عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 05-13-2016, 12:00 PM
 
.














.

.

× × ×


كانت أغنامه عند مدخل المدينة، في حظيرة أحد الاصدقاء الجدد. تعرف على الكثير من الناس في هذه الأنحاء،وهذا ماجعله يحب السفر لأيام متتالية، فعندما نرى الأشخاص أنفسهم كما هي الحال عليه في المدرسة الإكليريكية ـ فإننا نتوصل إلى اعتبارهم جزءاً من حياتنا، وبما أنهم يشكّلون جزءاً من حياتنا، فإنهم يبحثون في نهاية الأمر عن تغييرها كما يرغبون بغير رضى، لأن كل الناس يعتقدون معرفة كيف يجب أن نعيش تماماً، لكن أياً كان لا يعرف قطعاً كيف يتوجب عليه أن يعيش هو نفسه حياته الخاصة، كما لدى هذه المرأة المنجمة التي تجهل كيف تحول الأحلام إلى واقع.
قرر الانتظار حتى حلول الظلام، قبل أن يذهب إلى الريف مع نعاجه، فبعد ثلاثة أيام سيلتقي ثانيةً ابنة التاجر.

بدأبقراءة الكتاب الذي كان قد حصل عليه من خوري طريفه. كان مؤلفاً ضخماً يتعرض لمسألة دفن من بدايته، بالاضافة إلى ذلك كانت أسماء الشخصيات معقدة للغاية. ثم حدث نفسه،بأنه لو قدر لو يوماً أن يؤلف كتاباً، فسوف يورد الشخصيات واحدة واحدة، كي يوف رلقرائه حفظ أسمائها دفعة واحد عن ظهر قلب.
عندما كان يقرأ بتركيز تلك القصة الجميلة عن دفن في الثلج، والتي منحته احساساً بالرطوبة رغم الشمس المحرقة ... جاء رجل عجوز للجلوس بجانبه والحديث معه.

- ماذا يفعل هؤلاء ؟ سأل العجوز مشيراًإلى المارة في الساحة.

أجاب الراعي بلهجة جافة:

- إنهم يعملون ... وتظاهربالقراءة.

وفي الواقع، فقد كان يحلم بالذهاب لجز صوف نعاجه أمام ابنة التاجر كي يتلمس بنفسها مقدرته على القيام بالكثير من الأمور الهامة، كان قد تخيّل هذا المشهد عشرات المرّات. وأن الشابة تبدو له مندهشة عندما يشرح لها عن الغنم وكيف يجز الصوف من الخلف إلى الأمام، لقد بذل ما بوسعه لتذكر بعض القصص الجيدة وروايتها لها أثناء عملية الجز، كانت في الغالب قصصاً قرأها في الكتب، وهو يرويها، كما لو أنه عاشها بنفسه، ولن تعرف مطلقاً الفرق طالما أنها تجهل قراءة الكتب.

أصرّ العجوز على الكلام حينذاك، واخبره أنه متعب وعطش، وطلب أن يشرب جرعة من الخمر، فقدم له الشاب زجاجته علّه يذهب ويتركه بحاله.
لكن العجوز كان يريد الثرثرة بإلحاح، فسأل الراعي عن الكتاب الذي يقرأه.

فكر الشاب أن يكون فظّاً ويغير مقعده، لكنه تذكر أن أباه قد علّمه أن يحترم المسنين، عندها ناول الرجل العجوز الكتاب لسببين: أولهما، لأنه كان يجد نفسه فعلاً غير قادر على لفظ العنوان، وثانيهما، كي يغيرالعجوز مقعده إن كان يجهل فعلاً القراءة حتى لا يشعر بالذل.

- هِمْ ـ تنحنح العجوز متفحصاً الكتاب من وجوهه كلها كم لو كان شيئاً غريباً ـ إنه كتابٌ مهم ولكنه ممل جداً.

ولشد ماتفاجأ الراعي عندما وجد أن العجوز يجيد القراءة. وأنه كان قد قرأ من قبل هذا الكتاب. وأنه كتاب ممل كم أكد العجوز، فالوقت لا يزال مناسباً كي يستبدله بآخر.
تابع العجوز:

- إنه كتاب يتحدث عن الشيء نفسه الذي تحدثت عنها الكتب كلها تقريباً، عن عجز الناس في اختيار مصيرهم، وأخيراً يجعلنا ندرك أكبر خدع في العالم.

- ماهي أكبر خدعة في العالم ؟! سأل الشاب مندهشاً.

