عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 10-07-2015, 11:00 PM
 
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:100%;background-image:url('http://www4.0zz0.com/2015/09/21/23/470405668.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]


الفصل السادس



وجدت في قدوم عمتها من الجزائر لزيارتهم نعمة نزلت من السماء. عساها تشغل أمها قليلا عن هواجسها. في الواقع، مند الامير عبد القادر، لم تفرغ سوريا يوما من الجزائريين ، دوما أشرعت لهم قلبها ودخولها من دون تاشيرة. وهكذا أصبح على امها ان تشرع بدورها بيتها لاستقبال الوافدين من أقارب وأصدقاء.
جاءت العمة محملة بما طلبت منها امها احضاره، حاجات تعز عليها، وما استطاعت حملها يوم غادرو. أشياء ها قيمة عاطفية، أما ما عداها فما عاد يعنيها. لقد تركت البيت على حاله لاخي زوجها. ثمة خسارات كبيرة الى حد لا خسارة بعدها تستحق الحزن.
قالت امها وهي تأخذ قرارها "البيت برجاله وليس بجدرانه"، ومن كانو يصنعون بهجة البيت غادرو، فما نفعه بعدهم. كان عمها منصفا، ابى الا ان يدفع ثمن البيت، بما ادخر من مال اثناء عمله في فرنسا. هكذا تمكنو من شراء شقة في الشام.
لقد عاشت امها الفاجعة نفسها في سنة 1982 يوم غادرت وهي صبية مع والدتها حماه، لتقيم لدى اخوالها في حلب، ما استطاعو العيش في بيت ذبح فيه والدهم، وهم مختبئون تحت الاسرة. سمعو صوته وهو يستجدي قتله، ثم شهقة موته وصوت ارتطام جسده بالارض، عندما غادرو مخابئهم بعد وقت، كان ارضا وسط بركة دم، رأسه شبه مفصول عن جسده، ولحيته مخضبة بدمه. كانت لحيته هي شبهته، فقد دخل الجيش الى حماه لينضفها من الاسلاميين، فمحاها من الوجود.
الاكثر الما، ان رجلا في مقامه دفن سرا، كما يدفن قطاع الطريق على عجل، رقم بين الارقام. لا احد مشى في جنازته، ولا احد عزى فيه. كانت حماه الورعة التقية، تدفن تلاتين الف قتيل من بضعة أيام، بعضهم دفن الوديعة في جنح الظلام. كان ثمة زحمة موت، لذا لم يحظ الراحلون بدمع كثير وحدهم الموتى كانو يمشون في جنازات بعضهم.
هي لم تنس شيئا. لقد عقدت هدنة مع الذاكرة، ليس أكثر. لكن بين مد وجزر، كانت الذكريات تعود كما الامواج. انها الامواج العاتية للحياة، تقذف بها مرة اخرى الى الشاطئ نفسه، الذي غادرته قبل ثلاثين سنة، عندما تزوجت ذلك الجزائري هربا الى ابعد مكان عن رائحة الموت، لكن الموت عاد بها، هاربة مرة أخرى من حيث جاءت، فهل كانت تحمله في حقائبها، ليكون لها قدرا غريب كهذا ؟
كان الموت اياه ينتظرها في سيناريو أخر. هذه المرة ليس الجيش الذي يقتل الابرياء بشبهة اسلامية. بل الارهابيون يقتلون الناس بذريعة انهم أقل اسلاما مما يجب.
كمن يعيش عملية بتر عضو من أعضائه دون تحذير، كان عليها ان تعيش فجائعها وهي في كل وعيها. ان يشرعو الباب كل مرة، ليدخلو عليها تارة بجثة زوجها، واخرى بجثة ابنها، وان تواص الحياة برغم ذلك مع قتلتهم. ليس الالم الاعظم ان تدفن اباك بل ان تدفن ابنك.
كانت العمة تحمل اخبارا سارة.
- الحمد الله رانا في رحمة ربي .. ارجع النا الامان يا هند يا اختي .. يا ريتك صبرتي شوية.
- ماقدرتش نعيش مع اللي قتلو ولدي وراجلي .. لو قعدت هناك كنت مت والا قتلت حد.
- الناس كلهم صابرين .. واللي ما عندوش وين يروح واش يدير .. نوكلو ربي "ياقاتل الروح وين تروح".
تدخلت تلطف الجو .، قالت موجهة الحديث لعمتها:
