عرض مشاركة واحدة
  #90  
قديم 08-01-2014, 02:20 PM
 

وضعَ رأسه تحت الماء البارد المنصب بغزارة ليبعدَ قطرات العرق التي كانت تملأ جبينه ووجه المتعب بالكامل .. بقيّ على حالته تلك بضعُ دقائق فلعلّ ذلك الماء يتدفقُ لقلبه ويشعرهُ بالقليل من الراحة بداخله ... أغلقَ صنبورَ المياه بيده اليسرى.. فلا بدّ أن يبدأ عمله كما هوَ المعتاد ..
رغمَ أنّه قد اغتسل إلا أنّه لا زالَ يشعرُ بأثارِ الأمس الناجمة عن ارتفاعِ درجة حرارته .. أمسكَ منشفته الصغيرة وأخذَ يحركها في رأسه بخفة ليجفّ شعره من الماء الذي بلله به ..
عدّل تسريحَ شعره لتكونَ مرتبةً قليلاً .. رغمَ أنّه يفضلُ بقاءَ شعره كما هو إلا أنّ موضعه الذي هوَ فيه يتحتمُ عليه اتخاذ الرسمية ..
نظرَ لنفسه البائسة في المرآه والتي اتضحت معالمها في عينيه المتورمتين التي لم يستطع بها النوم براحة ليلة الأمس .. فذلك الألم كانَ كافياً بأنْ يجعله في وعييه بما أنّه تخالطه ذكرياتِ سيئة كُتبت أن تكونَ فيه .
صعدَ الدرجات للأعلى.. لم يكنْ يتألم ولكنّ كل ما كانَ به هو شعورٌ بالتعب ينتشرُ كلياً في كلِّ أنحاء جسده وذلك لقلّة نومه وعدمِ أخذه قسطاً كافي من الراحة .
أغلقَ البابَ خلفه بكلِ هدوء .. فلا أحدَ يعلمُ بمكوثه ليلة الأمس هنا .. وبداخله يفضلَ أن لا يعلمَ بذلك أحد وهذا ما قد عزمَ عليه ولكن سيرَ شيمون المفاجئ الذي ظهرَ أمامَ ناظريه من بعيد وملاحمه التي تظهرُ فيها جرعة كبيرة من القلق جعلته يدركُ سريعا أنّه قد يكونُ هوَ سببُ الحالة التي هو فيها .
حركَ قدميه متجهاً نحوه .. وما لبثَ أن استطاع ان يمسك بكتفه برفق من الخلف .. وبصوته العذب الذي يريدُ فيها أن يزيحَ بها قلقَ من يمسكُ به .
ـ صباح الخير .
التفت شيمون ما إن سمعَ ذلك الصوت الذيَ يعرفه جيداً .. والذي ما إن انسابت إلى سمعه حتى تَبدد قلقه الثقيل.. ونطقَ بانفعال..
ـ أنتَ هنا ... انتظرتكَ طيلة الفجر .
علمَ رولند صدقَ ما قاله شيمون .. فيبدو أنّه كانَ يظنَ بأنّه لن يأتي .. .. لذا قالَ له ليجعله يطمأن رغمَ أنّه لم يرد إخباره بذلك .
ـ لا تقلق لقد كنتُ هنا منذُ منتصفِ الليل .
اندهشَ من إجابته ! فكيفَ هو هنا منذُ الليل ولم يعلم هوَ بذلك , نظرَ جيداً له يريدُ أن يسأله إن كانَ ذلك حقاً ! ولكنّه أطبقَ على شفتيه ما إن رأت عيناه تلكَ العينان المتعبتان التي تنظرُ إليه فأدركَ سريعاً بأنّ الشاب الذي أمامه لن يكذبَ في نظرته تلك .
عندما علمَ رولند أنَّ حدقة عيني من امامه تنظرُ له بإمعان .. حتى قالَ سريعاً بابتسامة ليتهربَ من أيَ استفهام يريدُ توجيهه .
ـ إذاً سأذهبْ لأبدأ عملي ... .
أبعدَ يده عنه .. وأفسح له الطريق... أخذَ ينظرُ إليه من الخلف وهو يذهب باتجاه غرفة سيده, لقد كانَ حقاً يريدُ أن يسأله عن سببِ بقائه ليلة الامس هنا ! بل لماذا بدت عينيه هكذا !؟
كلُّ تلكَ التساؤلات أخذت تراوده فبرغمِ من أنّه يبدوا أنّه يرهقُ نفسه إلا تلك الابتسامة التي يرسمها على شفتيه دائماً
تجعلُ من يراها لا يقلقُ على شيء ..هذا ما شعرَ به وهو يراقبه حتى اختفى من أمامِ بصره.
لم يكن لديه الوقت الكافي لينغمسَ في تساؤلاته تلك فلا بدَ أن يذهب إلى الاتجاه الآخر ليتفقدَ إفطارَ سيده وجدوله لهذا اليوم ولكنّه قد طبعَ في قلبه أنّه لابدَ بأن يحصل على فرصة للحديث معه ولن يبقى جاهلاً الحقيقة .
وكما هي العادة عندما يكوُن هوَ .. فها هوَ رولند يطرقُ البابَ منذُ دقيقة ولم يتلقى أيّ إجابة , مما جعله يديرُ مقبضَ البابِ ليدخل هذه الغرفة بعدَ يومِ كاملِ من غيابه عنها وعنْه شخصياً ..
ما إن دخلَ حتى شاهدَ سيده ميلان يقفُ أمامَ سريره وهوَ يقومُ بتعديلِ مظهرِ ملابسه ... التفت عندما شعرَ بأحدهم يدخل بل وعلمَ منَ هو بكلِ يقين لذلك بدأ يرمقه بنظراتِ ملؤها التحدّي فقد تجاهله عن قصد عندما طرقَ بابَ غرفته .. لذلك لم يكن لـ رولند سوى أن ينظرُ إليه للحظات بكلِ برود بعدَ أن علمَ مقصده ثمّ يلقيّ عليه التحية ..
ثواني هي حتى بدأ بترتيبِ محتويات الغرفة متجاهلاً وجوده فقد بدت كمن لم يدخلها أحدٌ منذُ الأمس بل كأنها تركتْ له حتى عودته ..
انتهى ميلان من تسريح شعره بكلِّ هدوء .. وما إن انتهى حتى أعترض سيرَ رولند وتوقفَ أمامه ليجعله ينتبه له وبفضولِ شديد سأله .
ـ هل ارتحتَ من وجهي ليلةَ الأمس ؟! .
رفعَ رولند عينيه ونظرَ له وقد شعرَ بهالته التي بدت له أنّه لم يكن راضياً عن ذلك ..
وقال له ليبيّن له أنَ لم يتخذ هذا القرار من تلقاء نفسه ...
ـ هل تريد أن تتراجع عن ما وافقت عليه ؟! .

