عرض مشاركة واحدة
  #317  
قديم 08-31-2016, 02:31 PM
 



الفصل الثالث و الستون
*أرجوك ابقي*




بدرت عنه تنهيدة أقرب للصفير و هو يطبق الكتاب ثم يلقيه بجوار الزهرية التي بدأت ورودها تذبل و تفقد عبيرها و نضارة لونها . لم يزره أحد اليوم ، و لم يجد ذلك غريبا ، فالساعة لم تتجاوز بعد التاسعة صباحا ، و أصدقاؤه عادة ما يأتون بعد ذلك بساعتين أو ثلاث.

التقط جهاز التحكم و شغل التلفاز ، لكن سرعان ما أطفأه ، فلم يشد ما يُبَث فيه اهتمامه . تنهد مجددا و زم شفتيه . أصبح الوضع روتينا مملا في الفترة الأخيرة . خاصة بعد أن تم إبعاده عن جاستن ، إذ كان يجد في إغاضته متعة كبيرة و هواية رائعة يشغل بها وقته.
ضحك لا إراديا حين مر بذاكرته وجه منافسه المتشنج من الغضب و عيناه المشتعلتان كفوهتي بركان . كان منظره مسل لدرجة تستحق المجازفة.


سحب نفسا ثم نفثه في ارتياح و رضا ، و استرخى فوق فراشه المريح ، و في الأثناء أخذ يسترجع و يتأمل ما حدث من مغادرته كورسيكا و حتى دخوله هذا المشفى . كان أول ما خطر على باله هي صورة مورفان و هو يفجر نفسه . رغم أنه شهد موته بأم عينيه غير أنه ما زال غير قادر على التصديق . هل انتهى ذاك الشرير فعلا و صار بإمكانه و أصدقائه مواصلة حياتهم بشكل طبيعي ؟! هل سيكون في مقدورهم حقا أن يمشوا بين الناس بوجوه عارية من الأقنعة حاملين أسماءهم الحقة التي كاد النسيان يجلوها من الذاكرة ؟!

هذا يبدو كحلم .. حلم جميل أسعد من أن يكون حقيقة ..
لكن من يدري ؟ فكثيرا ما يبهرنا الواقع بعجائب أبهى من الخيال.


بحركة سريعة مد يده و التقط هاتفه المحمول ، ثم تجاوز على عجل كثيرا من الأسماء المدونة قبل أن يجد ضالته في الأخير و يضغط زر الاتصال.

لم يأخذ الطرف الآخر من الوقت ثلاث ثوان حتى فتح الخط قائلا :

"مرحبا يا صاحب السمو ! كيف يمكنني أن أخدمك ؟!

رد آلويس في برود :

"لا أنصحك بالسخرية مني يا وليام . قد تقضي بقية عمرك في مشفى الأعصاب !"

فضحك المعني ملء فمه و رد في تهكم :

"أوه حقا ؟! يبدو أنك لا تعرف كيف قضيت طفولتي ، و مع أي وحش عشت .."

تأوه متألما و اختفى صوته بضع لحظات ، فتعجب آلويس ، لكنه ما كاد يتكلم حتى تنحنح الآخر و عاد لهدوئه قائلا :

"إذن.. كيف حالك اليوم ؟!"

"أفضل .."

"خبر جيد ، بالمناسبة لقد فاجأتني باتصالك ، فليس من عادتك أن تتصل في مثل هذا الوقت . أرجو ألا يكون هناك ما يسوء .. "

"لا داعي للقلق . كل ما في الأمر .. أني أردت الاطمئنان على لونا .. كيف أصبح حالها ؟! هل تحسنت ؟! أم ما زالت عنيدة لا تهتم بصحتها ؟!"

و بدت إجابة وليام مرحة لدرجة مبهجة كان لها أثرها الحميد على آلويس

"إنها أحسن حالا الآن ، و باتت تأكل وجباتها بانتظام إلى حد ما .. لن يطول الأمر حتى تعود لطبيعتها الوحشية !"

