عرض مشاركة واحدة
  #322  
قديم 09-01-2016, 02:01 PM
 



الفصل الرابع و الستون
*بزوغ الضياء*




أخذت تشهق و تكفكف عبراتها ، ثم تجلس باعتدال على كرسيها ، و انشغل آلويس بدوره بتجفيف عينيه في صمت ، و فيما هم على هذه الحال فتح الباب بدرجة لم تلفت انتباههم و أطل عبره رأس صغير . أخذت عيناه الخضراوان تختلسان بتردد و شك النظر إلى الداخل ، و ما كاد بصره يمر بآلويس حتى تنبه هذا الأخير و نظر ناحيته.

تبسم بود و هو يقول :

"أهلا بك مايا !"

التفتت لونا و قد اتسعت عيناها المحمرتان في تفاجؤ ، و تطلعت بمحبة رقيقة إلى حيث تقف مايا مرتبكة ، و شبه متوارية خلف الباب.

مالت لونا في اتجاهها و قالت بابتسامة ترحيب عذبة :

"لم ما زلت واقفة هناك ؟! تعالي !"

دفعت الصغيرة الباب ، و تقدمت تجر ساقيها باضطراب . بدت محرجة و غير واثقة من صواب دخولها عليهما في هذا الوقت ، فقد دل احمرار عيونهما و الآثار الرطبة التي حفرتها الدموع في وجهيهما على أن حوارا عاصفا بالاحاسيس قد جرى لتوه.

ألقت على آلويس نظرة اعتذار سريعة ، ثم دارت بعينيها نحو لونا و شرعت تقارن باستغراب بين صورتها الحالية و الصورة التي قابلتها فيها للمرة الأولى . كان الاختلاف كبيرا جدا ، من حيث الشكل و ردود الأفعال و حتى الجو ، و لولا الصوت لما كان في وسعها معرفة أن هذه الفتاة اللطيفة ذات الشعر الأحمر الطويل هي نفسها كوبرا المتسلطة حادة الطباع بشعرها الأسود القصير و عينيها الزرقاوين.


بدت محتارة إلى أي واحد منهما تذهب أولا ، لكن لونا وفرت عليها عناء التفكير حين مدت يديها نحوها ، فاستجابت الطفلة سريعا لدعوتها.

احتضنتها بدفء و رقة و قالت متأسفة :

"آسفة جدا لأني تركتك في عهدة ذاك المجرم يا صغيرتي ، لم أكن أعرف أبدا أي شيء عن حقيقته !"

تدخل آلويس مبتسما :

"كان لفعلك هذا فوائده أيضا ، فمايا الصغيرة أنقذت حياة بيكارت و أمه و أكدت لي أيضا صحة شكوكي حول لامارك !"

بدت لونا مبهورة ، طرفت عيناها في دهشة قبل أن تحطا ببطء على وجه مايا المبتسم في فخر.

"إذن فهذه الشقية كانت تعمل جاسوسة لديك كما توقعت !"

أطلق ضحكة قصيرة.

"أفضل وصف العميلة السرية !"

فرفعت لونا رأسها نحوه و زوت ما بين عينيها في تشكك.

"و ما الفرق ؟! مهما اختلفت التسمية تبقى الوظيفة واحدة .. و هي التجسس علي !"

"قد تستغربين إن قلت لك أن ذلك لم يكن هدفي الأول من إرسالها إليك !"

"حقا ؟! و ما هو إذن ؟!"

تضاءلت ابتسامته قليلا فيما نظراته ترق و تسكن و تنحدر تدريجياً من وجه لونا نحو الجدار.

