عرض مشاركة واحدة
  #260  
قديم 08-17-2016, 02:22 PM
 



الفصل السابع و الأربعون
*رابطة لا تكسر*





إثر طرقة سريعة لبقة من يده و انتظاره ثلاث ثوان فتح أحدهم الباب الكبير من الداخل و وقف جانبا كي يسمح للطارق بالمرور ، فأسرع أرماندو عابرا إلى الحجرة دون أن يلحظ التعبير الهازئ الذي حفر بوقاحة على وجه سلايدر و هو يعيد إغلاق الباب.

وقف أرماندو بقامته الطويلة و وجهه الأسمر بارد التعابير الذي غطت ثلثه ضمادة سميكة توارت خلفها عينه المصابة ، و أحنى رأسه باحترام قائلا : "مساء الخير سيدي القائد !"


كان المعني واقفا أمام نافذة كبيرة بالغة الطول يخترق زجاجها الشفاف ضوء الشمس الغاربة و يصبغ الغرفة الواسعة بلونه الأحمر الدامي ، أدار الرجل رأسه ببطء و لا مبالاة واضحة و قال من فوق كتفه ببرود : "لقد تأخرت !"

أخفض أرماندو عينه الوحيدة و قال : "أرجو الصفح منك سيدي كان الطريق إلى هنا طويلا و كنت مصابا.. "

تحدث القائد بصوت هادئ و صارم في نفس الوقت : "لا أريد سماع المزيد من الأعذار !"

لاذ أرماندو بالصمت و لم يرفع عينه عن حذائه ، و استدار القائد بكامل جسده نحوه ليبدي بذلك اهتماما كان من النادر جدا أن يظهره ، حدج تابعه بنظرة فاحصة لا تخلو من الحدة و قال : "قلت في آخر اتصال لك قبل وصولك أنك نجحت مع رجالك في قتل الصبي فهل هذا صحيح ؟! هل قتلته فعلا ؟!"

كان يشدد على كلماته الأخيرة بصورة أثارت توتر الرجل الواقف ، رفع عينه لتواجه للمرة الأولى منذ دخوله العينين الثاقبتين ، و تكلم و هو يحاول قدر إمكانه ألا يظهر ارتباكه الداخلي في صوته : "نعم سيدي !"

تقدم السائل عدة خطوات و عيناه مثبتتان بتركيز على الوجه النحيل الشاحب ، ثم توقف و قد ارتفع أنفه بتعال و تقطب جبينه.
"ماذا عن الجثة إذن ؟! الشرطة لم تعثر على جثة طفل أليس كذلك ؟!"

ازدرد أرماندو لعابه و قد هزت رجفة مفاجئة أوصاله ، الجثة ! اختفاء الجثة كان الأمر الذي أفسد كمال مهمتهم و زرع مئات الشكوك و الأفكار الرهيبة داخلهم . لقد ضرب صدر الطفل بأربع رصاصات ، من المستحيل أن يظل حيا بعد إصابة قاتلة كهذه ! نعم لا خطأ في هذه النتيجة ، فحتى لو حدثت معجزة و تم إنقاذه قبل فوات الأوان كانوا سيعثرون عليه في أحد المشافي أليس كذلك ؟! لكن لماذا ؟! لماذا.. جثته اختفت هكذا و كأن الأرض انشقت و بلعتها ؟! ما الفائدة التي قد يجنيها شخص ما من إخفاء جسد طفل ميت بهذه الشكل المحير ؟! من قد يفعلها ؟!


لم يتمكن أرماندو و لا أي واحد من رفاقه الثلاثة من العثور على إجابات مقنعة لتلك الأسئلة ، كانوا في موقف لا يحسدون عليه بالمرة ، فبعدما أبلغوا القائد فرحين بنجاح مهمتهم و أخذوا القطار عائدين إلى باريس وصلهم الخبر الفاجع ، إذ وجد رجال الشرطة كل شيء كما تركه المغتالون .. جثث رفاقهم و أثار معاركهم الشرسة مع الطفل باستثناء الأهم و هي جثة الطفل نفسه ! لم يذكروا حرفا بشأنها ، لماذا ؟!

