عرض مشاركة واحدة
  #82  
قديم 11-27-2016, 06:13 PM
 

قراءة ممتعه


في اليوم التالي لم يبق في المدينة من لم يسمع الخبر ، وتهافت المعزون ليحضروا الجنازة ، وموراسيم الدفن ..
الأجواء مشحونة بالعواطف الجياشة والسماء تحاملت على نفسها حتى لا تسكب عبراتها هي الأخرى في ظل السحب الكثيرة والبرودة النسبية .
أرسل راوند إحدى الخادمات لتحضر إستيرا لغرفة الطعام ، لقد أخبره الطبيب أنها ستكون على ما يرام بحلول الصباح وهذا ما جعل قلقه الشديد يقل نوعا ما ، ولربما سيضمحلّ إن رآها بخير الآن .
أحدثت الخادمة طرقا خفيفا قبل أن تدخل غرفة استيرا ، لم تجدها -كما توقعت- في فراشها ، بل كانت أمام المرآة تحدق بعينين ذابلتين في الفراغ ، حاولت الخادمة بشتّى الطرق كسب إلتفاتة منها ، ألقت التحية الصباحية ، سألتها عن حالها وكيف تشعر ، أخبرتها كيف عالجها الطبيب أمس ، أوضحت لها طلب راوند لتتناول الفطور ، حاولت كذلك -وبصفة متكررة - أن تجعلها تتحرك لترتدي ثيابا ملائمة .. لكن !! لا حياة لمن تنادي ..
فلم تقم الفتاة بأي شيء لتعبر عن إدراكها لما يحدث حولها ..
تنهدت الخادمة بقلة حيلة ، ثم قامت بسحب فستان طويل ذو كمين بلون أسود وألبسته لها فوق ما كانت ترتديه . لم يبدو مظهرها غريبا فملابسها كانت خفيفة على أية حال ، قامت بعدها بتمشيط شعرها وربطه ، ثم أحاطتها بذراعها لينزلا معا نحو غرفة الطعام ،
ما فاجأ الخادمة وجعلها تتأسف على حال الفتاة . هو عندما أنشأت استيرا تتساءل :"ماالذي حدث ؟ مالذي حدث ؟"
تكرر عبارتها مئات المرات كأنما تخاطب أشباحا تتراقص في الفضاء أو كأنما فقدت إدراكها لما حولها .
ومع استمرار طرح ذاك السؤال وصلتا لحجرة الطعام حيث ساعدت الخادمة استيرا في الجلوس على مقعدها وغادرت..
نظرت استيرا للكراسي الفارغة حول الطاولة وخاطبت دون النظر لأخيها :" لم يأت والدايّ بعد ، سيأتيان ليلا ومعهم الكثير من السمك ، إلى ذلك الحين سأنتظر مجيء راوند و.."
فاجأتها يد غريبة توضع على كتفها ، رفعت رأسها لتجد راوند يرمي بحزن عميق في صوته وهو يردد :
" أعلم أنك لن تألي ، تعالي معي لمقابلة بعض الأشخاص اللطفاء ، علّ هذا يخفف عنك "
سحبها بلطف وقادها نحو القاعة المشؤومة المليئة بالمعزينَ.
فور دخولهما بدأ الواحد تلو الآخر يأتي .. فيصافحهما ويبدي أسفه وتعاطفه ليحل آخر محله ، كان كما هائلا من الأيادي المكلله بعبارات لم تفهم استيرا ماالذيترمي إليه ؟ مالذي يقصدونها ؟ مالذي أتى بهم أصلا ؟
لكن كلما تسأل راوند يشيح بنظره عنها بكيفية غريبة ذاك مغزى مبهم .. لم تمر دقائق بعدها إلا وقد أحيطت بصديقاتها ، تضاربت أقوالهم وتهاطلت دموعهن لكن لم يصلها شيء مما تحدثن به ، ولما همت بالسؤال ،إلتقطت أذنها عبارة من روزا تقول فيها :" آسفة لموتابويك وجدك ، أعلم كم تحسنت الأوضاع بينكم في الفترة الأخيرة ، خسارتهما أمر صعب ، لكنك تملكين أفضل ذكريات عنهما الآن ، "
لحظة مالذي .....!! كأنما الغشاء الذي محى كلما أدركته الليلة الماضيه قد زال ، تذكت كل شيء ..
فقد شعلتي سعادتها وجدها اللطيف أيضا ، لم تحتمل أمس الحقيقة وهاقد وقعت الصدمة عليها من جديد ،
أحست بخنجر يغرز في قلبه .. ذاك الخنجر الذي ما إن غرز لن ينتزع ، خنجر الفقدان الذي لا يقتل القلب فيريحه ،
ولا يتركه بجرح قد يبرأ بطول المدى ..
دخل ذاك السلاح فتداعى له كل جسدها بشلل تام .. استمر لحظات قبل أن تسقط ناحبة كأنما سمعت الخبر أول مره ،
إنهارت تماما في ذاك الوقت ، راوند وقف مكبل الأيدي وهو لا يستطيع فهم شيء، وأمطرت أسئلة الحضور حول ما جرى لها ، ؟ فيما اسرعت مدبرة المنزل لتحضنها مخفية وجهها ، ثم توارت رفقتها لتصعدا لغرفتها ، وفيها لم تتوقف استيرا عن النحيب كالمخبولين تحاول التعبير عن ألمها ، أو إخراج العلقم الذي يضغط على فؤادها ..

