عرض مشاركة واحدة
  #70  
قديم 04-25-2016, 07:57 PM
 




باريْسْ


القليل من الوقتِ فقط ، لمْ يمضِ الكثير من الوقتِ على موعد عودته إلى لندن ، كل ما يتوجبُ عليه فعلا هوَ إنهاء بعض الأمور البسيطة العالقة هنا حتى أنه وجدَ في دعوة " فانتين " اللطيفة سببا في الترويح عن نفسه قليلا ، وقدْ يُغير هذا من مزاجه الذي تعكر صباحًا ، زيارة بعض أقربائها فرصة جيدة ، ففي النهاية هو أراد التقرب أكثر من السيد " ألبرتين " وعائلته لكنه لم يتوقع بأن الأمر سيكون بهذه البساطة ، حتى وإن لم تقم " فانتين " بهذه البادرة هو كان سيخلق العديد من الفرص فقط حتى يستطيع الاندماج معهم ، منذ نشأته وهو يحاول الحصول على كل ما يريد ، ليست غلطته إن وُلدَ طماعا أو أنانيا فالسيدة " لورينز " هيَّ التيْ ربَّته على ذلكْ ! ..
نهضت " فانتين " من على الأريكة المجاورة له فور أن دلفتْ فتاة حمراء الشعر متوسطة القامة إلى الغرفة ، تعانقت الفتاتين لوقتِ طويلْ وهما ترشقان بعضهما بعباراتِ محببة تخبر فيها إحداهما الأخرى عن مدى اشتياقها لها ، بعد ذلك استدارت " فانتين " صوبَ " إيرل " وقامت بدورها بالتعريفْ بعد أن أشارت عليه هاتفة لتلك الفتاة : عزيزتيْ " بيرناديت " أُعرفكِ على ضيفنا الشابْ إنَّه السيد " إيرل براسيت " ! ..


[ وجهها مليءُ بالنمشْ ] ، ذاكِ الذي خطر ببال " إيرل " الذيْ حاول كبتَ ضحكته على تعليقه – عديم الذوقِ – الذي صدح في دواخله ، ولكنه لمْ يكذبْ فوجنتيها حتى منتصف أنفها مليئتين به ، ولربما هذا ما جعل ملامحها الفرنسية تبدو أكثر خبثا ومكرَّا ، لا يشعر بالارتياح ، انحنى بنُبْل بعد أن التقط كفها وهتفَ بلباقة عاليَّة مخفيا شعوره الحقيقي : يسرني التعرف على أقرباء السيد ، آنسة " بيرناديت " ! ..
انتصب واقفا وحالما أفلت كفها حتى شعر بأصابعها تمسك كفه مرة أخرى وتهتف بتساؤلِ غريب : أنت من لندن أليس كذلك " إيرل " ؟! ..
لقد أسقطت كلمة [ سيد ] وعبارتها تفتقر إلى اللباقة ، ما بال هذه الفتاة ؟ ، تتصرف وكأنها على معرفة بع منذ مدة رغم أنه لم يلتق بها سوى الآن ، أخفى انزعاجه ببسمة صغيرة ظهرت على شفتيه ثم أماء بإيجاب كإجابة على سؤالها ، أجبرته على الجلوس لتجلس قريبا منه وتسأل بسعادة ظهرت بين كلماتها الغريبة : عظيم ، لطالما رغبت بالذهاب إلى هناك .. أتبعت بإسهاب استغربه : " إيرل " من فضلك أخبرني كيف هي لندن ؟ لا شك بأنها رائعة ، جميع أصدقائي استطاعوا زيارتها ، إنني أغبطهم ، ماذا عن منزلك ؟ أين تسكن ؟! ، هل هي فعلا مدينة الضباب كما يُقال ؟ .. أتبعت بقليل من الضجر : لم نغادر " ديجون " منذ مدة لذا أشعر بالضجر في كثير من الأحيان ، صحيح بأنني أمتلك معارفا هنا ولكنهم مملون ومضجرون ، بالطبع لست أقصد " فانتين " أو السيد فهما رائعين بحق ! ..