كان الرعب الذي أصابهم وقتها عصيا عن الوصف ، ماذا سيفعلون ؟! لو أخبروا القائد بهذه الفجوة غير المتوقعة سيعتبر ذلك فشلا ذريعا في مهمتهم - التي أبلغوه قبل مدة وجيزة بكمال نجاحها - و يقتلهم جميعا بلا أدنى تردد أو شفقة !

رفع أرماندو عينه الساكنة إلى قائده الذي أوشك على الغضب و قال بهدوء : "صحيح سيدي لم تعثر الشرطة على جثته .. لأننا قمنا بدفنها قبل وصولهم !"

كانت تلك هي الإجابة التي اتفق مع رفاقه على ترديدها ، رغم أن أحدا بكامل قواه العقلية لا يمكن أن يجرؤ على الكذب أمام القائد إلا أن موقفهم الصعب أرغمهم على قبول هذه المجازفة.
تفرسه القائد للحظات بعينيه الحادتين كذئب جائع يتربص اللحظة المناسبة للانقضاض على فريسته.

"هل أنت واثق مما تقول ؟!"

تردد سؤاله المتشكك في زوايا الغرفة و استغرق أرماندو ثانيتين حتى يجيب بكل ما أوتي من صلابة : "نعم أنا واثق مما أقول سيدي القائد !"

مرت لحظات من الصمت الثقيل بدت سنوات طوال بالنسبة لأرماندو الذي كان قلبه يدق بسرعة جنونية.

"حسنا.."

قال القائد بهدوء .. و شعر أرماندو بالنظرات الثاقبة تخفت ، ثم بجسد مستجوبه يبتعد عنه ليجلس باسترخاء فوق كرسي ضخم يتوسط الغرفة ذات الجو القابض.

كاد قلبه يتنفس الصعداء بطمأنينة لولا أن فكرة مرعبة اخترقت ذهنه كالسهم السام و هو يطالع الابتسامة الغامضة على وجه القائد ، لم يستطع أن يسبر غوره أو أن يدرك الداعي لها لكنه أحس - بشكل لا يقبل الشك - بمسحة من الخبث فيها ! ماذا لو .. ماذا لو سأله عن المكان ؟! المكان الذي دفن فيه الطفل ! بماذا قد يجيبه حينها ؟!

كانت مخاوفه قد وصلت ذروتها فيما القائد يفتح فمه.

"عينك اليمنى !"

حملق التابع فيه ببلاهة و قد فوجئ تماما من الموضوع الذي اختاره ، فرفع الجالس يده مشيرا إلى عين أرماندو المضمدة.

"هل الطفل هو من أفقدك عينك ؟!" كان يبتسم و هو يقول ذلك بصورة غريبة.

رغم أن هواجسه المرعبة قد خمدت و استعاد نبضه رتابته و تنظيمه إلا أنه أحس بداخله أن الخطر لم يبتعد كثيرا .. أطرق رأسه مبديا خجلا و احتقارا لذاته الضعيفة و قال : "نعم !"

أمال القائد رأسه للجانب قليلا و ابتسامته غامضة الهدف تتسع.. "و قضى على نصف رجالك أيضا ؟!"

تذكر أرماندو منظر رفاقه المقتولين و جز على أسنانه بغيظ شديد .. "نعم !"

"هكذا إذن !"

قال بلا مبالاة لكن أرماندو لمح في صوته نذيرا خافتا بالخطر ، و قد أيقن من شعوره حين رأى يد قائده تمتد إلى طاولة أمامه يقبع فوقها مسدس أسود !

