عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 01-25-2014, 04:49 AM
 






لحظات السعادة ، وهم مطبق على مسامع الوحوش


[ الولايات المتحدة الامريكية – نيويورك – شلالات نياجرا - 2003 ]



تصاعد بخار مياه الشلالات على وقع اصطدام الماء الساقط من الاعالي الى قاعه المظلم الذي لم تعرف له نهاية واضحة ، بهرجة الوان المهرجان وتعالِ اصوات ضحكات الاطفال و زخور المكان بمختلف العائلات قد اضاف الحياة المفتقدة على هذا المكان ، صافية هي السماء بغيومها البيضاء وارتفاع شمسها الى كبد السماء ، برموشي التي اجفلت مراراً تشتت بصري بين كيانات هذا المكان وراحت اصواتهم تداعب طبلتي اذني بهدوء وانا ارمق كل ما حولي بنوع من الازدراء وعدم الرضيان

تجمع البشر في اسراب متشتتة منتفضة الاوصال ، منهم من اتى هنا كئيباً حزيناً يرنو ببصره على واقع مرير ويريد منه الفرار ، ومنهم من اتى الى هنا مشتاقاً تعيساً ينّدبُ حظه الذي القاه في غياهب لوعة الفراق ، و منهم من تجلت على وجهه ابتسامات الرضا والقناعة وارتوى من عبق الصفاء شُربة ماء شعشعت كل ما في جوفه من احقاد
ولكن لم يكن هذا ما اثار دهشتي وجرني الى نوعٍ جديد من الترقب والتأمل ، بل كان هذا الرونق الاجتماعي ، القسمات المتماثلة والتشابه الانساني الغريب بين كل الحاضرين ، اهتزازت الاصوات العالية واستكانة بعضها اثر مزحة سيئة
التدفق الغريب للهالة المحيطة بس جعلني اغلق عيني بشدة متسائلة هل الحلم مجرد ومضة تختفي ان اردنا الاستيقاظ منها ، صرخة الطفل بجانبي اخافتني وادخلت الي قلبي بعض القلق

تشبثتُ خائفة برجل والدي الذي احتلت ثغره ابتسامة ندى الصباح و التمعت عيناه الفضيتان ببريق الحنية والأمان رغم اني طالما اعتقدتُ ان خلف شعره الليلي الكئيب احزان وأوجاع لا يمكن لغيره ان يتحملها ويعرف مقدار محاكاتها للواقع

على شعري برفقٍ ربّتَ بيديه الحانيتين وابتسامته التي طالما عشقتها لا تزال بادية على ثغره الوضَاح بالحياة حتى انتشلني من التشبثْ بقدميه بأن حملني الى بين ذراعيه وانا ادفن خبايا ملامح وجهي في صدره النابض بقلب لا يعرف معنى الكذب

نحو تلك الاسوار التي طوقت المكان سار بخطى هادئة وهو على رأسي لا يزال يربتْ حتى انتصب واقفاً امامها سعيداً يُطرب اذني بصوته الساكن المفعم بالأمل

- تأملي هذه المياه التي تتسابق فيما بينها للفوز بالسباق خالقة من هذا السباق لوحةً بديعة لا تعرف التعكّر او الصفاء

رفرفتُ بجفوني وانا احاول استيعاب كلمات والدي المبهمة ، ربما لطفلة في عمري يصعبُ فهمها ورؤية ما اختفى خلفها من معانِ زاهية بالجمال

بخوفٍ ادرتُ وجهي وانا اُجعد قميص والدي من احكام امساكي به بقبضتي يدي الصغيرتين ، بعينين زائغتين عن الواقع صعب الادراك رمقتُ الشلالات بتفاجئٍ محض ، في عيني التمعت شعلة من الضوء البراق الذي يعكس انبهاري بهذا الكون بديع الجمال

اتسعت ابتسامة ثغر والدي وبدت السعادة على محياه وهو يرى بأن شبح ابتسامة اخذ يتضخم تدريجياً على ثغري الذي لم يعرف الابتسام منذُ فقدِ امي