و أتبع كلماته بضحكة مشاكسة تتلاحق فيها أنفاسه .. بدا كما لو كان يركض .
تجعد جبين آلويس شيئا يسيرا و سأل بارتياب :

"هل..أنت تجري ؟!"

"إنها الرياضة الصباحية .. لا تهتم !"

بالكاد بانت كلماته بين لهاثه المتصاعد و ضحكاته المخنوقة ، فعبس آلويس و زاد عجبا ، لكنه تجاهل الموضوع و لم يوله اهتماما كبيرا . قال راسما على وجهه ابتسامة صغيرة :

"هناك أمر أود إخبارك به !"

"حقا ؟! بشأن ماذا ؟! لا ، انتظر لا تخبرني !"

"و لماذا ؟!"

"لدي لقاء مهم الآن !"

"لقاء مهم ؟! مع من ؟!"

"معك أنت !"


قال وليام و أطل برأسه من الباب المفتوح و ابتسامة واسعة تضيء وجهه.

حدق إليه آلويس في دهشة ، و رمش بعينيه مرة بعد أخرى ، فضحك الزائر غير المتوقع و دلف إلى الداخل قائلا :

"لم تتوقع مجيئي أليس كذلك ؟!"


فقال المعني ببطء و وطأة المفاجأة تخبو سريعا :

"ظننتك ستبقى بجانب أختك حتى تتماثل للشفاء .. " ثم عقد حاجبيه و قال مؤنبا بهدوء : "ما كان عليك أن تتركها بهذه السرعة ، ما زال عدد غير قليل من أعدائنا فارين ، و بعضهم مجهول الهوية حتى !"

فرد وليام بثقة بالغة و هو يدس يديه في جيوب معطفه و ينتصب بشموخ :

"أعلم هذا !"

"إذن .. "

تحلى وجهه بتكشيرة فاتنة بقدر ما هي ماكرة ، و تحرك نحو الباب و أشار بإبهامه قائلا :

"و لذا جئت معها !"


أمال آلويس رأسه للجانب ببطء و حملق بعينيه المغمورتين بالدهشة في وليام الذي ضحك و مد يده خارج الباب و هو يقول :

"هيا تعالي لم أنت خجولة هكذا ؟!"


و لم يصدق آلويس حتى رآها بأم عينيه تدخل الغرفة و تقف و هي تقريبا مختبئة خلف وليام . لم يسبق له أن شاهدها بهذا القدر من الخجل و الارتباك . يداها المتمسكتان بباقة ورد ترتجفان ، وجنتاها تتلونان بحمرة الكرز ، و عيناها تتحاشان النظر إليه قدر الإمكان.

ضحك شقيقها حين وجدها تتشبث به و قال ساخرا :

"لا تبدين أبدا كتلك الشرسة التي وكزتي بمرفقها قبل قليل !"


مطت شفتيها الحمراوين و رمقته بنظرة حادة ، لكنها سرعان ما هدأت و همست في أذنه بعض كلمات ، فهتف معترضا :

"لا أنت من اشترى الباقة و أنت من سيعطيها له !"


و لشدة ما انتابها من إحراج تلك اللحظة رفعت الباقة و غطت بها وجهها المحمر.

لم تكن الدهشة قد فارقت آلويس حتى ذلك الوقت . ما الذي جاء بلونا ؟! ألا يفترض أن تمكث مدة أطول في المشفى ؟! ثم أليست .. أليست على خصام معه و لا تريد رؤيته ؟!


و بينما تتقاذف النظرات مع أخيها ألقى آلويس سؤاله في تشكك و بعض التوتر :

"هل .. سمح لك الطبيب فعلا بمغادرة المشفى ؟!"

كان من الأسلم أن يخاطب وليام و هكذا نوى في البداية ، لكن أصابته عدوى الارتباك من لونا ، فوجه سؤاله مباشرة إليها ، و ما كان منها غير أن فوجئت لحظة ، ثم طأطأت رأسها و أجابت :

"أ.. أجل .. قال أني تحسنت كثيرا و .. أن في وسعي الخروج من المشفى لبعض الوقت .."