كان الرعب ينهش كل قوته و جرأته و هو يطالع بعينه الشاخصة اليد الحاملة للسلاح الناري . أخذ القائد يقلب السلاح بيده بنظرات فاحصة و دون أن يزيح عينيه عنه قال : "أتدري يا أرماندو ؟!"

انتفض المعني و كاد الخوف يخلع قلبه بينما يواصل الآخر كلامه و قد كف عن فحص سلاحه و رفع نظره إلى الواقف قبالته : "لو أنك فشلت في قتل الطفل بعد كل الخسائر التي تكبدناها أو أحسست أنا بأي خطأ في مهمتك لقتلتك مع أصحابك هنا و الآن ! لكنك محظوظ إذ أني لم أجد شيئا ضدك هذه المرة !"


رفع أرماندو رأسه و قد أحس بقلبه يثبت في مكانه بعدما كان يرتج و يهز أضلاع صدره ، و لم يستغرق الأمر ثانيتين حتى أضاف القائد آمرا : "اذهب !"

بعد لحظة ارتباك انحنى باحترام ثم استدار مغادرا .. لم يصدق أنه نجا و لا حتى سلايدر الذي وقف قرب الحائط مشدوها ، كان واضحا من صدمته أنه لم يتوقع خروج أرماندو سالما بل جثة غارقة بالدماء !


*****

عقب نوم هانئ لم تعكر هدوئه ضجة فتح نصف عينيه و ألقى نظرة حوله .. ما زال موجودا داخل الغرفة الصغيرة مربعة الشكل و التي لم تتغير كثيرا عن حالها قبيل نومه ، فالاختلاف لم يطل سوى الأشياء المؤقتة المتعلقة به ، مثلا قناع الأوكسجين قد اختفى ، و الإبرة المغروزة في ظهر يده أزيلت تاركة مكانها لصاقة طبية ، كذلك رفعت الأغراض الطبية البسيطة عن الطاولة و حل محلها إبريق ماء مع كأس زجاجية .

ارتاحت نفسه كثيرا لرؤية الماء البارد ، فقد كان أكثر ما يريده وقتها ، بغض النظر عن الجو الحار ، كان حلقه جافا كصحراء قاحلة لم تعبر سماءها سحابة مطر واحدة . مد يده المرتعشة نحو الإبريق و أمسك بمقبضه محاولا حمله و صب الماء في الكأس ، لكن قواه الضامرة لم تسمح له برفع الإبريق الثقيل و لو مليمترا واحدا.

أطلق زفرة واهنة و غرق في وسادته و قد أصابه اليأس و الاستياء من حالة الضعف المريعة التي يمر بها ، و ما زاد الأمر سوءا أن الوقت لم يكن معروفا و لا سبيل للتوصل إليه ، فلا نافذة تكشف عن شمس أو قمر ، و لا ساعة صغيرة كانت أم كبيرة تشبع فضوله في معرفة الزمن . و لولا الضوء الرمادي الخافت المنبعث من المصباح الصغير فوق الباب لكان عالقا في ظلام دامس.

أغمض عينيه و ما كاد يحظى بلحظة سلام مع نفسه حتى صدم أذنيه صوت خبطة خلف الباب ثم صوت متألم يتأوه :"من الغبي الذي وضع هذا الغطاء فوقي ؟!"

تبسم آلويس في سره ، كان يعرف صاحبة الصوت جيدا و قد حسن سماعه لتذمرها من مزاجه كثيرا.

حرك يده و دق على الطاولة الخشبية مرتين و لم يكد يرفعها حتى شاهد الباب يفتح ببطء و هدوء شديدين ، ثم لمح الشعر الأحمر اللامع و العيون الزمردية تظهر من خلال الفتحة الضيقة ، كانت تنظر نحوه بشك ، و حالما التقت نظراتهما تبدد ذلك الشك و حل التفاجؤ مكانه لبرهة .. كانت عضلات وجهها مرتخية كمن استقيظ لتوه من النوم ، و كان الغطاء الخفيف - الذي تذمرت منه قبل لحظات - يتعلق بكتفيها بصعوبة ، و استطاع آلويس أن يرى خلف قدميها كرسيا ملقى على الأرض .. هل يعقل أنها .. كانت نائمة أمام الباب ؟!

