عرض مشاركة واحدة
  #87  
قديم 07-27-2014, 10:29 AM
 




فجرٌ ساكن يملأُ سماءه غيوم الذكريات

و تفوحُ منُه رائحة الألم المدفونُ بداخلِ القلوب ..

هوَ بدايةُ صبحِ ستشرقُ فيه شمسُ يومِ جديد ..

لكنّه مشابه تماماً لعبقِ أوراقِ الماضي الخفيَّ.......



.....

شعرَ بنسمات الصباحِ تداعبُ وجنتيه ففتحَ عينيه , لم يحركُ جسده بل بقيّ كما هو .. جالسٌا على أعتابِ القصر الفسيح مسنداً برأسه مراقباً سكونه الهادئ ...
وشاحٌ بلونِ الرماد يلتف حولَ رقبته وعليه ملابسَ عاديّه غيرَ تلكَ الرسمية , شعرهُ الفوضوي الذي فضّل تركه كما هو منذُ أن استيقظ من نومه ..
كلّ ذلك يدلّ على تحرره من كلمة خادم التي لا زالت تتمسكُ به ولا تريدُ فيها مفارقته
وكأنما خيوطِ القدر تلتفُ حوله بالخفاء ..


على صوتُ أنغامِ العصافير المستيقظة حركَ قدميّه لقضاء يومه بعيداً عن أحضان هذا المكان الذي يضمُ بداخله شخصاُ لم يكن عليه أن يلتقيّ به كما في كل صباح ....
ما إن حطت قدمه خارج عتبات القصر ونظر حوله حتى رأت عيناه تلك اليدَ التي تلوح على بعد مقربة منه ..
وكأنما كانت تنظر لحظه خروجه منذُ مدة , ابتسامة مريحة كانت ترتسمُ على ملامحه وكأنمّا كانَ يأملُ بشغف خروجَه.
عندما رأى صاحبُ الروح الطيبة تلكَ المشاعر الخفية لصديقه لم يملك سوى أن يردّ عليه بأن يلوح له بيديه مع ابتسامة مماثلة لتلكَ التي ارتسمت عليه .
ـ هل بإمكانكِ الخروجُ حقاً ؟! .
ها ما قاله فور وصولُه عنده مما جعلَ رولند يلاحظُ كميّة القلق المرتسمة على جملته تلك والتي يريدُ بها إخباره أنّه حقاً ليسَ مضطراً للخروج بسببه .
ـ لا تقلق إنّه يومُ إجازتي .
ما إن سمعَ إيفان بإجابته حتى شعرَ بأنّ جبلاً ثقيلاً قد انزاح من قلبه فهوَ حقاً لا يريدُ أن يكون عبئاً عليه.

ارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة عندما رأى يدّ صديقه التي وضعها على مكان قلبه .. مما جعله يمسكَ بيده تلك بكلّ لطف ليشعره بأنّه ليسَ في حاجة لأن يقلق على شيء , وهذا ما أثرَ في نفسِ إيفان فربما لن تكونَ لديه فرصة ليشرح كل ما في صدره وينثرهُ عليه دفعة واحدة , ولكن الأجواء التي يخلقها له صديقه حالت دوَن ذلك .

انطلقَ الصديقان سويةً يتخلل حديثهم بعض الأشياء البسيطة عما يشاهدوه ... فها هو رولند يبدأ بتعريف بعضِ الأماكن لـ إيفان الذي طلب منهُ ذلك , فليسَ الجوّ مهيأً لنفسه ليتحدثَ هو .

أخذَ يستمعُ جيداً لما يقوله ويستفسر عن بعض الأشياء فهو من اليوم سيعيشُ هنا في هذه المدينة بالقربِ من أصدقائه .


رغم تلكَ الابتسامة التي ترتسمُ على شفتيّ إيفان أثناء حديث رولند إلا أنّه كلما يرى كيفَ يتحدث معه بكلِ بساطه ويشاركه في الحديث حتى وفي ضحكته التي تظهر جانباً جميلاً من شخصيته عندما يخبره عن بعض الأشياء المضحكة التي حصلت في تلك الأماكن يزدادُ في قلبِ إيفان شعورُ الندم وتتراكمُ في نفسه ذكريات الماضي التعيس .. فيحاولُ تجاهلها بالإنصات إلى رولند والنظر إلى كيفية حديثه معه .

فهوَ يعلمُ يقيناً أنّ كل شخصِ منهم لا يريدُ أن يفتتحَ موضوع الماضي ..



ــــ

في قصر ماليان .

ـ سيديّ استيقظ .. سيديّ الشمسُ قد طلعت منذُ برهة .

على إثرِ ذلك الصوت تقلبَ على سريره بانزعاج فهو مستيقظ لكنّ خفايا هذا اليوم تثقلّه لذا هو يريدُ أن يوهمّ نفسه بأنّه لا زالَ نائماً لكنّ كميةَ القلق التي يشعرُ بها من كبيرِ خدمه كانَ بمثابة إزعاجِ حقيقي خرّب عليه الوهم الذي يريدُ بناءه فلم يملك سوى أن يصرخَ ليبعده .

ـ دعني أنام .. !! .

توقفَ شيمون على صوتِ سيده الغاضب ! إنّه قلق .. حتى وبقوله ذلك إلا أنّ رؤيةِ سيده وهو يغطيّ نفسه بذلك الشكل يضفي المزيد والمزيد من القلق !
بانت على ملامحه الحزنُ الشديد ففي كلّ يومِ من صبحية هذا اليوم يتقلبُ مزاجِ سيده بالكامل ..


ـ هل أنتَ بخير ! .

تكورَ ميلان نفسه وغطى أذنيه بكلتا يديه وصرخَ بانزعاج ليبعدَ ذلك الشخص عنه .

ـ أخبرتك دعنيّ أنا لا أريدُ الاستيقاظ!! لا أريـــــد .

ارتبك شيمون كثيراً فلو كانَ القرار بيده لتركه ولكنّ عمه هو من طلبَ منه ذلك .. فلا بدّ أن يستشعرُ ثقل هذا اليوم عليه .. ابتلعَ كمية كبيرة من الهواء ودنا منه ليجعله يتفهم سبب إصراره على أن يستيقظ .

ـ سيدي لقد طلب منّي السيد هايدن أن أجعلكَ تستيقظ .

أبعدَ يديه عن أذنيه التي كان يحاولُ أن يمنع أيّ صوتِ يصلُ إليها .. ولكنْ مع حالته تلك استطاعَ سمعه ان يلتقط كل كلمة خرجت من فمِ كبيرِ خدمه .

علمَ شيمون أنّه لن يستطيعَ أن يتحملَ إيقاظه مما جعله يرجعُ بخطواته للخلفِ تاركاً سيده بعد أن فشل في إقناعه .

ـ يبدوا أن السيد هايدن سيضطر للمجيء هو بنفسه كما في آخر مرة في السنة الماضية .

بتلكَ الجملة فقط أبعدَ ميلان الملائة عن جسده , فيبدوا أنّه أدرك أنّه ليسَ من اللائق أن يأتي عمه ليقنعه بالذهاب معه .

بصوته الناعس ونظراته المنزعجة .. بالإضافة إلى شكله الفوضوي الذي نتجَ عن كثر تقلبه في سريره لعدة ساعات تحدثَ قبلَ أن يذهب شيمون .

ـ انتظر .. أينَ يريدُ مني الذهاب !

توقفَ شيمون واستدارَ بعدَ أن سمعَ جملة سيده وقد طبعت على ملامح وجهه الراحة لاستيقاظ سيده .