شعر بالحنين عندما طرق صوتها الناعم أذنيه ، و زينت وجهه ابتسامة رقيقة و هو يتطلع إليها . كانت تلك أول مرة منذ لقائهما في نيس توجه له كلاما بشخصيتها الحقيقية و مشاعرها الخاصة.

تحدث وليام مصححا :

"تقصدين ما قلته أنت للطبيب !"

لم تلتفت لونا إليه بل حدجته بنظرة خطيرة من طرف عينها ، لكن حبه الفطري للمجازفة دفعه لتجاهل تحذيرها و متابعة كلامه مخاطبا آلويس و هو يبتسم بمكر :

"منذ أن أعلمتها بإصابتك و هي تترجى الطبيب ليسمح لها بالمغادرة ، لم يقبل أول الأمر خاصة أن الوجهة بعيدة و قد تكون الرحلة مرهقة لها ، لكنه اضطر لتغيير رأيه بعدما أسرفت في إعطائه عددا لا يحصى من الوعود و التعهدات بالحرص على سلامتها و إتباع تعليماته !"

و عاد ينظر لشقيقته و التي لم تكن قطعا شاكرة له هذه المداخلة . ظلت تحدق إلى الأرض و كل مناها أن تنشق من تحتها و تبلعها لتخلصها من هذا الموقف المخزي ، لكن ليس قبل أن تحجز لوليام مكانا ملائما و ربما دائما في هذا المشفى.


أما آلويس فكان شعوره بعيدا و مختلفا عن شعورها و أكبر بكثير من مجرد تفاجؤ . كان الذهول و عدم الفهم يهيمنان على محياه ، و يكتسحان نظراته المثبتة على لونا التي لم تجرؤ على رفع رأسها فضلا عن ملاقاة عينيه.
و لما لم يكن قد صدق فلم تخامره أي بهجة ، على خلاف ما توقع ناقل الخبر الذي بدا عليه الإحباط و قال بقليل من الاستياء :

"ما بك ؟! لم لست سعيدا ؟!"

أجاب و هو يزيح بصره ببطء عن لونا و يوجهه نحو أخيها :

"إنني .. لا أفهم !"

فتبسم وليام حينها و قد بدا عليه الإدراك.

"آه .. فلتعذرني إذن ! لقد أخبرتها كل شيء عنك !"


طغى الشعور بالأسف و الذنب على نظرات لونا الملتصقة بالأرض ، بينما توسعت عينا الكونت في تساؤل يخالطه التفاجؤ.

"كل شيء .. عني ؟!"

"أجل ، كل شيء . بما في ذلك انتماؤك لأسرتنا !"


لزم آلويس الصمت .. و هنا رفعت لونا رأسها و بصعوبة و حياء ألقت عليه نظرة سرعان ما انحرفت و ارتبكت ثم عادت للأرض.

"أنا آسفة .. "

رفت عيناه الذهبيتان في دهشة لدى سماعه اعتذارها غير المتوقع و لا المبرر بهذا الصوت الذي أرهقه تأنيب الضمير.

عصرت قبضتيها المتشبثتين بأسفل الباقة و واصلت كلماتها بذات النبرة المتألمة :

"لـ.. لم أكن أعلم بما مررت به .. و لم تكن لدي أدنى فكرة عن الماضي القاسي الذي اضطررت لعيشه .. أنا حقا آسفة .. كنت في غاية السخف و الأنانية .."

غار صوتها و غصت الكلمات في حنجرتها كما لو كانت حجرا شائكا ، فازدردت ريقها بصعوبة ، و الدموع تتلألأ في خضرة عينيها.

قبل تلك اللحظة كان الاندهاش يغالبه و يعوق ردود أفعاله ، لكن ما إن لمح عبراتها تلمع حزنا و صوتها يضطرب و يتحشرج ندما حتى وخزه الألم و الاستياء في صدره.