لم تمر من الوقت ثانية حتى تزين وجهها ناصع البياض بابتسامة عريضة و انسلت الصغيرة إلى الداخل و الفرح باد عليها.

"صباح الخير ! كم مضى من الوقت و أنت مستيقظ ؟!" ثم أضافت حين لم يأتها رد : "المكان مظلم هنا هل أشعل لك الضوء ؟!"

أغمض عينيه ثم فتحهما مستعيضا بذلك عن هز رأسه ، فأسرعت لونا و أنارت الغرفة المعتمة ، فأغلق آلويس عينيه لا إرادياً بسبب الضوء الساطع الذي ملأ المكان فجأة ثم عاد ليفتحهما ببطء .. قالت ضاحكة و هي تراقب رد فعله : "أنت لطيف جدا !"

تغاضى عن إطرائها الذي لم يشعره بأي رضا و نظر إليها ثم إلى إبريق الماء بجواره.

"تريد ماء ؟!"

و هرولت نحو الطاولة ثم ملأت الكأس بالماء المنعش ، و ساندت يدها يده الضعيفة على حمل الكأس و الشرب منه حتى ارتوى ظمؤه.

أشرقت ابتسامتها و هي تراه يسترخى في سريره بارتياح و قالت : "حمدا لله على سلامتك ! أنا سعيدة حقا لأنك بخير !"

حدق فيها بدهشة بالغة و شعور غير مألوف يختلج في صدره و يبعثر نبضات قلبه .. أكان الفرحة ؟! أم الاشتياق ؟! أم تراها كانت الحسرة ؟!

دون أن تلاحظ ما خلفته كلماتها العفوية في داخل الفتى هتفت مستدركة أمرا غاب عنها : "لا شك أنك جائع جدا الآن ، سأذهب لأخبر لورا كي تعد لك الفطور .. لن أتأخر !"

ثم خرجت مغلقة الباب وراءها.


لم يدر كم مضى من الوقت قبل أن تعود ، فحالما اختلى بنفسه أخذت الأفكار تتردد على ذهنه دون انقطاع .. قبل أربع و عشرين ساعة كان مع غلبيرت في غرونوبل .. غلبيرت ! كيف هو الآن ؟! هل تمكن من الوصول بسلام إلى أفيغنون و الالتحاق بإنزو و آليكسي هناك ؟! و كيف كان شعور السيد هوغو عندما قرأ رسالتهم ؟! هل غضب لأنه شعر بالخديعة أم أنه قلق فقط بسبب إختفائهم المفاجئ ؟! ماذا سيفعل رفاقه حين يسمعون بموته ؟! المنظمة كما يبدو لا تهتم بالبحث عن غيره ، لكن إن علمت بوجودهم لن ترحمهم ! ماذا سيفعلون بدونه في هذا الوقت العصيب ؟!

و توقف تدفق خواطره هنا .. فقد دخلت لونا برفقة شابة جامدة الوجه تحمل صينية الإفطار.
وضعت الفتاة الصينية جانبا و أمسكت آلويس ، ثم أجلسته بعناية و أضافت فوق وسادته واحدة ثانية أحضرتها لونا ليستند ظهره إليها و وضعت صينية الإفطار أمامه.

كانت وجبته عبارة عن رغيف خبز صغير ، بيض مسلوق ، جبن ، عسل بالإضافة لكوب من الحليب الساخن .. كانت يداه ما تزالان ضعيفتين و بطيئتين في الاستجابة لذلك تولت لورا - و التي خمن من براعتها في هذا العمل أنها ممرضة - مهمة إطعامه بنفسها بينما اتكأت لونا على حافة سريره وأخذت تراقب بصمت.