استشعر ميلان نبرة رولند والتي بدا أنّه قد انزعج حقاً من ذلك .. اتسعت ابتسامته وقد سعدَ لأنّه جعله ينزعجُ ولو قليلاً قربّ وجهه منه علّه يرى ذلك واضحاً في ملامحه بدلَ نبرته تلك .. .
ـ القرار راجعِ ليّ أنا وليّ الحق في ذلك , فقد كانَ ذلك قبل أن تكون خادمي الخاص بي .
لم تتغيرَ ملامح رولند بتاتاً بل بقيّ كما هو وكلَّ ما لاحظه ميلان هو التورمَّ الخفيف حول عينيّ من أمامه والتي قد امتلأت بالخطوطِ الحمراء .. وضعَ اصبعه على جبهته بقوة وحوّل نبرته لأخرى تحملُ الكثير من الحقد الدفين .
ـ يبدوا أنّك سهرت الليل كله في اللعب هنا وهناك ! ............ هل كانَ ممتعاً ؟! .
وأخيراً ظهرَ ملامحُ الانزعاج جليةً على وجهه رولند فها هوَ من أمامه يلقيّ عليه بالافتراضات جاهلاً الحقيقة .. انتبه لنفسه ما ان أحسَ بالغضبِ بداخله وتداركَ ذلك .., سرعان ما ارتخت ملامحه ليقولَ له بهدوءِ شديد مع ابتسامة بسيطة رسمها على شفتيه .
ـ وهل يهمّك الأمر إن كنت قد استمتعت أم لا !؟ .
لحظةُ صمت مرّت على ميلان أبعدَ اصبعه عنه وعادت ملامح الجفاء على وجهه فلم يعجبه رؤية وجهه الذي لم يكترث لما قاله بل ولجملته مما جعله يقول بكلِ صرامة .
ـ في المرة القادمة لن يكون في المستقبل مثل يوم الأمس أبداً .
قالها ثمّ انطلقَ ليخرجَ من غرفته صافقاً البابَ خلفه .. بينما لم يكن لرولند سوى ان يحدقَ بذلك الباب الذي خرجَ منه ويهمسَ بشفتيه بخفوت .
ـ عندما يحينُ ذلك .. لن أضمنَ لكَ نفسي بشكلِ جيد .


ـــــــ
بعدَ أن انتهى ميلان من تناول فطوره الصباحي ها هوَ يجلسُ بملل يستمع لجدوله الذي يحدّثه به شيمون , من يراه لا يظنّ بأن ذلك الشاب حقاً ينصت بكلِ جدّية لما يُقالُ أمامه وكأنما لا بأس له بأنْ يخالف بعضَ ما فيه وما إن سمعَ الكلمة التي نطقها شيمون من بينَ سطوره .. حتى استوقفه بيده .
انتبه شيمون ورفعَ رأسه ينظرُ إليه .. أردف ميلان قائلاً وهو يشيرُ بإصبعه ..
ـ أعد آخرَ نقطة ذكرتها .
استجابَ له سريعاً ووضعَ اصبعه على ذلك السطر من جدوله الزمني .
ـ في الساعة العاشرة تناول مائدةُ طعامِ بمناسبة عودة الآنسة.
نظرَ إليه باستغراب فما ذكره هو ما طلبه منه منذُ عدةِ أيام .
وقفَ ميلان والتقطَ باصابعه حقيبته السوداء بكلِ خفة وضعها خلفَ ظهره ورفعَ يده لشيمون معترضاً .
ـ سوفَ اصحبها إلى مكانِ آخر ... ذلكَ الألفريدو .. كانَ يزعجني بالأمس .
تذكرَ إزعاجه المكرر له عندما جاءَ لقصر مع عمه الذي طلبَ منه ذلك وكيفَ كانَ يترجاه بأنَ يأتي بها إلى مطعمه بالرغمِ من أنّه يعرفَ عواقبَ ما يفكرُ فيه ..
سارَ بخطواته طارداً تلكَ الأفكار من رأسه فلا يجبُّ أن يكونَ هناكَ ما يعكرُّ مزاجه في يومِ عودتها فهوَ يعلمُ تماماً قلقها الزائد عندما تلاحظ شيئاً عليه
أسرعَ بالذهاب فلا بدّ أن خادمه ينتظره في السيارة .. ابتسمَ بداخله بشرَ , فما لذي سيكون لو لم يجده هناكَ حقاً .
وصلَ ووجدَ رولند قد سبقه حقاً هناكَ وهو ينتظره .. ما إن رآه حتى تبدلت ملامحه عندما تذكرَ ابتسامته الساخرة التي وجهها له اثرَ سؤاله ..
رمى حقيبته بعنف وجلسَ بغيرِ ارتياح لم تتلاقى أعينهما وقتها وهذا ما فضّله ميلان كثيراً.
ـ إلى المدينة الجامعية ...ولا تنسى .. .
نظرَ إليه من خلال المرآة العاكسة وتذكر ذلك الموقف عندما تأخر في اصطحابه من شركته .
ـ ستبقى هنا حتى انتهي .
لم يبدِ رولند أيّ شيء فلم يكن لديه طاقة بأن يتحدثُ له عن ذلك أو يعترضَ كما كانَ قبلاً لذلك حركَ مقودَ السيارة وهو ملتزمٌ بالصمت الكامل .




ـــــــ
في شقة ميدوري ..


ـ هل أنتما مستعدان !؟ .
هذا ما قالته وهي تلبسُ حذائها في عجل وتوجهه سؤالها للطفلين الذينَ كانوا بالفعل ينتظرونها
نطقت لين وهي تمسكُ بيدِ أخيها .
ـ أجل .. .
وضعت يدها على شعرها لتربته قليلاً .. فقد كانت مرتكبة قليلاً نظراً ليومها الجامعي الأول .. نظرت للتوأمين وابتسمت لهما بارتباك فهي تعلمُ أنها هي الوحيدة المتأخرةٌ دوماً .
ـ آسفه لقد تأخرتُ مجدداً ... لنذهب .
أومأ سويةً بسعادة فقد كانَ من الممتعَ لهما مشاهدتها وهي بتلكَ الحالة من الفوضى حيثُ ملامحها التي تظهرُ عليها الارتباك والتي تجعلُ أفعالها مضحكة بالنسبة لهما .
خرج جمعيهم ... واستقلوا سيارة أجرة واتجهوا أولاً إلى رياض الأطفال لم تكن ميدوري تستطيع أن تصحبهما حتى يدخلا من البوابة.. بل ودعتهم من مكانها بكلِ لطف وهي تشعرُ بالذنب فقد كانتْ هي المتأخرة قالت لهما بكلِ لطفِ وهي تودعهما .
ـ اقضيا وقتاً ممتعاً ..
أغلقت بابِ السيارة ولكنها فتحته سريعاً ما إن تذكرت شيئاً مهما لوحتْ بيدها لتقولَ لهما بصوتِ عالِ ليسمعاها قبلَ أن يدخلا .
ـ لا تنسيا لن أستطيع أن أصحبكم إلى البيت .. سوفَ يأتي إيفان ........ حسناَ !؟ .
لوحا هما بأيدهما الصغيرة ليبيّنا لها أنّهم لم ينسوا ذلك بينما ابتسامة علت على شفتيهما .. ارتاح قلبها لذلك ولم يكن لها سوى أن تراقبهما حتى دخلا من البوابة واختفيا من ناظريها ...