هذه الفتاة .. هذه الفتاة .. ثرثارة فعلا ، استغرق ثانيتين فقطْ حتى يستطيعَ التحكمَ بملامح وجهه ومبادرة ملامحها الشغوفة بذات البسمة الصغيرة المجاملة ، لنْ يكونَ قادرا على الخوضِ في حديثِ كهذا ، فهو لم يدخل في حديثِ فعلي مع فتاة من قبل ، إلا إن كان يخصُّ العمل ، لمْ يكن يعتقد بأنهن يمتلكن ألسنة كهذه ، لهذا تكره السيدة " لورينز " مجالسَ النساء وهو لنْ يستطيع لومها إن كن جميعهن على شاكلة " بيرناديت " هذه ، تنفس بعمقْ قبل أنْ ينظم مجموعة مفرداتِ لبقة فيْ ذهنه عله يصرف هذه الفتاة عنه قليلا ، إلا انه لمْ يكد يفتح فمه حتى لمح نظرات السخطْ تعلو وجهها ، أدار رقبته إلى حيثُ تنظر صوبَ الباب حيثُ تقفُ فتاة أخرى بدت أصغر من سنها ربما قليلا ، ليست قصيرة أو طويلة ، فستانها رثُّ قليلا ، وشعرها حالكً السواد جُمع بفوضوية خلف رقبتها ، ملامح وجهها لمْ تكن واضحة بسبب خصلات شعرها التيْ هطلت على وجهها بتمرد وكياسة ، تحملُ بين كفيها صينية عليها إبريقُ الشايْ ، شعر بأصابع " بيرناديت " تحتضنُ معطفه بقوة قبل أن تردف بنبرة منزعجة آمرة : " أوديت " بحقِ الله مالذي تفعلينه بوقوفكِ كالتمثال هناك ، تعاليْ وقدمي الشايْ حالا ! ..





لا يدريْ إن كانت ارتجافة الفتاة بسبب نظرته المطولة لها أمْ بسبب صوتِ هذه الببغاء بجانبه ، المهم بأنها تبدو غريبة فعلا ، نهضت " فانتين " من مكانها وتقدمت سريعا صوبَ تلك الفتاة لتحملَ صينية الشايْ من بين أصابعها ثمَّ تضعها جانبًا على طاولة التقديم أمامهما ، عادت لتحتضن كفيْ الفتاة بين أًصابعها باحتواء وتردف بنبرة ظهر فيها العطف واللطف كما هيَّ كلمات " فانتين " دائما : حبيبتي " أوديت " ، هل كنتِ بخير ، لم أركِ منذ مدة .. أردفت بعد أن رفعت كفها لتتلمس خصلات شعرها وبشيء من الاستغراب تساءلت : عزيزتي مالذيْ حلَّ بشعرك ، هل قصصته لمَ يبدو متفاوت الطولْ هكذا ! ..
هل ستجيبْ ؟ ، لا يعرفْ ولكن " بيرناديت " بجانبه عادت لتجيبَ بذاتِ النبرة المنزعجة الضجرة : لا تتعبيْ نفسكْ هيَّ لن تتكلم ، فهذه الفتاة مجنونة ، لولا كونها جيدة فيْ التنظيفِ والغسيلْ وإلا فإن مكانها سيكونُ بين القمامة فيْ الشوارع !
لقد طفح الكيل ، إنها تتلكم كثيرا ونبرة صوتها مزعجة حتى أنها تكاد تثقب أذنيه ، لمَ تحدثها بمثل هذا الشكلِ قليل الاحترامْ ، فور أن لاحظت " بيرناديت " نظرات الاثنان اللذان أخذا يرمقان تبدل مزاجها بهذه السرعة حتى تبسمت بشيءِّ من الارتباك وعادت تنظر صوبَ " إيرل " هاتفة بقليل من الخجلْ : هل تريد رؤية المكان حولَ المنزلْ ، هنالكَ حديقة غنَّاء جميلة أنا دائما ما أذهبُ إليها ، أراهنُ بأنها ستعجبكْ ، ما رأيك " إيرل " ! ..


