عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 07-13-2013, 02:37 PM
 

كانت أغنامه عند مدخلالمدينة، في حظيرة أحد الاصدقاء الجدد. تعرف على الكثير من الناس في هذه الأنحاء،وهذا ماجعله يحب السفر لأيام متتلية، فعندما نرى الأشخاص أنفسهم كما هي الحال عليهفي المدرسة الإكليريكية ـ فإننا نتوصل إلى اعتبارهم جزءاً من حياتنا، وبما أنهميشكّلون جزءاً من حياتنا، فإنهم يبحثون في نهاية الأمر عن تغييرها كما يرغبون بغيررضى، لأن كل الناس يعتقدون معرفة كيف يجب أن نعيش تماماً، لكن أياً كان لا يعرفقطعاً كيف يتوجب عليه أن يعيش هو نفسه حياته الخاصة، كما لدى هذه المرأة المنجمةالتي تجهل كيف تحول الأحلام إلى واقع.
قرر الانتظار حتى حلول الظلا، قبل أنيذهب إلى الريف مع نعاجه، فبعد ثلاثة أيام سيلتقي ثانيةً ابنة التاجر.
بدأبقراءة الكتاب الذي كان قد حصل عليه من خوري طريفه. كان مؤلفاً ضخماً يتعرض لمسألةدفن من بدايته، بالاضافة إلى ذلك كانت أسماء الشخصيات معقدة للغاية. ثم حدث نفسه،بأنه لو قدر لو يوماً أن يؤلف كتاباً، فسوف يورد الشخصيات واحدة واحدة، كي يوفرلقرائه حفظ أسمائها دفعة واحد عن ظهر قلب.
عندما كان يقرأ بتركيز تلك القصةالجميلة عن دفن في الثلج، والتي منحته احساساً بالرطوبة رغم الشمس المحرقة ... جاءرجل عجوز للجلوس بجانبه والحديث معه.
- ماذا يفعل هؤلاء ؟ سأل العجوز مشيراًإلى المارة في الساحة.
أجاب الراعي بلهجة جافة:
- إنهم يعملون ... وتظاهربالقراءة.
وفي الواقع، فقد كان يحلم بالذهاب لجز صوف نعاجه أمام ابنة التاجر كيتلمس بنفسها مقدرته على الثيام بالكثير من الأمور الهامة، كان قد تخيّل هذا المشهدعشرات المرّات. وأن الشابة تبدو له مندهشة عندما يشرح لها عن الغنم وكيف يجز الصوفمن الخلف إلى الأمام، لقد بذل مابوسعه لتذكر بعض القصص الجيدة وروايتها لها أثناءعملية الجز، كانت في الغالب قصصاً قرأها في الكتب، وهو يرويها، كما لو أنه عاشهابنفسه، ولن تعرف مطلقاً الفرق طالما أنها تجهل قراءة الكتب.
أصرّ العجوز علىالكلام حينذاك، واخبره أنه متعب وعطش، وطلب أن يشرب جرعة من الخمر، فقدم له الشابزجاجته علّه يذهب ويتركه بحاله.
لكن العجوز كان يريد الثرثرة بإلحاح، فسألالراعي عن الكتاب الذي يقرأه.
فكر الشاب أن يكون فظّاً ويغير مقعده، لكنه تذكرأن أباه قد علّمه أن يحترم المسنين، عندها ناول الرجل العجوز الكتاب لسببين: أولاهما، لأنه كان يجد نفسه فعلاً غير قادر على لفظ العنوان، وثانيهما، كي يغيرالعجوز مقعده إن كان يجهل فعلاً القراءة حتى لا يشعر بالذل.
- هِمْ ـ تنحنحالعجوز متفحصاً الكتاب من وجوهه كلها كم لو كان شيئاً غريباً ـ إنه كتابٌ مهم ولكنهممل جداً.
ولشد ماتفاجأ الراعي عندما وجد أن العجوز يجيد القراءة. وأنه كان قدقرأ من قبل هذا الكتاب. وأنه كتاب ممل كم أكد العجوز، فالوقت لا يزال مناسباً كييستبدله بآخر.
تابع العجوز:
- إنه كتاب يتحدث عن الشيء نفسه الذي تحدثت عنهالكتب كلها تقريباً، عن عجز الناس في اختيار مصيرهم، وأخيراً يجعلنا ندرك أكبر خدعوفي العالم.