ـــــــ
ابتعدَ ميلان عن ناظريَ رولند ما إن دخلَ إلى جامعته... طوالِ الطريق كانَ الصمتُ سائداً بينهم وهذا ما أراحَ رولند فعلاً فيكفيه ما يشعرُ به ..
حركَ السيارة ليضعها في مكان مناسب حتى يستطيع البقاء فيها إلى حين عودة سيده كما طلبَ منه..
لم يكن ذلك سيئاً جداً له بالنسبة له هذا اليوم .. بل وجدها فرصة بأن يحصلَ على بعضِ الراحة والهدوء التام ..
أنزلَ مقعده قليلاً وأغمضَ عينيه المرهقتين .. فهوَ يشعرُ بانّ التعب قد تملكَ جسده بالكامل .. لم يكن الوضعَ هكذا عندما كانَ يعملُ تحت سيده السابق ليبريت فقد كان يستطيعُ الراحة مدّة يوم أو يومان ...
ثواني هيّ حتى ارتخت ملامحِ وجهه .. وأخذت عيناه تسبح في الظلام .. بدأت رئتيه تتنفسُ بكلِ هدوء وطمأنينة وغطت نفسه في نومِ عميقَ ساكن بدونِ أن يشعرَ بذلك .
ـــــــ




في منتصفِ المدينة .. وبداخلٍ مكان يحملُ خارجه لافتة باسمِ مطعم بدى غيرَ مكلف كثيراً
مالكه ومديره هوَ الشاب الذي يعملُ الآن مرتدياً زيّ النادل ويقومُ بخدمة زبائنه ..
أخذت المرأة التي تعملُ في الحساب وأخذِ الطلبات والتي بدت كبيرةً في السنّ قليلاً تنظرُ إلى ذلك الشاب الذي بدا متحمساً على غيرِ عادته .. فكلُّ ذلك لأنّه يريدُ أن يستقبلَ أخته هنا ويريها كيفَ أصبحَ مطعمه ناجحاً أكثرَ فأكثر.. ابتسمت له بكلِ حنيّة وتحدثت إليه عندما لم يكن هناكَ زبائن .
ـ أوه أيها المدير لا تقلق .. يمكنكَ الجلوسَ قليلاً لترتاح .
أخذَ يمسحُ الطاولة التي خرجَ من كانوا يأكلون فيها قبلَ قليل, التفت نحوها وقالَ لها بعتابِ مزجه معَ بعضِ الاعتزاز بنفسه .
ـ عمتي لا زالت لديّ طاقة كبيرة بداخلي يمكنني العمل أكثر.... كما أننا لا زلنا في بداية اليوم ...
لم تقتنع السيدة روزا بما قاله فقالت له لتبين له ..
ـ مضت ثلاثُ ساعات بالفعل منذُ أن فُتح المطعم .. .
صمتت قليلاً وتذكرت شيئاً أخذَ يضايقاها في هذه الأيام ..
ـ لقد غادر الموظف الذي عينته منذُ ثلاثةُ أشهر , والمكلفُ بعملِ اليوم قد اعتذر عن الحضور .. لقدْ قلّ عدد العاملين .. لا بدّ أنّ هذا اليوم سيكونُ مرهقاً لعزيزتي جولي .
في تلكَ اللحظة خرجت فتاة صغيرة ترتدي نفسَ ما يلبسه ألفريدو ولكنّ كان عبارة عن تنورة حمراء غامقة داكنة مو أحسن ؟بالإضافة إلى البذلة البيضاء التي كانت هيّ الزيّ الرسمي لهم , جاءت من غرفة المطبخ الذيَ يوجدُ فيها من يصنعُ الطعام وبصوتِ خجول قالت بعدَ أن سمعت ما قالته السيدة روزا .
ـ لستُ مرهقة عمتي .. بل أنّني أشعرُ بتحسن عندما أعملُ بكلِ جهدي .
وضعت العمة روزا يديها على عينيها فيبدوا أنّ الشابين الذين أمامها قد يفقدانها صوابها .
نظرت إلى المكان حولها فوجدت المطعم خالياً .. ابتعدت عن مكانها وأخذت تعدّ قهوةً سريعة من خلالِ ظروفِ النسكافيه المتعددة المذاق والماء المغلي الجاهز .
أخذَ الاثنان يشربونَ من القهوة التي أعدتها لهم .. بينما أخذت هي تنظرُ لهم بارتياح ..
ما إن انتهوا من شربه حتى عادَ كلٌ منهم إلى عمله بنشاط .
فها هي جولي تلكَ الفتاة الخجولة ذاتِ الخامسة عشرَ ربيعاً والتي تمتلك شعرا أسودَ طويل تربطه دائماً على شكلِ ذيل حصان قد ذهبت لترحبَ بالزبائن القادمون ..
بينما هي عادت إلى موقعها .. فلا بدَ أن تبذلَ جهدها فهي لا ترغب بأن تكونَ هي الوحيدة التي تشعرُ بالتعبِ من العمل ..