- هي ذي: " في إحدة لحظات وجودنا، نفقد السيطرة على حياتنا التي ستجد نفسها محكومة بالقدر،وهنا تكمن خديعة العالم الكبرى. "
قال الشاب:

- بالنسبة لي، لم تجر الأمور بهذه الطريقة، فقد كانوا يريدون أن يجعلوا مني كاهناً لكنني قررت أن أكون راعياً.

- هكذا أفضل لك، لأنك تحب الترحال.

- لقد حدس أفكاري ـ قال لنفسه سنتياغو،بينما كان العجوز يتصفح الكتاب، دون أن يظهر أية نية لردّه.
لاحظ الراعي أن العجوز يرتدي زيّاً غريباً، فقد كان يبدوا أنه عربي الهيئة، وهذا شيء مألوف في تلك المنطقة، فإفريقية على بضع ساعات من " طريفة " ويكفي اجتياز المضيق الصغير بواسطة القارب وغالباً مايأتي العرب للتسوق من المدينة فالناس يشاهدونهم وهم يصلون عدة مرات في اليوم بطريقة تدعو للفضول.

- من أين أنت ؟ سأل الشاب.
- من أماكن عدة.

- لايمكن لأحد أن يكون من أماكن عدة، فأنا راعٍ، ومن الممكن أن أتواجد في أماكن مختلفة، لكنني أنتمي لمكانٍ واحد، مدينة قريبة من قصر قديم جداً، فهناك وُلدت.

- لنقل إذن إنني ولدت في سالم
لم يكن الراعي يعرف أين تقع سالم،لكنه لم يطرح سؤالاً، كي لايشعر بأنه سخيف نتيجة جهله.
انهمك بمراقبة الساحة للحظة، فالناس يذهبون ويجيئون، ويبدون منشغلين للغاية.
سأل الشاب:

- كيف هي سالم؟ باحثاً عن أية علامة لا على التعيين.

- كما هي دائماً من الأزل.
لم يكن في هذا أية علاقة تدل عليها، لكن على الأقل كان يعلم أن سالم ليست في الأندلس،وإلا لكان عرفها.

- وماذا تفعلون أنتم في سالم؟

- ما أفعله في سالم؟!

انفجر للمرة الأولى العجوز ضاحكاً، لكنني أنا ملك سالم، أي سؤال هذا ! ...
الناس يقولون الكثير من الكلمات الغريبة، ومن المستحسن أحياناً أن يعيش المرء مع النعاج الخرساء، ويكتفي بالبحث عن الماء والغذاء، أو مع الكتب التي تحكي قصصاً لا تُصدّق، أما عندما يتكلم المرء مع البشر فإن هؤلاء يقولون بعض الأمور التي تجعلنا جاهلين كيف نتابع الحديث.
قال العجوز:

- أنا أدعى " ملكي صادق "، كم تملك من الغنم؟

- ما يلزم.

كان العجوز يريد أن يعرف الأكثر عن حياته.

- لدينا مشكلة إذن، فأنا لا أستطيع أن أساعدك، مادمت تفكر بامتلاك ما يلزمك من الغنم.

بدأ الشاب يعاني نوعاً من الضيق، فهو لم يكن قد طلب منه أية مساعدة. فالشيخ العجوز هو الذي كان قد طلب خمراً، وأراد أن يثرثر، وهو الذي كان قد اهتم بالكتاب.

- أعد إلي الكتاب، يجب أن أذهب للبحث عن أغنامي ومتابعة طريقي.

- أعطني منها العشر، وسأعلّمك كيف تصل إلى كنزك المخبأ.


تذكر الفتى حلمه، وفجأة صار كل شيء واضحاً له.

فالمرأة العجوز لم تجعله يدفع شيئاً، لكن هذا الشيخ،سينجح في تحصيل مبلغ أكبر مقابل معلومة لم تكن تتعلّق بأي واقع، لابد أنه غجري أيضاً ويمكن أن يكون زوجها.
في تلك الأثناء، ودون أن يقول أية كلمة،

انحنى العجوز، والتقط غصناً من الأرض، وشرع يكتب شيئاً على رمل الساحة، وفي اللحظة التي انحنى فيها، لمع شيء ما على صدره، كان الضوء باهراً لدرجة جعلت الشاب شبه أعمى.
لكن وبحركة سريعة ومدهشة لرجل في عمره، سارع العجوز لشد معطفه على صدره.