"كنت أريد .. أو بالأحرى تمنيت أن تكون مايا قادرة على انتشالك من حزنك و عزلتك .." تنهد بعمق ، ثم عاد ببصره إليها لكن بابتسامة أوسع "كنت أنت من أنقذني من وحدتي و يأسي .. أنت الطفلة المشاكسة طويلة اللسان !" ألقى نظرة حانية على مايا "لقد رأيت عينيك في هذه الطفلة ، تمردك ، ذكاءك ، و صخبك . إنها تشبهك من عدة نواح ، و حين أدركت ذلك ، خطر لي أنها ربما تستطيع مساعدتك كما ساعدتني أنت في وقت ما.. "


تطلع إليها ، فأطرقت و أزاحت خصلات شعرها الأحمر عن وجهها الذي جمدته علائم الذهول.

"لم .. أتوقع شيئا .. كهذا !"

"أعلم !"

عندها دخلت مايا الحوار الدائر عابسة :

"لكنني لم أكن مثل أختي .. فقد فشلت في النهاية !"

فأخذتها لونا ببن ذراعيها و هي تقول :

"لم تفشلي يا صغيرتي .. لقد أثرت فيّ فعلا ، و لولا العودة المفاجئة لذلك الشرير لاستطعت إتمام مهمتك بنجاح منقطع النظير !"

بدا عليها التفاجؤ و أوشكت أن تبتسم برضا ، لكن فكرة ما مرت بخاطرها و جعلتها تمط شفتيها و تعقد ذراعيها في استياء.

"لكن مهمتي مع ذلك لم تكن سرية كما كان يفترض بها . لست أنت وحدك بل حتى ذاك المزعج بيكارت اكتشف سري !"

"حقا ؟! هل فعل بيكارت ذلك ؟! متى ؟!"

أجاب آلويس :

"في نفس اليوم الذي جاءتك فيه . لقد شك بيكارت في أن يكون أحد الأعداء قد أرسل مايا للتجسس عليك ، فقام بتخويفها و ظل يهددها و يحاول انتزاع المعلومات منها حتى أعطته عنواني .. فجاء إلي ، و .. أقنعته بطريقتي الخاصة !"

تراقصت ابتسامة مفعمة بالخبث على أطراف شفتيه و هو يضيف عبارته الأخيرة . تطلعت لونا إليه و ضيقت عينيها بارتياب . مرت لحظات قصيرة قبل أن تتنهد و تنهض قائلة :

"حسنا.."

سأل آلويس في غير سرور :

"هل ستذهبين ؟!"

"نعم ، لكن سأمر على بيكارت قبل ذلك.. "

"آه .. سمعت أن الزيارة ممنوعة عنه في هذا الوقت !"

كان يتحدث بصورة طبيعية ، هادئة ، دون عبوس أو تجهم ، لكن لونا لم تكن لتنخدع بهذه البساطة ، تبسمت بمكر و قالت :

"ستصبح مسموحة عندما يعرف بقدومي !"

فهز منكبيه مبديا حيادا و عدم اكتراث.

"افعلي ما يحلو لك ! هذا ليس من شأني !"


كادت تنفجر ضاحكة . إنه بارع في أي شيء إلا إخفاء غيرته.


و فيما توليه ظهرها و تسير نحو الباب ، رمق آلويس مايا بنظرة لها مغزاها ، فهزت الطفلة النبيهة رأسها ثم جرت نحو لونا قائلة :

"أريد المجيء معك أختي !"

حلت الدهشة على وجه المعنية ، و سرعان ما اكتسحها الشك و حدقت إلى آلويس بنظرة اتهام ، فتظاهر الأخير بالبراءة و الانشغال بمطالعة كتابه.

قالت لمايا مبتسمة و هي تدير مقبض الباب و في الوقت ذاته تحدج آلويس بنظرة ماكرة :

"في المرة القادمة .. عزيزتي !"

ثم خرجت كاتمة ضحكتها ، و تبادل الكونت مع مايا نظرات الخيبة العابسة.


⭐⭐⭐


بينما كان الكونت مجتمعا بأبناء خاله كان جاستن يجلس متثاقلا في غرفته يشاهد بملل و قدر ليس بقليل من الاحتقار فلما حديثا للبطل الخيالي الشهير باتمان.

