طرقاتٍ ثلاث سمعها قبل أن يُفتح الباب بهدوء أعقبه دخول ذلك الشاب بتعابير خجلة آسفة وحائرة ..
نظر له هنيهة ثم مالبث أن أشاح بوجهه وعاود احتساء قهوته المفضلة
بينما اقترب الأول ناحيته وجلس بجواره وقد أطبق الصمت لبعضٍ من الوقت ..
بتردد قطعه قائلاً وهو لايزال يسبل طرفه : أفهم جيداً ماتريد أن تخبرني به .. وأدرك حجم حماقاتي وأخطائي .. أحاول حقاً التفكير بالأمر لكني وماإن أتمكن من تقبله وبصعوبة حتى تراودني أفكار كثيرة تخيفني .. أشعر بالعجز حقاً .. لو تخليت عنهم الآن كيف ستكون حياتهم وهل سيحبني أطفالي ؟ زوجتي كذلك .. ستفقد ثقتها بي .. سأتخلى عنهم في أكثر الظروف صعوبة وقسوة .. لاأستطيع فعل هذا .. إنه أكثر مما أستطيع تحمله أخي .. تفهمني أرجوك
ظل الآخر بصمت يحرك الكوب في يده وهو ينظر للفراغ ومالبث أن أفرغ مابصدره من ضيق واستياء بتنهيدة عميقة ..
التفت بعدها لشقيقه قائلاً : يظل أن تقدم على شيء ما أفضل من أن لاتحرك ساكناً وتتكل على القدر ليعالج مشكلاتك التي لن تحل سوى إن بذلت جهدك لحلها وقبلت بالتضحية .. فكر معي جيداً حتى إن ظللت هنا مالذي ستكون قادراً على فعله سوى جلب العار لهم .. حين تسجن سيكون لقب طفلتيك ابن القاتل .. هذا أقل ماسيحدث .. إنما إن تمكنت من إقناع والديك باحتواء عائلتك الصغيرة فستؤمن لها الحياة السعيدة حتماً وإن طال الوقت فأنت ستعود لهم لترفع رؤوسهم وتعوضهم عن أيام الشقاء والحرمان .. استمع لي أخي .. أتيت الى هنا ولا نية لي بالعودة سوى معك .. كما لا أنوي إعادتك لهم الا حين تغدو رجلاً .. رجلاً بكل ماتحويه الكلمة من معنى ..
التفت له بعدها منتظراً أن يدلو برأيه بينما بقي الآخر صامتاً يفكر .. حتى أطلق فاه أخيراً ليقول بنبرة مترددة قلقة : حسناً .. أعدك أني لن أكرر مافعلت مجدداً
أومأ له بالايجاب برضاً : اذاً مساء الغد نعود
بلهفة قال : لا رجاءاً .. أمهلني بعض الوقت لأسوي أموري هنا
- أمور ؟! وأية أمورٍ هذه
أجاب بنبرة عميقة تخفي الكثير من الحنين والأسى : أمور عالقة فقط .. أحتاج لحلها وتسويتها قبل الرحيل
- وكم من الوقت يكفيك ؟
-
أسبوع فقط .. لاأطالبك بأكثر منه
أومأ له بالايجاب بتفهم : حسناً .. ابذل جهدك خلاله اذاً .. رغم أنه وقت كافٍ لاثارة الكثير من المشاكل أيضاً ولكني أدرك كم أنت بحاجة له .. خذ وقتك وعد لي حالما تقرر الرحيل فلن أغير مكاني
- شكراً لك جيلبرت
مدعٍ الغرور قال وهو ينهض ويسكب له المزيد من قهوته التي لاينفك عن احتسائها كل
حين : يحق لك شكري فأنت ترهقني كثيراً .. إنما ماذا أفعل كوني الأكبر والأكثر تميزاً
يجب علي تحملك .. ليكن الله بعوني
ابتسم فلورنس ابتسامة جانبية خافتة سرعان ماأبحر بعدها مفكراً في ماينتظره من متاعب
خيوط الشمس تسللت من تلك النافذة العتيقة منعكسة على كوب الشاي المتلألأ اثرها
وقد وضع لتوه على الطاولة ذات الأرجل القصيرة التي توسطت غرفةً تقليدية دافئة
- اشربي هذا عله يعيد لكِ بعض الهدوء آري
صمتت وهي تفكر بما حل ويحل عليها وماتتوقعه من متاعب تزيد من ثقل كاهلها
حتى ارتعش جسدها فجأة اثر يده التي لامست كفها فصرخت بلا وعي وهي تبعدها : لاتلمسني
بابتسامته المعهودة قال مستنكراً : مابالكِ لست أريد ايذائكِ فلما كل هذا الخوف ..
كنتِ ترتعشين وقد رحلتِ لعالم آخر حيث لايمكنكِ سماعي فأردت ايقاظكِ وحسب!