ـــــــ
مضى الوقتُ سريعاً بالنسبة لميلان الذي كانَ يتجولُ في ساحة الجامعة التي لم تعطي دروسها بعد ,, تناقشَ مع أصدقائه الذي سيكونُ معهم منَ الآن فصاعداً واستفسر عن كلِ ما يلزمهُ لهذا اليوم ..
بدأ ينظرُ لعقاربِ ساعته فقد حانَ الموعد للذهاب فلا بدَ أن يصلَ إلى هناكَ قبل مجيئها بدقائق كما أنّه متأخرٌ قليلاً نظراً لأنّه قد اجتمعَ معَ بعضِ المعلمين مع زملائه لمناقشةِ أمورِ عدة .
ودعَ من كانَ يمشي معهم وأسرعَ بخطواته خارجَ الجامعة .. أخذَ يجولُ بناظريه علّه يجدُ السيارة التي ينتظره فيها رولند وسرعان ما وجدها في موقفِ صغير .. أسرعَ نحوها وأمسكَ بالبابِ ليفتحه فوجده مغلق ..
حاولَ فتحه وهزّه قليلاً لكنّ من بداخلها لم يقمْ بفتحَ زرِ الإقفال بعد ..
أخذَ ينظرُ من نافذة الزجاج وقد شعرَ بنيرانِ غضبه تكادُ تتأجج فقد حذره قبلاً من أن يغادر ..
ما إن نظرً حتى لم يكن كما توقع هوً بأنّه قد تركَ موقعه بل ما عكست عيناه هو صورةُ رولند النائم بكلِ هدوء على المقعد ..
عضَ على شفتيه بنفاذِ صبر.. وبدأت يداه تضربُ زجاج النافذة بعصبية صراخاً بغيض .
ـ استيقظ أيها الوغد .. !! .
اهتزت عينا رولند إثر الطرقات المزعجة التي أخذت تصلُ إلى أذنيه وذلك الصوتُ الغاضب الذي اختلطَ معها .. تحركت عيناه ما إن شعرَ بتلكَ الضوضاء ورفعَ ذراعه ليغطيّ بها على عينيه ولكنَ الواقع الذي فتحَ له جعله يوقنُ أنّه الآن كانَ في عالم نومه المظلم الذي أخذه إليه بدونِ أن يشعر بذلك ...
أسرعَ في فتحَ عينيه عندما اتضحَ له صاحبُ ذلك الصوتِ الغاضب .. أبعدَ ذراعه والتفت سريعاً وأول ما التقطته حدقةُ عينه سيده الذي يقفُ خارجا بملامحَ غاضبةِ جداً .. وعينان شاخصتانِ اثر رؤيته يستيقظ .
مدّ اصبعه سريعاً ليضغطَ على زرِ القفل الموجود بقربه .. اعتدلَ في جلسته وهوَ لا يصدقَ كيفَ سمحَ لنفسه بأن ينام بهذه السهولة ... انتظرَ سيده ليدخل ولكنّ ميلانَ تريث قليلاً .
وقفَ مسنداً يده ومطأطأً رأسه وبدا وكأنّه كمن يلتقط أنفاسه فبرغمَ من غيضه الشديد إلا أنه لن يسمحَ بأنْ يفسد ما أرادَ بنائه منذُ بداية اليوم وهو أن يقابلَ تلكَ الفتاة بنفسِ مسرورة غيرَ منزعجة .. ما إن هدّأت نفسه قليلاً حتى فتحَ بابَ السيارة وهو يصكُ على أسنانه محاولاً عدمَ الصراخ .
ـ اسرع باتجاه المطار , وأقسم إن تأخرتُ أنا دقيقة عن موعد نزولها فسوفَ تكونَ نهايتكَ .
تلمسَ رولند تلكَ النبرةَ التي تحاولُ كتمَ غضبها .. فمسحَ بكمَ ملابسه وجهه الناعس ...واستجابَ له سريعاً .
لم يستطع أن يرتبَ ما يشعرُ به بل تبعثرَ كلُّ شيء أمامه فكلِّ هذا قد كانَ بلمحِ البصر .. وأكثر شيء يشعر به هو ندمه على السماح لنفسه بأخذ راحة بسيطة ...

ـــــــ

بعدَ خمسةً عشر دقيقة من ذلك الموقف ... توقفت السيارة أمامَ المطار كانَ ميلان مستعجلاً لذلك فتحَ البابَ بعجل وألقى بجملته بكل جمود ..
ـ انتظر هنا.... وإن وجدتك قد نمتَ مجدداً فسأقتلك بيدي .
قال جملته تلك وأغلق البابَ خلفه بقوه ... بينما وضعَ رولند كلتا يديه على وجهه بعدَ أطلقَ زفيراً ....
أطالَ في ذلك .. لم يكن ذلك بسببِ ما قاله ميلان بل إنّه أخذَ يفكر بكيفَ سيكونُ هذا اليوم وتلكَ الليلة في الشهر القادم ؟! ..
وهذه أولُ نتاجَ تلكَ الليلة ..
أسرعَ ميلان بخطواته نحوَ صالة القادمين .. وأخذَ له مكاناً مناسباً بحيثُ تراه هيَ منه ... وما هي إلا ثواني حتى بدأ الناس العائدونَ إلى وطنهم يتدفقون ..
وصلت تلكَ الفتاة واستطاعت أن تبتعد عن جمعِ الناس الغفير أخذت تتلفتُ لعلها ترى خطيبها أو أخاها.. فقد عادت لوحدها رافضةً أن يرافقها أحدٌ من رجال أبيها ..
ما إن لمحها ميلان من بعيد .. حتى رفعَ يديه ليشيرَ إليها وما إن رأت هيّ تلكَ اليد الممدودة حتى اتسعت ابتسامتها وتقدمت باتجاهه .
اطمّان قلبه ما إن راها تتقدمُ نحوه .. فقد كانت كعادتها أنيقة بشكلِ لطيف شعرها البنيّ الذي ترفعه عالياً وخصلاتها التي تضعها خلفَ أذنيها .. نظرتها البريئة المتمثّلة في عينيها وأخيراً صوتها الصغير الطفولي الذي لا يتناسبُ مع عمرها والذي تحدثت به ما إن صارت أمامَه وهي تحتضنه بشوق .
ـ لقد عدت
بادلها ميلان ذلك وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة جميلة وهوَ يراها بخير .
ـ مرحباً بعودتك أحمد لله على رجوعك سالمة .
ابتعدت عنه قليلاً وأخذت تنظرُ إليه وقد رفعت رأسها فقد كانت قصيرة بالنسبة لطولِ ميلان ..
ظهرت على عينيها البراقتين القلقَ الدفين فألقت بكلِ تساؤلاتها دفعةً واحدة والتي لم تستطع أن تتحملَ أن تؤجلها لوقتِ آخر .
ـ كيف حالك !؟ هل نمتَ جيداً بالأمس !! , هل تأكل جيداً ؟ , هل يزعجك أحد ؟ هل لا زالَ أخي يزعجك !؟
كانَ ميلان بالفعلِ مستعداً لأسئلتها فهي لن تفوتّ ذلك بما أنّها كانت المرة الاولى التي تبتعدُ عنه خاصة في ليلة الأمس لذلك وضعَ يده على شعرها بكلِ لطف ليجعلها تتوقفَ عن إلقاء كلِ كمية الأسئلة تلك ويجعلها تنسى للحظات .
ـ ماذا أحضرتِ لي من هناك؟! .
تحمست لسؤاله فهي لن تنسى أبداً أن تأخذَ له بعضَ الهدايا , وبصوتها الصغير قالت وهي تدنو لتفتح حقيبتها بكلِ عفوية ..
ـ بالتأكيد لن أنسى ذلك .. إنها هنا ..سوفَ أخرجها الآن .
ضحكَ ميلان بداخله وهو يراها تجلسُ على ركبتيها لتخرجها حقاً .. فلا زالت كما هيّ تماماً لم يتغير أيُّ شيء منها وضعِ يده على حقيبتها ليمنعها من فتحها .
ـ فيما بعد ...
أخذَ حقيبةَ سفرها منها ووافقت هي لذلك .. وبينما هي تمشي معه حتى تذكرت شيء قد غفلت عنه للحظة , توقفت و أخذت تتلفتُ يميناً ويساراً تبحثُ عن أحدهم . وسرعان ما تبدلت ملامحها لأخرى منزعجة وهي لا زالت تبحث بينَ جموعِ الناس .
ـ أينَ ذلكَ الاخُ الأحمق !!؟ كيفَ يجرؤ على عدمِ المجيء !! .
ابتسم ميلان ما إن سمعَ جملتها المشبّعةِ بالغضب عليه ولكنّه قالَ لها ليجعلها لا تعكرُّ مزاجها الآن بسببه .
لا تفقديّ طاقتكِ بسببِ أخِ مثله... إنّه لا يستحقُ ذلك .
.
أمسك بيدها وانطلقا سوية .. فتلك الفتاة قريبةِ من قلبِ ميلان بل هو يحبّها بكلِ إخلاص وكذلك هيّ .. فعندما يبلغُ هوَ السنَ لاستلام إدارة شركته فسوفَ تعلنُ خطبتهما رسمياً .
ولكنّ أكثرَ ما كانَ يزعجُ ميلان فيها هو قلقها الزائد وثرثرتها التي تنتجُ عن ذلك .. لذلك هوَ يحاولُ بقدرِ الإمكان الاّ يُظهرَ ذلك أو أن يقابلها وهو معكرٌ المزاج .
وصلَ برفقتها .. ورأى رولند لازال جالساً في مكانه ويديه تغطيّ على وجهه .. تركَ الحقيبة التي يجرها و فتحَ لها الباب.
ـ لتصعديّ أولاً .
استجابت له سريعاً وجلست .. وتبعها هوَ حيثُ جلسَ بقربها .. وما هي إلا ثواني حتى نطقَ قائلاً بكلِ حدّة لمن هو في مقعد السائق .
ـ ما ذا تنتظر ضعَها في الحقيبة الخلفية ! .
استجابَ رولند له سريعاً له فقد كانَ يعلمُ بأنّه لا زالَ يكنُ له بالغضب .. وهذا ما سمعه جلياً في جملته .. مشى بخطواته نحو تلكَ الحقيبة المتوسطة ذات الطابع البناتي .. ووضعها ثمّ عادَ إلى مكانه ..
ـ إلى وسط المدينة ..
أخذت تلكَ الفتاة تنظرُ إلى ذلك الشاب الذيّ حدّثه ميلان بكلِّ صرامة وحدّة .. تلمستْ هي نبرته تلكَ فهي تعلمُ يقينا أنّ من بجانبها يكرهُ من هو أمثاله كما أنَ هذا لا يعني إلا شيئاً واحداً وهوَ أن هذا الشاب يعملَ تحتَ خدمته .
أشاحت ببصرها بعيداً .. فكما أنّ من بجانبها يكرهُ أمثالهم فهي لن تقتربَ منهم أبداً أو حتى تدخل في حديثِ معهم .. ليسَ لأنها تؤيده بل لأنّها فقط تراعي مشاعره ميلان وتتفهمُ تصرفاته تلك , لذلك لن تسمحَ لنفسها بأن يغضبَ منها على ذلك .




