عرض مشاركة واحدة
  #68  
قديم 04-25-2016, 07:37 PM
 



بَارِيْسْ

" لَيْلَة فيْ الْنِّعيْمْ " ، معزوفةٌ بارِيْسِّيَّة فرنسيَّة أصِيْلة ، تغنَّى الفرنْسِيُّون بها حال سماعها من أحد العَازِفيْن الذيْ زعَمَ بتأليفها ، و عند سؤاله عن سرِّ نجَاحِه العظيمْ قَالْ بِأنَّهُ اسْتطاع كتابتها عند مقابلته لأحد المشردين ذاتَ يوم إذ أنه قال له بأنه يتمنى أن يعيشَ يوما واحدا سعيدا لا يقلق بشأن طعامِ وشرابْ ولا مأوَى ، يومٌ واحد فقط ، المعزوفة مليئة فعلا بالمشاعر و لربما لا يستطيع أي شخص أن يقوم بعزفها ، أن يقوم بترجمة تلك الأحاسيس إلى أصوات تلامس القلوب برقة ، ربما لم يكن بمقدور أي شخص أن يصل إلى درجة إتقانها بالكلية !..

إلا أنه حاول وقام بتعلمها منذ أن طرقت تلك النغمات المتتابعة أذنه لتتحول من مجرد موسيقى يسمعها للتسلية إلى معزوفة خاصة بالنسبة إليه ، تدرب عليها إلى درجة مكنت أصابعه فيها من التحرك بتلقائية ، يشعر بأنها تحاكيه كثيرا ، يصور له ذهنه أيام حياته الأولى والتي كانت بمثابة العلقم وبالرغم من أنه كان صغيرا آن ذاك إلا أنه قاسى كثيرا ، انتشال السيدة " لورينز " إياه من تلك الحالة كان أفضل شيء حصل له ليصبح الشاب العبقري كما يُطلق عليه دائما ، لم تدم تلك الحالة المتأملة طويلا إذ أنه وفور أن باشر بالدخول إلى مقطع آخر من المعزوفة شعر بشيء يضرب وجنته برفق ، تقارب حاجبيه قليلا ليفتح عينيه منزعجا فلتوه بدأ بعزف المقطع المفضَّلِ لديه ، انهمكت أصابعه في إمساك الكمانْ برفق فيمَ تدلى وترٌ من تلك المشدودة أرضا لابد وبأنه شعر بالحماسة كثيرا ليُقطع الوتر ، ظهرت ملامح الضجر على وجهه فبالرغم من أنه وجد الكمانْ فيْ حقيبة على المدفأة خمَّن بأنه مستعملْ وقويٌ فعلا إلا أنه فوجئ بملمس الترابِ بيْنَ أصابعه ، مادامَ هذا المسكين سيُعامل بهذه الطريقة المهملة فلماذا اقتناه أصحابُ هذا المنزل ؟! ، أعاد " إيرل " الكمان إلى حقيبته وفكر بأنَّ السيد لن يرفضَ إذا استأذن إصلاحه فهو من تجنَّى عليه على أيَّة حال ، نفض كفيه في الوقت الذي استدار فيه للخلفْ ينظر إلى مجموعة الأرائك المنتشرة على السجاد الذيْ افترشَ الأرضية الخشبية ، لمْ تكن الغرفة مختلفة فهيْ كغرف الضيوف التيْ يراها عادة ، كبيرة وواسعة تختنق بالأرائك وبكثرة النوافذ على الجدران لطالما فكر بأنها إهدار للمال لا أكثر ، فضيوفِ هذه الطبقة لا يبقون فيها لمدة لا تتجاوز الثلاثين دقيقة ، بدى في طريقه للجلوس بانتظار أي من السيد وابنته إلا أنه توقف فور رؤيته لظل أحدهم خارج الغرفة بالقرب من الباب ، الظل الطويل ذاك يبدو واضحا جدا على أرضية الممر الخشبية ، الظلُ لم يكن لقطعة من الأثاث بل لشخص يتمايل ، تبسم " إيرل " بسخرية قبل أن يفكر بأن طريقة التلصص هذه قد عفا عليها الزمن حتى أن ذلك الشخص فاشل في التواري ! ..