- امي حابة تعمل مثل الحاجة الزهرة في قسنطينة .. جاؤو ارهابيين في عمر ابنا أخذو ابنا في الليل وقتلو قداما وهي تبكي وتحاول فيهم. ولما عرفتهم راحت جابت رشاش تدربت عليه وقتلتهم .. وصارت ما عندا شغلة غير ملاحقة الارهابيين. رفضت تعترف بقانون الرحمة ، قالت "ناخذ حقي بايدي .. اللي ما رحمنيش ما نرحموش ..".
قال الام متعجبة :
- ما سمعت هالقصة .. امتى صارت ؟
ردت :
- لما كنا بالجزائر .. سمتها الصحافة "جميلة بوحيرد الثانية". شي ما بيتصدق .. مرا عمرا ستين سنة قتلت خمسين ارهابي.
واصلت ممازحة وهي ترى أمها مأخوذة بالقصة :
- خفت وقتا بحكيلك عنها تروحي تجيبي رشاش وانصير نص العايلة مقتوله ونص قتلة.
ضحكت. لا بد من ممازحة الموت احيانا والا قتلك قبل اوانك. علقت العمة من تحت حجابها :
- احنا مؤمنين يا بنتي .. والانتقام صفة من صفات الله وحدو هو المنتقم اللي يجيب لك حقك. لو بقينا كل واحد ياخذ تارو بايدو عمرها ما تخلص، الي ماتو مش رايحين يرجعو، لكن البلاد تروح. الحق .. في هذه بوتفليقة يعطيه الصحة .. يرحم والديه عمل شي ما حد غيرو قدر عليه. ماكاش حاجة في الدنيا اغلى من الامان .. قليل واش فات علينا في عشر سنين.
لكن امها ليست جاهزة للغفران، هي لم تغفر حتى الان لمن قتلو اباها قبل ثلاثين سنة في خماه، فكيف تغفر لمن اخذوا منها ابنها وزوجها قبل عامين. رفضت قبول الدية التي قدمتها الدولة لاهالي الارهابيين. كيف تحدث، ويسقط عن مرتكبيها حق الملاحقة، مهما كانت فضاعتها.
كل وجعها جاء من هنا.
لان امن الوطن لا يتحقق الا على حساب العذل، عم السلم المدني، وانفقد السلام الذاتي. فالضحايا ليست لهم صفة الضحية، مادام المجرم لا يحمل صفة ممجرم.
كل ما حذث اذا على مدى عشر سنوات لم يكن. ليس عليك ان تسأل كيف مات المئتا الف قتيل، وعلى يد من ؟ لعلهم ماتو في كارثة طبيعية.
وعلى الاف المغتصبات ان يتحملن وحدهن ما انجبن من لقطاء. وليبحث لاحقا كل لقيط عن اب، فقد عفا القانون عن المغتصب.
وعلى اهالي المفقودين ان يكفو عن ازعاج الناس بالتظاهر، وليغفرو لوطن فقد هو ايضا صوابه.
وعلى ابن الرئيس محمد بوضياف ان يتوقف عن مطاردة الحقيقة، ومساءلة الدولة عمن اغتال اباه، فجرائم الدلوة ايضا يشملها قانون العفو.
اكثر من جنون الاجرام، يطالب الوطن الان بجنون الغفران. وبعد واجب التذكرة، أصبح المطلوب ان ننسى، لان القاتل هذه المرة جزائري، وليس فرنسيا. لقد عاد من نوبة جنونه اتقى وأكثر وطنية منك . والارهابيون الذين كانو يحرقون الاعلام الوطنية اول ما يصلو الى قرية، ينزلون الان من الجبال وهم يرفعونها والذين طال عنفهم، حد نشب عضام شهداء الثورة واحراقها، لانهم ساهمو بجهادهم في ولادة دولة علمانية، هم الان يتنافسون على اثبات ولائهم للدولة كي يفوزو بكرمها.
أيقظت زيارة عمتها كثيرا من مواجعها، فهي لم تثيت الى اليوم على رأي، هل الاهم انقاذ الوطن ان تططبيق العدالة؟ وهل عليها ان تفكر كمواطنة ان كانسانة ؟
ما يعنيها الان ان امها تبدو سعيدة، تتسامر مع عمتها، وترافقها نهارا للاسواق، مما يتيح لها السفر دون شعور بالذنب. فهي لا تحب ان تترك امها بمفردها، وعليها ان تلبي عدة دعوات لتقديم حفلات في أكثر من بلد. لكأن الجميع اكتشفها في الوقت نفسه.




[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]
__________________
رد مع اقتباس