ـ إنّه يريدك في الشركة .. .

ــــــــــــــــ

على طاوله الإفطار في شقة ميدوري , لا حظَ كلا من لير ولين نشاطَها وابتسامتها السعيدة فأخذا ينظرانِ لتلكَ الفتاة بأعينهما الخضراء اللامعة بفضول .

ـ تبدين سعيدة اليوم ! .

هذا ما نطقَ به التوأمان في وقتِ واحد أطلقت ضحكةِ صغيرة عندما سمعت جملتهما المتزامنة .. جذبتها منظرُ أعينهما التي تحدقانِ بها فقالت لهما لتشبعَ فضولهما اللطيف .

ـ أجل .... قليلاً , ليسَ ليّ فقط بل أنتما كذلك .

امتلأ قلبُ الطفلين بقليلِ من السعادة فما هو الشيء الذي يشملهما والذي جعل ميدوري سعيدة ,ارتبكت عندما رأت أنّ ما قالته قد حازَ على انتباههما

أسرعت بإنهاء كأسِ الحليبِ الساخنفهي لا تريدُ إفساد ما سيكونُ اليوم لهما فلو فكرّا بالأمر قليلاً فسوفَ يعلمان سريعا وسيذكران اسمَ رولند ,

نهضت وهي تحملُ طبقَ فطورها لتنهي عليهم لحظاتِ تفكيرهم .

ـ الساعة الثامنة اسرعا في إنهاء فطوركما لأخذكما .

أومأ برأسهما في وقتِ واحد وأكملا بقيةّ فطورهما المتواضع .

أخذت تغسلُ الأطباق التي أكلا فيها وهي تفكر بما قالته لهما .

ـ سوفَ أقضي اليوم مع رولند لم يحصل هذا منذُ مدّة .

لبسَ الطفلان ملابسهما فأخذت ميدوري تساعدهما في تمشيطِ شعريهما وترتيبِ مظهرهما قامتْ بعملِ ظفيره لشعرِ لين فهو يبدو ملفتاً للنظر عندما تتركه منسدل على كتفيها نظراً للونه الجميل ..

أخرجت لهما حقيبتيّ طعام متشابهتين كانت قد اشترتها بالأمس فنسيّ بها الطفلان ما كانا يتساءلان عنه على مائدة الإفطار حيثُ امتلأ قلبيهما بالسرور عندما شاهدا ما أعدته ميدوري لهما فيها .

ــــ

ـاقضيا وقتاً ممتعاً .

ـ حسناً .


لوحت بيدها مودعةً الطفلين اللذان كانت الحماسة تغلفهما وهما يمسكان بأيدي بعض ليدخلا مبنى رياض الأطفال وقبل ان ترحل من عندهما نظرت لنفسها قليلاً .. لتتفقدَ شكلها فقد فضلت أن تتركَ شعرها القصير منسدلاً ورغم بساطة ما تلبسه الذي يتكون من قطعة واحدة مزخرفة بألوان متعددة على شكل ورود إلا أنها أرادت أن تكوَن بأجمل صورة ممكنة .



ــــــــــ

توقفَ الصديقان بعد جولتهما حولَ أشهر الأماكن أمام حديقةِ تتوسطُ المدينة فقد كانت بمثابة محطة ليستريحا فيها بعد مضيّ الوقت في المشيّ .

كانَ إيفان يجولُ بناظريه هنا وهناك أمّا رولند فقد تحدث وهو يتجه نحو إحدى المقاعد المنتشرة .

ـ لنبق هنا قليلاً فهيّ ستأتي بعد قليل .

علم إيفان سريعاً فلم يقصد بكلامه سوى ميدوري تقدم أمامه وبصوتِ هادئ خجول سأل رولند .

ـ كيفَ شكلها الآن هل تغيرت ! .

ضحكة خافتة خرجت من فمَ رولند عندما رأى من أمامه وشكله الذي يريدُ معرفة الإجابة وعيناه التي بدى عليها الاشتياق والحماسة والتي يريدٌ بها معرفة أحوالها .

ـ لقد أصبحت فتاة الآن , لم تعد تلكَ الطفلة ! .

عبسَ لإجابته وقالَ بعتابِ مصطنع .

ـ أتعني أنها لن تحتاج لأخيها بعد الآن ! .

نظرَ إليه وإلى طريقة حديثه ... أجل .. فإيفان يعتبرها أخته ..

تربيا معاً وعاشا طفولتهما سوية, وتشاركا أغلبَ أوقاتهم مع بعضهم قبل أن يلتقيا به .. إنّهم مثال لكلمة الأخوة الحقيقة رغمَ أنهما لا تربطانهما أيّ صلة دم .

لا زالتَ الصور التي التقطتها عينه عندما كانا في المكانِ الذي تحررا منه يشعره بالقليل من الغيرة .. إنّه حقاً لا يقارن به .. غيرةٌ ليست مغموسة في كلمة الحب بل غيرة من نوعِ آخر
تلكَ التي يريدُ فيها الإنسان أن يأخذَ بها شيئاً مما يتميزُّ به شخصية غيره .


هذا ما كانُ يدور في نفسِ رولند .. فهوَ لن ينسى أبداً كيفَ كانَ يشاهدهما وهو يشعرُ بتلكَ الإحاسيس .

جلسا سوياً على إحدى الكراسي الخشبية.. الابتسامة الهادئة التي ترسمُ على شفتيهما والصمتُ الذي يزينُ وجوهّهم يختلف تماماً عما كانَ عليه وهما طفلان . مما جعلهما يستشعران تلكَ اللحظة وخاصة إيفان .

صوتُ بكاء طفلِ صغير جعلَ أنظارهما تتجه سريعاً نحو مصدره , امرأة تحاول تهدئة طفلها بإعطائه بعض الكراتِ الملونة الصغيرة ليلعبَ بها بينما هوَ لم يكفُّ عن البكاء ..

نظرَ إيفان إليهما بتمعن فأم الطفل المرتبكة والتي تحاولُ بشتى الطرق أن تجعلَ صغيرها يكف عن البكاء جعلته يفكرُ في حلِ سريع .. التفت سريعاً نحو رولند .

ـ سوفَ أريكَ ما تعلمته في تلكَ السنوات .

تعجبّ من مقولته المفاجئة فأخذَ ينظرُ إليه بينما وقفَ إيفان متوجهاً نحو ذلك الطفل جلسَ بقربه وخاطبَ أمه ببعضِ الكلماتِ التي لم يسمعها رولند ولكنّه علمها سريعاً ما إن رأى إيفان يحملُ أربعة من الكراتِ الملونة الصغيرة في يده .

توجهت أنظارُ الطفل الباكي لذلك الشاب وما لبث أن اتسعت ابتسامته وهو يراقبُ بحدقةِ عينه تلكَ الكرات الملونة التي تتقافزُ في يدي إيفان بكلِ خفة بأشكالِ متعددة .

تعالت ضحكاته الطفولية وأخذَ يصفقُ بيده الصغيرة بينما تابعَ إيفان ما يفعله بكلِ انسيابه وبساطة وفي كلِ مره يغير شكل اتجاه الكرات .. تجمعَ بقيةِ الاطفال الذين كانوا في الحديقة وكونوا حلقة حولَ إيفان الذي ينوع أساليبه من إخفاء الكرات وإظهارها في يديه بشكل بارع لمشاركة الأطفال في ألعاب خفّته .