"لا تقولي ذلك ! لم تخطئي في شيء ، و ما كان عليك أن تتجشمي عناء السفر إلى هنا ، فأنا من يفترض أن يبادر بالزيارة !"


أثناء قوله ذلك كانت قد تشجعت و أخذت تبادله النظر بعينيها الدامعتين ، لكنها أشاحت بناظريها سريعا حالما فرغ من كلامه و قالت :

"لا .. كان من الواجب أن آتي أنا ، فإصاباتي أخف و أقل بكثير مما لديك .. و لا تعيق حركتي !"


حلت على إثر كلماتها لحظات رقيقة يتخللها صمت مشوب بالعواطف بمختلف أنواعها . كان وليام ينظر نحو آلويس ، و آلويس نحو لونا ، و لونا نحو باقة الورود.
و قد أجفلت الأخيرة تقريبا حين حطت كف شقيقها على كتفها و قال مبتسما :

"هيا أعطه وروردك كي نغادر !"


هزت المعنية رأسها ببطء ، ثم حركت ساقيها و خطت بمحاذاة سرير آلويس دون أن ترفع عينيها عن أقدامها . تركت الباقة برفق على الطاولة ، أحنت رأسها و تلكأت و هي تقول :

"أ.. رجو لك الشفاء العاجل .. "


بدت في أقصى حالات توترها حين وقفت بهذا القرب منه ، تخضب خداها بحمرة قانية و ارتفعت حرارتها حتى أحست بأنفاسها تختنق ، كان الأمر أشبه بالانحناء على فرن مضطرم النيران يطفح حرارة و شررا.

فتعجلت الانصراف و استدارت كي تعود لأخيها فور إلقائها هذه العبارة المرتبكة ، غير أنه ما كان بمقدورها المغادرة و كفه تقبض على معصمها.


"ابقي !"


تطلعت إليه و قد أزاحت الدهشة خجلها لبرهة . كان صوته عازما مُلِحَّا ، و نظراته رغم ما يغلفها من رجاء و رقة تخترق دفاعاتها إلى ما وراء قلبها و تبث في نفسها العجز و الخضوع.

تسمرت في مكانها تلقي إليه بنظرات الحيرة ، فأردف بهدوء لمحت بين طياته رنة حزن :

"أريد التحدث إليك .."

"لكن .. "

"لن آخذ الكثير من وقتك .. بضع دقائق تكفي !"


ارتبكت و تطلعت إلى شقيقها تطلب رأيه ، لكنه ما كاد يفتح فمه حتى التفت آلويس نحوه قائلا :

"لم لا تذهب لزيارة صديقك رونالد ريثما ننتهي يا وليام ؟!"

فنظر المعني إليه ، ثم قال و هو نصف متجهم و نصف مبتسم :

"هل أعتبر هذا طردا ؟!"

و تراءت ابتسامة صغيرة على طرف فم آلويس.

"بل صرفا مؤقتا !"


تبادلا النظر لفترة .. آلويس مبتسم في تحد و ثقة ، و وليام يضيق عينيه في شك و يفتح فمه استعدادا لقول شيء ما ، لكن هذا الشيء أيا كان ظل عالقا في حلقه و لم يخرج للعلن.


"حسنا أيها المتحذلق !"

قال أخيرا و استدار قاصدا الباب . أمسك المقبض المعدني و التفت إلى آلويس بنظرة أخيرة :

"لكن لا تتأخر !"

"لن أفعل !"


ظلت لونا تلاحق شقيقها بنظراتها القلقة حتى اختفى وراء الباب ، فقال الكونت مطمئنا في شيء من السخرية :

"لن أقوم بالتهامك فلا داعي للقلق و اجلسي !"


خفضت بصرها و الإحراج يلون خديها ، ثم جلست ضامة ساقيها باحتشام فوق الكرسي عديم الذراعين ، و أخذت تعبث بأزرار معطفها القصير ، و تسوي أطرافه في محاولة للتخفيف من توترها.