لم يكن يشاهد بقدر ما ينتقد و يشتم و يلعن في باتمان و حتى الجوكر و الذي كان يمكن أن يحوز على إعجاب جاستن لولا بعض تصرفاته الخرقاء و أخطائه غير المقبولة.

و فيما هو يترقب نهاية الفيلم منتظرا أي تحسن في سير الأحداث كموت باتمان على سبيل المثال .. انتفض فجأة و تنبهت كل خلية في جسده و تحضرت لاقتراب كائن غير طبيعي.

نظر تلقائيا نحو الباب ، ثم أطفأ شاشة التلفاز ، و أرهف سمعه . حسب أنه سمع جلبة و أصوات أقدام في الممر أثناء مشاهدته الفيلم ، لكن كل شيء بات هادئا الآن.

قطب جبينه في انزعاج ، و رفع جهاز التحكم ليعيد تشغيل التلفاز ، لكنه ما كاد يضغط زرا حتى انتصبت قرون استشعاره الخفية و توهجت بالأحمرار منذرة خطرا يقترب.
و قد أكدت الضوضاء التي تعالت فجأة خلف بابه صحة هذا النذير.


"هذه غرفة رون ، أليس كذلك ؟!"

شحب وجهه لدى سماعه صوت آخر بشر في الدنيا يمكن أن يسعد بلقائه.

و بكل ما استطاع من سرعة ألقى جهاز التحكم ، و لف الغطاء الأبيض حوله فلم يعد يظهر منه شيء.

لم تكن به رغبة و لا حتى قوة لرؤية تلك المزعجة ، فقد استنزف ذلك اللعين آلويس كل طاقته و احتماله.

تدثر بالغطاء جيدا و قال مجيبا على طرق الباب :

"ا.. دخل !"

كان يهم بأن يقول "انقلعي من هنا أيتها الشمطاء الغبية" ، لكنه تدارك نفسه في اللحظة الأخيرة - فذلك التصرف العنيف سيؤكد وجوده بلا شك - و ضغط بإصبعيه على أنفه ، فخرج صوته رفيعا حادا أشبه بصوت العجائز.

فتحت الباب بروية ، و مشت خطوتين داخل الغرفة ، ثم قالت بشك :

"أ .. هذا أنت يا رون ؟!"


رد جاستن بذات الصوت العجائزي الرفيع :

"لا .. من يكون رون هذا ؟!"

أجابت ويندي بسرعة كما لو كانت تحفظ الإجابة عن ظهر قلب :

"إنه شاب عنيف ، غريب الطباع ، قذر اللسان لا يتوقف عن قذف السباب و الشتائم في وجه كل من يمر به ، لكنه صديقي !"

و دون سابق تفكير صرخ حانقا مشمئزا بصوته الطبيعي :

"لست صديقـ.."و ابتلع باقي الكلمة بعدما انتبه للخطأ الفادح الذي كاد يرتكبه ، و قال مصححا : "أعني .. لم أر شخصا بهذه المواصفات في هذا الطابق !"

"حسنا.. "

قالت ويندي بقليل من الخيبة و كثير من اللامبالاة ، و عندما أحس جاستن بإقتناعها أرخى الغطاء عن وجهه و رفع طرفه قليلا ليستنشق بعض الهواء ، فتغضنت قسماته و اخضر لونه جراء الرائحة المقيتة التي تسللت إلى أنفه.

حاول إغلاق أنفه و تجاهلها قدر إلامكان ، لكنها كانت أبشع من أن يغض الطرف عنها ، فألقى الغطاء و انفجر صائحا :

"أيتها الخرقاء اللعينة كيف تجرؤين على إدخال هذا الـ... إلى غرفتي ؟!"


كانت ويندي تقف قرب الباب ، حاملة بين يديها علبة بيتزا ساخنة مفتوحة الغطاء قد فاحت رائحتها العابقة بنكهة الفليفلة الخضراء في أرجاء الغرفة.