شعرَ بالطمأنينة وهو يراقبُ إيفان وابتسامته التي يوزعها على من حوله .. إنّه مختلفُ كليا عن الماضي لم يعد ذلك الشخص الذي يمتلكَ قدراً كبيراً من العناد بل وبالعكس فهوَ الأن شخصٌ يحاولُ أن يوزعُ المرح على من حوله ..

لم يكنْ رولند على طبعتيه اليوم ... فلم يملك سوى أن يعبرَ عمّا يشعرُ به سوى بابتسامة وقلبِ مطمئن .. وكأنّما عيناه يكمنُ فيها بعضُ الألم والحزنِ المكتوم ..




ــــــــــ

عدلّ ربطة عنقه بملل وهو ينظرُ للمرآه رتب شعره قليلاً , ثمّ التفت بكلِ جمود نحو شيمون ليسأله بهدوء عندما شعرَ بعدم أي شيء يدلُ على وجودِ ذلك الشخص .

ـ أينَ ذلك الحقير !! .

تفاجأ عندما علمَ بمن يقصدهُ سيده مما جعله يقولُ بثقة ممزوجة ببعض الارتباك .

ـ إنّه يومُ عطلته سيدي .

ابتسامةٌ ساخرة ظهرت على وجهه ميلان والتي أضيفت إلى تعابير وجهه التي يُرى فيها جيداً كميّة الجليد التي يغلفه .

ـ عطلة !! ... أتقولُ هذا يومُ راحته !؟ .

أخافت نبرة صوته تلك شيمون مما جعله يقولُ سريعاً ليتجنبَ غضبَ سيده

ـ لقد أخبرتكَ بذلك سيدي قبلاً , ألا تذكر ؟! .

ـ بلى أذكر .. ولكن ! .... ألم يكن ذلك قبلَ أن يكون خادمي الخاص ! .

اقترب منه ثمّ وضعَ يده على كتفِ كبيرِ خدم وتابع كلامه بنفسِ النبرة .

ـ حتى أنّه لم يأتي بنفسه ليخبرني أنّه مغادر ... بما أنّه خاصٌ بيّ فكلِ شيء يجبُ أن يكونَ تحت تصرفي أنا , أليسَ كذلك ؟! .

في حقيقة الأمر فقد شعرَ شيمون بالخوفِ من سيده ليسَ بسببِ ما قاله ! وليسَ بسببِ سؤاله له , بل بكيفية حديثه تلك والتي بدا وكأنّه شخصٌ ميت يتحدث .

قالَ ميلان كلماته تلك وغادر غرفته بصمت .. لم ينتظر مجيء شيمون ولم يتناولَ حتى إفطاره المعد بل ذهب نحو سيارته لينطلقَ بها نحو الشركة كما أرادَ عمّه .

دقائق هيّ حتى وصلَ إلى وجهته فبما أن مزاجه متقلب وكما أنّه هو من يقود فسترى قيادته المسرعة التي لم يشعر بها أبداُ .

ركنَ سيارته في مكانها المناسب وتقدمَ باتجاه البوابة الزجاجية وقبلَ أن يدخل توقفت قدامه عندما أبصرت عيناه حركة موظفيّ شركته الذي يعملون بكلِ جد وإخلاص , راجعَ نفسه قليلاً ونظر لقدمه التي تريدُ أن تخطو ,

صحيح أنّه يشعرُ بالضيق بداخل قلبه, إلا أنّه في بعض المواقف يتوجبُ عليه ضبطَ نفسه لكي لا ينتهي به المطافُ وحيداً , أغمضَ عينه وبدأ يحاولُ ابتلاع ما يشعرُ به فلم يسبق له أن قضى هذا اليوم من قبل في مبنى شركته .

دفع بيده البوابة وخطى بقدميه للداخل , ما إن نظرَ البعضٌ للشخصِ الذي دخل حتى وقفوا احترماً له , بينما هو أشار بيده مع ابتسامه هادئة بأنّه ليسَ من الضروري فعل ذلك , بدأ هو بتحية الموظفين و أسمعهم بعضاً من صدقِ شكره لهم , لم يكن ذلك مستغرباً من أفراد شركته فلطالما كانَ وريثُ هذه الشركة لطيفاً في تعامله معهم , يحيهم ويسأل عن أحوالهم وكأنّما من يرى حياته فسيجد حقاً أن طبيعته هنا تختلف عما عليه في قصره .

استقلَّ المصعد واختار أن يذهب سريعاً لغرفة عمه التي يوجد فيها مكتبٌ له , طرق الباب برفق حتى سمعَ صوتَ السماح له بالدخول ..

ما إن رأي هايدن من دخل والذي كانَ ابن أخيه الذي يقفُ أمامه حتى سعدَ قلبه ووقفَ هو الأخر مُرَحِباً .

ـ أهلاً بك ظننتُ أنّك لن تأتي .

ابتسمَ ميلان ابتسامة مكلفة فعمهَ يدركُ تماماً بأنّه متضايق بشأن دعوته دائماً في هذا اليوم فهو يفضلُ البقاء وحيداً على الفراش طيلة اليوم , بادله التحية .. ثمّ انطلقَ نحو مكتبه جلسَ على كرسيه وأسقط رأسه على المكتب أملاً بأن يحصل على بعض الهدوء بما أنّه قد لبى طلبَ عمه في المجيء .

شعرَ هايدن ببعضِ الحزن عندما راه بتلكَ الحالة , عاد إلى مكانه فلربما يكفيّ بأنّه قد أحضره إلى هنا , ففكرة بقاءه في غرفته مغلقاً على نفسه أو حتى بقاءه في القصر وحيداً لا تروقُ له , لكن بما أنّه أمامه الان فهو مطمأن قليلاً حتى وإن لم يكن فكره وعقله معه .


ــــــــــ

بعد مدة قضتها في المشي وصلت ميدوري أخيراً إلى وجهتها حيثُ بوابة الحديقة أمامها , فهو المكان الذي اتفقا عليه سويةً عندما انشغل كل واحدِ بعمله ليجتمعوا فيه, وبما أنّها تعلمُ أنّه متفرغٌ اليوم فهي واثقة بأنّه في الداخل ..

أخذت تجولُ فيها وهي تنظرُ بتلهفُ نحو الكراسي الخشبية المنتشرة فهي معتادة على أن تجده وهذا يسهلُ عمليه البحث بالنسبة لها .. لمحته من بعيد فاتجهت نحوه مسرعة , وقبل أن تصل إليه سمعتْ أصواتاً مجتمعة التفت لترى مجموعه من الاطفال حولَ أحدهم ويبدو عليهم السرور.

لم تهتم بذلك .. فكل ما يشغلُ فكرها هو البقاء بقرب رولند لهذا اليوم .. أو على الأقل لنصفه .

كانت عينا رولند معلقة على إيفان الذي لازالَ يمرحُ مع الأطفال .. ولذلك لم يلاحظ من جاء ليقف بالقرب منه , استغربت ميدوري لرؤيته يحدقُ بشيء معين فهي من كانت بالقرب منه لوحت بيدها بالقرب من عينه , فالتقطت عدسةُ عينه تلكَ الحركة التي جاءت فجأة فرفعَ رأسه فوجدها أمامه .

اتسعت ابتسامتها كثيراً وجلست سريعاً بالقرب منه .

ـ ما لذي كنتَ تنظرُ إليه ؟! .

التفت إليها ليكوَن مقابلاً لها ومع ابتسامة صادقة أمسكَ بيدها وتحدث بنبرة ملؤها الصفاء .

ـ ميدوري .... أتذكرين ما أخبرتكِ به ؟ .