بدت في تلك اللحظات أروع جمالا و أشد جاذبية من أي وقت مضى ، كان حياؤها النبيل ينسدل على وجهها كخمار لؤلؤي براق يضفي على قسماتها سحرا لا يضاهى.

لم يشك الكونت في حُسنها و بهاء منظرها ، لكنه لم يكن سعيدا و لا راضيا بهذا الحاجز الذي نصبته بينهما ، كان يُشعره بالضيق و عدم الألفة ، فالطفلة المشاكسة التي أحبها بكل كيانه لم تكن لتظهر هذا القدر من الخجل أمامه . كان ليفضل أن تصرخ في وجهه ، تشتمه أو حتى تضربه على أن تعامله بهذه الطريقة المحترمة الحيية المستفزة.


تنهد بهم ، ثم نظر إليها متجهما :

"أخبريني .. ما أنا بالنسبة لك ؟!"


طرفت عيناها في عجب و تفاجؤ ، و لم تتريث كثيرا قبل أن تقول ببراءة :

"ابن عمتي !"

فزوى ما بين عينيه و رمقها بنظرة حادة قد تنم عن أي شيء إلا الرضا.

"حقا ؟! لا تتحاذقي علي يا آكلة الورق ! لقد فهمت سؤالي جيدا !"


و ابتسم في نشوة حين لاحظ تأثير كلماته المرجو على وجهها . احتدت نظراتها ، تقطب جبينها ، و انشق خمار الخجل نصفين و سقط عن محياها خرقة بالية .
كان يعلم أن الاستفزاز هو الطريقة المثلى لنبذ توترها و جعلها تتصرف على طبيعتها.


اتسعت ابتسامته بخبث و هو يقول :

"صحيح أما زلت تلتهمين الكتب ؟! ما آخر واحد أكلته يا ترى ؟! تعليم الحياء لذوات الغباء ؟!"

عقدت ساعديها أمام صدرها و دماء وجهها تفور.

"لا بل كيف تطبع رقم حذائك على وجوه أعدائك ! هل تريد أن تجرب ؟!"

كان لون وجهه قد انقلب أزرق من شدة الضحك.

"الآن .. أصبحت تعجبينني !"


كادت في لحظة أن تبتسم ، لكنها تراجعت و سحبت تلك الابتسامة في حنق ، و أعرضت بوجهها ملتوية الشفتين.

و أجفلت حين جذب كرسيها ناحية سريره حتى أصبحت حافته تلامس ركبتيها.

صرخت في وجهه :

"ما الذي تفعله أيها المزعج ؟!"

قال مبتسما ببراءة :

"أحب أن تكوني قريبة عندما أتحدث إليك !"

ردت في حدة و غيظ :

"أما أنا فأفضل أن أبقى بعيدة قدر الإمكان كيلا أرتكب جريمة !"

و حاولت إبعاد كرسيها لكن قبضته القوية المتشبثة به مَنَّت محاولتها بالفشل.


"و لماذا قد تقدمين على العنف ؟!"

"لأنك باختصار أحمق ، مستفز ، بليد الإحساس ، و تثير غيظي !"

"يا إلهي هل أنا كل ذلك ؟!"

"أجل !"

"و ماذا لو قلت لك أني كنت أمازحك لا أكثر ؟!"

"لن يغير ذلك شيئا من كونك مزعج !"

"حتى لو قلت لك أني أحبك ؟!"


تباطأ استيعابها تلك اللحظة و تأخر سؤاله في الوصول إلى عقلها كما لو كان يمتطي ظهر حمار أعرج . كانت على وشك أن تلقي جوابا آخر غاضبا ، لولا أن المعنى دخل رأسها أخيرا ، فتملكتها حالة من الجمود و الصدمة.

قالت بشك و قدر بسيط من الحدة :

"لا.. تسخر مني !"

فلم تكن تصدق أنه قالها من قلبه ، و ارتابت في أن يكون مقلبا و سرعان ما سينفجر ضاحكا منها و يقول : "هل صدقت ؟! يا لك من غبية يا آكلة الورق !"