عادت لتسقط لقب السيد مرة أخرى ، ما بال هذه الفتاة بحقِ الله ، تبسم متملصا من ذراعيها المزعجتين ليقف متوجها صوب " أوديت " كما يناديها الجميع ، قام بتحيتها كما فعل مع تلك الثرثارة هاتفا بأناقة كلماته : سرَّنيْ التعرفُ بكِ آنستيْ ! ..
ملمسُ كفيها خشنٌ فعلا ، لاشك وبأنها تعملُ وتبذل الكثير من الجهد فيْ هذا المكان ، كانَ هوَّ من لمْ يبعد كفه هذه المرة لتسحبَ " أوديت " أصابعها بسلاسة وتشبكَ كفيها مع بعضها بينما تطرق برأسها محرجة للأسفل ، عادت أصابعُ " فانتين " تداعبُ شعرها مرة أخرى وتقول مازحة : إنها تخجل كثيرا ، حتى أننيْ أشكُ بأنها حادثت شبانًا من قبل ، اعذرها من فضلك سيد " إيرل " ! ..
أنكستْ رأسها لأسفلَ بقوة هذه المرة وظهر احمرار وجنتيها جليًا أسفل سواد شعرها ، ممَ جعل " فانتين " تضحكُ بخفوتْ ويكتفيَّ الأخير ببسمة مجاملة ، هذه الفتاة مختلفة عن " بيرناديت " فهي لمْ تنبس بحرف واحد منذ دخولها ، حتى أنه بدأ يشك بأنها خرساء ، إنها تبدو أكثر لطفا ورقَّة ، وإلا لما قام السيد " ألبرتين " بتسمية القطعة النادرة تلك باسمها ، لتوه فقط تنبه على ذلك ، شيءٌّ كالقيود الغليظة عاد يطوق ذراعه مرة أخرى فيدير رقبته صوب من ارتدت ملامحها ثوب الغضب وكمْ بدت الغيرة جلية بين كلماتها ، فتستطرد بشيءِّ من القوة : " أوديت " أرضية الممرات وزجاج النوافذ يحتاج إلى تلميع ، لا أحبُ وقوفكِ هكذا ، بسرعة تحركِ ! ..


عدة أنفاس ملتوية خرجت من فاه تلك الصغيرة جعلتْ من " بيرناديت " تشتعل غضبا وقبل أنْ تعود لتأمرها بحقد ولؤم مرة أخرى حتى صدح صوتٌ قاسِّ اللهجة جعل من " أوديت " ترتعد خوفا : إنك مهملة ، كيفَ ترضينْ للضيوفِ بأن يروا المنزل بمثل هذه الحالة ، عوديْ للتنظيف سريعا ! ..
ما هي إلا ثوان حتى ظهر من خلف الباب الرئيسي للمنزل جسد ضخم لرجل بملابسَ مهندمة بسيطة ، لم تختلف ملامحه عن " بيرناديت " أبدا ، ذات المكر و الحدة والغضبْ ، اقترب أكثر من مكانه وقوفهم ، وهو يرمق الفتاة بحدة شديدة لدرجة أنها اعتصرت ثوبها الرث بين أصابعها خشية ، تدخلت " فانتين " هذه المرة وبملامح قلقة استطردت بارتباك : ولكن عم " أودريك " أنا أرغب في الحديث معها قليلا ..
تبدلت ملامح وجهه سريعا فور استدارة " فانتين " له ، وظهر صف أسنانه بعد أن أفرجت شفتيه عن بسمة غريبة ، ربَّت على رأسها هاتفا بقليل من اللطف المدَّعى كما اعتقد " إيرل " : تنتظرها الكثير من الأعمال ، تنتهي بعدها تحدثينها بكل ما تريدين ، أخبرتك بأنك قادرة على زيارتنا في أي وقت ترغيبن ! ..
لم يتعبُ عضلة لسانه في نطق كلمة أخرى بعد ، فكل ما فعله هوَّ أنه منح تلك الفتاة نظرة ساخطة جعلتها تتحركُ من مكانها سريعا وتختفيْ من أمامهمْ ، معاملة قاسية هل تعامل بمثل هذه الطريقة كل يوم لا شك وبأنها تقاسيْ الأمرين ، لوهلة غريبة راح يفكر لو أن السيدة لمْ تقم بتبنيه هل كان سيُعامل بمثل هذه الطريقة الوقحة يا ترى ؟ مجرد التفكير بالأمر أصابه بالصداع هو لن يستطيع تخيل الأمر حتى ، استدار صوب السيد " أودريك " بعد أن رسمَ بسمة مجاملة على وجهه : سيد " أودريك " أعرفك بنفسي .. رفع ذلك الرجل بصره صوبَ ناطق العبارة السابقة ليردف " إيرل " معرِّفا : أدعى " إيرل براسيت " .. وبكثير من العجرفة ونبرة لها مغزى وهدف معين أضاف : إلا أن الجميع يناديني بألقاب عدة العبقري و صانع النقود لكن للحق إن رغبت بمناداتي فأفضل لقب حفيد السيدة الأولى ! ..



