عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 01-25-2014, 04:51 AM
 






دمعة فراق حارقة يتبعها نحيب جثث الموتى

] الولايات المتحدة الامريكية – نيويورك – محطة قطار الانفاق - 2003[
من تلك الشلالات عدنا وعلى ثغرينا لاحت ابتسامات السعادة مشرقة لتزين صفحة ذكرياتنا بلون الذهب النقي الذي عبّر في تلك اللحظة عما اختفى في جوفنا من الرغبة في الراحة الابدية
المحطة اكتظت بالناس مختلفي الطباع ، الاعمال و النوايا ، على كلٌ منهم رُسم نوع من الملامح التي اما اثارت فضولي وإما اوجستُ منها خيفة شديدة تتضح على قسمات وجهي الهادئة
شددت الضغط على كف والدي وأنا اقترب منه فزعة من قربي الشديد من البشر الذين لم احبهم يوماً ، لم اعتبرهم اصدقاء كما كانت تقول لي امي بل جعلتهم اعدائي الذين اتلذذ بتعذيبهم في اعماق غياهب عقلي المظلم ، فبسبب طبيبة حمقاء وصفت الدواء الخاطئ ماتت نبع حنان حياتي وهي امي ، وبسبب رجل ثمل قاد سيارته بإهمال بلا ادراك لما حوله مات كلبي الذي اعتبرته افضل اصدقائي على الاطلاق
سرتْ رعشة باردة في جسدي لأرجف منها فزعة وكأنما صوت جافٌ اجش يقرع ناقوس الخطر ويرسل اشارات التنبيه الالهية الى قلبي الذي لم يتعدى حجم قبضة اليد
تلك الافكار في عقلي نفضتها يمنة ويسرة وانا استرق النظر كل ثانيتين لوجه والدي الذي بدا عليه بعض الانزعاج من تأخر القطار الذي باتَ امراً طبيعياً لسكان هذه المدينة المزدحمة
ولكن في لحظة شعرتُ ان كل الاصوات من حولي خافتة وان فزعة غريبة في شراييني حاصلة ، وقعُ اقدام الموت هو كل ما سمعته من بين تزاحمات الخيال في عقلي الواهن
يد غادرة شاحبة المحيا و باردة الكينونة دفعت بجسدي الهزيل ليسقط على السكة الحديدة التي اهتزت من ارتطام عجلات القطار القادم ناحيتي ، صرخ الحاضرون و ارتاعوا لما رأوه حاصلاً من مصيبة ستحتل قنوات التلفاز لفترات طويلة
كل ما اتذكره في تلك اللحظة التي شعرت بطولها غير الطبيعي هو وجه والدي الذي اخذ يصرخ بشدة خائفاً ، مرتعباً و منكراً لفقده فلذة كبده الوحيدة
قفز مسرعاً على السكة ليدفعني بيديه الدافئتين بعيداً ولم يسعفه الوقت حتى يتحرك من مكانه لان القطار كان له عدواً لدوداً في تلك اللحظة بالذات
اتذكر تلك الحرارة الغريبة التي شعرت بها وذلك السائل الاحمر الذي غطى وجهي وملابسي كافة
اتذكر جسد والدي الذي تهاوى على الارض صريعاً مضرجاً بدمائه الحمراء القرمزية ، اتذكر جيداً ارتجاف قلبي ونبضه الذي لم يكن على عادته مطلقاً ، وكأنما سهم من نار حميم قد غُرس في قلبي حتى يذيبه بحرارة الفراق للمرة الثانية
اقتربت من جثة والدي خائفة والناس بهواتفهم يصورون وبعضهم يبتسم لفلم الرعب الجديد الذي شاهدوه بالمجان
جلست بجانبه ابتسم بصدمة ودمائه من عيني تسيل كالدموع الباكية ، بيدي الهزيلتين اخذتُ ادفعه بشدة وانا اطلبُ منه الاستيقاظ ، ولكنه ...
كان بارداً ، متصلباً ، وذو ملامح نائمة ، عيناه لم تعيا شيئاً و جسده الممزق الذي بدى وكأنه جسد جندي عائدٍ من الحروب بندوب لن تشفى مهما مرّ من السنين