لوهلة شعرت بنبضات قلبها وظهرت حمرةٌ خفيفة على وجنتيها

... ولكن ما إن سمعت سؤاله حتى انغمر قلبها النابضُ بحبه في الخفاء بالحزن , طأطأت رأسها ونظرت إلى اصبعها الصغيرة في يدها اليسرى .

ـ نعم لا أزالُ أذكر ما أخبرتني به ... لا أزال أذكر ذلك الوعد الذي قطعته معك والذي قمتَ أنتَ به ... لكن .. .



ـ أننا سوفَ نلتقي به قريباً .

أفاقت من مخاطبه نفسها فجأة فقد ظنّت أنّه يقصدُ بذلك الوعد القديم بينهما لكن بما أنّه صرحَ بجملته فهذا يعني شيئاً واحداً وهو إيفان .

اختفى قلقها سريعاً وابتسمت بطمأنينة وهي تنظرُ إلى سوارِ يدها .

ـ أجل أثقُ بكلماتك .

ابتسمَ لثقتها فرفعَ يده ووضعها على عينيها ليجعلها غيرَ قادرةِ على الرؤية تفاجأت من ذلك ووضعت يدها علي يديه وما لبثَ أن همسَ في أذنيها .

ـ أتصدقيني إنّ أخبرتك أنّه هنا ؟!

لحظةُ صمتِ سادت على كليهما فيبدوا أنّ ميدوري لم تستوعب بعد جملته , علمَ رولند ذلك سريعاً فحركَ رأسها ليكونَ إيفان الذي لا زالَ مشغولاً مع الاطفال محلّ نظرها.

ـ إنّه هنا ..... انظريّ ..

أبعدَ يده عن عينيها وأول ما رأته أمامها هو شابٌ صغير لم ترى وجهه بل خلفيته فالأطفال يحيطون به على شكلِ دائرة وهو جالسٌ بينهم .. اتسعت عيناها وهي تراقبُه , تمنّت من كلِ قلبها أن يلتفت ولو قليلاً للخلف لتراه .. ولكن حركاتِ ذراعيه منعها من رؤيته ... لاحظت ذلك القرط الذي يتدلى من إحدى أذنيه ولكنّها لم تره جيداً وقفت على قدميها وأسرعت نحوه وما إن وصلت إليه حتى سحبت بأصابعها القرط لتنظرَ إليه وتتأكدّ .

شعرَ إيفان بذلك وبأنّ أحدهم يمسكُ بقرطِ أذنه الثمين أمسكَ بتلكَ اليد ثمّ قالَ وهو يحافظُ على هدوءه مع ابتسامة مرحة حتى قبل أن يلتفت للفاعل .

ـ أيها الطفل لا يجبُ عليكَ لمسُ هذه .

هدأ بقيةُ الاطفال وأخذو ينظرون بفضول لما خلفَ إيفان , لاحظ ذلك من خلالِ رؤيته لحدقة أعينهم فشعرَ بالفضول الذي جعلهم يهدئون فجأة ... وأخيراً شعرَ بأنّ تلكَ اليد التي لا زالَ يمسكها ليست بيديّ طفل .. بالرغم من أنها ناعمة كالأطفال إلا أن حجمها ورقةِ أصابعها جعلته يلتفت للخلفِ سريعاً ليعرف من صاحبُ تلكَ اليد ...

ما إن التفتْ لينظر حتى تقابلا وجهها لوجه ... صدُمَ لرؤية وجه فتاة بالقربِ منه وأمامه ولكنّه لم يفزع .. بل ظلّ محدقاً بها فذلك الوجه التي ينعكسُ صورته في حدقةُ عينيه ليسَ بغريب عليه أبداً ...

نفسُ الوضعِ لدى ميدوري التي أخذت تدقق في ملامحِ ذلك الوجه الذي تعرفت عليه سريعاً ... لحظة صمتْ قصيرة ثمَ نطقا في وقتِ واحد .

ـ ميدوري ! .

ـ إيفان ! .


كلُّ ذلك أمام ناظريّ رولند الذي كان سعيداً برؤيةِ لقائهما وها هوَ يراهما يحتضنانِ بعضها كالأخوة ..




كانَ ينظرُ إليهما بابتسامةِ لطيفة ... فأخيراً بعدَ تلكَ السنوات قد التمَ شملهم مرةً أخرى ....

فجأة .. أغمضَ عينيه بدونِ شعورِ منه عندما شعرَ بوخز مؤلم في جسده فيبدوا أنّ أثارَ المرض قد بدأت تنتشرُ في جسده .. فمنذُ أن استيقظ وذلك الشعور لم يفارقه ويزدادُ كلما تقدم الوقت ....

نظرَ إليهم مرةَ أخرى ... ورأى أنّ جوّ الابتسامة والفرح لا زالت تحلقُ بقربهم ... لذلك حاولَ هو الآخر ابتلاع ذلك الألم الجسدي الذي يحسُ به بداخله .. فلن يفسدُ عليهم شيء في مثل هذه اليوم


ــــــــــ

جلسَ الثلاثة سوياً على المقعد الخشبي والابتسامة لم تغادر ثغرهم فبعد عدةِ سنوات ها قد اجتمعَ الثلاثةُ سوياً ..

ـ متى جئتَ إلى هنا ؟!

هذا ما قالته وهي ترغبُ في معرفة ذلك , نظرَ إيفان لـ رولند فلو علمت أنّه منذُ الأمس لغضبت لذلك .. حاولَ التفكير في شيء ينسيها ذلك وأول ما وقعت عيناه هو على شعرها القصير
أمسك بطرفه وتساءل بفضول وتعجب .

ـ أينَ ذهب شعرك الطويل ؟! .

توردت وجنتيها خشيةَ أن يسمعَ كلامه رولند الذي بدا شارداً قليلا , أبعدت أصابعه عن شعرها بعتاب بينما نظرَ إيفان إليه وأشارَ بإصبعه نحوه بعفوية .

ـ ألم يخبركِ أنّه يحبُ شعرك الطويل ! .

ازداد احمرار وجنيتها إحراجاً بينما خرجَ رولند من تفكيره على جملة إيفان فظهرتْ على وجنتيه حمرة خفيفة عندما سمعَ جملته , ضحكَ إيفان لمظهره اللطيف بينما تفاجئت هيّ عندما رأته خجلاً أمسكت بخصلات شعرها القصيرة , وأخذت تنظرُ لإيفان الذي أخذَ يتحدثُ عن موضوع آخر ..

نعم فقد صرّحت له مرة عندما كانا طفلين بأنّها تحبّه ولكنّه يبدو أنّه يجهل ما قد حصل بعدَ رحيله بل تلكَ المحادثة التي دارت بينها وبين رولند ...

نظرت إلى رولند الذي أخذَ يشاركُ إيفان في حديثه ... أخذتُ تحدقُ فيه بحزن وهي لا زالت ممسكة بخصلاتِ شعرها ..

فهي لم تقم بقصه عبثاً .. بل لأنّها لا تريدُ أن يكونُ هو الوحيد المختلف بينهم .

خرجت من تفكيرها فهي لا تريدُ أن يقلقوا لسرحانها , ابتسمت بلطف واقتربت منهما وهما منغمسان في الحديث فلم يشعرا بنفسيهما إلا وهما في أحضانِ ميدوري .

ـ لقد اجتمعنا بعدَ عدة سنوات , أنا سعيدةٌ.

هذا ما قالته بفرح فأيّ سعادة تمتلكُ قلبها و من تحبهما من كلِ قلبيهما هما الآن بينَ ذراعيها ..