لا أحد يدري شيئا غير أنها كانت في حال يرثى لها
ــ
ـعندما حل مساء ذاك اليوم الشنيع كنت قد أوقفت سيل دموعي ومشاعري إلا من دمعات أبت الخضوع لرغبتي ، وجعلتني أظهر ضائعة حائرة في أمري ، لا أقد على الصراخ فصوتي بحّ واندثر ، لا أقدر الحراك فأعضائي للتعب أعطت النذر ، حتى فكري زال لما أريد تذكره ، إحتجت عودة قاي لأبكي بها ، أعبر بها ، أنادي بها ، وأصرخ بها ، كما اريد انا وليس كما يرغب به جسدي ،سئمت تصديق الجحيم الذي يتبدى لي بعد كل سعادة اعيشها ،
كذبت الخبر حتى جفت دمائي ،والآن لا اجد غير التصديق، أصدق موت أحبابي لكني لا ادركه بوجداني ، أقول ماتوا ولست فاهمة لذلك .
عند الساعة السابعة تقريبا ذهب الجميع لمكان تزدحم فيه الاجساد المُواراة تحت الثرى ، اسمه " المقبرة "
الغيوم السوداء والحفر الثلاث امامي اعادتني لزمن النحيب والعويل ، لا تدفنوهم لا تتركوهم هنا وحدهم . إجعلوني معهم .. تلك الأيادي تقيد حركتي .. كما قيدَتها قبل هذا حينما أخذت أرى وجوهمم وهو في التوابيبت ، لم أعد احتمل صرخت : "دعوني ادفن معهم ، أتركوني .." لا مجيب !
ترجيتهم :" أرجوكم اقتلوني معهم " لكن لا ملتفت لي حتى اللبيب ، ..
جعلو التراب فوق جدي ، ألا يفهمون ؟ لن يتنفس هكذا . ضعط التراب سيؤلم صدره ، شرحت لهم ذلك ، لكن لم تحن إلي أي إلتفاة حتى من راوند البعيد ، أهالوا الثرى على ابي وأنا افرغ كل ما في جوفي من مناجاة ، كالعادة برود يصم آذانهم ويرديني فيهاوية الإرهاق ، بدأت اشعر بالدوار من كل هذه الأحاديث واللامبالاه ،
ماهذا الاستخفاف والاغلال البشرية التي تشل حركتي ؟ كذت اهوي على ارض المقبرة قرب والديّ كما يهوي المنتحرمن بناء شاهق ، لكني تماسكت قليلا ، حتى الأيدي التي شدت عليّ طوال تلك الفترة بدأت تخف
وتزامن ذلك من بدأ رمي التراب على صندوق أمي ، لن أقبل ، لن أتوقف ، سأفعل شيئا ،
تملصت منهم ورميت بنفسي على صندوقها متشبثة به ، رحت أناديها .. أناغيها ، أتكلم ولا ألقي بالا لكلام الناس في الأعلى ، أحس بالدفء ، دفء ينبعث مِن مَن لا دفء له ، غريب لكنه احساس بالإنشراح .
عادت أيدي الشخصين تسحبانني وأنا أشد أكثر صارخة بهما :" دعاني ، جعاني ، إنها أمي ألا تفهمان ؟"
ليأتيني رد أحدهما :" عليكِ تركها تنعم بما قدر لها " ، لأصرخ أكثر والدموع لا تتوقف عنالانهمار :" اريد البقاء قليلا معها أرجوك دعني ، أرجوكما ابتعدا ، " لكنه أجاب :" من فضلك ابتعدي الآن "
واصلاسحبهما لي وأنا أناضل لأتشبث بها ، ناديت راوند عله ينجدني لكنه لم يفعل بل قال بصوت أجش :
" أرجوك توقفي استيرا ، لا تحزنيها ."
أحونها ؟ إني فقد أريد البقاء معها ؟ كيف أحزنها ؟ لا أحد يفهمني .. اريد البقاء ..
في المره الأخيرة سحباني بقوة عظمى لم تستطع أصابعي مقاومتها ، سال الدم منها لكني لم أخظى بمداواته ، وقيل لي فيما بعد أني إحتجت لإبرة مهدئة .
ـ

بداية اعتذر على التأخير ..
وأتمنى لكم قراءة ممتعه
رد مع اقتباس