عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 03-24-2014, 10:47 AM
 
Talking الصفحَة الأولى..

[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:100%;background-image:url('http://im69.gulfup.com/JbLkAH.png');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center].







[/ALIGN]
[ALIGN=center]

لِقاءٌ على حِينِ زَمهَرِير ~


حياتِي كعجوزٍ وحيد بثروة لا أعرِف لمن ستؤول من بعدي كانت نمطية ..
أمسي يُشابِه غَدِي , شهوري تمشي على الوتيرة ذاتها ..

حتى رأيتُها! كانَت قِطعة من البراءة.. جوهرة ملقية في المكانِ الخطأ , رأيتُها بثيابٍ بالية ووجهٍ ملائكي أرهقته المتاعِب قبل أن يصل سِن الإرهاق والتعب , مُستلقية قرب صنادِيق كرتونية عدِيدة , ترتجِف برداً وخوفاً , كزهرة وحِيدة نمت بين صخور..

_هل أنتِ بخير؟

سألتُها بحنّية حتى لا توجِس مني خِيفة , خلعتُ معطَفي وغطّيتُها به , كانَت في الثامِنة أو التاسِعة من عُمرِها , لاحظتُ أنها مُصابةٌ بالحُمى , فأخذتُها إلى سيّارتي وأسرعتُ بها إلى الدار , ثم أخبرتُ أحدَ الخدم بأن يأخُذها إلى غُرفةٍ فارِغة ..





جسدُها احتوى على رضوضٍ وكدمات عدِيدة , حينَ استيقَظَت كانت صامِتة لوقتٍ طويل , لم تتجاوَب معي إلا حين سألتُها عن اسمها فهزّت رأسها بمعنى أنها لا تعلَم , خمّنتُ أنها فقدَت ذاكِرتها وقلتُ بِبشاشة..

_ملاك , اسمكِ ملاك لأنكِ جميلة الخَلقِ والروح..

ابتَسمت وشكرتني , وكانت هذه بسمتَها الأولى هُنا..
ابتسَمتْ مُجدّداً حين قدّمتُ لها ما ندعوه بـ ’بلح الشام’ قالَت أنها أحبّته للغاية
فاقترحتُ تعليمها طريقة إعداده ورحّبَت الفتاةُ بالفِكرة..

’ملاك’ كانت شمعَة حياتي , رؤيتُها تكبُر أمام عينَي وهبتني مُسوِغاً للبقاء..
كانت دافِعاً يجعلُني أستيقِظ منشرِح الصدرِ كُل صباح..
منزِلي الميّت ..أحيّته .. كآبته الرماديّة المُسوَدّة تلاشَت منذ أن وطئته..

ذاتَ يومٍ أخبرتني أن غُرفتها أكبرُ من منزِلهم , فسألتُها..

_هل تذكرتِ شيئاً؟
حدّقَت بي لفترة ثم أجابَت بأنها تستعِيد القليل من الذكريات العشوائية..

حرصتُ على ألا أظهِر تعاطُفاً فأجرحها , فتَبسّمتُ وبداخِلي فضولٌ تجاهها..
كنتُ واثِقاً من أنها تذكّرَت , كانت تصرُفاتُها المُتردِدة تَشي بكُلِ ما اختلَج بداخِلها..
~
يُحزنُني منظَر طفلٍ شارِد الذهن , الشرود ليسَ شيئاً يعرفه الأطفال..
لكِن ملاك كانَت كثيرة الشرود , وكثيرة الابتِسام كذلِك..
ابتِسامتُها تعكِس رغبةً في عدَم البُكاء , فبقدرِ ما شاهدتُها تبتسِم بقدر ما سمعتُ نحيبها في غُرفتها ليلاً , البُكاء الذي أسمعه بعدما تخفتُ الأنوار كان يصدُر من قلبٍ مُتألِم , من مُهجَة تحتضِر , بألمٍ أعمَق بكثير مما حسبت , أعمَق من أن يصدُر من طِفلة , شهقاتُها تؤلِمُني أنا الذي لا أملِك لها مواساةً أو تعزية..

لكِن مهما ذرفَت العبرات ليلاً , تبقى مُحتفِظةً بابتِسامتها صباحاً..





ذاتَ ليلةِ عيدٍ خرجنا , كانت مبهورة بالأضواء في الطرِق والعدد الهائل من الناس في الخارِج , الثلجُ كان يتلألأ في الجوِ دونَ غزارة , أحبّت ملاك عصافِيرَ مُلونة كان يحمِلها أحدُ الباعَة , فابتعتُها لها , وأخبرتُها حينَ عودتنا..

_هذه الأشياءُ تموتُ في غضونِ يومين أو ثلاثة..

التفتت إليّ بنظرَة تحمِل اللوم وقالت..
_جميعنا سنموت..
ابتَسمت قائلاً..