بدأوا بالسير معاً ولكن هذه المرة برفقة ميدوري , ذهبوا للأماكن التي تفضلها يتخللُ سيرهم الضحك والحديث بدا الجوّ أكثرَ مرحاً بوجودها فقد أضفت جواً جميلاً .... اشترت لهما بعضِ البوظة وأخذت تستمعُ لحديث إيفان .

في ذلك الجوِ السعيد ولأول مره يشعرُ فيها رولند بأنّه متحرر من الأعباء التي تثقلّه فها هوَ يمشيّ معهما متناسياً كلِّ شيء..
مروّ بجانبِ محلِ لبيع حليّ مصنوعِ من الفضة .. ورغمَ عدمِ انتباههم إلا أنّ مالكَ المحل الذي جاء لتفقد محله .. قد لاحظ منظر الثلاثة من خارج محله والذين بدا عليهم أنّهم يقضون ووقتاً ممتعاً وسعيدا ولكنّ ما أثارَ اهتمامه هو الشاب الذي يتوسطُهم والذي قد راه مرةً في مكانِ ما , لم يبالي بذلك بل تابع عمله , ولكنّ الابتسامة التي راها منه لا زالت مطبوعة في داخله .

زجر المسؤول عن محله وبدأ يمليّ عليه بصوته الصاخب ليزيد مبيعاته ويطورَ من الدخل ولو قليلاً كما هي عادةٌ ذلك الرجل .


ــــــــــ

بعدَ منتصف النهار ..

لا زالَ ميلان مسنداً رأسه على مكتبه ولم يرفع رأسه منذُ أن دخل , بينما كان عمه يكمل بقيّة المعاملات ويوقعُ بعض الأوراق .. كما أنّه قد خرجَ ليتفقدَ بعض الأشياء ..

ـ أجل سوفَ أوقعُ عليها ثمّ أرسلها إليه .

أومأ الموظفَيْنِ له بالإيجاب بعدَ أن قاموا بتسليم الملفات له .. ألقيا التحية عليه وغادرا من الغرفة ,

ما إن خرجا حتى همسَ أحدهما للآخر وهو ينظرُ للبابِ الذي خرجَ منه .

ـ أتعلمُ لماذا يبدوا السيد ميلان هكذا ! , لأول مرة أراه بذلك الشكل ولا أشعرُ بوجوده هنا .

وضعَ الآخر يده على فمه بحذر وأخذَ يراقب المكان من حوله اقترب من رفيقه وهمسَ له .

ـ لا ترفعَ صوتكَ أيها الأحمق, َ .

ارتبك رفيقه من حذرِ من أمامه فلم يملك الآخر سوى أن يمسكَ بيده ويسحبه معه وهو يقول له .

ـ لنعد لمكان عملنا وسأخبرك بالسبب .


ــــــــــ

انتهى هايدن من توقيع الملفات .. فأغلق غطاء قلمه ألقى نظرة على ميلان فعلمَ أنّه ليسَ بنائم .. .

ـ بنيّ .... أيمكنك إرسال هذه الملفات لرئيس الموظفين ! .

انسابت تلكَ النبرة القلقة على مسامعه ... وعلمَ بأنّ عمه يريد منه أن ينشطَ نفسه قليلاً , كان يريدُ تجاهله ولكنّه يعلمُ كم عدد المرات التي خرج فيها عمه من الغرفة لذا وقف ليلبيّ طلبه .

حمل الملفات الثلاثة بين يديه وغادر غرفة عمه بخمول شديد .

نزل من المصعد وسار إلى الممر الذي يؤدي إلى الغرفة التي يجب أن يسلم فيها هذه الملفات ... دخل الغرفة وأغلق بابها ووضعَها على المكتب بعد أن قامَ بتحية الجالس .





ـ في مثلِ هذا اليوم ... اختطفَ فيها السيدّ ميلان بعدَ أن غدرَ به أحدُ من يعلمون في القصر والذي كان يثقُ به أشدّ الثقة ... لذا يبدوا بأنّ لا زالَ يتذكر ذلك اليوم ... .

هذا ما قاله ذلك الموظف لرفيقه الذي تساءل عن سبب حالة ميلان والذي بدا مهتماً كثيراً لما قاله حتى تعابير وجهه بدت واضحه وكأنما يرغبُ بمعرفة المزيد .

همسَ صاحبه إليّه وقالَ له بكلِ حذر .

ـ لذا يُشاعُ بأنّه يعامل خدمَ منزله بطريقة جافة جداً .

صوتُ حمحمه هي ما سمعاه فجأة يتلوه صوتُ حديث شخصِ بالقربِ منهما تماماً..

ـ إنّه يطلبُ منكما المجيء إلى غرفته حالاً .

ما إن ميزّا ذلك الصوت والتفتا حتى اسودّت الدنيا في عيونهم فمن كانَ أمامهم مباشرة .. هو من يتحدثون معه ..

تعرقَ كليهما وخشيا لو كان قد كانَ سمعَ بالمحادثة من بدايتها لم يملكا سوى أن يومأ برأسيهما بارتباك واضح ويسارعان في الاختفاء من أمامه ..

تنهدَ ميلان بعمق ووضعَ كلتا يديه في جيبِ بنطاله ... نظرَ إلى المكان حوله بشرود فلا زالَ يشعرُ بالاختناق من هذا الجوّ الكئيب , لم يجد خيار سوى أن يعودَ إلى مكتبِ عمه ولكن هذه المرة وهو يحملُ كوبَ قهوة ليشربها هناك .. فلعلَ ذلك يخفف من أثار القلق التي يلاحظها على وجهه عمه .


ــــــــــ

كانَ التوأمان ينتظرانِ معاً ميدوري فقد انتهى الدوام الخاصُ بهم استطاعت لين تكوين بعضَ الصداقات مع بعضِ الأطفال بينما لم يكفَ لير عن مراقبتها.

كانا في صالة الألعاب .. وها هي طفلة تلوحُ للين بيدها الصغيرة مودعه لها بعد أن جاءت أمها لاصطحابها وبذلك لم يبق غيرهما .. خرجا من صالة الألعاب وأخذا ينتظرانِ سويةً في الخارج بعدَ أن جلسا سويةً ..

كانت لين مسندةَ رأسها على كتفِ أخيها .. فيبدوا أنّ هنالك ما يدورُ بداخلها بما أنّها تتأمله كل يوم .. بينما شدّ لير قبضة يدها ليخبرها ويُشعرها بأنها معه .. طأطأت رأسها بحزن وقد بدأت تفتقدُ ذلك الشاب الحنون فلا زالت تتذكر اللحظة التي أخذهما فيها والابتسامة التي قابلهما

لم يخرجها من ذلك سوى صوتُ إحدى المربياتِ التي تعملُ في رياضِ الأطفال

ـ لير , لين .. هناكَ من جاء ليصحبكما .

نهضا سويةً وبدأت لين تلبسُ حذائها كما الحالُ عندَ لير, انتهت لين أولاً فأخذت تركضُ سريعاً لتقابلَ ميدوري ولكن من رأت من كانَ يقفُ أمامها ويلوحُ بيده إليها مع ابتسامةً لطيفة حتى توقفت غيرَ مصدقة , ثمّ عاودت الركض إليه وصرخت باسمه بسعادة .

ـ أخــــــــي .

ما إنْ سمعَ لير الذي انتهى من لبسِ حذائه صوتَ أخته بل الكلمة التي نطقتها حتى التفت سريعاً ليجد أخته في حضنِ ذلك الشاب الذي يحبّه ويفخرُ به .