هز آلويس رأسه رافضا حين قرب الممرضة كوب الحليب إليه فقالت : "يجب أن تشربه هذه تعليمات أبي !"

لكنه استمر بإشاحة وجهه كلما حاولت أن تجعله يشرب منه .. كان كرهه للحليب واضحا ، و أدركت الممرضة أنها لو أرغمته على ابتلاعه قد يتقيأه ، فزفرت مستسلمة .. و بينما تعيد الكوب هتفت لونا مقترحة : "لم لا تجربين إضافة بعض الكاكاو إليه ؟! سيجعل طعمه لذيذا !"

نظرت إليها الممرضة لبعض الوقت قبل أن تقول ببرود : "حسنا.. "

ثم نهضت و أخذت كوب الحليب معها .. و نظرت لونا نحو آلويس بابتسامة مشاكسة و قالت : "أنا أيضا لا أحب الحليب !"

خفتت ابتسامتها حين وجدت تعابيره فاترة .. كانت تشعر بأنها تحادث جدارا أصم أبكم و أعمى فالتزمت الصمت و راحت تحدق بالسقف.

بعد دقيقة عادت الممرضة و قد فاحت رائحة الكاكاو الشهي حال دخولها .. و كان اقتراح لونا ناجحا ، فقد استساغ آلويس طعم المشروب و أفرغ الكوب كله تقريبا.

التفت الممرضة فجأة نحو لونا قائلة : "لم لا تزالين واقفة هنا ؟! اذهبي لتناول الفطور مع أبي ! لا شيء مثير يستحق المشاهدة في هذا المكان !"

هتفت لونا باستياء : "لا يمكن أن أذهب فأنا حارسته !"

تطلع آلويس إليها بذهول ، فيما رمقتها لورا بنظرة استنكار و قالت بنوع من الازدراء : "حارسته ؟!"

"أجل حارسته التي تحميه من الأشرار !"

ارتفعت نبرة صوت الممرضة و هي تقول بمزيد من الانزعاج : "لا يوجد أشرار هنا أيتها الطفلة !"

وضعت لونا يديها على خصرها بشكل ينم عن احتجاجها و قالت و هي تلوي فمها استهزاء : "حقا ؟! و ما الذي يثبت أنك لست منهم ؟!"

أخذ آلويس يراقب بتفاجؤ المعركة التي نشبت فجأة و استدارت الممرضة بكامل جسدها صوب الطفلة - و قد تخلت عن إطعام مريضها لفترة - و قالت عاقدة حاجبيها بحدة : "و لماذا قد أكون منهم ؟!"

صاحت لونا و هي تشد وجنتيها : "لأنك بوجه قرد مثلهم !"

غصت اللقمة في حلق آلويس و أخذ يسعل ، في حين هبت الممرضة واقفة و هي تستشيط غضبا : "ماذا قلت ؟!"

رفعت لونا عينيها لتنظر إلى الفتاة فارعة الطول .. ثم وضعت يدها اليمنى فوق رأسها و رفعت الأخرى في اتجاه الممرضة و استنتج آلويس أنها تقيس فارق الطول بينهما .. كانت تبدو أمام لورا قزمة طولها الوحيد في لسانها ترميها غريمتها بالهواء بنفخة واحدة ، كانت معركة خاسرة للأقزام دون ريب.

أسرعت مخفية يديها خلف ظهرها و رسمت على وجهها ابتسامة بريئة و قالت بنعومة : "قلت أني ذاهبة لتناول الفطور مع السيد والدك !"

و أسرعت لتلوذ بالفرار و تترك الممرضة تراقب خيالها بدهشة و آلويس ينحني فوق فطوره و يضحك بصوت مخنوق.


