عرض مشاركة واحدة
  #220  
قديم 08-05-2016, 02:48 PM
 




الفصـل الخامس و الثلاثـون
ج1
*طيف الذكريات*





أقيمت جنازة ليليان صباح اليوم التالي فحضرها الكثير من الناس من بينهم زوجها نيكول دي لا فونت الذي وصل باريس فجرا.

و رغم اكتشاف أسرة آيون حقيقته الفظيعة إلا أنهم تظاهروا بالجهل و عاملوا قاتل ابنة العائلة بشكل طبيعي .. لم يكن الأمر سهلا على النساء ، لكنه كان ضروريا جدا وقتها ، لذلك قمعن كل ما يشعرن به من كراهية و حقد هائلين نحوه .. غير أنهن لم يقوين على الحديث معه فظللن بعيدا عنه . و ظل أفراد العائلة طوال الجنازة هادئين صابرين لا يبكون ، مع أن الحزن ينهش قلوبهم و يمزقها أشلاء فقد آثروا الموت على أن تذرف عيونهم دمعة واحدة أمام المجرم الذي قتل ليليان.

كان نيكول يبدي من الغم و الحزن ما كان متوقعا من رجل رابط الجأش هادئ الأعصاب مثله ، و كان جوزيف آيون هو الوحيد من بين أفراد الأسرة الذي استطاع الحديث معه بالطريقة التي اعتادها !

مسرحية تراجيدية متقنة الإخراج و التمثيل هذا أفضل وصف لتلك الجنازة الغريبة ، الشيء الوحيد الحقيقي فيها هو جثمان ليليان !


*****

"لا أعلم كيف استطعت السيطرة على أعصابي و لم أمزقه إربا إربا !" قالت سارة مقطبة جبينها و غضبها آخذ في الثوران ..

تكلم والدها بحكمة : "من الجيد أنك فعلت يا سارة ، يتوجب علينا التحكم بعواطفنا و التحرك بهدوء إن أردنا تدميره و الأخذ بثأر ليليان !"

"لولا أني واصلت تذكير نفسي بذلك لكنت هجمت عليه و سحقت كل عظمة في جسده !"


كان أفراد العائلة بملابسهم السوداء الكئيبة يتحلقون حول طاولة مستديرة في حديقة قصرهم إثر رجوعهم من الجنازة.

حلت فترة وجيزة من الصمت قبل أن تسأل كارولينا بتوسل : "متى يمكنني رؤيته ثانية ؟!"

أرجع إدمون ظهره للخلف و قال : "ليس قبل شهر من الآن !" حبست الأم دموعها و أبقت فمها مغلقا .. فأردف ابنها بصوت منخفض : "لقد رتبت الأمر بحيث نستطيع مقابلة الطفل و أسرته الجديدة كل فترة دون إثارة للريبة !"

سألت إيفا باهتمام : "كيف ؟!"

"لقد فكرت مع أبي في افتتاح فرع جديد لمؤسستنا في ستوكهولم و نقل السيد إيفرهارت للعمل فيه ! و بذلك سيكون في مقدورنا السفر إلى هولندا و لقاء أسرة إيفرهارت دون قلق ، فهدف ذلك لن يبدو للناس أكثر من متابعة سير العمل هناك للتأكد من أنه يتم بالطريقة التي يريدها أصحاب الشركة !"

"ممتاز !" قالت إيفا منبهرة بحسن تدبير زوجها.

تساءلت كارولينا و قد بدأ شيء من الأمل يلوح في عينيها : "إذن سأراه ؟!"

تبسم لها إدمون : "نعم يا أمي ، لكن .. لن نستطيع أخذكن معنا كل مرة نسافر فيها إلى هناك ، فذلك سيكون مثيرا للتساؤلات ، مع ذلك سأتفق مع أسرة إيفرهارت على إرسال تقرير لنا كل شهر بخصوص آلويس مع إرفاق صورة له .. ما رأيك ؟!"

تنفست الصعداء و ساد شيء من الاطمئنان و الهدوء محياها لأول مرة منذ وفاة ليليان "أوه نعم .. هذا سيكون .. رائعا حقا يا إدمون !"


⭐⭐⭐


مرت الأسابيع ثم الشهور ... و الحفيد بعيد عن عائلته و موطنه الحقيقيين .. بالرغم من ذلك كانت تصل أخباره إلى أهله أولا بأول من خلال التقارير التي ترسلها أسرة إيفرهارت و تنتظرها أسرة آيون بلهفة نهاية كل شهر.