احتضن رولند لين التي بدت عليها السعادة .. والتي هي بدورها قام بضمّه بشدّه وبضحكات طفوليه أخذت تحدثه .

ـ لقد اشتقتُ إليك .

ابتسمَ بطيبة وهمسَ وقالَ لها وقد حملها على كتفه .

ـ وأنا كذلك ... كيفَ حالكِ !؟ .

ضحكت بسعادة وأومأت برأسها .

ـ سعيدة برؤيتك .

تقدم لير باتجاههم والذي ما إن لاحظه رولند حتى أنزل لين للأرض جثى على ركبتيه واحتضنَ كليهما بحنان .

ـ اشتقتُ لكما ... .

التفت لين سريعاً نحو أخيها بحماس وهي ترفعُ كلتا يديه متفاعلة مع حديثها .

ـ لذلك كانت أختي ميدوري سعيدة اليوم ولم تخبرنا لتفاجئنا .

ـ إذا هذان هما الطفلان الذيّن أخذهما ! .

التفت الطفلان ليجدا ميدوري تلوحَ لهما بيدها وبجانبها شابُ اخر لكنّه أقصر من رولند والذي هو من قالَ جملته وبدى يتفحصُ شكليهما .

نظرَ الطفلان لذلك الشاب بفضول .. تذكرَ لير أين رآه فأشارَ بيده نحوه .

ـ أنتَ من سألتني عن الطريق أليسَ كذلك ! .

ابتسمَ إيفان وهو يرى تلك اليد الممدودة باتجاهه , نظرَ لأخته فوجدها تعقدُ حاجبيها وكأنما تحققُ في شيء ما اقترب منها وجثى هو الآخر وضعَ سبابته على جبينها وقالَ لها بمرح .

ـ ما بالُ تعابير وجهك ؟.

أخذت تنظرُ إليه بعيون الأطفال التي تريد التحقق من شيء ما , ما إن رأت القرط في أذنيه حتى اقتربت منْ ميدوري وطلبت منها أن تريها السوار التي في معصمها , استغربت من طلبها بل إنّ الجميع أخذَ يحدقُ بها فمظهرها بدا مضحكاً وكأنّما هي أحدُ المحققين الصغار ,
ما إن رأت سوار ميدوري وتأكدت منه حتى تقدمت باتجاه إيفان وأشارت إليه سريعاً كمن يشير على مجرم .


ـ إنه نفسُ الشكل الذي يوجدُ عندَ أختي .... .

ما إن رأى إيفان إشارة يدها نحو قرطه حتى انتابته نوبة ضحك , ليسَ لمقولتها بل لأسلوبها الظريف الذي أظهر فيها براءتها , لم تكتفِ بذلك بل سحبت أخاها من ذراعه وجعلته يقتربُ منه وقالت له بكلِ جديّة .

ـ انظر .. أخبرتك أنا لا أكذب .

ما إن سمعت ميدوري جملتها حتى تذكرت ما حصل عند المتجر الذي ذهبت إليه والتي ذكرت فيه لين أنّها رأت ما يشابه السوار التي تحمله ...


ــــــــــ

رفعت يدها ليظهرَ سوارها بينما وضعَ إيفان يده على القرطِ الذي في أذنه وكذلك الحال مع رولند الذي أخرجَ السلسلة التي يعلقها على رقبته .

اندهشَ الطفلين للرؤية التشابه بين تلكَ الأشياء التي يحتفظونَ بها ..

بدأ الفضول في أعينهما وأخذا ينظران لها بإعجاب بينما ارتسمت على الثلاثة ابتسامة حزينة على شفاههم .. فقد شعرَ كلُّ منهم بشعورِ مختلف فهذه هي المرة الاولى التي يشاهدون فيها ذكرى صداقتهم مجتمعة بعد فراقهم ... لم تكنْ تلكَ مجرد رمزِ للصداقة فقط ... بل تحملُ بداخلها الكثير من المعاني ..

إنّها بمثابة شريطِ يعيدُ لهم ذكريات الماضي الذيّ عاشوه سوياً .. وعانوا من لحظاتهم أيضاً .. إنّها تخبئ فيها عمقَ ذلك اليوم الذي قامَ كلُ واحدِ منهم بإخراجِ ما في قلبه للآخر ..

هذا ما كانَ يشعرُ به الثلاثة جميعاً وهو يتلمسون ما يملكونه ...

كانَ أولُ من أفاقَ من ذلك الشعور هي تلكَ الفتاة والتي قالت سريعاً لتمنع أي موضوع قد يفتحَ ذلك الشعور .

ـ عندما تكونانِ صداقة حقيقة اطلبا منّي أن أقومَ بصنعِ ما يشابهِ هذه .

لمعت عينا لين ببراءة وكأنما أرادت أن تكوّن صداقة بأسرعَ ما يمكن , علمتْ ميدوري ما تفكرُ به تلكَ الصغيرة

فيجبُ عليها أولاً أن تعرفَ المعنى الحقيقي للصداقة وليست فقط مجرد رمز يتشاركونه لذلك لتنسيّ لين فكرة صنعُ مثلَ هذا في وقت قريب , رفعت ذراعها وقالتَ بصوتِ عالِ.

ـ لنذهب إلى مركز ألعاب ... .



وهكذا انتهى الطاف في النهاية للذهابِ إلى مركز ترفيه صغير ليكملوا بقيّة يومهم .. وكانَ أكثر من أحبّ ذلك هي لين التي بدت متحمسة للذهاب للعب حيثُ كانت متمسكة بيديّ الفتاة المبتهجة , بينما لير كان بالقربِ من صاحب الروح الطيبة وأما من يمتلك الابتسامة فقد كانَ الوحيد الذي أخذَ يحكي للطفلين عن كيفَ سمحت له الفرصة بالجلوس مع أعضاء فرقة مشهورين ... وبطبيعة الأطفال قد كانا يستمعون بانتباه شديد ...

وصلوا للمكان الذي يردونه وتعاونَ الأصدقاء الثلاثة في دفع النقود التي يحتاجونها , وهذا بدأ المرحُ لدى لين ولير بمشاركة ميدوري وإيفان
بينما رولند قرر مراقبتهم فقط ..



بعدَ مرور ثلاث ساعات

لاحظت ميدوري صمتَ رولند وطبيعته الهادئة .. كانَ مغمضاَ عينيه ... لذلك اقتربت منه .. وأول ما فعلته هي تفحصُ جبينه ..

استشعرَ رولند تلكَ اليد وعلمَ صاحبتها لذلك نطقَ بصوتِ منخفض .

ـ أيمكنكِ الجلوس قليلاً .!

استجابت ميدوري له وجلست بالقربِ منه ... ظهرت على ملامحِ وجهها القلق وشدّت كلتا يديها ثمَ قالت بكلِ صعوبة .

ـ يمكنك الذهاب الآن .. سأتدبرُ أمر البقية .. .

فتحَ كلتا عينيه ورأى يديها التي ترتعشان فهيّ تعلمُ يقيناً بأمر هذا اليوم الذي لا بدُ أن يصحبه شعوره بالمرض .. لذلك قامَ بإمساكها وهمسَ لها برفق .

ـ لا تخبريّ إيفان بذلك أبداً ... عديني بذلك.

اتسعت عيناها بصدمة .. ولم تعرف كيفَ تردُ عليه ... فقالت بصوتِ يحملُ فيها نبرةُ بكاءِ مكتومة .

ـ أتظنّ أنّه كانَ من السهلِّ عليّ أن أتجاهل هذا في كلِ مرة !.