صمت غريب ، صوت عقرب الثواني للساعة المعلقة على الحائط هو فقط من كان يسمع ، أن يُعرف المرء ذاته بتلك الطريقة لهو شيءٌ كافِ ليجعل الجميع يصمتون .. يحسدون ، لمْ تستطع " فانتين " فهم ما يرميْ إليه " إيرل " إلا أنها تعرف كفاية بأن هذه الطريقة لن تلقى إعجابَ السيد " أودريك " على الإطلاق ، أخذت تحدق فيه قليلا قبلَ أنْ تعود ببصرها للعمْ الذي أفرج عن ضحكة مريبة بين شفاهه المنحنيَّة بإعجابِ كبير ، بعدها مدَّ كفه صوب الشابِ هاتفا بفخر وإعجابِ كبيرين : وقوفك فيْ منزليْ لهو شيءٌ يشرفنيْ سيد " براسيت " ، أدعى " أودريك " سرنيْ لقاؤكْ ! ..
بعد مضيِّ القليل من الوقتْ عاد الجميع للجلوسِ فيْ أماكنهم بغرفة الجلوسْ ، ولازالت تلك الببغاء المزعجة تجلس جواره رغمَ انخراطها فيْ الحديثِ مع والدها و " فانتين " ، بالرغم من أنه لمْ يمض الكثير من الوقت على مجيئهم إلا أنه يرغب في الخروج من هنا سريعا ، الجلوس برفقة هذين الاثنين يخنقه فعلا ، تنفس بعمق متنبها لسؤال السيد " أودريك " له : هل ستطول مدة مكوثكَ هنا ، أيها الشابْ ! ..


الأب لا يختلف كثيرا عن ابنته ، هذا ما فكر فيه " إيرل " قبلَ أن يجيبَ بنبرة لا تخلو من الضجر رغم ملامحه الهادئة : ليس تماما عليَّ العودة إلى لندن فيْ نهاية هذا الأسبوع ! ..
عاد يشعر ب " بيرناديت " جانبه إذ أنها هتفت بقليل من الشوقْ والغبطة : في نهاية الأسبوع أيْ بعد أربعة أيام ، يا إلهيْ إنك محظوظ فعلا .. رفعت بصرها صوبَ والدها وهتفت بتضجر : ليتنا نستطيع زيارة لندن قريبا يا والدي ! ..




لُندنْ


المشاعر المضطربة في دواخله تؤلمه وتجعل تنفسه أقربُ للصعوبة من الممكن ، لقد خاطبَ نفسه مرات عديدة ليتوقف عن فعل هذا الأمر لكنه بالفعل أمر خارج عن استطاعته ، فمحاولاته البائسة تلك تعودُ إليه بالفشلْ ، نفثَ الدخانَ من فمه بعيدا ثم أرهق رقبته بالانحناء ويرميَّ سيجارة أخرى أسفل قدمه ، كم من الوقتِ يجبُ عليه الانتظار ؟ لا يعلمْ ، لقد تأخرت في العودة هذا اليومْ ، تأخرت لأكثر من عشرين دقيقة ، يأملُ بألا يحصل مكروهٌ لها ، لقد اعتاد انتظارها كلَ يومْ أسفلَ أحد الأشجار المحيطة بالمنزلِ الذي تقطنُ فيه ، وبسبب خروجه الدائم عن عمله في مثل هذا الوقتْ بدأ ذلك يزعجُ رئيسه و لربما يصفه الآن بالمزعج بدلا من لقب المدلل ، العملُ في المشفى أمر مرهقْ ويستنزفُ من يومه الكثير ، حتى أنه لمْ يعد يتذكر صوت والدته بشكل واضح ، عاد يزفر بضجر فيضربُ بقدمه الأرض بتباطؤ ، لمَ تحتم عليها أن تتأخر اليومْ ، فإن لمْ ترجع الآن قد يراه ذلك العجوز واقفا هنا ويرمقه بتلك العينين الساخطتين اللتين تجبرانه على العودة من حيثُ جاء ! ..