قلبت الجدة كارولينا صور حفيدها - التي جمعتها في ألبوم جميل - بابتسامة بهيجة مملوءة بالحب "كم هو جميل صغيري آلويس !"

كانت إيفا تجلس بجانبها و تشاهد معها الصور فعلقت على آخر صورة وصلتهم : "نعم ! وقد دخل عامه الثالث قبل ثلاثة أيام ، إنه يكبر بسرعة !"

تنهدت كارولينا بحزن : "كم تمنيت لو أحضر عيد ميلاده !"

تدخل جوزيف بصوته الوقور : "لا نستطيع حضور عيد ميلاده كل سنة يا كارولينا ، لا تنسي أنه الآن ابن عائلة أخرى و اهتمام مبالغ فيه من جانبنا لن يكون في صالحه !"

أطرقت كارولينا رأسها باستسلام و لم تحتج كما في العادة ، فقد أخذت تعتاد الاحباط و الرفض الفوري لطلباتها المتعلقة بآلويس.

قال إدمون بأدب : "إن كنت انتهيت من مشاهدة الصور يا أمي ، فأعطني الالبوم حتى أعيده إلى مكانه !"

هزت الأم رأسها .. تنهدت و أغلقت الالبوم الذي لم يكن عاديا ، بل إن الناظر إلى غلافه الخارجي لن يخطر في باله أنه يحوي صورا لطفل صغير ، لأن إدمون قام بنزع الغلاف الأصلي و لصق بدلا منه غلافا لكتاب "التكنولوجيا في القرن العشرين" !

بدت إيفا مستغرقة في التفكير و حين همت السيدة بإعادة ألبوم الصور لابنها ... هتفت : "لكن .. ألا تواجه أسرة إيفرهارت مشاكل بخصوص آلويس ؟!"

عقدت كارولينا حاجبيها الرفيعين : "ماذا تقصدين يا إيفا ؟!"

"ما أعنيه هو أنهم ينسبون إليهم ابنا ليس من صلبهم و هذا قد يسبب لهم الكثير من المشاكل !"


التقط إدمون الالبوم من أمه بينما يرد على زوجته بنبرة أسف : "أجل ! إن المشاكل قد بدأت تظهر بالفعل ! آلويس لا يشبه أيا من الزوجين إيفرهارت و لا أحدا من أسرتيهما ! مع أن لون بشرته و شعره يشابه ما لدى السيدة إلا أن ملامح وجهه و لون عينيه الغريب مختلف كليا و غير مسبوق في العائلة !"

فكرت سارة مقطبة الجبين : "إنه لا يشبه .. حتى ليليان !!"

أضاف إدمون : "و لا نيكول !!"

نظر أفراد الأسرة إلى بعضهم البعض بدهشة و حيرة شديدة ، كيف يمكن ذلك ؟! الطفل لا يشبه حتى أبويه الحقيقيين ! هل هذا يعني ..

رفعت كارولينا عينيها الخائفتين إلى زوجها .. فتجهم الأخير و قد فطن إلى ما تفكر فيه ..

"ابنتنا فتاة صالحة يا كارولينا !" قال جوزيف بحدة و حزم "عليك أن تكوني واثقة من هذا دوما و لا تسمحي للشك لحظة واحدة أن يتسرب إلى قلبك !"

أضافت إيفا إلى كلام عمها : "و حتى لو لم تكن ليليان كذلك ، فإنها بلا شك أحبت نيكول حبا عظيما ، من المستحيل أن تفكر حتى مجرد التفكير في خيانته و قلبها لا يسع أحدا سواه !"

أحنت الأم رأسها خجلة من نفسها و نادمة على سماحها لتلك الفكرة الفظيعة أن تستقر في ذهنا و لو قليلا "سامحيني يا ابنتي ! سامحيني !"


عادت سارة لتقول : "لكن يبقى الأمر محيرا !" التفتت نحو أبيها و سألت : "هل تعرف من آل دي لا فونت أحدا يمكن أن يكون قد ورث آلويس شكله منه ؟!"

"لم ألتق سوى بأب نيكول و أمه !"

هتفت إيفا : "إذن ربما يكون أحد أجداده ! جده الثاني أو حتى الثالث من يعلم ؟!"

هز جوزيف رأسه : "هذا ممكن !"


و توقف النقاش عند هذا الحد .. إذ عبر إلى داخل غرفة الجلوس الحفيد الأول للعائلة .. وليام !