ـــــــ
في المطعم .
كانَ الفريدو منغمساً في العمل .. بينما قد بدّلت جولي ثيابها استعدادً للمغادرة .. فبما أنّها علمت بهويةً من سوفَ يقدمونَ بعدَ قليل فهي تفضلٌ أن تنهي فترة عملها وتعوضها في المساء .
ودعتها السيدة روزا التي كانت تعلمُ بمشاعرِها وسببِ مغادرتها باكراً .. وهذا ما تفهّمه الفريدو كذلك لكنّه فضلَ ألا يُبيّنَ ذلك على ملامحه أو يبديّ شيئاً عليه ...
ابتسمت لهما بكلِ خجلِ شاكرة لهما وأمسكت بحقيبتها الصغيرة الصفراء التي تضعها على كتفها .. وانطلقت مغادرة ..
راقبتها السيدة روزا حتى اختفت من ناظريها ..و قبلَ أن تعودَ إلى مكانها أرادت تفقدَّ شيء لذلك أخبرت الفريدو الذي كانَ يعملُ معَ بعضِ النادلين الآخرين أنّها سوفَ تتأخرُ لبضعِ دقائق ..
وصل ميلان إلى حيثُ المكان الذي طلب منه ابن عمه أن يحضرَ أخته إليه .. فنزلَ معها دونَ أن ينطقَ بأيّ كلمة لرولند ...
نظرَ ميلان إلى لافتة المطعم فقد مضت فترة منذُ أن جاءَ إلى وذلك لأنّه دائماً ما ينزعجُ من ألفريدو ...
دفعَ بوابته بكلِّ رفق .. وما إن سمعَ ألفريدو الصوتَ الذي يدلُ على قدومِ أحدهم حتى قالَ بدونِ أن ينظر وهو يجمعُ الصحونَ المتسخة على إحدى الطاولات .
ـ مرحباً ...
توقفَ هيَّ في مكانها فيبدو أن ألفريدو لم يلاحظها وينتبه لها فلم يتحركا خطوةً واحدة .. فمن قامَ بدعوتهم إلى هنا هوَ بنفسه
التفت الفريدو ليرى القادمين وما إن رأى ميلان برفقتها يقفانَ أمامه حتى اندفعَ إليهما بكلِ فرحة صارخاً وهو يريدُ معانقة تلكَ الفتاة ..
ـ اليــــــــــسا .....
ما إن رأت الفتاة اليسا أخاها يتجه نحوها حتى رفعت قبضتها وضربت بها رأسه وهي تشعرُ بالغضب منه لأنّه لم يستقبلها.
ـ أيها الاخ الأحمق .. .
رفعت ُ ذراعيها عابسة بشفتيها ... بينما أخذَ ألفريدو يضعَ يده مكان الضربة , رفعَ بصره وبنبرةِ مصطنعة يوحيّ بها أنه حزين .
ـ إنّني أقومُ بالترحيب بك هنا .
تقدمت للأمام متجاهلة إياه وهي تمسكُ بذراعِ ميلان , اختارت طاولة كانت قريبةً منها وجلسا عليها .. .
ـ لقد ظننتُ أن أختي الصغيرة ستعودُ وقد أصبحت لطيفة .
التفت ما إن سمعت ما قاله ونظرت له بنظراتِ شرسة, حولت بصرها لـ ميلان الذي كانَ منصتاً لما يحصلُ بينها بكلِ هدوء
ـ ألن تعاتبه لأجلي !؟ .
ـ لا تقلقي .. لقد قمتُ بذلك مسبقاً , ويمكنني إعادتها مرةً أخرى .
ما إن سمعَ ألفريدو جملة ميلان الماكرة حتى ضربَ بيده على الطاولة وقالَ بانفعال طفولي .
ـ لا تفعلها أنتَ الزبون رقم واحد المفضل لديّ .
كانَ مظهره مضحكاً وهوَ يقولُ جملته تلك . فقد خشيّ أن يقومَ ميلان بعدمِ زيارة مطعمه فترةً من الزمن .. مثلما فعلَ آخر مرة .
ضحكت إليسا عليه ما إن رأت جدّية أخيها الذي كانَ حقاً قلقاُ مما قاله ميلان .. نظرَ إليها بنظرة سعيدة ما وقد ارتاحَ لسماعِ ضحكتها .. قربَ قائمة الطعام منها وقالَ لهما وقد بدأ يعودُ إلى موقعه .
ـ تفضلا قوما باختيار على ما ترغبانِ بتناوله ..
عادت السيدة روزا وما إن شاهدت من يجلسان على الطاولة وبقربهما ألفريدو حتى ابتسمت مرحبَة لتلكَ الفتاة فقد علمت بعودتها .
ـ مرحباً أليسا ...
ما إن سمعت أليسا صوتَ السيدة روزا حتى توقفت عن الحديث والتفت لتنظرَ إليها فهيّ تعرفها تمامَ المعرفة لذلك .. رفعت يدها عالياً وبابتسامة كبيرة قالت لها بصوتِ عالِ .
ـ مرحباً سيدة روزا .. كيفَ حالك !؟ .
بادلتها الابتسامة بحبِ ثمّ وجهت نظرها لذلك الشخص الذي بجانبها فقد كانَ هو الشخص الذي بسببه غادرت جولي لم تجعلَ ذلك يظهرُ على محياها فحييته هوَ الآخر والذي هوَ بدوره ردّ عليها بكلِ برود .