كم من الوقتِ يجبُ عليه الوقوف والنظر إلى ذلك الشيء بانتظار صاحبه أن يخرج ، بدى ذلك طويلا ومرهقا ، تنهد بشيء من الهدوء واعتقد بأن هذا الخجول يحتاج لدفعة بسيطة فقط ليظهر ، راحت عينيه تراقبان الظل الواقف بثبات بالقرب من الغرفة لم يكن لصبي صغير فذلك سيكون واضحا ، والكبار في السنْ لن يفكروا بمثل هذه الطريقة السخيفة لإلقاء التحيَّة ، لذا لابد وبأنه صبيٌ .. مزعجْ ، تمتمَ " إيرل " ساخرَّا فيمَ يجلسُ على أحد الأرائكِ بهدوء : أصحابُ هذا المنزلْ يفتقرون لأصول اللباقة فعلا كيف لهمْ أنْ يتركوا ضيفا كل هذه المدَّة ! ..
لاحظَ استجابة ذلك الظلِ الذي تمايل بخفة على الأرضية متفاجئا بمَ سمع ، أعجبت هذه اللعبة " إيرل " فإن كان ذلك الشخصْ لن يفكر بالخروج فهو سيجعله يخرج بكل بساطة ، عاد يُكمل خطته في استفزازه وقال : لنْ تُذاع أخبار سارَّة صباحا إن استمروا في تجاهليْ بهذه الطريقة فعلاقتي مع الإعلامْ جيدَة إذ همْ بانتظار أيِّ شيءِ ينشرونه عن السيد " ألبرتين " أو منزله لذا ؟! ..



نطق آخر كلماته في استفهام فيم راحت عينيه ترقبان ذلك الظل الذي تمايل في مكانه فور سماعه آخر كلماته ولكن مهلا يبدو وبأنه في طريقه للخروج فالاسوداد على الأرضية بدى أكثر قتامة من قبل ، رفع " إيرل " بصره للأعلى بانتظار من قرر اللعب معه ولم تكن لعبة سيئة فعلا ، نهض من مكانه بحركة سريعة ، لتلتقط مسامعه صوت ارتطام شيء بالأرضية ، حاول كتم ضحكاته فيم ينظر إليه يحاولُ لململة نفسه والانسحاب سريعا ، لم يدم انتظاره المقيتُ ذاك طويلا فسرعان ما ولجت " فانتين " إلى الغرفة تحمل بين أصابعها صينية الشاي ، طلبت منه بلباقة أن يجلسْ ثم أردفت باعتذار وهي تناوله الكوبْ : إنه شايٌ بالليمونْ ، والديْ يفضل تناوله بهذه الطريقة إن كنتَ لا تفضله يمكننيْ ..
قاطعها بإحاطة الكوبِ خاصته بأصابعه وأماءَ بلا فنكهة الشايْ لا تساويْ شيئا ما دام يجلس في منزل ذلك الرجل ، ارتشف القليل من الشايْ قبلَ أن يرفع عنقه صوبَ " فانتين " تلك التيْ هتفت بشيءِّ من الهدوءْ : " ليلة فيْ النعيم " ، لا يستطيعُ أيُّ شخصِ آخر أن يعزفها بصدقِ كما تفعل ، هذا يُبين بأنك فريدٌ مميز سيد " إيرل " ! ..
تلك العبارة مماثلة لعشرات من العبارات التيْ سمعها قبلا ، مميز و مختلف ، هل هو كذلك حقا ؟! ، لو يعرفون بأنه كان مجرد طفل مرميٌ في الشارع تبنته يدٌ حنونْ هل ستتغير نظرتهم له يا ترى ؟ ، ابتلع ما في فمه ليرسم بسمة مجاملة مستطردا و باعتذار : عذرا لوقاحتي فأنا لم أكن أقصد استعماله دون طلب الإذن ولكنني غيرُ صبور فعلا ..