"مساء الخير !" قال مبتسما فردت عليه أمه بحب : "أهلا بعودتك حبيبي ! كيف كان يومك في الروضة ؟!"

رد وليام متثائبا : "ممتع .. و متعب أيضاً !"

كان ما يزال مرتديا حقيبته الصغيرة. فساعدته الخادمة على نزعها ثم حملتها عنه و خرجت.
و بينما يسير نحو والدته ليجلس إلى جوارها .. اصطدمت يده دون قصد بجرة خزفية جميلة كانت موضوعة على الطاولة فتدحرجت و سقطت على الأرض محطمة.

لم يبد أي من أفراد الأسرة منزعجا - باستثناء سارة فهي تكره الأصوات التي تخدش أذنها الموسيقية الرقيقة كما تقول عادة - فما القيمة التي تمثلها جرة كهذه بالنسبة لأسرة فاحشة الثراء كأسرة آيون ؟!

نادت إيفا على أحد الخدم من خلال الباب المفتوح و عادت لتجلس في مكانها .. أتت واحدة من أصغر الخادمات و أحدثهن على العمل في القصر و هي تحمل أدوات التنظيف ، و فيما هي تنحني لتكنس حطام الجرة .. أوقفها إدمون قائلا : "اتركيه !" و نظر إلى وليام بصرامة "نظف الفوضى التي أحدثتها يا وليام !"

فوجئ الصغير و التفت إلى أمه ، فقالت مستنكرة : "إدمون !"

حدجها زوجها بنظرة حادة : "لا تتدخلي يا إيفا !"

"لكن لا يمكنك أن تحاسب ويل فهو لا يزال صغيرا ، كما أن الخدم كثر ! أنا نفسي حين أكسر شيئا أنادي على أحدهم لتنظيفه و لا أفعل ذلك بنفسي !"

"لا يهمني ما تفعلينه أنت ، فأنا لا أربي فتاة ! أم أنك كذلك يا وليام ؟!"

مط المعني شفتيه : "لست فتاة !"

"حسنا و هل أنت رجل أم مجرد طفل كما تقول أمك ؟!"

هتف وليام بقوة و ثقة : "أنا رجل !"

"و لا شيء يثبت الرجولة أكثر من تحمل المسؤولية ، لذا إن كنت رجلا كما تقول فعليك أن تكون مسؤولا عن تصرفاتك و تصلح ما أفسدته بنفسك !"

"سأفعل !" قال وليام بتحد ، و اتجه نحو الخادمة و أخذ منها أدوات التنظيف ثم شرع يعمل.
بدت الخادمة مصدومة و مرتبكة بينما كان أفراد العائلة يراقبون ما يحدث مبتسمين ما عدا إيفا التي همست لزوجها باستياء : "ليس عليك أن تكون قاسياً معه هكذا !"

تحدث إدمون ببرود : "لقد قلت لك ، أنا لا أربي فتاة هنا ! الفتيات قد يلائمنهن الدلال أما الفتيان فلا ، لم يكن المدلل في حياته رجلا يعتمد عليه !"

استنكرت : "لكنه ما يزال صغيرا جدا !"

قطب جبينه مستهجنا : "إن كنت أريد زرع الخصال الحميدة فيه فعلي تعليمه إياها و تعويده عليها منذ طفولته حيث تكون شخصيته في بداية تشكلها و عقله في طور نموه ! هل فهمت الآن ؟!"

ثنت إيفا ذراعيها و سكتت مزمومة الشفتين ، رغم أن إدمون بدا لها هادئا إلا أنه كان يضحك عليها في سره و كذلك تفعل أمه.


*****

ظلت حياة أسرة آيون تسير بشكل طبيعي يميل للهدوء و التكرار حتى أتى اليوم الذي اكتشفت فيه العائلة أن فردا جديدا قادم في الطريق !
كان الكل يبدو متحمسا و مسرورا بهذا الخبر حتى سارة اللامبالية فقد رأت أن ذلك قد يكسر روتين حياتهم الممل !

و مع أن الوقت كان مبكرا على ولادة الطفل الثالث إلا أن كافة التحضيرات لاستقباله تمت خلال أسبوع واحد فقط ! إذ بعد أن أعلم الطبيب إيفا أن الجنين في الغالب أنثى ، أسرعت الجدة كارولينا إلى السوق لتشتري أكواما من الملابس و الملاءات و البطانيات و غيرها الكثير من حاجيات الأطفال ، أما إدمون فقد اهتم بتجهيز الغرفة بأثاث أنثوي جميل و طلاء جدرانها بألوان زاهية تسر العين ، كان - على خلاف ما توقعت إيفا - سعيدا للغاية لأن طفله الثاني سيكون فتاة و قد علل ذلك بقوله مرحا : "أحب التنويع !"