كل ما شعرتُ به في تلك اللحظة مشاعري التي ماتت ببطء وصوتٌ اجش يهمس في اذني بكلمات لم افقه الى معناها بعد
"الخيانة لا تولد الا الكراهية والكراهية تُخلق من اجل حماية من نحب و طبيعة البشر المدمرة سوف تجعل العالم منهاراً ببصمة من العار والخزي تظهر على شاكلة مجازر تأخذُ حياة الكثيرين "
تحول مجال بصري الى الرمادي البحت وانا لا اسمع الا نبضات قلبي التي شابهت سيارات السباق في صوتها العالي و اشتداد شهقاتي التي همتُ فيها كمشردة عاجزة عن انارة صندوقها الصغير بنور منضدي خافت ليقي عينيها ظلام الدنيا
وضعت يديّ على رأسي لأصرخ بهستيرية هزت قلوب الحاضرين ورسمت نظرات الشفقة على ملامحهم
عبراتي تفجرت كينابيع حارقة انصهر الحديد فيها مستسلماً لحرارة وطغيان المياه اللاذعة ، هويتُ على جسده الميت صارخة وأنا اتشبثُ به مستنكرة موته و عبور روحه للعالم الاخر بهذه السرعة ، لم تكد تكمل سنة واحدة منذ ان شعرتُ بوجوده في حياتي وها انا افقده كما يفقد الملك فارسه الاخير في المعركة ، وكما تفقد الاميرة فارسها المغوار الذي كانت تتجلى فيه كل احلامها الصغيرة الوردية
اغمضت عيني بألم وأنا اشعر بحلقي الجاف يتقطع من النحيب والصراخ حتى فقدتُ الشعور بما حولي وأغمضت عيني على سواد لن ارى نوراً في نهايته غير الموجودة
استيقظت على صوت جلبة اصوات بعض الناس في المكان ، غرفة ناصعة البياض وكلُ من فيها اتخذ البياض رمزاً له ليكفر ربما عن ذنوب ارتكبها ظاناً منه بأنه الان يخلقُ من نفسه ملاكاً مُنزلٌ من الرب لشفاء ما في القلوب
نظرتُ الى الجميع بحقد وازدراء وعلى وجهي ارتسمت قسمات الرغبة بالقتل ، انتصبت امرأة في العقد الرابع من عمرها امامي بوجه صارم لا يمد للحنان بصلة وقد كانت عيناها الرماديتان اللتان شابهتا عيون والدي ضيقتين جداً وحادتين كحدة السيف المهند
لم تكلف نفسها عناء النظر الي او حتى القاء نظرة على حالي بل رددت بصوت اشد صرامة من ملامحها المرعبة وبجفاف طغى على جفاف الصحراء
- والدكُ مات وسيتم دفنه قريباً ، اما انتي فسوف تتجهين الى الميتم كحال كلُ من ليس لديه اهل
تجاهلتُ كلماتها التي لم تنم الا عن تشاؤم حاد ، اغمضت عيني مدعية النوم العميق وسط السكون الغريب الذي اتخذته الغرفة ملجأً هاربة من صرخات الم المرضى الذي احتجزوا هنا لوقت فقدوا الرغبة في عده
كل ما رسمه عقلي وسط الظلام الدامس كان صورة الدماء الحمراء ووجه والدي الملطخ بها وحسب
بشهقة مفزعة وثبتُ من سريري وعيناي على انبلاج شديد وكأنما الشيطان كان حاضراً هنا يمقتُ النظر الي بابتسامة ملؤها الخبث والرغبة في التدمير وحسب
فتحت عيني على واقع لم اظنه حياً او موجوداً ، على حقيقة لم ارد ان اتذكر ماهيتها يوماً
اوهامنا حقيقة وهي تطاردنا على شاكلة مسوخ متعطشة لدماء ضحاياها !
صرخت هنا بقوة كادت تصدع جدران الغرفة البيضاء وتحطم الحواجز التي بنيتها حول قلبي وانا اردد غاضبة
- اللعنة على عالم كان همه ارهاب ضحاياه !

يتبع لا احد يرد ~ !
__________________
رد مع اقتباس