لقد تحققتْ أمنيته أخيرا ، هاهيَّ ذيْ ، إنها قادمة من بعيد ، تلك الفتاة المدللة التيْ تحبُ أنْ تقلقه كثيرا ، رأى بعض الأكياسِ التيْ تحملها بين أصابعه وكيسا فيه رغيفين من خبز فرنسيْ تحتضنه بذراعها الأخرى ، لا شك وبأنها ذهبت لشراء حاجيات المنزلْ ، آوه ، ياله من أحمق ! ، إنها تخرج في مثل هذا اليومِ كل أسبوع للتبضع ، لمْ يكن يتوجبُ عليه إهدار ساعة في انتظارها هنا أسفلَ شمسِ لا ترحم ، إنها فيْ ورطة فعلا ، فبالرغم من حذرها فيِّ شق طريقها إلى المنزلِ بدونِ أن تتسبب بضرر للأطعمة يعد شيئا جميلا تفخر به دائما إلا أنها هذه المرة تشعر وبأن الكيس فيْ ذراعها اليمين خفيف أكثر من المعتاد ، تباطأت قدميها عن الحركة وتمنت من أعماق قلبها أن يكونَ ما ظنته خاطئا ، أدارت عنقها صوب اليمين وحصل ما خشيته لقد كان الكيس مثقوبا والخضر التي ابتاعتها طازجة قبل لحظاتْ تقبل الأرضَ فرحا الآن خوفا من قدر به ماءٌ يغليْ ، لمح شفتيها المكتنزتين اللتين راحتا تندبان حظها التعسْ فيم تتحرك عينيها الصغيرتين في ملاحقة حبات الجزر التيْ سقطت قريبا منه ، بالرغم من صغر عمرها إلا أنها تحمل الكثير من المسؤوليات على عاتقها ، فالفتيات اللواتيْ بمثل عمرها بالطبع هنَّ لن يخرجن مرتدياتِ ثيابا بألوان غير زاهية رغم الراحة التي توفرها لها قطع الملابس تلك ، بشرتها فقدت نضرتها ومالت للشحوبِ أكثر ، الهالات السوداء أسفل عينيها وشعرها الفوضوي غير المرتبِ يضرب وجهها بخفة ، لونُ السماءُ بعد عاصفة رعدية ربما يكون ذلك أقربَ وصفِ للون عينيها المريبتين اللتين ورثتها عن والدتها روسية الأصلْ ، بالحديثِ عن عينيها هل تلك الحدقتين المتوسعتين ترقبانه فيْ استغرابْ الآن ! ..





أفلت حبات الخضر التي نعمت بدفء صدره قبل لحظات لتتناثر أخيرا على طاولة خشبية يدوية الصنع ، المنزل بالفعل يبدو فضل حالا رغم منظره لخارجي ، فبوجود تلك الأشجار المحيطة به يعتقد الناظر إليه من الوهلة الأولى بأن لا أحد يسكنه سوى الأشباح الطيبة ، تنبه لصوتها المبحوح الذي خرج في تساؤل منهك : علمت بأني رأيتك في مكان ما قبل الآن ، أذكر ذات مرة بأني رأيتك تخرج من الباب الخلفي للملجأ وعندما سألت السيدة " ليونيل " أخبرتني بأنك طبيب .. أتبعت في سرور بينما تملأ الإبريق ماءً وتضعه على النار : إنني بالفعل أغبط حسك الشريف بالمبادئ والقيم فاهتمامك بصحة أولئك الأشقياء الأطفال بدون مقبل لهو مدعاة للفخر يا سيد ! ..
لم تمد تخرج الكلمات من فاه الصغيرة المسكينة بسلاسة حتى شعرت بلون الاسوداد ينهال على مجال رؤيتها بلا استئذان مم جعل توازنها يخف تدريجيا ، تماسكت قليلا و في آخر لحظة حينما أمسكت بطرف الطاولة أمامها ، تنفست بعمق وأغمضت عينيها بقوة علها تسترد وعيها مجددا ، ارتجاف ساقيها منعها من الوقوف والحال التيْ كانت فيه قبل لحظات أفقدها مقدرتها عن السمع ، ذلك بات يحصل معها كثيرا في الآونة الأخيرة ، وعدم فقدنها لوعيها هذه المرة لهو شيءٌ يجب عليها أن تفخر به ، شعرت بذراع صلبة تحيط كتفيها بقوة حيثُ ساعدتها كثيرا في الوقوف ، إضافة إلى ذلك شعرت بأصابع غريبة عنها تضغط على جبينها بخفة ، مالأمر ؟ مالذي يحصل ؟ إنها بلا شك ستفقد وعيها الآن ، شعرت بذلك الشاب الطبيب يساعدها على الجلوسْ فيمَ بذلك استردت القليل من سمعها الراحلْ ، وسمعته يهتفُ بنبرة قلق واضحة : " إيرما " ..هل أنتِ بخير ؟ هل تسمعين صوتيْ ؟ إن كنت تفعلين فرجاءَّ أجيبيْ بإيماءة من رأسكْ ! ..