رفعت حاجبها في استنكار مصطنع لرد فعله العنيف و قالت ضاحكة :

"إنها مجرد فليفلة !"

"تعلمين أني أكرهها أيتها الحقيرة !"

و أمسك جهاز التحكم و الذي كان آخر ما تبقى من الأغراض التي في مقدوره حملها و قذفه في اتجاه ويندي ، لكنها انحنت بسرعة فاصطدم بالجدار و تناثر حطامه عند قدميها.

فغرت فاها و هي ترمق بعين الذهول ما تبقى من جهاز التحكم ، ثم التفتت نحو جاستن .. أمعنت النظر فيه بصورة غامضة ثم تنهدت قائلة :

"رون ! إنني آسفة حقا لكني مضطرة لرفض عرضك !"

"عرض ؟! عن أي شيء تتحدثين أيتها الغبية ؟!"


ففتحت ويندي عينيها مبدية دهشة و عجبا و قالت كمن يفسر شيئا من البديهيات :

"عرض الزواج بالطبع !"


زمجر و عضلات وجهه تتشنج و تضطرب و دماؤه تغلي و تفور داخله :

"أنا أعرض الزواج عليك ؟! متى حصل ذلك .. يا ذات الرأس الفارغ ؟!"


و تلفت حوله بحثا عن أي شيء يمكن رميه عليها ، لكن لسوء حظه و حسن حظها لم يجد ضالته ، فبعد السلوك العدائي الذي أظهره و ما زال يظهره أبعد الطبيب عن متناول يده كل شيء تقريبا.

و في الأثناء وقفت ويندي ببطء و أخذت تفسر بجدية غريبة دونما ابتسام أو أي إشارة تدل على المزاح :

"قديما في اليونان حين يرمي الرجل إمرأة بتفاحة فذلك بمثابة عرض بالزواج ، و بالنظر إلى فرق القيمة بين التفاح و جهاز التحكم نستنتج أنك لا تعرض علي الزواج فقط ، بل أنك ستشنق نفسك بحبل الغسيل إن لم أقبل عرضك !"

و هزت رأسها مزمومة الشفتين في اقتناع لا يقبل الشك ، و
حدق جاستن إليها و هو لا يكاد يصدق أن يوجد من بين البشر شخص بهذا الدرجة غير الطبيعية من الغباء و الاستفزاز.

ارتجف صوته غيظا حين تكلم :

"من أين جئت بهذا الهراء ؟! ثم ما علاقة اليونان بالموضوع يا .. ؟!"

تجاهلت السبة الوقحة التي رماها بها في نهاية سؤاله و قالت بهدوء تتخلله مسحة تأنيب :

"كيف لا علاقة له يا رون ؟! من واجبنا الالتزام بعادات أجدادنا و المحافظة عليها !"

"حقا ؟!"


بلغ عندها قمة غضبه و بدا في تلك اللحظة على أتم استعداد لحمل الطاولة الثقيلة بجواره و رميها على رأسها.

"تغربين عن وجهي الآن .. أو أشطر رأسك نصفين بهذه الطاولة ؟!"

و هم بالنزول من سريره متجاهلا كليا إصابة قدمه ، فتراجعت ويندي و هي تضحك :

"أنت سريع الاشتعال فعلا !" و رفعت علبة البيتزا مضيفة : "و بالمناسبة هذه لجميس و ليست لك ، لكني استعرتها كي أستعين بفليفلتها الخضراء في كشفك !"

رسمت على شفتيها ابتسامة ماكرة مفعمة بالثقة ، و دخل جيمس و هو يضحك ممسكا كيسا مملوءا بالحلويات .. قال مخاطبا جاستن :

"مرحبا روني ! أحضرنا لك وجبة خفيفة !"

"انقلع من هنا أنت و وجبتك ! و لا تنادني بهذا الاسم السخيف مجددا !"