اهدئي كل شيء بخير .. صدقيني أنا لاأعض ولن آكلكِ فلا أحب اللحوم البشرية
أشاحت بطرفها بصمت وهي تضم يدها لقلبها ومالبثت أن التفتت له
وهي تقول محاولة السيطرة على نفسها كي تبدو هادئة قدر الامكان رغم صوتها
المرتعش : قلت أنها هنا فلما لاتنادها وتدعنا نذهب مالذي تريده منا آرتشي ؟
- اممم مالذي أريد ياترى .. ربما فصل عظامكم عن لحمكم وطهيها وتناولها ووو
قالها وهو ينظر لها مضيقاً عينيه فإذا بها تهتف بنفاذ صبر : كفى مزاحاً وسخرية انني بعجلة من أمري طفلتي الأخرى لاتزال تبحث عن شقيقتها مع تاتسو رجاءاً أعطني ابنتي أكن لك شاكرة
أعاد ظهره للخلف مستنداً للأرض بباطن كفيه : فقط لو أعطيتك الطفلة ستكونين شاكرة ؟ آه يالكِ من قاسية ألا يكفي أنني آويتها وأنقذتها من البرد والخوف والجوع والتعب واستمعت لسخافاتها لفترة طويلة وخففت عنها .. ياه كم أنا عظيم بالفعل .. بالمقابل لم أحظى حتى على كلمة شكر واحدة منكِ .. لست أنتظر شكراً بل على الأقل استمعي لي كما استمعت لابنتكِ الثرثارة
نظرت له بطرف عينها بحدة ثم أشاحت طرفها وهي تقول بسخط : لاحديث بيننا أم نسيت ماحدث آخر مرة في منزلي .. أولست زوجة مجرم فلما تريد الحديث معي
قالت جملتها الأخيرة وهي تنظر له بغضب وجدية فقال وهو يضع يديه على الطاولة
ويتقدم قليلاً ليقابلها بنظراتٍ جادة غلفها الهدوء : بل هناك الكثير لنتحدث عنه .. كقصة الشبح مثلاً ؟ ذاك الذي ظهر فجراً بينما لاأحد في المنزل سوى طفلتين خائفتين وشبح مجهول يختبيء في .. زاوية الغرفة ! القصة غبية .. لكن ماأثار حيرتي هو .. أين يمكن أن يكون الأبوان قد ذهبا في وقتٍ متأخرٍ كذاك ؟أمر غريب صحيح ؟
كانت تستمع له محاولة السيطرة على تعابير وجهها لتبقى هادئة بينما بركاناً كان يتفجر
كل حين في قلبها .. قالت بعد صمتٍ محاولة أن تبدو طبيعية : إلاما تلمح ؟
رفع كتفيه بأن لايعلم بينما أردف بنظراته الماكرة : كنت أتسائل فقط إن كان هذا يعني
شيئاً لكِ .. أذكر أنني في صباح ذلك اليوم وفدت لمنزلكم فسألتكِ عن فلورنس ولكنكِ أجبتني بأنه لم يكن هناك .. لكن لطفلتكِ رأي آخر على مايبدو
تنهدت بعمق وهي تشتم في داخلها تلك اللحظة التي أهملت فيها الطفلتين فتسببت بكل
هذه الدوامة لنفسها . نظرت له بعدها بنفاذ صبر : لاشأن لي بما تصدقه .. فلا أظن أحداً
غيرك سيختلق هذه الحماقات .. أضف الى أنني لست مجبرة على اقناعك لتفهم وتفسر الأمور كما شئت .. أحضر طفلتي ودعني أذهب
وقبل أن يجيب أكملت ساخرة : صدقاً .. لم أتوقع أن يصل بك اليأس والحقد لاستجواب طفلة كانت محمومة في ذاك المساء لدرجة أنها لم تتمكن من تذكر ملامح الشخص الذي آذى والدتها .. أعجب لما تكره زوجي العزيز بهذا القدر وتصر على الصاق التهمة به
كل علامات الانتصار تلاشت ليحل على وجهه حقد وغضب دفين اثر حديثها حاول
السيطرة عليهما قدر الامكان كي لايظهرا ..
ومالبث أن قال مهدداً وهو ينهض : حذارِ أن تعبثي معي آرياكو .. كل مايخفيه منزلكم سأكشف حقيقته يوماً ما .. ليس هناك مايجعلني أحقد على ذلك النكرة لكنني أشفق عليكِ حقاً لثقتكِ الغبية به .. ستدركي كم أنكِ مخطئة باختياركِ قريباً .. قريباً جداً عزيزتي
خرج من الغرفة بعدها بينما بقيت آرياكو تفكر وهي تنظر للفراغ بصلابة وقوة ..
هي تشعر بالنصر حقاً ولكن الطريق مازالت طويلة لترتاح وتطمئن ..
فالغراب لايزال يحوم حول سقف منزلها ولن يريحه سوى أن يراه مدمراً
لحظاتٍ قصيرة انقضت بدخوله الغرفة وعلامات الغضب والحقد تغلف ملامحه
ويده تمسك يد الطفلة الناعسة المتعبة والتي ماان رأت والدتها حتى انهمرت دموعها
مجدداً وهي تهتف بين شهقاتها : أمي !!
وسرعان ماارتمت بأحضانها تفرغ خوفها وحزنها وتشكو بدموعها تلك اللحظات المريرة
التي قضتها حالما ظلت طريقها .. لم تقل الأم شيئاً رغم ماكان مكبوتاً بداخلها من عتاب
واستياء ورغبة في تأنيب طفلتها التي وضعتها بموقف لاتحسد عليه البتة ..
لكنها تماسكت وقررت أن لاتضغط عليها أكثر ..
فماهو جلي جداً أن طفلتها تمر بوضعٍ صعب للغاية لايستهان به
وأي خطأ منها سيزيد الأمور سوءاً وحسب ..
لذا قررت احتضانها بحب وحنان ونهضت وهي ممسكة بيدها مغادرة المنزل
دون أن تنبس ببنت شفة .. وقبل أن تخرج كلياً توقف هنيهة واستدارت له لتقول بهدوء
: شكراً لاهتمامك بها .. ذا دينٌ علي ماحييت وسأوفيه يوماً ما
انحنت بعدها باحترام شاكرة وغادرت بعدها بينما كتم غيضه
الذي ازداد لسبب لم يفهمه .. كل ماكان يشعر به أن شيئاً بداخله يتحطم
مخلفاً الكثير من الآلام التي لاتزيده سوى قسوة وحقداً !