عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 08-23-2014, 11:54 AM
 
اعتذر على التأخير



- - -



[cc=-]
فوقَ الأَريكَة الواسِعَة في الحُجرة المُشتَركة بَينَه وَبين رايموس، اسْتَلْقى وَكِتابٌ عَن تاريخ "الحُروبِ اليونانية" يُغطي وَجهَه يَحْجُب ضوء المِصباح عَن عَينَيه،
إِحْدى ذِراعَيه مَطْوِيَة فوق صَدره، وَالأُخرى تَتَدَلّى بِجانِبه فَتُلامِس أَصابِعه الطويلَة البيضاء الأَرضيَة الرُخامِيَة البارِدَة تحته.
بدا فلافيوس كَشَخْصٍ مُسْتَغْرِقٍ في النوم، لَكِنَه كان أَبعَد ما يكون عن الإِستِرخاء في الحقيقة.. فَحَتّى مَع إِغماضِه لِعَيْنَيه ظَلَّت تِلكَ الصورة التي رَآها مُنذ أُسبوع، مُتَجَسِدَة أَمامَه كما لَو أَنها قد طُبِعَت تحت جَفْنَيه!
طِفلَة.. أَدْمَت قَلبه وَهي تَنظُر إِليه بِعَينَيها الواسِعَتين الكِريسْتالِيَتَين بِأَلوانِهَما الغَريبة ما بين الأَزرق وَالرَّمادي وَالأَخضر.. ابْهامُها في فَمِها وَهي تُحَدِّق في وَجهه بِاسْتِكشافٍ مُتَسائِل أَكثرَ مِنه مُتَوَجِس!
كان قَد عَلِم مِن فَوْرِه أَنها لا تَنْتمي لِهذا الجُزء من الأَرض! شَعرُها شديد الشُّقرة إِلى دَرجَة جَعلَته أَقرب إِلى الفِضَة في لَونِه، وَبَشَرَتُها اختارَت البياض الناصِع إِلى دَرَجَة الشُّحوب لونًا.
كانَ لايزال يُحدِق فيها غيرَ قادرٍ على تَصديق الحَقيقَة الوحيدَة التي تُفَسِر وُجودَ هذه الطِّفلة... تَنظُر إِليه واقفَة في حديقَة هذا المَنزِل بِالتَحديد!
‏ثَلاث سَنواتٍ كانت قد مَرت عَلى آخر مَرة جَثَمَ فيها فَوق غُصن هَذه الشَّجرة الضَخمَة، يُراقِب هذا البَيت مُنتَظرًا أَن يَلمَح مالِكَتَه، وَمالِكَة قَلبِه وَروحِه الذيْن تَرَكَهُما لَديها يَوم رَحَل...
ثلاثَة سَنواتٍ طويلَة مُعَذِبة قَد مَرت.. لَكِنَها لَمْ تُغَيِّر خَفْقَة القَلب التي لَطالَما استَشْعَرَها عِنَد سَماعِه لِصوتِها.. تمامًا كما يَشعُر الآن وَهو يُصغي لِندائِها النَّاعِم الحَنون قادمًا مِن المَنزل:
"روزا.. روزاليندا.. أَين اختَفيتِ حبيبتي؟"
بِإِحساسٍ تامٍ بِالغَرابَة، تَوارى قَافزًا إِلى سَطحِ المَنزل بِرَشاقَة لا يَقدِر عَليها بَشرَي..
عَيْنا الطِّفلَة -الشديدَة الشَبِه بِه- تابَعَت حَرَكَته السَريعَة دُون أَن يُفارِق التَّعبير الوَديع وَجهَها.
عِندَها ظَهَرت عَبر عَتبَة الباب.. مَليكَة فُؤادِه التي غَدَت أُمًا.. لًم يَستَطِع رُؤيَة وَجهِها مِن زاويَة اختبائِه فَغَمَرَه الأَسى.
راحَ النَسيم يُراقِص خِصَلات شَعرِها الكَستَنائِي الذي قَد استَطال عَن آخر مَرة رآه فيها، بَينَما تَحمِل صَغيرتَها ذات العامَين وَتَغمُرُها بِأَحضانِها.
الصورَة أَحْيَت قَلبَه المَقْتول شوقًا وَكَمَدًا... الشَعر الحريري لِمَليكَة فُؤادِه يَرقُص مَع النَّسمات وَيُدَغدِغ وَجه الطِّفلَة فَتَنْفُض رَأسَها الصَغير وَتُغَرِد بِضَحكَة يَذوب لَها القَلب، تُشارِكُها بِها أُمها بِرَنَّة مُمَيزَة قَد اشتاق لَها حَد التَمَزُّق!