فعبس جيمس دونما انزعاج حقيقي:

"تبا لك ! لم تتغير مطلقا ، على الأقل قل شكرا !"


"أنتم من عليه شكري و تقبيل قدمي امتنانا لأني لم أقتلكم حتى الآن !"

فتبادل ويندي و جيمس النظرات الضاحكة قبل أن يقولا معا على الطريقة الناعسة لطلاب المدارس الكسالى :

"شكرا سيد رون !"


جعد المعني جبينه و ضيق عينيه بحدة على وجهيهما ، لكنه لم يصرخ بل حدجهما بنظرة تحذير أخيرة و عاد يستلقي في سريره.
و عندما استشعرت ويندي خمود بركانه أعادت لجميس البيتزا و أخذت بدلا منها كيس الحلويات ، ثم أخذت تخطو ببطء و حذر من سرير جاستن الذي ما إنفك يصوبها بنظرة غير مأمونة.

لوح جيمس مودعا ، ثم غادر الحجرة في الوقت الذي حط فيه الكيس على طاولة جاستن.

"أراك قريبا.. "

قالت ويندي مبتسمة قبل أن توليه ظهرها و تهم بالابتعاد عنه ، لكنه استوقفها بسؤاله الحاد :

"ما الذي كنت ترمين إليه بكلامك ذاك ؟!"

التفت إليه في عجب سرعان ما اختفى و حلت محله ابتسامة قططية مشاكسة :

"تعني عرض الزواج اليوناني ؟!"

فصرخ جاستن حتى كادت حنجرته تتفتت :

"لا يا غبية !"

انتظر حتى هدأت أعصابه و خف احمرار وجهه ، ثم قال بصوت أكثر هدوء :

"أقصد ما قلته لي في كان .. ماذا كنت تقصدين من وراءه ؟!"

و ارتمى الغباء بكل تعابيره السمجة على وجهها ، زمت شفتيها و حكت رأسها محاولة التذكر.

"عن ماذا تتحدث بالضبط ؟!"

"ترهاتك عن النصر الشريف يا عقل الذبابة !"

فضحكت عندها باستمتاع.

"أها الآن تذكرت !" أحاطت وسطها بيديها من كلا الجانبين و أردفت بابتسامة ثقة مفرطة : "كنت أعرض فلسفة وينفلاطون الخاصة حول هذا الموضوع !"

"وينفلاطون ؟!"

"إنه اسمي الفلسفي !"

"كفي عن التغابي أيتها الغبية !"

"كيف أكف عن التغابي إن كنت غبية كما تقول ؟! هذا أشبه بأن تقول لسمكة ألا تسبح أو لطير ألا يطير !"


و سكت جاستن ليسيطر على أعصابه و يمنع نفسه بالكاد من تكسير رأسها .
أغمض عينيه و استنشق نفسا طويلا ، ثم زفره ، و بعدما خففت هذه العملية من غضبه إلى حد ما فرج جفنيه و نظر نحوها بحدة و خرج صوته جادا :

"كنت تعرفين هدفي من وراء زيارة شقيقة وليام أليس كذلك ؟!"

هزت كتفيها و ردت دون أن تتبدل تعابيرها المستغربة :

"لم أكن أعرف . شككت فقط !"

"و كيف ساورك هذا الشك ؟!"

"أنت لست شخصا اجتماعيا و لا تواقا لملاقاة الناس يا رون ، ثم إنك لا تحب كلارك ، و لم تبد مطلقا أي اهتمام سابق بشقيقته . لم يمر ذكرها على لسانك قط ، لكن ما لفت انتباهي و جعلني أرتاب فيك أكثر من أي شيء آخر .. هي النظارات !"

بدت الدهشة عظيمة على وجهه و هي تتابع :

"لم تكن ترتديها ، و حسب ما أذكر فإن النظارات هي ما تبقيك تحت السيطرة !"