- ماهي أكبر خدعة في العالم ؟! سأل الشاب مندهشاً.
- هي ذي: " في إحدة لحظات وجودنا، نفقد السيطرة على حياتنا التي ستجد نفسها محكومة بالقدر،وهنا تكمن خديعة العالم الكبرى. "
قال الشاب:
- بالنسبة لي، لم تجر الأموربهذه الطريقة، فقد كانوا يريدون أن يجعلوا مني كاهناً لكنني قررت أن أكون راعياً.
- هكذا أفضل لك، لأنك تحب الترحال.
- لقد حدس أفكاري ـ قال لنفسه سنتياغو،بينما كان العجوز يتصفح الكتاب، دون أن يظهر أية نية لردّه.
لاحظ الراعي أنالعجوز يرتدي زيّاً غريباً، فقد كان يبدوا أنه عربي الهيئة، وهذا شيء مألوف في تلكالمنطقة، فإفريقية على بضع ساعات من " طريفة " ويكفي اجتياز المضيق الصغير بواسطةالقارب وغالباً مايأتي العرب للتسوق من المدينة فالناس يشاهدونهم وهم يصلون عدةمرات في اليوم بطريقة تدعو للفضول.
- من أين أنت ؟ سأل الشاب.
- من أماكنعدة.
- لايمكن لأحد أن يكون من أماكن عدة، فأنا راعٍ، ومن الممكن أن أتواجد فيأماكن مختلفة، لكنني أنتمي لمكانٍ واحد، مدينة قريبة من قصر قديم جداً، فهناكوُلدت.
- لنقل إذن إنني ولدت في سالم
لم يكن الراعي يعرف أين تقع سالم،لكنه لم يطرح سؤالاً، كي لايشعر بأنه سخيف نتيجة جهله.
انهمك بمراقبة الساحةللحظة، فالناس يذهبون ويجيئون، ويبدون منشغلين للغاية.
سأل الشاب:
- كيف هيسالم؟ باحثاً عن أية علامة لا على التعيين.
- كما هي دائماً من الأزل.
لميكن في هذا أية علاقة تدل عليها، لكن على الأقل كان يعلم أن سالم ليست في الأندلس،وإلا لكان عرفها.
- وماذا تفعلون أنتم في سالم؟
- ما أفعله في سالم؟!
انفجر للمرة الأولى العجوز ضاحكاً، لكنني أنا ملك سالم، أي سؤال هذا ! ...
الناس يقولون الكثير من الكلمات الغريبة، ومن المستحسن أحياناً أن يعيش المرءمع النعاج الخرساء، ويكتفي بالبحث عن الماء والغذاء، أو مع الكتب التي تحكي قصصاًلاتُصدّق، أما عندما يتكلم المرء مع البشر فإن هؤلاء يقولون بعض الأمور التي تجعلناجاهلين كيف نتابع الحديث.
قال العجوز:
- أنا أدعى " ملكي صادق "، كم تملكمن الغنم؟
- ما يلزم.
كان العجوز يريد أن يعرف الأكثر عن حياته.
- لدينا مشكلة إذن، فأنا لا أستطيع أن أساعدك، مادمت تفكر بامتلاك ما يلزمك من الغنم.
بدأ الشاب يعاني نوعاً من الضيق، فهو لم يكن قد طلب منه أية مساعدة. فالشيخالعجوز هو الذي كان قد طلب خمراً، وأراد أن يثرثر، وهو الذي كان قد اهتم بالكتاب.
- أعد إلي الكتاب، يجب أن أذهب للبحث عن أغنامي ومتابعة طريقي.
- أعطنيمنها العشر، وسأعلّمك كيف تصل إلى كنزك المخبأ.


تذكر الفتى حلمه، وفجأةصار كل شيء واضحاً له.
فالمرأة العجوز لم تجعله يدفع شيئاً، لكن هذا الشيخ،سينجح في تحصيل مبلغ أكبر مقابل معلومة لم تكن تتعلّق بأي واقع، لابد أنه غجريأيضاً ويمكن أن يكون زوجها.