كان مَزيج ضَحِكاتِهِما مُؤلِمًا جدًا.. وَمَألوفًا جدًا عَلى نَحو غَامِض.. مألوفًا إِلى الحَد الذي خَطَف مَعَه نِصفَ روحِه، وَجَعَلَه مَشْدود الأَعصاب نافِذ الصَّبر لِيَقفِز هابطًا إِليهِما في الحَال!
أَعماقُه اهتَزَت بِشِدَة يَومَها لِمَرأى ذلِك الوَجه الصَغير الضاحِك.. الجَميل عَلى نَحوٍ مُثير لِلشَّجَن... لَقَد كانت طِفلَتَه.. ابنَتَه هو.. طِفلَة لَم يَعلَم بِوُجودِها قَبلَ اللَّحظَة!!
كَم هي لَعنَة مُمَزِّقَة تلك التي تُجبِرُك على الإِبتِعاد عَن عائِلَتِك!!
وَكم كان عظيمًا مِقدار القُوَة التي احتاجَها لِيُدير ظَهرَه لَهُما وَيُغادِر مِن جَديد!!
"أَنتَ غَريب مُنذ فَترَة!"
قاطَع الصَوت العَميق أَفكارَه، فَأَجفَل عائِدًا إِلى الوَاقِع..
انعَقَد حاجِباه بِضيقٍ مُعتاد، قَبلَ أَن يَرفَع الكِتاب عَن وجهِه وَيَرْمُق فيليكس بِاستِفهام، لَكن الأَخير كان يُوليه ظَهرَه، يَبحَث كَما بَدا في خِزانَتِه عَن ثِياب لارتِدائِها بَعد حَمّامِه.
وَحين لَم يَبدُ عليه الانتِباه لِتَحديقِه الصامِت أَعاد الكِتاب فوق وجهِه لِيُهَمهِم بِغير إِهتمام:
"كيف عَرَفت أَني مُستيقِظ؟"
أَجابَه فيليكس وَهو يَستَدير إِليه مُنهَمكا في تَزرير قَميصه النِّيلي:
"أَنت تَشخِر كَمُحرِكٍ مَعطوبٍ حين تَكون نائمًا."
تَنَهد فلافيوس دُون أَن يُعلَق بِشيء، فَقال رَفيقه وَهو يَنظر إِلى هَيْأَتِه بِتَمَعن:
‏"أَيًا كان ما طرأَ عليك مؤخرًا، أَنا مُمتَنٌ لِأَنك كَفَفت عَن مُغامَراتِك في التَجوال وَلَفت الأَنظار."
غَمغَم فلافيوس ردًا لَم يُسمَع بِوضوح، ما جَعَل استِغراب فيليكس يَزداد فَالمُعتاد أَن يَنفَجر بِه غضبًا عِند أَي مُحاولَة لِمُحاوَرَتِه!
سأَله بَينَما يَجلس على حافَة سريره يَسحَب حِذاءَه الجِلدي الأَسود وَيرتَديه مُكمِلًا هِندامَه:
"ماذا تُغَمغِم عِندَك؟"
أَبعَد فلافيوس الكِتاب عَن وجهه وَاعتَدل جالسًا، أَجاب وَتقطيبَة اكتِئاب تَعلو مَلامِحه، مُمتَزِجة بِقليل مِن استِهتارِه المأَلوف:
"قُلت إِن لَفت الانتِباه شيءٌ لا يَد لي فيه، أَنت تَعلم.. إِنها ضَريبَة كَونِ المَرء وسيمًا، آسرًا بِإِفراط!"
عَقدَ فيليكس حاجبَيه وَعُيونه الزَّرقاء الحادة تُفَتِش وَجه رفيقه الهادئ اليوم بِخلاف العادة:
"مَهما يَكُن أَيها الوَسيم.. لا مَزيد مِن التَجوال المُتَهور في شَوارِع المَدينة، أَنا أَقوم بِبَعض الإِتصالات هَذه الأَيام، وَحالما نُحدد مَوقِع الهَدف سَنترُك مَدينَة البَشر هذه وَننطلق لِمُهمَتنا."
بَدت الجِديَة عَلى وجه فلافيوس فَجأَة إِثر العِبارَة الأَخيرَة، سأَل:
"أَثمَة أَخبار جديدة؟!"