ـ أنا أطلبُ منكِ ذلك برجاء .



التفت إليه بعد جملته فرأت في عينيه التي يخفيّ بها الكثيرَ من الألم الإصرار على تنفيذِ رغبته



بعدَ مرورِ زمن الصمت ... تنهدت بعمقِ كبير .

ـ حسنا .... ولكن .

امتلأ قلبُ رولند بالراحة ما إن وافقت على طلبه ولكنّ الكلمة التي قالتها جعلته ينصتُ لها وقد ظهرت على عينيها الجديّة .

ـ إن اكتشفَ الأمر .. فلن أظلّ صامته بل سأصارحه بالحقيقة .

هذا ما قالته بكلِ صدق ... فكما قامت بتلبية طلبه في عدمِ إخباره فلن تواصل ذلك إن اكتشفَ هوَ ذلك ..

ـ عندما يحينُ ذلك .. يمكنك ذلك ..

وهكذا تمَ الاتفاق فيما بينهم .. وأنار المكان الذي هم فيه بألوان متنوعة خلابة فقد بدأت الشمسُ بالمغيب وها هي السماء تتوشح بالسواد ..

أغمضَ رولند عينيه وأسندَ برأسه على المقعد الذي همَ فيه ... ومعَ ضجّة المكان الذي هم فيه .. حركَ شفتيه قائلاً ببطء .

ـ شكراً لكِ .

انسابت تلكَ إلى مسامع ميدوري التي ابتسمت بحزنِ بالغ ...

وقفت على قدميها عندما رأت إيفان الذي اصطحب التوأمين وها هم عائدون ويستعدون للذهاب ..

انتهى الجميعِ من قضاء بعض الوقت الممتع ..

وهاهم يسيرون في الشارع سوية وكلَ شخص يحملُ في يده شيء فهذه المرة قررت الفتاة التي بينهم أن تكونَ نهاية يومهم بتناولِ العشاء في شقتها الصغيرة بنسبة عودتهم جميعاً ..


ــــــــــ

انهى السيد هايدن كل المعاملات التي كانت عليه لليوم ... رتب مكتبه قليلاً ثمّ نظرَ لابن أخيه الذي لا زالَ يقرأ تلكَ الصفحة من الكتاب الذي أخذه منذُ ثلاث ساعات , ابتسمَ بداخله فهوَ يعلمُ أنّه شاردٌ تماماً وربما لم يقرأ أي حرف .. توقفَ أمامه وأغلق الكتاب الذي بينَ يديه ..

رفعَ ميلان رأسه بعدما شعرَ بأنّه لم يعد يرى تلكَ الحروف التي كانت عيناه عليها ..

ـ سوفَ أذهب إلى منزل ابني فأنا أريد مناقشة بعضَ إحداثيات المطعم الذي يديره وأنتَ مدعوَ للانضمام معانا على طاولة العشاء .

ـ ألا يمكنني العودة إلى منزلي إنّي أشعر بالنعاس .

أمسك بيده وجعله يسير معه بجانبه ولا زالت تلكَ الابتسامة الحانية على شفتيه فلن يقبل إلا بأنْ يذهب معه ..




ــــــــــ

انتهى الجميع من تناولِ العشاء وهاهم جميعاً يساعدون ميدوري فـ رولند يقومُ بجمعِ الأطباق المتسخة وإيفان يساعدها في غسلها وأمّا لين ولير فقد أرادا المساعدة فقما بترتيب المكان قليلاً .

فورَ انتهائهم جميعاً صفقت ميدوري بيدها بلطف وخاطبت الطفلين .

ـ حانَ وقتُ النوم .

تذمرت لين وأخذت تنظرُ إليهم بعدمِ رضا .

ـ ولكن لا زالَ الوقت مبكراً ... انظري أخي لا زالَ هنا .

وكذا الحالُ عند لير الذي كانَ موافقاً لما تقوله أخته ..

علمت ميدوري بذلك .. ولكنّها تفعلُ ذلك لأجل رولند ,

ابتسمت بلطف وخطبتهما ليتفهمّا ذلك .

ـ غداً سيبدأ داومي أيضاً لذلك يجبُ عليّ أن استيقظ في ساعة مبكرةِ جداً .

وقفَ كلٌ من إيفان ورولند ليستعدا للذهاب ... ابتسمَ رولند بكل طيبة وتحدث بنبرةِ ملؤها التعب .

ـ لقد قضينا وقتاً رائعاً اليوم لذا يبدو أننا نحتاج للراحة بعدَ كلَ ذلك , أليسَ كذلك !؟ .

أومأ برأسيهما بحزن وذهبا للغرفة الأخرى ليستعدا للنوم .

تحركَ رولند تأهباً للذهاب .. فظنّ أنّ إيفان سيذهبُ معه أيضاً ولكنَه كانَ عكسَ ذلك إذا لوحَ بيده بابتسامة مرحه.

ـ سوفَ ابقى هنا قليلاً .

ــــــــــ


ما إن ابتعدَ رولند عن المكانِ قليلاً حتى وضعَ يده على فمه وقد اتسعت عيناه فهو يشعرُ بالغثيانِ الشديد ... لم تستطع قدمه حمله فسقط على ركبتيه مسنداً بذراعه لكيّ لا يسقط ... فعلّه يحصلُ على بعضِ الراحة قليلاً بما أنّه قد كتمَ ألمه كلَّ ذلك الوقت ..

كانَ يفكرُ في إيفان وملامحه عندما أخبره إنّه يريد البقاء قليلاً .. فلا بدّ أنّه لن يغفلَ عن سؤالها عن مدى الحالِ الذي وصلَ إليه ..

ولكنّ بما أنّه مطمئن بأنّها لن تخبره بأمر هذا اليوم فليسَ عليه أن يقلقَ كثيراً ..

حاولَ النهوض فيجبُ عليه أن يذهبَ مشياً إلى حيثُ المكان الذي سيعودُ إليه .



ــــــــــ


جلسا سويةً مقابلين لبعضهما .. فبعدَ نومَ الطفلين ورولند الذي غادر منذُ لحظات كانَ الجوَّ متوتراً قليلاً بينهما ... فيبدوا أنّ لدى إيفان الذي يجلسُ أمامها شاداً قبضةِ يديه وتبدوا على ملامحه الرغبة في معرفة جميعِ تساؤلاته ..

ـ لماذا حدث هذا !؟ ...

نظرتْ إلى عينيه اثر سؤاله المفاجئ الذي وجهه إليها .. ولكنّها علمت خفايا ذلك السؤال الذي أخذَ يذكره بألمِ كبير .

ـ ألم نهرب سويةً منذُ عدةِ سنوات لنهربَ من جحيمِ الخدمة ذاك !!!؟ .. إذا لماذا عادَ هوَ إلى ذلك الجحيم !! .

قالَ جملته الأخيرة وهو يصكَ على أسنانه بغيضِ شديد بينما هي بقيت تراقبه ..
.. طأطأت رأسها وهي تشعرُ بما داخله .. فقد ذاقته هي أيضاً من قبل ... قررت الصمت .. فهي لا زالت تعلم بأنّ لديه الكثير ليقوله ويفصح عنه .. تابعَ إيفان بصعوبة محاولاً كبت غضبه وحزنه سويةً .


ـ أتعلمين ما إن استفسرتُ عن مكانه محاولاً الوصلُ إليكما ... لم أصدقْ ذلك !! , من بينِ جميعِ الناس الذي يحملونَ نفسَ اسم رولند أُخبرتْ بأنّ أحدهم يعملُ في قصرِ كأحدِ العاملين فيه ...