أزاح عينيه عنها ببطء مأخوذا بالمفاجأة . كان يحسب خطته كاملة محكمة ، و لم يصدق أن يكون قد ارتكب غلطة فادحة واضحة كالشمس مثل هذه الغلطة . شد على قبضتيه في غضب و خيبة عارمين من نفسه و لم يردف شيئا حتى قالت ويندي و قد ابتسمت فجأة :

"يجدر بك أن تكون سعيدا و ممتنا لهذه الهفوة ، فقد أنقذتك من عار قد يدنس كبريائك حتى الممات !"

فالتفت نحوها في سرعة و عنف و فاضت العدائية من بين كلماته :

"هل أنت مسرورة لأن محاضرتك السخيفة ردعتني ؟!"

"بل لأن كبريائك لم يخيب ظني !"


فاجأه جوابها العفوي غير المتوقع بالنسبة له ، و لم يجد ما يمكن قوله ، فلزم الصمت ، و تهاوى غضبه فجأة تاركا وجهه ساكنا ، خاليا من التعابير.

تبسمت بعذوبة و استدارت لتغادر.

"شغلي التلفاز و ناوليني كيس الفوشار !"

قال جاستن بلهجة آمرة ، فاتسعت ابتسامتها حتى صارت ضحكة و نفذت طلباته بنفس راضية.

و فيما كانت جاثية عند التلفاز تضبط درجة الصوت على المستوى الذي يريد .. انفتح الباب و دلف إلى الداخل رجلان.

التفت ويندي و جاستن ناحية الباب يتوقعان رؤية كلارك و جيمس ، لكن توقعهما لم يكن صائبا ، بل بعيدا جدا عن الواقع.

هتفت ويندي في دهشة :

"رفاييل !"

و نظرت بمتعن للرجل الآخر رسمي المظهر و التعابير ، لكن لم تتعرف عليه ، أما جاستن ففي تلك اللحظة فقط استطاع تذكر من يكون رفاييل هذا ، فبدا عليه مزيج غير لطيف من الدهشة و الاشمئزاز.

"كنت أستاذ الرياضة المزعج في مدرسة ستراسبورغ ، أليس كذلك !"


التفت المعني بشيء من التفاجؤ ، و ما لبث أن تبسم بطريقة مشاكسة و أومأ بالإيجاب.
تجهمت ملامح جاستن في عدم ترحيب و غير مودة ، و قال رفاييل بلا اكتراث :

"كيف حالك الآن ؟!"

"كنت بخير .. قبل مجيئك أنت و .."

و حدج الآخر الغريب بنظرة فاحصة محاولا أن يتذكر إن كان التقاه قبلا أم لا ، و قد أكد له رفاييل الاحتمال الثاني حين قال معرفا به :

"السيد والتر !"

حيا السيد والتر جاستن بهزة مهذبة من رأسه ، لكن الأخير لم يردها ، لم يبتسم ، و لم يبد على وجهه الترحاب بقدومهما.

قالت ويندي بشك مخاطبة رفاييل :

"من الأفضل أن أنصرف .. صحيح ؟!"

"لا ، يمكنك البقاء إن أحببت !"

و تطلع الاثنان مع السيد والتر إلى جاستن ، و الذي لم يعجبه تحديقهم به و هتف بفظاظة :

"إلى ماذا تنظرون أيها الحمقى ؟!"

ضحكت ويندي ، و التفت السيد والتر مدهوشا نحو رفاييل الذي أطرق رأسه و بدا عليه الحرج.

رفع بعدها عينيه بنظرة تأنيب إلى جاستن و قال :

"ثمة أمر هام نود التحدث إليك بخصوصه .. هل تسمح و تعطينا شيئا من اهتمامك ؟!"

قال جاستن بحدة و تعالي :

"و ما هو هذا الأمر ؟!"

عندها انحنى السيد والتر ، فتح حقيبته ، ثم أخرج منها مظروفا و استقام قائلا :

"إنه بخصوص ثروتك .. سيد جاستن مور !"