لكنه لم يضحك و لم يقل ما فكرت فيه ، بل ابتسم برقة و مسد بأنامله وجنتها الباردة :

"لست أمزح في هذا . أنا فعلا أحبك يا حمقاء ! أكثر من أي شخص و كما لم أفعل في حياتي مع أحد !"


كان من المثير للعجب أن وجهها لم يحمر و لم ترتفع حرارته . بدا كما لو أن كل جسمهما بأجهزته و دمائه و خلاياه يشاركها الصدمة و يعاني الاضطراب و الفوضى.

أخذ يديها بين يديه الدافئتين و أردف مبتسما بحنو و محبة :

"هل تذكرين دب الباندا الذي أهديتني إياه في نيس ؟! طارد الكوابيس بون ؟! ما زلت أحتفظ به و أضعه على وسادتي كلما راودني كابوس !"


قال ذلك و هو يتوقع أن يشرق وجهها فرحا ، لكن رد فعلها جاء مفاجئا و معاكسا تماما لتصوراته . سحبت يديها و حاولت دون جدوى كفكفة دموعها التي انهمرت غزيرة سريعة على دهشة منه.

لقد ذكرتها هديتها بهديته صندوق الموسيقى الذي صنعه بيديه لأجلها و كادت ترميه في لحظة يأس و جحود ، و اعتصر قلبها ألما من حجم الفارق بين معاملته هو لهديتها البسيطة التافهة و معاملتها هي لهديته القيمة الرائعة.

و لم يستغرق ثوان من التفكير حتى توصل لسبب بكائها ، فترك عنه الدهشة ، و طبطب على رأسها بحنان.

"أعلم أنك كدت تتخلصين من هديتي .. "


رفعت رأسها في ذهول ، و ما كادت تجتمع عيونهما حتى انفجرت في البكاء بهستيرية.

لم يفاجأ هذه المرة ، فقد ألقى كلماته و هو يدرك جيدا مدى تأثيرها . كان يعرف أنها ستتألم بشدة و تجهش بالبكاء ، لكن ألم لحظة أفضل ألف مرة من عذاب ضمير مكبوت يستمر إلى آخر العمر.

أحاطها بذراعيه بكل ما وسعه من رفق و أخذ يمسد شعرها و يقول :

"لا بأس عليك .. إنني لست غاضبا ، و لو حطمته على رأسي ما كان من حقي أن أشكو ، فما فعلته أنا بحقك كان أسوأ بكثير من مجرد التفكير في رمي هدية !"

أحس حينها بكلمات مورفان تحاصره ، و تقبض على قلبه بقبضة من فولاذ شائك.
كانت دموعه تحتشد و تثور و تقود تمردا ضاريا ضد أعصابه الباردة و طبيعته العقلانية ، و لم يدم الصراع طويلا حتى خرجت قطرات الملح المدججة بالعواطف منتصرة.


"أنا آسف ، لقد ارتكبت في حقك خطأً لا يغتفر . كان يجدر بي أن أفكر مئة مرة قبل أن أختار الابتعاد عنك . كان علي إجهاد عقلي أكثر و الوصول لحل آخر أضمن و أقل أضرار . لقد كنت مهملا و أحمق . سامحيني أرجوك ! اغفري لي غلطتي .. و استمري في العيش ! أرجوك .. لا تتركيني ! ابقي بجانبي ! أنت صديقتي ، أمي ، أختي ، محبوبتي ، عائلتي ، و موطني .. كل شيء بالنسبة لي !"


تشبثت بقميصه بيديها المرتعشتين و دموعها تسيل و تغسل قلبها و روحها قبل وجهها.

"سـ.. أفعل !"

رغم أن النشيج قد زعزع نبرة صوتها ، إلا أن القوة و الإرادة التي تنضحان منه لا قدرة لأي مخلوق على المساس بهما.

"أيا كان ما ينتظرني ، و مهما بلغ الألم الذي سأعانيه .. سأعيش ! أعدك بذلك !"












رد مع اقتباس