تَنهد رَفيقه، وَترك شيئًا مِن الإِحباط يَظهَر على قَسَمات وَجهِه الرَزين وَهو يُجيب:
‏"كَلا.. لَكِن وَجودنا لَم يَعد آمنًا هنا، لقَد رَأوك في المدينة وَهي مَسأَلة وَقت فَقط حتى يَتوَصلوا إِلى مكان اختبائِنَا.. لن يُمكنَنا الإِستِمرار بِالتظاهُر بِأَننا مِن البشر، علينا الرحيل."
استَنكَر فلافيوس:
"لَم يَمضي شَهر على وُجودِنا حتى.. كيف نَترك المكان وَنغادِر بِبساطة؟! أَنَسيت أَن آخر خيط مَعلومات حصلنا عليه أَشار بِوضوح أَن ضالتَنا هنا في فانيسا؟!"
أَسْبَل فيليكس جَفْنَيه مُحتَفِظا بِتعبير وجه هادِئ، تَحرك حتى مِنضدة الزينة شِبه الخالية، وَالتقَط من عليها ساعة يَده وَهاتِفَه المَحمول، متحركًا بِسرعة بَشرِيَة بَطيئة بِالنسبة لِبَني جِنسه.
كان يَتوقَع ثَورَة فلافيوس على هذا القرار وَلذا لَم يُطلِعه عليه باكرًا، لَقد قَرر أَلا حل سِوى الإِنسِحاب مُنذ الليلة التي عَلم فيها أَن عَدوهما قد اكتَشف مكان وجودهما!
رَفع فيليكس عَينيه لِيَنظر إِلى صَديقه مِن خلال انِعكاسِه في المرآة قائلَا:
"ليس لدينا خيار، فَالبَقاء مُختَبِئَين هنا لا يُساعِد في شيء.. إِن أَردنا العودة لِحياتِنا فَيَجب أَن نَفُك اللَّعنة."
هَبَ فلافيوس واقفًا على قدميه بِغضب، قال:
‏"فَلتَرحل أَنت إن شئت.. أنا سأبقى!"
تَبادلا النَظرات لِلحظات، قبل أَن يَقول فيليكس وَابتسامَة غامِضَة ترفع زوايا شفتيه:
"هُراء!.. تَعرف أَني لَن أَسمح لَك بِالمُخاطرة بِحياتك على ذلك النَحو.. فَأنا وَأنت نَنتَمي إِلى فريق المنبوذين نفسه!"
عقَد فيلافيوس ساعديه قائلًا:
"إِليك عني! لَم أَطلَب مساعدتك، وَلست بحاجة إليها، قَررت البَقاء وَلن..."
قاطَع فيليكس هِياجَه بِنَبرة هادئِة واضِحة المَغزى:
"أَن تَحوم حولهما كالشبح، دون أَن تَستَطيع لمسَهما أَو محادثتَهما ليس حياة يا صديقي... عليك أَن تُقاتل حتى تَستَعيد حَقك في العَودة إِليهما! قَربك مِنهما في هذه الحالة سَيجعلُك تَتَأَلم وَيُعرضهما لِلخطر فَحسب."
اتسعَت عينا فلافيوس صَدمةً وَقد حَملت له كلمات رفيقه القليلة معاني أَكبر من ظاهرها.. بدا وَجهه شاحبًا فَجأة، وفيليكس يَستَدير لِيُقابِله وجهًا لِوجه مردفًا بِابتسامة مريرة ساخرة:
"أَنا وَأنت ارتكبنا جرمًا بِاختلاطِنا بِالبشر فَكانت التَعاسَة مدى العمر جزاء فِعلَتِنا.. لَكني لَن أَذعِن لِهذا يا صديقي، وَأولى خطوات خلاصِنا تَكون بِكَسر اللعنة التي حَلَت بِنا!"


[/cc]
- - -
بالتوفيق للجميع
__________________
-









أستغفر الله وأتوب اليه عدد ما ذكرهُ الذاكرون
و غفلَّ عن ذكرهُ الغافلون !