ـــــــ

ما إن انتهى الوقت حتى حملت حقيبتها الصغيرة على ذراعها لتغادر بالرغمِ من أنّه كانَ يمكنها الذهاب قبلَ ذلك .. ولكن لأنها لازالت مستجدة ولم تعتد على ذلك فقد فضلت أن تلتزم بالموعدِ تماماً.
بانت على ملامحها شعورُ الإحباط فهي لم تحظى ببعضِ الأصدقاء في أولِ يومِ لها ولم تستطع الحديث معّ أيّ شخصِ .. رغمَ ذلك .. لم تيأس من ذلك فلا زالت هذه البداية فقط ..
عادت سريعاً إلى شقتها فهي مشغولة البالِ بالتوأمين .. ما إن فتحت الباب حتى رأت أن الجميع بالداخل يجلسونَ في الصالةِ الأمامية اطمأن قلبها لذلك وقالت لتنبهم بوجودها .
ـ مرحباً .
التفتَ التوأمان اللذين كانا منغمسين في اللعب مع إيفان ما إن سمعا صوتَها وقالا سويةً بصوتِ واحد ..
ـ مرحباً بعودتك .
اعتدلَ إيفان الذي كانَ منغمساً بالتلوين مع الطفلين في جلسته .. بينما وضعت ميدوري حقيبتها وجلست بالقربِ منهم لتنضمَ إلى دائرتهم .. عادَ التوأمان الى ما كان يفعلانه واقتربت هيّ من ايفان وهمست له بامتنان .
ـ أشكرك على إحضارهما .
أومأ برأسه نافياً ... وأتبعَ قائلاً بنبرةِ مرحة .
ـ لا داعي للشكر فقد استمعت بالحديث واللعبِ معهما .
ارتاحَ قلبها لذلك .. خاصة بأنّه تراه قد عادَ إلى ما كانَ عليه .. ولم يظهر عليه أنّه لا زالَ متأثراً بالأمس .. نهضت من مكانها وأخذت تقومُ بخلعِ جواربها وسألته بفضول بما أنّه تعلمُ أنّه قد قدمَ منذُ الأمس .
ـ هل حصلتَ على عمل !؟ .
ما إن رنت آخر كلمة من جملتها على عقله حتى وضعَ يده على شعره بارتباكِ واضحِ وأطلقَ ضحكات صغيرة وهو يومأ بالنفي .
ابتسمت لتشجعه فهي تعلم أنّ البحث عن عملِ ليسَ بالأمر السهل .
ـ ـ لا تقلق .. ستحصلُ عليها قريباً . ...
هذا ما ظنته من خلالِ ردة فعله أنّه سببِ ارتباكه ولم تعلمّ السببَ الحقيقي الذي لا زالَ يكمنُ بقلبِ إيفان بكلِ صمت .. فهوَ قد فكرَ بذلك حقاً ووضعه نصبَ عينيه.
اتجهت ميدوري نحوَ المطبخ المفتوح .. فقد شعرت بالعطش .. فتحت الثلاجة وأخرجت زجاجة ماء وبدأت ترويّ نفسها من مائه العذب .. تبعها إيفان الذي كانَ يشعرُ بالقليل بالملل .. تحدث وكأنما ليسَ هو من يحسُ بذلك.
ـ يبدوا أنّ الطفلين قد بدأ يشعران بالملل .. لنجعلهما يساعدانك في إعداد العشاء .
أغلقت زجاجة الماء وابتسمت ضاحكة لكلام إيفان .
ـ أليسَ الوقتُ مبكراً قليلاً على تناولِ العشاء ! .
دخلَ التوأمانِ ما إن سمعا حديثَ إيفان ..فنظرَ إليهما بمرح وقالَ لهما ليجعلها يتحمسانِ قليلاً.
ـ سوفَ تجعلكما ميدوري تساعدانها في إعدادِ العشاء هذه الليلة .
وكعادة الأطفال سعدت لين بذلك أولاً وبعدها لير الذي أعجبته الفكرة والذي كانَ خجولاً أمامَ إيفان وهذا ما أدركه .. لذلك قالَ وهو يرفعُ يده عالياً ليتحمسَ الجميع .
ـ سوفَ يذهبُ الرجال لتتسوقُ بينما الفتيات عليهم الطبخ .
أمسكَ بيدِ لير الذي اختفى الخجلُ منه من إن أحسَ بجملة إيفان التي قالها ..بينما التمعت عينا لين ما إن سمعت جملته تلكَ وبدى أن الوحيدة التي لم تتحمس هي ميدوري التي أخذت تقول لهم .
ـ لدينا ما يكفيّ من الخضروات وبعضُ الخبز .. .
أشارَ إيفان بيده بالنفيّ وأتبعَ قائلاً بكلِ مرح .
ـ لقد تناولنا ذلك بالأمس .. لذلك سوفَ نقومُ بالتجديد باليوم ... أليسَ كذلك يا لير !؟ .
أغمضَ إحدى عينيه وهو ينظرُ للير .. ليوافقه رأيه .. فأومأ لير برأسه موافقاً بشدّة .. وكذلك لين التي كانت موافقة لهما هيّ أيضاً
بدا على ميدوري الانزعاج الطفيف نفخت خديها وقالت لهما وهي تراقبهما يتجهان نحو البابَ متجاهلين إياها .
ـ لقد صنعته بالأمس فقط .. ! ,و أيضاً لا زالَ الوقتُ مبكراً لتذهبا للشراء .. .