_أعلَم.. لكِنها تموتُ بسُرعة..
ردّت بهدوء..

_سأطعِمُها كثيراً..

_ستموتُ من الشبَع..

قلتُ مُمازِحاً , فتجاوَبت معي..
_لماذا تُريدُ أن تقتُلها؟ انظر كم هي جميلة..

*~

بعد ثلاثَة أيام أصبَحتُ على صوتِها يُنادِيني بفزَع , فأسرعتُ إلى حيثُ كانت لتلتفِت إلي قائلة والعصفور يشغَل كفيها..
_احداهنُ لا تتحرّك..

_حسنٌ , أخبرتُكِ بالأمر سابِقاً..
أعادَت نظرها إلى القفص الصغير , وتمتمت بحتمِية لحاقِ البقية بها !
في الصباح التالي وجدتُها وقد أطلَقت سراحهم..
كانَت ترفُض الفقد , وشخصٌ يرفُض الزوال سيُواجِه صعوبة في حياته حتماً..





عادةُ ملاكي الغرِيبة في الجلوس أمام خِزانة ملابسها لوقتِ طويل أثارَت فيَّ العجَب..
كنتُ كلما اقتربتُ لأرى أغلقَتِ الباب وقالت بابتِسامة طفولية :ستراها في الوقتِ المُناسِب..
خمّنتُ أنها تحتفِظُ بصورة , أو هدية ما , فتركتُها دون أن أسأل..
~
بدأت صِحتُها تتدَهورُ وهي في سنِ الخامِسة عشر , فأخذتُها إلى الطبيب حيثُ اكتَشفتُ أنها مُصابة بمرضٍ ما بعده سوى الموت , كان الأمرُ يتعلّقُ بما حدَث لها ولم أعرِفه , وعلّقَ الطبيبُ بما مزّقنِي داخِلياً..

_ابنتُكَ تملِكُ قُدرة عجيبة على تحمّلِ الألم..

أخبرتُها بالأمر في شيء من التعاطُف , رددتُ كلِمة "القدر" مراراً..
وهي أجابت دون أيّ تغيير في تعابير وجهها..
_أوه , إنها النِهاية !

نطَقتها وكأنما كانت تترصّدُ النِهاية , تترقّبها دونَ شوق..

انقَبض صدري فما غذّاهُ نفس ولا أنعَشتهُ خفقة .. نِهايتُها هي نِهايتي حتماً..
طوال السنوات السِت الماضية , أنا لم أتصَور رحيلها يوماً..
ظننتُني سأغادِر أولاً , فأنا هرِمٌ وهي شابّة..
لكِن الموتَ لا يعرِفُ صبياً أو شيخاً..

في الأيامِ التي تلت ذلِك لاحظتُ أن تصرُفاتها اختَلفت , حتى طريقةُ حديثها أصبَحت تحتوي على عِبارات مثل : "لو كان مُمكِناً , إذا ملكتُ الوقتَ الكافي" كانَت حين تخرُج إلى الحدِيقة , تسعَد وكأنها مرتُها الأخيرة , وتتحدّثُ مع أي شخص وكأنها على سفَر..
لرُبما يأتي الموتُ على بغتة لمثل هذا السبب!

~

وافَتها المنية بعد شهرٍ واحِد , كانت تتألمُ وتصرُخُ حتى اللحظَة الأخيرة , ولو شاءَت أن تقولَ شيئاً لما استطاعَت , حينها تمنيتُ لو ترحَل , فقط كي لا تتعذّب أكثر..

ومَع لحظَة رحِيلها أظلَمت الدُنيا في وجهِي , زارتني الكآبَة لتكسو منزِلي مُجدّداً..

ما أخفته عنّي في أيامها الأخيرة كانت كلِمات نقشتها على جِدار الخزانة:
" سأُحِب أن نصنَع بلحَ الشامِ معاً لمرةٍ أخيرة.. "


وعاد كُل شيء إلى سابِق عهده..
صبَاحٌ-مُظلِم يطلَعُ عليّ ثُم يغِيب , منزِلٌ واسِع لا يشُدّني سوى عند غُرفةٍ بقِيتْ في حالِها مُغلَقة , أطِل عليها بين الحِين والآخر وهي في نفسِ هيئتها السابِقة , ولم يمَس المنزِل تغيير سوى أن ملاك لم تعُد هُناك !







.
[/ALIGN]
[ALIGN=center]
[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]
__________________
وأنا على عَهدِك ووَعدك ما استَطَعت، حتَى آتيك بقلبٍ سليم و نفسٍ مُطْمئنة..




التعديل الأخير تم بواسطة Angelic ray ; 03-24-2014 الساعة 08:27 PM
رد مع اقتباس