لم يبدو على " فانتين " الاهتمام حقا وهي تستطرد بتململ : لا داعي لذلك ، والدي قد اشتراه لي قائلا بأنه يجب علي تعلم العزف إلا أنني لست مهتمة بذلك ، بالإضافة إن لغتي الإنجليزية ضعيفة فعلا بالرغم من أنني أحضر دروسا .. أردفت بمزاح : أظن بأن والدي يستلطف لغتك الفرنسية فهو أيضا لا يتحدثُ الإنجليزية جيدًا ..
تبسم مجاملا ثم عاد يرتشف القليل من الكوب بين أصابعه ، السيد " آلبرتين " مهتم في صقل مهارات هذه الفتاة لأنه يعلمُ بأنَّ العزف وتحدث اللغات الأخرى من أهم الأشياء التي يجب على آنسات هذه الطبقة التحلِّيْ بها ، إلا أن هذه الفتاة غير مهتمَّة فعلا ، نوعا ما هيَّ تذكره ب " إيرما " فهي لا تكترثُ لرأي الآخرين في النهاية ، قطب جبينه قليلا في الوقت الذي خطر فيه السيد " ويلبرت " على باله لابد وبأنه يعاني وقتا صعبا بسبب تلك الفجوة العميقة في حياته ، ما هيَّ إلا لحظاتٌ قصيرة حتى وَلجَ السيدُ " ألبرتين " الغرفة بثيابِّ جديدة وقدْ أبعد رائحة العجينِ والترابْ بأخذه حمامَّا ، أخبر ابنته بأن عليها أن تنتبه إلى العاملِ لشابْ وأن تباشر في إعطائه القليل من النصائح حول عمله الجديد ، لمْ يكن من الصعبِ على " إيرل " أنْ يفهمَ من تصرفه بأنَّ السيد يرغبُ فيْ الحديثِ معه على انفراد وقد تجلى ذلك واضحًا في جلوسه أمامه بأريحية تامة مظهرا تملكه لهذا المنزل ، حاولَ " إيرل " تجاهلَ ملامح وجهه المتصلبَّة بارتشاف القليل من الكوبِ المحتجز بين أصابعه ، لقد تعامل مع الكثير من الأثرياء على شاكلته ولسنه الصغير فهمْ يحاولون ألا يُبْدُو عدم ترحيبهم أو انزعاجهم فكيف لهمْ أن يجدوا وقتًا في جدولِ أعمالهم المزدحمْ فقط لملاقاةِ شابِّ في العشرين ! ..
" براسيت " فقط لأنه يحمل هذا الاسمْ ..
تطلع السيد " ألبرتين " بحيرة إلى الشابِ الجالسِ بهدوءِ أمامه قبلَ أن يتحدث متسائلا وَ بشكل مباشر : ربما الكلمة الأنسبْ لوصف شعوري الآن هو التعجبْ وأصدقك القولْ بأننيْ مرتابٌ منك قليلا .. أتبع بتململ : إن كنتَ تبحثُ عنْ عقدِ صفقاتِ أو ما شابه فأنا لا أرحبُ بهذا ، أفضِّل ظهور اسمي وحيدَّا ! ..