تباعد حاجباه عن عينيه الذاهلتين بالغين أقصى ارتفاع ، و استغرق الأمر منه وقتا قبل أن ينفض عنه الدهشة و يستعيد لهجته الحادة غير الودودة.

"قلت ثروتي ؟! كيف ؟! ألم يكتب ذلك الحقير وصيته ؟!"

كان يتوقع أن يتزوج و ينجب أطفالا آخرين يوصي لهم بكل أملاكه عند وفاته ، لكن يبدو أنه لم يفعل و لم يكتب وصيته أصلا و إلا كيف آلت إليه الثروة ؟!

رد السيد والتر بعدما أزال عن وجهه العجب الذي أثارته وقاحة جاستن في الحديث عن أبيه :

"في الواقع .. نحن نعمل وفق وصيته !"


طوال كل سنين حياته لم يسبق أن مرت به صدمة مماثلة لهذه التي حطت على سحنته بغتة . تصلبت عضلاته ، انسحبت الدماء من وجهه ، و ضاعت كلماته في حلقه.

عاد السيد والتر يقول و هو يسير نحو جاستن :

"كنت محامي أبيك السيد باتريك مور ، و قد كلفني قبل موته بالبحث عنك و تحويل ثروته بكاملها إليك ! و هذا هو نص الوصية !"

و أخرج من المظروف ورقة طويلة سلمها برفق لجاستن . التقطها الأخير بأصابع متخشبة و أخذ يقرأ ما دون فيها و هو شبه حابس أنفاسه.


«أنا باتريك توماس مور ، أوصي و أنا بكامل إرادتي و قواي العقلية بكل أملاكي و أموالي المنقولة و غير المنقولة لابني الوحيد من هيلين جين سكوت !»

رفع عينيه ببطء عن الوصية و نظر إلى المحامي ذاهلا.

"ا.. ابنه الوحيد ؟!"

"أجل ، أنت ابنه الوحيد فهو لم يتزوج ، و مع أنه كانت لديه خليلة إلا أنه لم يرزق منها بأطفال .. "

"قلت أنه كانت لديه خليلة ؟!" و تذكر على الفور تلك الشقراء المتكبرة التي رآها برفقة والده في المطعم الإيطالي "لماذا لم يشركها في الوصية إذن ؟!"

"في الحقيقة كان قد أوصى في وصيته السابقة بكل ثروته لها ، لكنه قبل موته بأسبوع جاء إلي و كتب وصية جديدة هي هذه التي بين يديك !"

تنهد ثم أردف بغم مجيبا على السؤال الحائم في نظرات جاستن :

"لقد ترك والدك معي رسالة أخيرة طلب مني ألا أفتحها حتى يموت !"

و دس يده في حقيبته برشاقة و أمسك ظرف رسالة تركه يسقط في يد جاستن . فتح الأخير الظرف بسرعة نسبية و فض الرسالة بسرعة أكبر.