ضحكَ أمامها سخريةَ لنفسه ... ووضعَ يده على صدره مشيراً لنفسه ... .
ـ عندما بقيّ الشخصِ الوحيد الذي وضعته في آخر القائمة ... لم أصدقْ ذلك !! .. لذلك قررتْ أن أتأكد من ذلك وأحضرَ إلى هذه المدينة .


أخذت ميدوري تنصتُ له بكلِ ألم فكلِ حرفِ يخرجها كانَ ثقيلة على لسانه ... لذلك لم تستطع رفعَ رأسها لتنظرَ إليه بل اكتفت بأن تقولَ له بكلِ صدق .

ـ لا زلتَ كما كنتَ عندما تغضب .

استشعرَ كلماتها فاكتفى بالصمتِ وهو يشعرُ بالاختناق بداخله ورغمَ ذلك قالَ بتردد .


ـ أ... أتعلمين ... ! رغمَ أنّني كنتُ متضايقٌ من ذلك .. إلا أنّنّي أردت أن أقابله متجاهلاً ما هوَ عليه حقاً ...
و... ولكن .. ولـ ـكن الصدمة والغضب الذي اعتراني جعلني أفقدُ نفسي وأصرخُ في وجهه بأنّه مثيرٌ للشفقة .

كلّ هذه المشاعر والأحاسيس التي أفضاها إيفان لـ ميدوري .. بأسفِ شديد .. شعرتْ بها منذُ زمن .. لذلك أمسكت بكلتا يديه بلطف وحنان قائلةً بلسانِ صادق متفهمِ له ..

ـ..... أظنّ في هذه الفترة سيكونُ من الأفضل لو تجاهلنا عمله .. وعاملناه بدونَ أن يشعرَ بذلك .. !

أدخلت كمّية كبيرة من الهواء بداخلها .. وهي تعلمُ ورتبت حروفها لتقولَ بمنطقيّة أكبر .


ـ ألم يكنْ هو من حرّرنا ..!؟ لذا لو أراد أن يتحررْ فسيتمكنُ من ذلك !! ألن يكونَ هذا أسهل عليه مما كانَ عندما كنّا أطفالاً ! .

هدأتْ نفسِ إيفان قليلاً ما إن انسابت كلماتُ ميدوري على عقله وانسكبت في قلبه .. فرفعَ رأسه ليرى وجهها الذي ظهرت عليه ملامح من الألم الطفيفة وتلكَ الابتسامة الحزينة التي تشقُ شفتيها .


ـ أيضاً أنتَ لم تخطأ أبداً فقد كان ذلك بمثابةِ صدمة لك ولم تتحمّل رؤيته على تلكَ الحالة , كما أنّه لم يظهر عليكما شيء عندما كنّا نمرحُ سويةً .. وذلك يعني أنّه لم يكن غاضباً عليك .. بل بدا مطمئناً وهو يرى وعدكَ الذي أخبرته به ... .

ابتسمت بكلِ صدق وهمست له .
ـ لقد أصبحتَ شخصاً رائعاً .. وهذا يكفيّ بأن يجعلَ رولند لا يحملُ في نفسه شيئاً عليك .. انتظر الفرصة التي سيفتحُ فيها رولند بنفسه الماضي .... عندها أخبره بكلِ ما يجولُ بخاطرك .



ــــــــــ

في قصر ماليان .


ـ مرحباً بكَ سيدي .

هذا ما قاله شيمون وهو يرحبُ بعودة ميلان إلى القصر بعد يومِ قضاه في الخارج .. نظرَ إليه بنظرات ملؤها الحقد وكأنمّا يتذكر تفاصيل ذلك اليوم بأكمله .

ـ دعني لوحدي ..

رما له بمفاتيح سيارته .. و انطلقَ مبتعداً عنه , صعدَ غرفته سريعاً ورمى بنفسه على السرير حتى بدونَ أن يقوم بتغير ملابسه .. أغمضَ عينيه تدريجاً علّه يحصلُ على بعضِ النوم الذي سيخلصه من كلِ القيود التي تقييدُ نفسه بحبلِ ضيق متين بالإضافة لكيّ لا يحصلَ على بعضِ الإزعاجِ منها فغداً هو موعدُ عودتها وعليه أن يظهرَ أمامها بأنّه بصحة جيدة, وما هي إلا دقائق حتى انغمست نفسه في نومِ عميق ِ .

ــــــــــ


بعدِ جهدِ كبير استطاعَ الوصول إلى القصرِ الذي يعملُ فيه كان شكله متعباً فوجنتيهّ المحمّرتان تدلانِ على ارتفاعِ درجةِ حرارته .. وكذلك الوقتُ الذي استغرقه حتى يصل كانَ كافياً لئنْ يزيد من التعبِ الذي يشعر به ..

تحاملَ على نفسه وأخذَ يمسحُ قطراتِ العرق عن جبينه .. تجاوزَ بوابة القصر وأخذَ يتابعُ سيره للبوابة الخلفية التي تدخله إلى القصر والتي هيّ أقربُ لغرفته .. قامَ بفتحِ الباب بالمفتاحِ الذي يملكه , فهو لا يريدُ لأيّ شخصِ في القصر أن يعلم بعودته .

وهذا ما تحقق له .. نزلَ الدرجاتِ ببطء شديد ثمّ فتحَ بابِ غرفته السفلية وأغلقها من خلفه أراد الوصل لسريره لكنّ قدامه لم تعتد تحتمل حمله فسقط على الأرض مثقلاً بألمِ شديد .. واضعاً يده على معدته بينما الأخرى بالقربِ من رقبته...



ـ هل من أحدِ هنا !!؟ .

اتسعت عيناه وهو يسمعُ ذلك الصوتُ الذي تردد صداه حتى وصلَ إليه لم يرد أن يكتشف فوضعَ يده على فمه ليخفف من صوتِ تنفسه الحارق ..
كانَ صاحب الصوت شيمون الذي كانَ يتفقدُ القصر قبلَ أن ينامْ .. ويبدوا أنّه سمعَ شيئاً ما وذلك عندما سقط رولند .. فتح البابِ الذي يؤدي إلى الدور السفليّ ... انتظر قليلاً علّه يسمعَ ذلك الصوت ليتأكد ...

ظنّ أنّه تخيل ذلك فأغلق الباب .. وعاد إلى مكانه فهو يعلمُ أنّه لن يكون هناك أحد بالأسفل بما أنّ رولند في عطلة ..

ـ أتمنى أنّه استمتع بقضاء عطلته ... .

قالَ جملته بابتسامة مطمئنّة وأملةً بذلك ولكن سرعان ما تنهد .

ـ يبدوا أنّها ستكوُن الأخيرة له .. .

فبعدَ حديث ميلان عنّه واستفساره عن عدمِ وجوده صباح هذا اليوم فيبدوا أنّ بدأ شيطانه الذي يريدُ أن يسلطه على ذلك الشاب الشاب .

صعدَ إلى غرفةِ نومه فلا بد أن يستعد لقضاءِ يوم جديد في الغد ...

بينما من كانَ يتحدثُ عنهما أحدهما قد نامَ بعمق هرباً من الذكريات التي تراوده


والآخر ملقى على الأرض بطريقةِ مهملة بينما حالته تبدو في حالةِ سيئة , مغمضاَ عينيه غيرَ نائم ...
بل هوَ يشعرُ بطعناتِ الألم والمرض التي امتزجت مع الماضي الذي سببَ له هو الآخر ذلك ...

نهاية الفصل التاسع ..


رد مع اقتباس