زال انبهار عيني الفتى، فاستطاع أن يرى بوضوع ماكان الرجل يكتبه، قرأ اسم أبيه،واسم أمه على رمال الساحة الرئيسية للمدينة الصغيرة، ألعاب طفولته، ليالي المدرسةالإكليريكية الباردة، ثم قرأ سيرة حياته حتى هذه اللحظة، قرأ أشياء لم يكن قد رواها لأحد قط، كتلك المرة التي سرق فيها سلاح أبيه وذهب لاصطياد الوعول الجبلية

- أنا ملك سالم ـ قال العجوز.

- لماذايثرثر ملك مع راع؟ تساءل الفتى في ذهول وحيرة.

- توجد عدة أسباب، لكن لنقل أن أهمّها هو أنك كنت قادراً على انجاز " أسطورتك الشخصية " .

لم يكن الشاب يعرف ما كان العجوز يقصد بقوله: " أسطورة شخصية " .

- هي ماكنت دائماً تتمنى أن تفعل،فكل واحد منا يعرف ماهي أسطورته الشخصية وهو في ريعان شبابه، في هذه الفترة من الحياة، يكون كل شيء واضحاً، كل شيء ممكناً، ولا يخاف المرء من أن يحلم أو يتمنى مايحب أن يفعله في حياته. وكلما جرى الوقت، فإن قوى خفيّة تنشط لإثبات استحالة تحقيق الأسطورة الشخصية.
لم يكن لقول العجوز أي معنى بالنسبة للراعي الشاب.

لكنه كان يريد معرفة ماهية هذه " القوى الخفية ". إن ابنة التاجر ستبقى فاغرة فاها !

- إنها قوى قد تبدو سيئة، ولكنها في الواقع هي تلك التي تعلّمك كيف تحقق أسطورتك الشخصية، إنها هي التي تعد عقلك، وإرادتك لأن هناك حقيقة كبرى في هذاالعالم:

" فأياً كنت، وأيّ شيء فعلت، فإنك عندما تريد شيئاً بالفعل، فهذا يعنيأن هذه الرغبة قد ولدت في " النفس الكليّة " ، وأنها رسالتك على الأرض . "

- حتى لو كانت الرغبة فقط هي رغبة في الترحال ؟ أو في الزواج من ابنة تاجر أقمشة؟

- أو البحث عن الكنز، فإن النفس الكليّة تتغذى من سعادة الناس أو من شقائهم، منالرغبة، من الغيرة، وإنجاز الأسطورة الشخصية هو الالتزام الأول والأوحد للناس، وكل شيء ليس إلا شيئاً واحداً.

" وعندما تريد شيئاً ما، فإن الكون بأسره يتضافر ليوفر لك تحقيق رغبتك " .

احتفظا بالصمت للحظة، راقبا فيها الساحة والمارّة،وكان العجوز هو المبادر في إعادة فتح الحديث:
- لماذا ترعى الغنم؟

- لأنني أحب الترحال.

أشار العجوز إلى بائع البوشار بعربته الحمراء في إحدى زوايا الساحة وقال:

- هذا الرجل أيضاً كان دائماً يريد الترحال عندما كان طفلاً،لكنّه فضّل شراء عربة صغيرة ليبيع البوشار ويجمع المال طيلة سنين عديدة، وعندما يصبح عجوزاً سيسافر ليمضي شهراً في إفريقية، إنه لم يدرك أبداً أن الانسان يمتلك القدرة لينفذ مايحلم به.
- كان عليه أن يكون راعياً ـ فكّر الشاب بصوتٍ عالٍ.

- لقد فكّر في ذلك ـ قال العجوز ـ لكن باعة البوشار ذوو شخصيات أكبر من تلك التي هم عليها الرعاة، فباعة البوشار لديهم بيوت تؤويهم، بينما الرعاة يناموت تحت النجوم، والناس يفضّلون تزويج بناتهم من باعة بوشار على تزويجهم من الرعاة.

شعرالراعي بغصّة في الصميم، وهو يفكّر بابنة التاجر، ففي المدينة حيث تعيش يوجد بالتأكيد بائع بوشار.

- وأخيراً ـ أردف العجوز ـ فإن مايفكّر به الناس عادة عن باعة البوشار وعن الرعاة يصبح لديهم أهم من الأسطورة الشخصية.
تصفّح العجوزالكتاب وتسلّى بقراءة صفحة منه، انتظر الراعي قليلاً ثم قاطعه بنفس الطريقة التي قوطع هو بها:

- لماذا قلت لي هذه الأشياء؟

- لأنك تحاول أن تعيش أسطورتك الشخصية، ولأنك على وشك العدول عنها.