لم يطل غياب الشقية كثيرا .. فبعدما أنهت الممرضة عملها و غادرت غرفته .. أطلت برأسها و هي تضحك قائلة : "لقد عدت ! هل اشتقت إلي ؟!"

لم يكن رده أكثر من ابتسامة خفيفة ، لكنها بدت بالنسبة لها مفاجأة سارة غير متوقعة ، فهي لم تره يبتسم قبلا و قد زاد ذلك من سعادتها إلى حد كبير.

دخلت و هي تجر وراءها كرسيا - كان هو ذاته الذي قضت ليلتها عليه - وضعته بجانب سريره ثم قفزت فوقه.

قالت بمرح : "أنا لونا آردوان ! ما اسمك أنت ؟!"

التزم آلويس الصمت مدعيا أنه ما يزال غير قادر على الكلام ، فلم يكن في مزاج مناسب للبدء في تأليف قصة بوليسية.
أدار وجهه نحو الجدار الأصم و حين التفت في اتجاهها وجدها أمام وجهه لا تفصل بينهما سوى مليمترات قليلة . قالت عابسة و هي تعقد حاجبيها : "محتال !"

تراجع إلى الوراء و قد أجفله اقترابها منه بهذا القدر .. رمش بعينيه الذهبيتين مرارا محاولا أن يبدو بمظهر البريء ، لكن الطفلة كانت أدهى من أن تخدع بتمثيله.

قالت بحنق : "لست غبية ، أعلم أنك تستطيع الكلام !" و رمت نفسها فوق مقعدها ثم أطلقت زفرة و أضافت : "لست مجبرا على إجابة أسئلتي ، إن كنت غير راغب في الكلام قل ذلك بصراحة لكن لا تحاول خداعي أو الكذب علي !"

كانت تتحدث باستياء واضح و هي تشيح بوجهها صوب دولاب الأدوية.

"حسنا.. "

كلمته الوحيدة التي خرجت بصوته المبحوح جعلتها تستدير نحوه بتفاجؤ و لم تلبث أن رسمت على وجهها ابتسامة واسعة مفعمة بالبهجة و الرضا . كانت تلك المرة الأولى التي تسمع فيها صوته و إن كان غير واضح.

عقدت ذراعيها قائلة : "أنت لا تريد إخباري باسمك صحيح ؟! حسنا كما تحب لن أسألك عنه مرة أخرى و لن أستفسر عن أي شيء يتعلق بهويتك أو المكان الذي جئت منه ، هل هذا يرضيك سيد غامض ؟!"

شقت ابتسامة صغيرة وجهه .. كان عرضها ملائما جدا لوضعه ، لكنه زاد من حسرته ، فكم تمنى أن يوجد في حياته شخص يحادثه بصدق و يشكو إليه همومه و أتراحه .. و في الحقيقة كان يرى في ابنة خاله و قريبته الوحيدة خيال ذلك الشخص.

هذا العرض لم يكن مبهجا للونا أيضا ، فبعده لم تعد قادرة على إيجاد مواضيع تفتحها معه ، و قد أدرك هو ذلك و ابتدر الحوار بسؤاله : "أين أنا الآن ؟!"

أفاقت من شرودها و بدت عليها الفرحة لتجاوبه معها.

"في منزل الدكتور دوفال . عندما وجدناك أنا و أخي بالتبني كنت في حالة سيئة للغاية و قال أخي ألبيرت أنه لن يستطيع إنقاذك بمفرده ، لذلك أخذك للسيد دوفال الجراح الماهر - و الذي كان فيما سبق أستاذا لألبيرت - و تعاونا على إجراء العملية لك هنا في عيادة الدكتور دوفال فهي جزء من بيته !"

دارت عينا آلويس في زوايا الغرفة الضيقة و هو يفكر.. ثم قال : " حسبما أذكر غدا الاثنين ، لذا علي مغادرة عيادته قبل صباح الغد لأنها ستفتح مجددا و يبدأ المرضى بالتوافد إليها ، أليس كذلك ؟!"