لكن الأخبار لم تنته هنا .. فلم يمض شهر بعد ذلك حتى أتى جاك مارتل إلى الماسة الرمادية في زيارة مفاجئة !
كان مارتل صديقا قديما لإدمون و شخصا موثوقا بالنسبة للعائلة فنزل الجد و الجدة مع إدمون للترحيب به.

تبادل مع إدمون بعض الهمسات و النظرات غامضة المغزى ، فقاده الابن برفقة أبيه إلى مكتبه و تركت الأم وحدها فريسة للفضول و الانتظار حتى ملت و حثت خطاها نحو غرفة إيفا ، كانت الأخيرة جالسة على سريرها تكلم وليام بينما تدون شيئا ما على دفتر صغير.

سألت كارولينا : "ما الذي تفعلينه ؟!"

رفعت إيفا رأسها عن دفترها و ابتسمت ابتسامة واسعة : "أختار مع وليام اسما للطفلة يا عمتي !"

انضمت إليهما كارولينا و قالت بابتهاج : "و هل استقر قراركما على واحد ؟!"

"نعم و وليام من اختاره !"

"و ما هو إذن ؟!"

"لونا !" هتف وليام فرحا و فخورا "و يعني القمر !"

أبدت الجدة استحسانها : "اسم جميل حقا يا عزيزي !" أضاف مخاطبة إيفا "وهل أخبرتي إدمون بذلك ؟!"

"ليس بعد ، سأفعل حين .."

ثم توقفت لترد على طارق الباب : "تفضل !"

دخلت خادمة الاستقبال و قالت بتهذيب : "السيد جوزيف و ابنه يودون لو تنزلن إلى غرفة الجلوس سيداتي !"

نظرت إبفا إلى عمتها متسائلة فقالت الأخيرة بحماسة كبيرة : "لابد أن مارتل قد جاء بخبر مهم ! هيا لنذهب بسرعة قبل أن يغيروا رأيهم و يمتنعوا عن إخبارنا !"

سأل وليام بأدب : "هل يمكنني القدوم أيضاً ؟!"

التفتت إليه إيفا و قالت آسفة : "لا أستطيع السماح لك يا عزيزي ويل .." أضافت بسرعة عذرا غير مقنع : "إذ عليك أن تدرس جيدا من أجل .. من أجل امتحاناتك !"

تعجب وليام و قال ببرود ساخر : "أي امتحانات و نحن في العطلة يا أمي ؟!"

لكن إيفا لم تسمعه إذ كانت حينها قد خرجت من الغرفة مع كارولينا.


وجدا جوزيف و إدمون يجلسان في انتظارهما .. كان يبدو عليهما مزيج غريب من الصدمة والحيرة و الشك.
سألت الجدة بلهفة قبل أن تجلس : "ما الذي جاء به مارتل ؟!"

قال جوزيف بقليل من التأنيب : "اجلسي أولا يا امرأة !"

استسلمت الجدة و جلست مع إيفا على أريكة قبالتهما .. أدار إدمون وجهه نحو أبيه فابتدر جوزيف آيون قائلا : "لقد جاء مارتل و بجعبته خبر غير متوقع ! إنه بخصوص نيكول دي لا فونت !"

فغرت إيفا فاها و انحنت كارولينا باهتمام بالغ : "ماذا بشأن ذلك المجرم ؟!"

تنهد جوزيف تنهيدة عميقة طويلة ثم قال : "لقد قتل يا كارولينا !! عثر عليه مقتولا في مكتبه جراء طلقة اخترقت رأسه !!"

اتسعت عينا السيدتين في اندهاش و ذهول ، و لاح على وجه الأم شبح ابتسامة حقد متشفية "و أخيرا نال الوغد جزاءه !"

تساءلت إيفا : "لكن .. من الذي قام بهذا ؟!"

ظهرت آمارات الحيرة على وجه إدمون و هو يجيب : "هذا أكثر ما يثير عجبنا ! إذ حسب ما وصل مارتل من معلومات فإن نيكول قتل من قبل شركائه في المنظمة بعد أن نشب بينهم خلاف هدد فيه دي لا فونت بفضح أمرهم إن حاولوا اعتراض أعماله !"












رد مع اقتباس