- وأنت تظهر دائماً في هذه اللحظات؟

- ليس بهذا الشكل دائماً، لكنني لا أتخلّى عنه أبداً ... ف مرة أظهر على شكل فكرة جديدة، أو كطريقة للتخلص من ورطة، ومرة اخرى أظهر في لحظة روحانية، أجعل فيها الاشياء سهلة المنال، وهكذا ... لكن أغلب الناس لا يلاحظون شيئاً.
روى أنه في الاسبوع الماضي، كان مجبراً على الظهور لأحد المنقبين على شكل حجر، فقد كان هذا الرجل قد تخلّى عن كل شيء، ورحل سعياً للحصول على الزمرد.

خمس سنوات عمل خلالها بتكسير الاحجار على طول أحد الأنهار، كان قد كسر خلالها تسعمائة وتسعاً وتسعين ألفاً وتسعمائة وتسعاً وتسعين حجراً، محالاً أن يجد زمردة، في تلك الأثناء فكّربالتراجع، ولم يكن ينقصه عندئذٍ إلا حجر واحدة، ليكتشف زمردته، وبما أنه كان رجلاً دأب في الجد خلف أسطورته الشخصية، فقد قرر العجوز التدخل،
فتحول إلى حجر تدحرجت عندأقدامه، وتحت وطأة غضبه واحساسه باستلابه خلال خمس سنوات ضاعت من عمره، قذف بتلك الحجر إلى البعيد، ورماها بقوة كبيرة جعلتها ترتطم بحجر أخرى، فتفتت لتكشف عن أجمل زمردة في العالم.
قال العجوز وفي عينيه شيء من المرارة:

- إن الناس يتعلّمون مبكراً مبرر حياتهم، وربما لهذا السبب نفسه أيضاً، يتخلّون عن عاجلاً عن المتابعة، لكن هكذا هي الدنيا.
تذكر الشاب حينئذٍ أن نقطة البداية بالنسبة للمحادثة التي دارت بينهما كانت الكنز المخبأ.

- لقد نُبشت الكنوز بفعل السيل الجاري ـ قال العجوزـ ودُفنت نتيجة ارتفاع مياه السيل نفسها، وان كنت تريد معرفة المزيد عن كنزك، عليك أن تتنازل عن عشر قطيعك.

- أفلا يمكن لعشر الكنز أن يفي بالأمر؟
بدا الشيخ خائباً:

- إذا وعدت بشيء لا تملكه بعد، فإنك ستفقدالرغبة في الحصول عليه.

قال له الراعي بأنه كان قد وعد الغجرية بعشر الكنز.

تأوه العجوز وصرخ:

- محتالون، على أية حال، انه لجميل أن تتعلم أن لكل شيءفي الحياة ثمناً، وهذه هي الفكرة التي حاول مجاهدو عهد الأنوار تعليمها.
ثم أعاد الكتاب إلى الشاب قائلاً:

- غداً وفي مثل هذه الساعة تصحب لي عشر قطيعك،وسوف أرشدك كيف تجد كنزك بنجاح، هيّا عمت مساءً.
واختفى عبر إحدى زوايا الساحة.

×

حاول الشاب الرجوع إلى قرائته، لكنه لم يتمكّن من التركيز، فقد كان مضطرباً ومتوتراً، لأنه أدرك أن العجوز يقول الحقيقة، ذهب للبحث عن البائع المتجول، واشترى منه كيساً من البوشار متسائلاً في قرارة نفسه هي عليه أن يخبره بما قال العجوز.

من الأفضل أحياناً، أن نترك الأشياء كما هي عليه ـ فكّر دون أن يقول شيئاً، فلو تكلم لأمضى بائع البوشار ثلاثة أيام بالتفكير ليقرر إن كان سيتخلّى عن كل شيء، لكنه كان قد اعتاد العربة الصغيرة.

كان يستطيع أن يوفر عليه هذا الارتياب المؤلم، أخذ يهيم في المدينة، ونزل حتى الميناء، حيث يوجد مبنى كبير،ذو نوافذ خاصة، كان الناس يأتون لشراء بطاقات السفر منها مصر ... إنها توجد في إفريقية.

- ماذا تريد؟ سأل موظف الحجز.

- ربما غداً ـ أجاب مبتعداً.

