عرض مشاركة واحدة
  #139  
قديم 03-01-2015, 09:04 PM
 
- 40 -

زهرة .. في تربة الألم



دخلت مسرعة بعد عودتي من المدرسة وأسرعت أرمي عباءتي وأنطلق نحو (السوني) لأمسك بمقبض اللعبة.. فإذا به يدخل خلفي مسرعاً وهو غاضب.. صرخت:
ـ أنا حجزته!!
فأسرع يسحبه مني بقوة..
ـ أقول.. (انقلعي)!.. جهازي وتحجزه بعد؟!
ـ فهيدان.. حرام عليك أمي اللي شاريته لك.. خلني ألعب..
وضع إصبعه على جانب رأسه.. وبغرور قال..
ـ جهاااااااازي..!
ـ طيب بس عشر دقايق.. الله يخليك..
بدأ يلعب وهو يتجاهل كلامي..
ـ وش كبرك.. رجال في ثالث ثانوي.. وجالس على اللعبة مثل الأطفال..
رفع حاجبيه بكل برود وهو يبتسم..
كان فهد يكبرني بثلاث سنوات فقط..
ورغم كثرة شجاراتنا معاً.. كان هناك رابط خفي بيني وبينه..
كان يعترف أنني الوحيدة التي أستطيع منافسته في الألعاب القتالية في السوني..
ـ هذا (سمير) ولد خالة أبوي..
كان شعري قصيراً.. وأرتدي طاقية.. وثوباً..
وكنت في الثامنة من عمري يومها.. وأبدو كولد فعلاً.. بل ولد نحيف وقبيح!
عرفني على زملائه في حلقة التحفيظ..
اختار هذا الاسم ليحرجني.. ولم أكن أستطيع مناقشته في ذلك بالطبع..


* * *

حين أنظر اليوم لباب غرفته..
أعرف أن الزمن كفيل بقلع الكثير من زهور الحياة الجميلة..
أطرق الباب بهدوء..
ـ فهد.. الغداء..
صمتٌ ألفناه..
أطرق مرة أخرى..
ـ فهد.. الصينية عند الباب.. سأذهب.. خذها..
وأبتعد.. أقف خلف جدار الصالة.. وأختلس النظر..
يفتح الباب بحذر.. ينظر يمنة ويسرة بريبة..
ياااه.. منذ متى لم أر وجهه..
يسحب الصينية بسرعة ثم يقفل الباب..


* * *

تكاد أمي تبكي وهي تطرق الباب..
ـ يا وليدي افتح.. لازم ننظف الغرفة..
صمت يعتصر القلوب..
ـ لازم ناخذ الصحون ونغسل ملابسك..
لكن بلا إجابة..


* * *

كان قد قبل في كلية الهندسة..
حين بدأت رائحة الألم..
بعد أول أسبوع له في الدراسة، رفض الذهاب..
ثم..
بدأت رحلة المرض..


* * *

أفتح الدولاب تحت التلفاز.. أنظر لجهاز السوني.. ينزوي تحت أسلاكه..
لم يعد لي رغبة في اللعب به..
أنظر لأشرطة الألعاب..
يعتصرني الألم.. فأغلق الدولاب..


* * *

( دخل المسجد.. قبل صلاة العصر..
نعم.. كنت هناك..
كان وجهه مشرقاً.. كأني أراه الآن..
ـ مبروك يا فهد..
ابتسم بخجل..
ـ الله يبارك فيك..
تحرك الجار الذي كان يستند للجدار وهو يمسد شواربه ويحد النظر لفهد..
ـ وش عليه؟..
ـ فهد قبل في كلية الهندسة.. ما شاء الله عليه..
ليتني لم أقل.. ليت لساني شل في تلك اللحظة..
شهق واستوى في جلسته..
ـ أوف.. هننننننننندسة مرة وحدة!! .. أثرك مب هين يا فهيد..
كنت أعرف أن لهذا الجار الحقود ثلاث أبناء كلهم لم يجاوزوا المرحلة المتوسطة وفشلوا بسبب انحراف أخلاقهم عافانا الله وإياهم.. لذا شعرت بالخوف..
وحين انحنى فهد ليسلم عليه ضربه على كتفه بقوة.. وهو يتمتم بأن أبو فهد محظوظ لأنه سيصبح لديه ولد (مهندس)!!
وكانت نظرات الحقد تشع من عينيه بشكل واضح..
ارتبك فهد وتغير وجهه..
وخرج بعد الصلاة وعليه آثار تعب..
عرفت أن شيئاً قد حصل..
وقد حصل..)
هذا ما قاله جارنا الطيب أبو مساعد.. لوالدي.. ذات مساء حزين..