«عندما تقرأ هذه الرسالة سأكون قد مت و ربما دفنت أيضا . لا شك أنك تساءلت عن السبب الذي دفعني لكتابة وصية جديدة .. لقد امتنعت عن إخبارك به في حياتي ، لكن بعدما رحلت عن عالمك المشؤوم لا يسعني غير أن أترك كلماتي تخبرك به . لقد قُتِلت يا والتر ! قتلتني يدان آثمتان إحداهما لي و الأخرى لديانا الخائنة ! أنت تعرفها تلك الفتاة الشقراء نصف الإيطالية التي عاشت في قصري و أنفقت أموالي في شراء الجواهر و الملابس و السيارات لأجلها . أحببتها كثيرا .. كثيرا جدا ، و أوصيت بكل ما أملك لها ، و كانت الأخيرة أفظع و أغبى غلطة .. أو ربما لم تكن كذلك .. لا أدري حقا ، لكنها كشفتها على حقيقتها .. جشعة ، جاحدة ، عديمة الضمير لا تتوانى عن اقتراف أي جريمة في سبيل مصالحها . كان من المؤسف أني اكتشفت الأمر متأخرا بعد أن ظلت تسمني نصف شهر . كانت تخفي داخل علبة الأسبرين في حقيبتها الفرنسية الحمراء حبوبا مشبعة بسم بطيء المفعول خفي الأثر . قد تسأل الآن لم لم أمسكها متلبسة و أبلغ الشرطة ؟! الإجابة في غاية البساطة .. لأني أستحق هذه الميتة و هي تستحق أن تتعفن في السجن لآخر حياتها . كانت أسوأ امرأة و كنت أنا أسوأ رجل و كل منا يستحق مصيره . لا أعتقد أنك تدري فقد بذلت كل ما في وسعي ليظل الأمر طي الكتمان ، لكن زوجتي هيلين لم تهرب مع رجل آخر كما سولت لي نفسي الاثمة أن أشيع ، و إنما طردت طردا من بيت أبيها بأمر مني أنا . لقد نهبت كامل ثروتها و استوليت على كل بنس من أموالها ، ثم رميتها في الشارع هي و ابني الذي لم يكن قد ولد بعد . هل رأيت يا والتر إلى أي مدى يمكن أن يصل الطمع بالإنسان ؟! إنه لا ينسيه مبادئه و قيمه فقط بل يتعدى ذلك إلى إنسانيته نفسها ، يدوسها ، يسحقها ثم يتركه كائنا بائسا أدنى منزلة من أقذر الحيوانات . لقد أغوتني أنانيتي و هيامي بالثراء و دفعاني ليس للتخلي عن المرأة التي أحبتني من كل قلبها فقط بل حتى عن ابني الوحيد و الذي لا أعرف أين هو الآن و لا كيف يعيش . الحقيقة أني أردته و سعدت يوم أخبرتني هيلين باقتراب قدومه ، فرغم أني لم أكن أحبها إلا أني أحببته هو لأنه جزء مني بعد كل شيء ، لكن الخوف صار يتملكني خاصة بعد طردي لهيلين .. الخوف من أن يأتي ذلك الابن مختلفا عني . لا يهم إن جاء شبيهاً بأمه فهي ليست ذكية و لا مثيرة للانتباه ، لكن المشكلة كل المشكلة أن يأتي شبيهاً بجده . لو حصل ذلك ستكون نهايتي . لن يرحمني ، سينتقم مني ، و يفضح حقيقتي بين كل الناس ، و لأني لست شجاعا بما يكفي لمواجهته و طلب الصفح منه أوكلك بذلك يا والتر . ابحث عنه في كل مكان ، و عندما تعثر عليه أعطه هذه الرسالة . أريده أن يقرأ كلماتي .. أن يعرف ما حصل معي .. أن يدرك أن العدالة موجودة ، و هي أقوى و أكمل من أن تكون بشرية . أريده أن يسامحني ، و يسامح أمه ، فرغم اختلاف الأسباب كلانا تخلى عنه . سامحني يا بني .. اغفر لأبيك الآثم .. اصفح عني .. و عش حياتك !»



وقفت ويندي إلى جوار رفاييل و أخذت تراقب وجه جاستن شبه الخالي من التعابير محاولة استقراء أحاسيسه دون نتيجة تذكر .. قالت هامسة :

"كيف عرفتم بشأن أبيه ؟!"

بزغت على طرف فمه ابتسامة ماكرة و همس بدوره :

"لنشكر مكتشف الـ dna على هذا !"

تبسمت أيضا لكن ابتسامة مشرقة مفعمة بالبهجة ، و تطلعت إلى جاستن و هي تقول :

"أتمنى أن يغيره ذلك نحو الأفضل !"

"هذا ما أرجوه أنا أيضا !"











رد مع اقتباس