عندما يبيع واحدة من نعاجه، فإنه سيستطيع الانتقال إلى الجهة الأخرى من المضيق،لكن هذه الفكرة أرعبته.

- ها هو حالم آخر ـ قال قاطع التذاكر لزميله بينما كان الشاب يبتعد ـ ليس لديه مايغطي نفقات سفره.
في حين أنه عندما كان امام الكوة،كان قد فكّر بنعاجه، وامتلكه الخوف من الذهاب إليها. فخلال هاتين السنتين تعلّم كل شيء عن تربية الغنم، وتعلم كيف يجز الصوف، والعناية بالنعاج الحوامل، وحماية قطيعه من الذئاب، كان يعرف حقول ومراعي الأندلس كلها، ويعرف السعر الدقيق ومبيع كل واحده من دوابه.

قرر العودة إلى حظيرة صديقه عبر أطول الطرق، كان في المدينة قصر أيضاً، أراد تسلّق المنحدر الحجري والذهاب للجلوس على حائط السوق ليستطيع رؤية أفريقية، فأحدهم كان قد شرح له أن العرب الذين احتلوا إسبانية كلها تقريباً، ولزمن طويل قد جاؤوا من هناك، لكنه يكره العرب لأنهم جاؤوا بالغجر.

ومن الأعلى،يستطيع أن يرى أيضاً الجزء الأكبر من المدينة والساحة التي تحدّث فيها مع العجوز.
- لعن الله الساعة التي التقيت فيها بهذا العجوز ـ فكّر ـ فهو قد ذهب بكل بساطة للبحث عن امرأة قادرة على تفسير الاحلام، فلا تلك المرأة، ولا ذاك العجوز، لميعلّقا أية أهمية على كونه راع، فقد كانا شخصين منعزلين لا يعتقدان بشيء في الحياة،ولايفهمان أن الرعاة ينتهون في الارتباط بدوابهم، فالراعي يعرف بدقة كل واحدة منها،ويعرف أن كانت بينها واحدة عرجاء، وأيا منها ستضع بعد شهرين، إنه يعرف الكسولات منها ومتى يكون جزّها وذبحها. وان قرر الرحيل يوماً، فإنها ستتألم كثيراً.

أخذت الريح الشرقية تعصف، فمع هذه الريح جاء قوم من السفهاء الكفار، وقبل أن يعرف
" طريفه "، لم يكن ليخيل إليه أن إفريقية كانت قريبة جداً، الأمر الذي يشكّل خطراً كبيراً، فالعرب يستطيعون غزو البلاد من جديد. أخذت الريح تعصف بقوة أكبر.

- ها أنا ذا بين أغنامي والكنزـ قال لنفسه، وكان عليه أن يقرر أن يختار بين شيء آخر يحب كثيراً لو يحصل عليه، وهناك ابنة التاجر، لكنها ليست بأهمّية النعاج بالنسبة إليه، وماجعله يتأكد من ذلك هو لو أنها لن تلتقيه مابعد الغد، لما كانت انتبهت إلى ذلك: الأيام كلها متشابهة لديها، وعندما تكون الأيام تشبه بعضها بعضاً،فهذا يعني أن الناس قد توقفوا عن ملاحظة الأشياء الطيبة التي تخطر في حياتهم طالماأن الشمس تعبر السماء باستمرار.

- لقد غادرت أبي، أمي، وقصر المدينة التي وُلدت فيها ـ حدّث نفسه ـ لقد تعودنا على ذلك، والاغنام سوف تعتاد على غيابي.

من هناك، في الاعلى، راقب الساحة، كان البائع المتجول يتابع بيع بوشاره، جاء زوجان شابان ليجلسا على المقعد الذي شهد حواره مع العجوز، ثم تبادلا قبلة طويلة.

- بائع البوشار ... ـ تمتم في نفسه دون أن يتم الجملة، لأن الرياح أخذت تعصف بشكل أقوى، وشعر بها تلطم وجهه، إنها جلبت العرب بلا شك، لكنها كانت تأتي أيضاً برائحة الصحراء، وبالنساء المحجبات، وتحمل عرق وأحلام أولئك الذين كانوا قد رحلوا ذات يوم بحثاً عن المجهول، أو عن الذهب، والمغامرات والأهرامات.
أخذ الشاب يغبط الريح على حريتها، وأدرك أن لاشيء يمنعه أن يكون شبيهاً بها، فالأغنام، وابنة التاجر،وحقول الأندلس لم تكن إلا مراحل من أسطورته الشخصية.

× × ×







رد مع اقتباس