* * *

غداً اختبار الكيمياء.. أمسك الكتاب.. أحاول أن أقرأ..
أسمع صوت يصرخ..
ـ لاااااااااااااااا..
كان أبي قد فتح الباب بقوة.. وهو يحاول أن يسحبه ليجبره على الاستحمام..
أصوات مفزعة.. صراخ..
وأمي تبكي..
ـ خلاص.. اتركه.. كيفه..
ـ آآآآآآآآه.. لاااااااا.. خلووووووووني..
الساعة الحادية عشرة..
غداً الاختبار النهائي.. ثالث ثانوي..
لم أنه حتى الباب الأول.. يا رب ارحمني..
ـ أقوووول لكم اتركوووووووني..
أبكي تنساب دموعي..
أسحب مسجلي الصغير وأضع السماعات على أذني.. أضع شريط قرآن للشيخ الشاطري..
وأتأمل معاني الآيات..
تهدأ نفسي بعض الشيء..
لكن الصراخ قاتل وعال.. أعود للبكاء..
وفجأة.. تعتريني رغبة وحشية في التحدي..
أردت أن أصرخ.. وأقول لا.
أن أصنع شيئاً.. أن أحطم هذا الألم.. وأواجهه..
أردت أن.. أنجح.. بل وأتفوق..
لن أستسلم..
رغم كل هذه الظروف.. كنت أريد أن أحقق شيئاً..
أن أعبر عن ألمي بشيء إيجابي..
انكببت على الكتاب أقرأ وأحل.. وأخطط حتى الفجر..
حين خرجت من غرفتي لصلاة الفجر..
كان البيت هادئاً كالموت..
شاهدت أمي جالسة بصمت في الصالة..
كانت عيناها حمراوين..
نظرت إلي.. وتحدثت وهي تهذي..
ـ ضربه بالعقال.. حتى استطاع أن يخرجه من غرفته..
ـ هل اغتسل..؟
ـ رمى بوالدك على جدار الحمام فكاد يخلع كتفه..
سكتنا..
ـ ضربني أنا أيضاً.. آآآ ..
وبدأت تبكي.. وتهتز..
ـ فهد.. انتهى يا ميمونة.. ولدي راح.. خلاص..
رأيت الحقيقة تكشر أنيابها أمامي.. فزعت..
هربت مسرعة نحو الحمام.. وهناك.. بكيت حتى ارتويت..


* * *

كانت ورقة الاختبار أمامي..
الأسئلة.. الحروف.. الأرقام..
صوت صراخ فهد القوي.. (لااا.. خلوووووووني..)..
بكاء أمي..
أتخيل منظر أبي..
ارتعش قلمي بين أصابعي.. ضاعت الكلمات..


* * *

كنا نجلس على حافة السطح.. وأصحاب فهد في الشارع..
ـ يا الله مونة وريييييهم..
كان عمري سبع سنوات فقط.. وكان قد تحدى أولاد الجيران أن يجعلني أدور على جدار السطح..
وقفت.. وبدأت أسير على الحافة ببطء..
ثم أخذت أسرع.. أجري..
وهم ينظرون بخوف..
فجأة كدت أفقد توازني وأسقط.. وضعت يدي على الأرض.. تماسكت.. ووقفت مرة أخرى..
نظرت إليه..
كان ينظر لي بخوف لكن بفخر واعتزاز.. يريدني أن أريهم ما لدي من قدرات..
فرحت.. استمتعت بنظرات فخره.. انتشيت لأنه يتباهى بي.. ضحكت..
أردت أن أجعله أكثر فخراً..
أسرعت أجري وقفزت عدة مرات.. والجميع مبهورون..
صرخ بفخر: (حيووووووووووووها..!)


* * *

في الجريدة خبر يخصني..
اسمي.. مسبوقاً بـ (المركز السابع على منطقة الرياض)..
تطايرت الأوراق..
ماتت العبرات..
ونبتت زهرة.. في تربة الألم..