امي التي عنت لي كل معانِ الحب والامان في حياتي ، تركتني وحيدةً بين جدران صماء وعديمة الروح ، متكورة على نفسي في ظلمة اركانها الخافتة ، بصوت ناحبٍ ابكي دموع الحرقة التي فطرت قلبي وكسرته كالمرآة الى ملايين القطع الصغيرة التي تلطخت بدماء قدمي

ماتت وحيدة في غرفتها وعلى الفراش الذي طالما بتُ معها فيه في الليالي الذي تطاردني فيها كوابيس عالمي ووحوش طالما خشيت من ان تنسيني معنى الانسانية

لم اكن اعلم بأنها مريضة ولم اكن افقه الى سعالِ الدمِ الذي كانت تذرفه على مغسلة حمامها في انصاف ليالي اكتوبر الكئيبة

الى حين سقطت صريعة بعد نزالها مع المرض تهاوى جسدها امامي وانا وسط احتفالي بيوم ميلادي معها لتمتلئ الارض بكريمة الكعكة التي سقطت من يدها اثر سقوطها كذلك

لازلتُ اتذكر اول لقاءٍ بأبي بعدها وسط جنازتها التي لم يحضرها الا عددٌ قليل ممن عرفها ، كنتُ خائفة مرتجفة الجسد وضعيفة الحيلة ، بحاجة الى حضن دافئ يعوضني عما فقدته والمّت فاجعتي به

وكُنْتُ كالميت الذي سجيَّ بغطاء الحياة وأعيدت روحه المهزومة الى جسده الهزيل الذي شابه الاموات اكثر من الاحياء ، انزلني من يديه الدافئتين لتحط قدماي على الارض الباردة وانا اترقب عينيه اللتين تحومان حولي محافظتين عليّ وتحمياني من كل الاذى في هذا الكون

امسك بكفي الذي لم يماثل كفه الكبير حجماً بخفة وهو يسير ببطء محاولاً ان يماشيني في السرعة التي لم اكن لها حليفةً حتى وصلنا الى عند عربة المثلجات التي لم احبها يوماً واعتبرتها الورم الخبيث الذي ينتشر ببطء في كينونتنا حتى يترك بصمته الازلية فيه

منها اشترى والدي علبتي ماء ، واحدة لي والأخرى له ، سار بجانبي بهدوء وأنا احاول ان اشرب هذه العلبة بهدوء حتى لا تسقط و ينتهي امرها كساقية للأرض العطشة ، قدمي تعثرت بحجر غادر على الطريق لاسقط وتنسكب العلبة كما كنتُ اخشى ، رمقني والدي بضحكة مكبوتة لاحمرار انفي الذي تعرض للضربة بقوة

رفضتُ ان ابكي امامه وحاولت منع دموعي من ان تسقط ليحمر وجهي اكثر وتخرج ضحكات والدي الهستيرية على منظري الحالي ، وقفتُ اوانا اتصنع الثبات والقوة ليرشقّني بعلبة الماء على سبيل المزاح وتلمع شرارات الدموع في عيني الزمرديتين

دنى مني بخفة ليحتضنني وهو يربت على رأسي ويهدأ من روعي ، ردد بصوت انساني كل الالم الذي ذقته منذ لحيظات

- الالم ليس ازلياً ، بل هو زائل كما كلُ شيء في هذا العالم زائل ، لا تتركيه ينال من نبضات قلبك الحية و يفتكها بسمه القاتل

كلُ ما ادركته في تلك اللحظة اني تمنيت ان الزمن توقف عندها ولم يكمل مسيرته التي تخبئ كل شيء بين ثنايا اوراقه ولم تدع تفصيلاً الا ودققت عليه تدقيقاً يجعله حتمي الحصول

همست في اذنيه بصوت لا تزال آثار البكاء عليه

- احبك ابي

- وانا اكثر ، شارلوت


يتبع لا احد يرد ~ !
__________________

التعديل الأخير تم بواسطة آرْلِيتْ : ظَلَامْ ; 01-25-2014 الساعة 05:00 AM
رد مع اقتباس