"صحيح ، لهذا قال الدكتور أنهم سينقلونك إلى غرفة أخرى داخل البيت هذا المساء !" و تهلل وجهها و هي تضيف : "و بعد يومين سنأخذك معنا إلى بيت ألبيرت ، إنه أجمل و أكثر راحة من هذا المنزل !"

لم ينطق آلويس سواء بموافقة أو اعتراض .. كان عقله متجها لمسألة أخرى أكثر أهمية في نظره من مكان إقامته.

التفت إلى الطفلة بنظرة جادة و سأل : "لماذا تفعلين كل هذا من أجلي ؟! أنت لا تعرفينني حتى !"

كان سؤاله مباغتا لها .. تضاءلت ابتسامتها و انكمشت البهجة من محياها .. و قالت بارتباك : "أمن الغريب .. أن يساعد الإنسان أخاه ؟!"

لكنه قطب جبينه و رد بحدة : "و هل من المعتاد أن يقتحم أحد الخطر و يجازف بحياته كي ينقذ غريبا ؟! هل كنت حقا ستتصرفين بالطريقة نفسها لو كنت شخصا آخر ؟!" هدأ صوته و قد تغلف بالأسى " لماذا كنت تبكين بذلك الحزن و المرارة وقتها هل فقط .. هل فقط لأنني كائن حي ؟!"

"لا أدري !" كان صوتها مهزوزا يلمح فيه الخوف و الاضطراب ، تتحدث بينما تطرق رأسها حتى لم يعد في وسعه رؤية ملامحها ، و تشد بيديها المرتجفتين ثوبها.

"لا أدري .. لم أعرف لماذا لكني .. حين رأيتك تتأذى .. " سقطت دمعة كقطرة ندى نقية لترتطم بظهر يدها المهتزة و امتزج صوتها بنشيجها المتقطع : "أخذت أبكي .. شعرت كما لو أن جزءا من روحي هو من يتلقى تلك الإصابات و ليس شخصاً غريبا لا أعرفه . لا أعلم كيف كنت سأتصرف .. لو كان شخصا غيرك .. لكن .. لا أحسبني سأشعر بالشعور ذاته . كان عقلي يجهلك .. لكن قلبي يحن إليك كما لو كنت قطعة منه ، و الدماء في عروقي تفور و تدفعني لمساعدتك بأية طريقة حتى لو كان الموت ضريبة لها !"


كانت ترتعش باكية و تحني رأسها ، فلم ترى عينيه اللتين تسبحان في الدموع .. هو ليس وحيدا . لا يهم إن كانت فاقدة للذاكرة ، فروحها تعرفه و دماؤهما ترتبط ببعضها و تتآلف معا و كأنها حبل متين لا يقطع !
تذكر حينها كلمات قالها أستاذه في المدرسة (" عندما تتحد روابط الدم بالروح فلا قوة في العالم تستطيع قهرها !")

ألقى آلويس رأسه على وسادته و أغمض عينيه ليسحب دموعه قبل أن تلحظها لونا في حين تتردد تلك المقولة داخل رأسه دون توقف.

عاد ليفتح عينيه بعد أن غادرتهما الدموع قهرا و رفع يده و ربت على رأس الطفلة برقة "لونا !"

رفعت وجهها المبلل بدمعاتها الصافية ، فرسم على شفتيه أحن ابتسامة عرفها وجهه و قال : "لا تبكي ! لا أريد أن أراك حزينة ، كوني سعيدة دوما .. فسعادتك هي سعادتي !"

دعكت عينيها لتمسح ما يتأرجح على جفونها من دموع و أومأت برأسها .. قبل أن يزدان وجهها بابتسامة خلابة نابعة من أعماق قلبها الأبيض.












رد مع اقتباس