سمعت صوتَ سقوطِ المقلاة على الأرض , التفت سريعاً فوجدت لين قد بدأت بإخراج بعضَ أدوات الطهيّ بكلِ براءة .. أسرعت نحوها لكي لا تؤذي نفسها وقد يئست من أن تجعلَ إيفان ولير يعودان .
ـ عزيزتي لا زالَ الوقت مبكراً لندعَ ذلك حتى تغربَ الشمس ... .
تركت لين ما في يدها وقد تقوّست شفتيها .. غيرَ متقبّلة لكلامها فقدَ ذهبَ أخاها بالفعل ليساعدَ هو كذلك ..
أصابت ميدوري الدهشة وهي ترى ردّة فعلها الجازع أخذتْ تلومُ إيفان في نفسها فهو الذي جعلها في هذا الموقف .. أخذت نفساً عميقاً وقررت أن تصرفها قليلاً .. حتى يحين الموعد ..
قالت لها وهي تضعُ يديها على كتفها لتخرجها من دائرة جزعها تلك .
ـ لنفكر فيما ذا سنطبخُ أولا ! ما رأيك !؟ .. لديّ كتابٌ بالفعل قوميّ باختيارِ ما تحبينه .
تفتحت أساريرُ وجهه لين وعادت البسمة لوجهها لتقولَ بكلَ حماسة .
ـ حقــــاً ؟؟؟! .
ابتسمت ميدوري فقد نجحت بذلك , أمسكت بيدها لتجعلها تذهبُ معها إلى حيثُ يوجدُ ذلك الكتاب علّها بذلك تشغلها حتى يحين موعد العشاء .
ـــــــ
أظلمت السماء لتعلنَ حلول الليل .. وها قد بدأ المطبخُ نشيطاً .. فها هي لين تساعدُ ميدوري في طبخ العشاء كما أرادت .. كما أنّها هي من اختارت ما ترغبُ بإعداده فقد كانَ عبارة عن سندويشات صغيرة محشية .. وكذلك انضمَ لها لير لمساعدتها أمّا إيفان فقد يساعدُ في إعدادِ المائدة .
ما إن انتهوا..حتى جلسوا سويةً حولَ المائدة الصغيرة ...
نعمَ جميعهم بعشاء لذيذ يتخلله تبادل الأحاديث الممتعة فيما بينهم .. ولكن كل ما كان ينقصهم هو وجودُ رولند بينهم .. وهذا ما شعرَا به ميدوري وايفان ولكنها لم يظهرا ذلك .. بسببِ سعادة الطفلين التي تنعكسُ في أعينهما فهما يعلمانِ بأنهما قريبان أيضاً من رولند وإن ذكرا ذلك فسوفَ يتدفقُ فيهم شعورٌ الحزن ...
لبسَ إيفان حذائه مستعداً للمغادرة بعدَ أن شكرَ ميدوري والطفلين على هذا اليوم الممتع وعندما أرادَ فتحَ مقبضِ الباب ... حتى سارعَ لير بإمساك يده ليوقفه قائلاً له .
ـ لقد حضرّنا له شيئاً أيضاً ..
جاءت لين مسرعة من المطبخ وهي تركضُ بقدميها الحافتين وبيدها الصغيرة كيسٌ بلاستيكي قد لفت به قطعة سندويش وصلت إلى إيفان ووضعته في يده وقالتْ له وهي تلتقطُ أنفاسها فقد خشيت أن يغادر قبلَ أن تأتي به .
ـ هذه لـ أخي أرولند .. أيمكنك أن تأخذها له !؟ لقد صنعناها سوية .
تفاجأ كلٌ من ميدوري وإيفان .. فلم يكن الأمر كما ظنّوه بل كانَ الطفلين حقاً يفتقدونه ولم ينسيا ذلك .. ابتسمَ إيفان بطيبة ولم يتردد في أخذها بل أنّه وجدها فرصة مناسبة وذهبية ليفعلَ ما فكرَ به بالأمس .. أمسكها بإحكام وقالَ لهما يعدهما بذلك .
ـ حسناً .. سوفَ أأكدُ عليه أنكما من أعددتما هذا له .
ظهرت السعادة والفرحة على وجيهيما حتى أنّ إيفان لم يستطعَ أن يصفَ ما أحسّ به وهو يرى بريقَ أعينهما ..
فكم يحملانِ هذين الطفلين في قلبيهما من الحبِ لذلك الشخص ..

ـــــــ




.. خرجَ ألفريدو من سيارة ميلان ممسكاً بأخته التي غزاها التعب وتكادُ تقعَ من شدةِ النومِ الذي تشعرُ به .. نظرَ إلى ميلان الذي أوصله إلى هنا .
ـ أشكرك على اصطحابي ..
لم يعلق ميلان على كلامه .. فقد قامَ بواجبه .. وقبلَ أن يذهبَ.. نظرَ إلى اليسا التي قد بدأت تشرعُ بالنوم فقال وقد ظهرت على وجنتيه حمرةً خفيفة .
ـ اعتنِ بها جيداً .. إياكَ أن تغضبها .
ضحكَ ألفريدو في داخله على ردة ميلان ولكنّه لم يظهرَ ذلك فلو فعلَ ذلك فسوفَ يرى مالا يسرّة لذلك قالَ بابتسامة كبيرة تخفيّ ضحكته .
ـ لا تقلق ... وأنت كذلك انتبه لنفسك جيداً..
انطلقت السيارة مغادرة ... فالتفت ألفريدو وقد بدأ يشعرُ بالثقل بسببِ وزنِ أخته .. رأى بِيْن قادماً نحوه فابتسمَ له وأشارَ له بأن يساعده في حملِ حقيبتها وهذا ما قبلَ به كبيرُ خدمه بكلِ لطف فكلُّ ما يريحه هو عودةُ سيده إلى منزله سليماً .




