟

أومأ مينا نفيا و هو يعود لوقفته المستقيمة: بل سكان هذا النطاق سيفعلون.
أنزل حاجبا مبينا عدم إدراكه لفكرة مينا: مالذي ترمي له أرتيميس؟!
أشاح بوجهه ناظرا لمن جلستا تتحاوران قرب نبع محاط بالنخيل و كفكف كفيهنافضا ما علق بها:
دع هذا الآن، أخبرني ..كيف علمت أن هذا هو المسلك الصحيح؟


أطاع سيتي أمر صديقه مجيبا بكلمة اختزلت الكثير: الهواء..

شعر السامع بالغيظ فقال: هي،بين مرادك ... لست تقول أحجية.
أجاب: اتجاه لفحات الهواء ... في هذا الوقت هي جنوبية، لذا سيكون النطاق على عكس اتجاه الهواء... لقد لاحظت ذلك عند جلوسنا في آخر محطة.

تأفف مينا داخلا طورا آخر من الحديث: لم أتصور أن افتراقنا سيكون بهذه السرعة.

"لاتقل أنك ستفتقد تلك الوصيفة الجريئة؟!"

قال بلحن امتلأ غموضا،و برودا شد سيتي للتركيز عليه: هيه... كانت مماطلتي لغرض ازدياد أوضاع مملكتهم تأزما،جيدة، لكن... لا أظنها،كانت،كفيلة بالنتيجة التي أطلب.

التقط سيتي معان استغربها: ها... تقصد أن كل معاناتنا في الطريق ، لم يكن سوى،مماطلة منك ؟!...أي أنك كنت،تدل،المسير؟!...هل،كنت،تخطط للسيطرة على نطاقهم بعد خيانة الوزير و تفاقم الأحوال بينهم...؟!... يا الهي، لم أدخلتني لعبتك السياسية هذه..؟...

زفر بحنق :... كنت راضيا بتعذيبي ذاك ، على الأقل كانت حياة مسالمة.

ضحك مينا ملئ فمه: مابالك سيتي...؟... أنا لست لئيما لهذا الحد...!

وضع سيتي رأسه بين كفيه متململا: تعرف ما يغيظ شخصا مثلي أرتيميس؟
أجاب من فوره: أن أخبئ عنك ما أخطط.. كما أنا أغتاظ منك لعدم ثقتك بي.
" لا أثق بك...!"
ابتسم ببلاهة رافعا كتفيه: واضح لأبعد الحدود...مازلت تتحفظ في التعامل معي، ذلك يجرني للغضب فعلا.

حك سيتي وجنته : إذا... هل تأذن لي برؤية غضبك؟

نطق مينا بشكل غبي: هييييه!
قال هو: أكثر شيئ أرغب برؤيته هو غضبك،كما تغضبني باستفزازك.

ترك المزاح و قال بجدية متهربا: إن خيانة وزيرهم و تبعاتها ستكون شيئا جميلا... لأهل هذا النطاق، أنا لا أرغب بشيء غير سعادتهم... إن كان حاكمهم عادلا، لن يقع في شباك خطئية وزيره... و إلا، لابد من هد حكمه...كوالدي.

ربت سيتي على كتف صديقه: حقا، سعدت برؤيتك أيها الأمير الوقح.

*******************************

للوطن عجب لا تفسره غير المشاعر، فلا تتكبد الأرواح عناء بيان سر الإنجذاب نحو أرض لا تنتظرك بل عودتك آخر ما تتمناه...!

كانت الخادمة تتحدث بصوتها الهادئ عن سعادة حوتها بعودتها: آنستي، والدك سيبتهج بعودتك... أجزم أنه كاد يهلك في التفكير بوحيدته المفقودة... و أظن، يجب أكرام الأمير مينا و معينه على ما تكبدوه لإعادتنا...أه، لا أستطيع الإنتظار حتى أرى تجهم ملامح الخائن رابوف عند رؤيتنا أمامه.

نطقت برفيسيا ما أذهل المتحدثة: لا أظن، أن ظهورنا الآن هو ما يجب أن يحصل...

نطقت بريفيت مستنكرة ما أضحى قرارا غريبا: تقصدين، لن تعودين للقصر!...بعد كل ما مررت به، لم؟
أجابت و نظرتها الثاقبة تخترق واقعا عميق المغزى: يجب أن أرى ما آلت له الأمور في غيابي، قد يكون عملي في الخفاء لهدم مخططات رابوف أمرا حكيما أكثر...

صمتت برهة قبل أن ترمق موصلها بنظرة تفحص مشككة:...ذلك المينا، أخشاه... ليس من الطبيعي أن يكون ولي عهد النطاق الجنوبي أوصلنا بنية حسنة، هو يخطط لشيئ يهيبني حتى التفكير فيه.

شعرت بريفيت بالبلاهة فقالت: أعتذر آنستي، لم أفهم شيئا مما بينت!
أطلقت الأخرى ضحكة خفيفة بينما ترمي خصلاتها الطويلة ممتدة على ظهرها : أقصد... هناك عفريت بشري يحاول استراق النظر على أحوال نطاقنا ، لإستغلال ذلك في صالحه.

شهقت خضراء العين باسطة كفها أمام شفتيها الصغيرة: تظنين؟!

أومأت برفيسيا مؤكدة : أجل، لكني سأجعله يندم على تفكيره الأرعن هذا.


قراءة ممتعة،،،،