في تلك الأثناء، ودون أن يقول أية كلمة، انحنىالعجوز، والتقط غصناً من الأرض، وشرع يكتب شيئاً على رمل الساحة، وفي اللحظة التيانحنى فيها، لمع شيء ما على صدره، كان الضوء باهراً لدرجة جعلت الشاب شبه أعمى.
لكن وبحركة سريعة ومدهشة لرجل في عمره، سارع العجوز لشد معطفه على صدره.
زال انبهار عيني الفتى، فاستطاع أن يرى بوضوع ماكان الرجل يكتبه، قرأ اسم أبيه،واسم أمه على رمال الساحة الرئيسية للمدينة الصغيرة، ألعاب طفولته، ليالي المدرسةالإكليريكية الباردة، ثم قرأ سيرة حياته حتى هذه اللحظة، قرأ أشياء لم يكن قد رواهالأحد قط، كتلك المرة التي سرق فيها سلاح أبيه وذهب لاصطياد الوعول الجبلية، أوكتجربته الجنسية الأولى والوحيدة.
- أنا ملك سالم ـ قال العجوز.
- لماذايثرثر ملك مع راع؟ تساءل الفتى في ذهول وحيرة.
- توجد عدة أسباب، لكن لنقل أنأهمّها هو أنك كنت قادراً على انجاز " أسطورتك الشخصية " .
لم يكن الشاب يعرفماكان العجوز يقصد بقوله: " أسطورة شخصية " .
- هي ماكنت دائماً تتمنى أن تفعل،فكل واحد منا يعرف ماهي أسطورته الشخصية وهو في ريعان شبابه، في هذه الفترة منالحياة، يكون كل شيء واضحاً، كل شيء ممكناً، ولا يخاف المرء من أن يحلم أو يتمنىمايحب أن يفعله في حياته. وكلما جرى الوقت، فإن قوى خفيّة تنشط لإثبات استحالةتحقيق الأسطورة الشخصية.
لم يكن لقول العجوز أي معنى بالنسبة للراعي الشاب.
لكنه كان يريد معرفة ماهية هذه " القوى الخفية ". إن ابنة التاجر ستبقى فاغرةفاها !
- إنها قوى قد تبدو سيئة، ولكنها في الواقع هي تلك التي تعلّمك كيف تحققأسطورتك الشخصية، إنها هي التي تعد عقلك، وإرادتك لأن هناك حقيقة كبرى في هذاالعالم:
" فأياً كنت، وأيّ شيء فعلت، فإنك عندما تريد شيئاً بالفعل، فهذا يعنيأن هذه الرغبة قد ولدت في " النفس الكليّة " ، وأنها رسالتك على الأرض . "
- حتى لو كانت الرغبة فقط هي رغبة في الترحال ؟ أو في الزواج من ابنة تاجر أقمشة؟
- أو البحث عن الكنز، فإن النفس الكليّة تتغذى من سعادة الناس أو من شقائهم، منالرغبة، من الغيرة، وإنجاز الأسطورة الشخصية هو الالتزام الأول والأوحد للناس، وكلشيء ليس إلا شيئاً واحداً.
" وعندما تريد شيئاً ما، فإن الكون بأسره يتضافرليوفر لك تحقيق رغبتك " .
احتفظا بالصمت للحظة، راقبا فيها الساحة والمارّة،وكان العجوز هو المبادر في إعادة فتح الحديث:
- لماذا ترعى الغنم؟
- لأننيأحب الترحال.
أشار العجوز إلى بائع البوشار بعربته الحمراء في إحدى زواياالساحة وقال:
- هذا الرجل أيضاً كان دائماً يريد الترحال عندما كان طفلاً،لكنّه فضّل شراء عربة صغيرة ليبيع البوشار ويجمع المال طيلة سنين عديدة، وعندمايصبح عجوزاً سيسافر ليمضي شهراً في إفريقية، إنه لم يدرك أبداً أن الانسان يمتلكالقدرة لينفذ مايحلم به.
- كان عليه أن يكون راعياً ـفكّر الشاب بصوتٍ عالٍ.
- لقد فكّر في ذلك ـ قال العجوز ـ لكن باعة البوشار ذوو شخصيات أكبرم ن تلكالتي هم عليها الرعاة، فباعة البوشار لديهم بيوت تؤويهم، بينما الرعاة يناموت تحتالنجوم، والناس يفضّلون تزويج بناتهم من باعة بوشار على تزويجهم من الرعاة.