ـــــــ
وصل الاثنان إلى القصرِ وكانَ شيمون في استقبالهم .. فتحَ البابَ لسيده الذي خرجَ سريعاً بوجه صارم وأخذَ يسيرُ وراءه بينما أخذَ رولند السيارة ليركنها .
كلُّ ذلك حصلَ سريعاً أمامَ شيمون وشعرَ بالفعلَ أن شيئاً قد حصلَ بينهما .. لم يهتمّ لذلك في الوقت الراهن بل تقدمَ أمام سيده ليستوقفه.
ـ هناكَ شخصٌ ينتظرُ قدومك .
طريقةَ شيمون في حديثه ذاك جعلت ميلان يشعرُ أن في الامر شيئاً فهوَ لن يخبره بمجيء شخصِ بهذه الطريقة لذلك قالَ له غيرَ آبه ..
ـ من هوَ !؟ .
ابتلعَ شيمون رمقه وهو يعلمُ بأنّ سيده لن يعجبه الأمر بتاتاً وتابعَ كلامه على نفسِ الوتيرة الاولى .
ـ أظنُّ بأنّك ستتعرفُ عليه ما إن تراه ..
تابعَ ميلان سيره بكلِ ثقة .. وشعرَ بالفضول لذلك الشخصِ الذي ينتظره .. وما إن رأت عيناه ذلك الشخصَ الذي يقفُ في ساحة قصره منتظراً حتى ضاقت حدقةُ عينه همس بصوتِ مسموع مملوءِ حقداً وهوَ يتذكرُ أول مرةِ رآه .
ـ كيفَ سمحتَ له بالدخول ؟؟! ..
التفت نحو شيمون وقد بانت عليه الغضب الشديد وصرخَ فيه وهوَ يصكَ على أسنانه .
ـ هل تراني شخصاً سهلاً ليقومَ بمقابلتي شخصٌ مثله !!!! .
استشعرَ شيمون كمية الغضب الهائلة من ميلان فقالَ له ليوضحَ له ..
ـ لقد طلبتُ منه المغادرة ولكنّه أصرَ على البقاء حتى تأتي .
سمعَ ذلك الشخص الذي كانَ على بعدِ مسافة منهم أصواتهم التي لم يتضحَ له ما قالوه .. فالتفت سريعاً ليرى ميلان الذي يريدُ مقابلته تقدمَ نحوه .. وبتردد قامَ بتحيته وهو يطأطأ رأسه ..

كتفَ ميلان بذراعيه وهو يرمقه بكلِ احتقار .. وبنبرةِ صارمة تحدثَ معه .
ـ ما لذي جاءَ بكَ هنا ؟! .
قالها بكلِ حقد وهوَ يرمقه بكلِ كرهه فلم يكن هذا الشخص سوى ما جاء آخر مرة برفقة ابن عمه بحجة أنّه يبحثُ عن صديقه ولم يفسر ميلان قدومه سوى بسببِ واحد وهوَ أنّه يريدُ أن يقابلَ خادمه .

عادَ رولند إلى ساحة القصر بعدَ يومِ كاملِ قضاه في السيارة ... وذلك الموقف في الصباح لا زالَ يتردد عليه ..
فيومه لم ينتهي بعد فعليه أن يبقى بالقربِ من ميلان فهو واثقٌ بأنّه لن يتركَ ما حصلَ في صباح اليوم يمرُّ بهذه السهولة ..
رفعَ بصره ليتابعَ سيره فتهادى لسمعه صوتٌ يعرفه تماماً ويعلمُ صاحبه فأسرعَ الخطى باتجاهه أملاً بألا يكونَ صاحب الصوتِ هنا .






ـ أرجوك دعني أعمل خادماً لديمك ! .

هذا ما قاله إيفان الذي قدمَ إلى ميلان وهو يغمضُ عينيه ويطأطأ رأسه برجاء شديد .. وهذا ما فاجأ ميلان كثيراً الذي سرعان ما ابتسمَ ساخراً يبتسمُ ساخراً وقد اتضح له سببُ مجيئه
اقتربَ إيفان منه ما إن لا حظَ ابتسامته تلك , وأمسكَ بذراعه خاشياً أنْ يرفضَ ما يطلبه .
ـ أرجوك .. دعني أعمل لديك .
ما إن أحسّ ميلان بيده التي يمسكُ بها ذراعه حتى أبعد يده عنه بكلِ عنف .


لم ييأس إيفان حتى بعدَ أن دفعه ميلان .. فكلُّ ما يريده هو أن يقبلَ بطلبه .. يريدُ البقاء بقربِ رولند .. بقربِ صديقه الذي لن يستطيع سداد دينه له..
منذُ الأمس وهو يفكر في ذلك .. وها قد عزمَ قلبه عليه ... حتى وإن تطلبَ الأمر أن يرجوه بهذه الطريقة المثيرة للشفقة ,.
شدَ قبضة يديه وأغمضَ عينيه بقوة .

ـ أرجوك ... أتوسل إليك .. دعني أعمل لديك ..


تصلبت قدماه واتسعت عيناه بشدّة وهو يرى بعينيه صديقه جالساً بشكلِ مذلِ أمام سيده يرجوه ويتوسلَ له.
شعرَ بألم كبيرِ يغزو قلبه ويثّقله .. ألمٌ سببه هو تلكَ المشاعر التي يحملها لإيفان وعدمِ الرضي بأن يشاهده هكذا وعلى هذه الحالة ...

لمحَ إيفان رولند الذي كانَ واقفاً على بعدِ مسافة صغيرة .. ورأى بوضح تلكَ العينين المتألمتين التي تنظرُ إليه بدهشة وتفاجأ .
لم يكن له سوى أن يهربَ من نظراته وقد اتضحت عليه هو الآخر بأنّه لم يرد أن يراه هكذا .

لاحظَ ميلان عيني من أمامه قد تغيرت نظرتها فالتفت ليرى سببَ ذلك فوجد خادمه يقفُ محدقاً بصديقه بهيئة تدلُ على أنّه لا يصدقُ ما يراه أمامه فعلمَ أنّ رولند لم يعلم بقدومه وحتى بطلبه الذي يرجوه منه .


عزمُ إيفان .. وألم رولند لرؤيته بتلكَ الحالة .. وأخيراً الموقفَ الذي سيتخذه ميلان وهوَ يرى اجتماعَ الصديقين بهذا المشهد ونظرةً كليهما .


نهاية الفصل العاشر ..

~

ـ رأيكم بالشخصيات الجديدة جولي و أليسا !؟
ـ وما هو سببُ مغادرة جولي مبكراً عندما علمت بقدوم ميلان وأخت ألفريدو !
ـ ما هي ردة فعلكم على ما أقدم عليه إيفان في نهاية البارت !.
ـ وهل سيقبلُ ميلان أن يعملَ إيفان لديه ؟!
ـ وهل حقاً سيتجاوز ميلان عما حصلَ هذا اليوم أمّ أنّه سيفجرّ غضبه الذي قامَ بكتمه طِوال الوقت ؟!

~

وكل عام وأنتم بخير وعيدكم سعيد ومبارك





رد مع اقتباس