تعلقت عينيها على صاحبِ الملامح القلقة الذي تلتقيه لأول مرة ، وبالرغم من أن الوقت غير مناسبْ راحت تتساءل باستغرابِ عن قلقه المفاجئْ ، حركت رأسها بإيماءة تعني أجلْ و لا تدريْ إن كان ذلك الخطِ المستقيم على شفتيه ابتسامة أم لا ، استقام فيْ وقفته بعيدا عنها ، بعدها التقط ذراعها برفق وراح يقيسُ نبضها بأطراف أصابعه ، بينما تعانقُ عينيه الساعة الملفوفة حولَ معصمه بقلق ، بدأ تنفسها ينتظم أخيرا رغم الدوار البسيط أعلى رأسها ، لكم ترغب بكأس من الماء الدافئ الآن ، ابتعدت أصابعه عن ذراعها ليرفع كفه صوب جبينها ليعلم إن كانت تشعر بالبرد أم لا ! ..

أنزل بصره برفق صوب ملامحها التي تلونت باستغراب خائف فيم تحيط بأصابعها النحيلة معصمه برفق ، لتوه استوعب بأنه أقحم نفسه في مشكلة الآن ، مالذي يتوجب عليه فعله الآن ، أفلتت معصمه بتعب بينما رفعت بصرها صوب ملامح هادئة بثت الخوف والرهبة إلى قلبها ، حتى أنها شعرت بسبب تلك النظرتين الحادتين بثقل كبير يعلو لسانها منعها من طرح سؤال يحيرها ، أرادت أن تعرف فقط لمَ هو يعرف باسمها ؟ لمَ نظرة القلق في عينيه ؟ لمَ هو كان وقفا بالقربِ من منزلهم رغمَ أنه يقبع بعيدا عن الملجأ ؟! ..

شعورها بالخوفِ الآن لن يجدي ، لكنها مع ذلك فقدت القدرة عن الحديثْ ، لا تملك سوى النظر إلى زبرجديتيه الحادتين بخوفْ ، تتمنى أن ينتهي هذا الأمر على خير ، شعرت بحركة قريبة من الباب الرئيسيْ للمنزل لتدير عنقها بوجلْ صوب من وضع كومة حطبِ على الأرضْ قريبا من باب المطبخ بينما يظهر صوته المتعبْ من خلفِ ملامحه الباسمة فيْ بهجة : " إيرما " أينَ أنتِ ، سوف يعد لك والدك أطيب طعام هذا اليومْ ! ..

يقف بالقربِ من باب المطبخْ ، يرقبُ فتاته الغالية تنظر إليه بنظرة غريبة وكأنها تستغربُ وقوفه الهادئ هناك ، رفع كفه بإرهاقْ فيمسح قطرات العرق من على وجهه بمنشفة كانت متدلية حول عنقه على كتفيه العريضين ، ظهر صوته متسائلا في تعجبْ واضح : حبيبتي الصغيرة ؟ ..
هل ذلك الشابْ غير مرئيِّ أما ماذا ؟ أدارت عنقها سريعا أمامها لتفاجأ بأن ذلك الشابْ قد اختفى من مكانه ، غير معقول أين ذهب ، لم يدم استغرابه ذلك طويلا عند رؤيتها للباب الخلفي في المطبخ مفتوح على مصراعيه ، ولكن لماذا ؟ ، لماذا توجبَ والدها المجيءُ في هذه اللحظة ؟ لماذا توجبَ على ذلك الشابِ أن يهربْ ؟ هنالك الكثير من الأشياء التي يجبُ أن تسألها عنه ، أفاقت من تساؤلاتها الغريبة تلك حالما صدح الإبريق يصرخ باستنجاد أعلى لهيبِ نار أوجعه ! ..




تمًَّ البارت الثامن
__________________
سبحان الله وبحمده
سبحان الله العظيم

Sleeping Beauty | Ghasag
رد مع اقتباس