انحنى فمُ " إيرل " ببسمة مائلة قبل أن ينتقيْ الكلماتِ بعناية ويستطرد : أظنُ بأننيْ فشلتُ في محاولتيْ لكسبِ ودِّك ، أشعر باضطرابك سيديْ ولكننيْ أؤكد لك بأننيْ لستُ أضمر شرَّا فلسوءِ حظيْ لا أملك علاقة طيبة مع الإعلامْ بإمكانك تصديقي حال قراءتك للمقالات في الجرائد ! ..
سكبَ السيد " ألبرتين " لنفسه كوبا فيرتشف القليل من الشايِ ذي النوعية المفضلة لديه ، وبعد أنْ استشعر مداعبة تلك الرائحة الطيبة له حتى شعر بمزاجه يتحسن ، عاد يستطرد بحذر : لم تحزر ، فأنا لا أثق بالأشخاص بسهولة ، تعلم لا يمكنك الوثوق بطفل يدَّعي عشقه لتناول الخضروات بديلا للسكاكر ، هل توافقني ؟! .. أضاف بريبة : شابٌ عشريني مثلكْ لن يدفع مبلغا بتلك الضخامة فقط لاقتناء قطعة من الخزفْ إلا إن كان ينوي شيئا أو أنَّ هنالك مشكلة ما في رأسه ، اعتدتُ على قولِ رأيي بصراحة ، من حقكَ ألا تعذرني ! ..
تنهد " إيرل " بقلة حيلة بعد أن أقرَّ بهزيمته ، فهذا الرجل لن يفكر بتصديقه على الإطلاق ، ثمَّ ليكون صادقًا فتلك الخزفية كانت سبيلا فقط لوصوله إلى هذا المكان ، تململ في جلوسه قبل أن يحاول ضبط أعصابه فلم يسبق لأحد أن تحدث معه بهذا الشكل ، هتفَ مستسلما : ستون بالمائة فقط ، أما الباقي فأصدقكَ الحديث بأننيْ مهتمٌ بهذا المجال ، مجيئي هنا مبنيٌ على شيءِّ واحدْ و أظن بأننيْ سأعرفُ ذلك السبب قريبًا .. راح يتساءل بينما يتطلع إلى السيد الجالسِ أمامه بشيءِّ من الهدوء المصطنع : إلى ذلك الحينْ ، أتمنى أنْ تقبل بزيارتي لك بين الفينة والأخرى ! ..




لقد أًصبح الوضعُ أكثر إمتاعا بالنسبة إلى " إيرل " في الأيام القليلة التيْ قضاها هناك في فرنسا ،ربما يحقُ له أن يعتبرها الأفضل ، إلا أنَّ العمل باتَ مزعجا بالنسبة إليه فلا يكاد يخلد ساعة حتى ينتفضَ من مكانه مستعدا لإجراء مقابلة أو صفقة عمل ، عليه أن يسأل السيدة " لورينز " الراحة ، ويقضي ما تبقى له من سفره عاطلا ، صحيحٌ بأنه يتملص من العملْ أحيانَّا ويذهبُ لزيارة منزل السيد " ألبرتين " ، في الواقع لقد أصبح يتردد على ذلك المنزل كثيرَّا قائلا بأنه يود أن ينهل من علم السيد لا أكثر ، إلا أنه وجد في ذلك المنزلْ ملاذا عن حساباتِّ وأرقامْ أصابته بالصدَّاع والأرق أحيانا ، لا يستطيع الجزمَ بأنه تمكن من انتزاع ثقة السيد " ألبرتين " بالكامل ولكنه على الأقل لمْ يعد ينظر إليه بريبة أو شك ممَّ أراح الشابَ المثقل بالعمل ، لا يدريْ متى أصبحت علاقته معهم تخوله مشاركته لهم للوجباتِ وهمْ يتقبلون ذلك بصدر رحبْ ، إنهمْ لطيبون فعلا رغمَ حرص السيد الزائدِ على ابنته ! ..
__________________
سبحان الله وبحمده
سبحان الله العظيم

Sleeping Beauty | Ghasag

التعديل الأخير تم بواسطة غسَقْ | ; 04-26-2016 الساعة 11:12 AM
رد مع اقتباس