عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 07-13-2013, 02:35 PM
 

:: الجزء الأول ::











كان يُدعى سنتياغو.
كان النهار يتلاشى عندما وصلبقطيعه أمام كنيسة قديمه مهجورة، سقفها قد انهار منذ زمن بعيد. وفي الموضع الذي كانيوجد فيه الموهف نمت شجرة جميز عملاقة.
قرر أن يقضي الليل في هذا المكان، أدخلنعاجه من الباب المحطم، ووضع بضع ألواح بطريقه بمنعها بها من الفرار أثناء الليل. لم يكن هناك ذئاب في تلك المنطقة، فذات مرة هربت دابة فكلفه ذلك إضاعة نهار بكاملهفي البحث عن النعجة الفارة.
مد معطفه على الأرض وتمدد، وجعل من كتابه الذي فرغمن قراءته وسادة.
قبل أن يغرف في النوم أكثر فكر بأن عليه قراءة كتب أكبر،وسيكرس لإنهائها وقتاً أكبر، وسوف يكون له منها وسادات أكثر راحة من أجل الليل.
عندما أفاق، كانت العتمة لاتزال قائمة، نظر إلى الأعلى فرأى النجوم تلمع، منخلال السقف الذي انهار نصفه.
فقال في نفسه:
- كنت أتمنى فعلاً لو نمت لوقتٍأطول.
فقد رأي حلماً، إنه حلم الأسبوع الفائت، ومن جديد أفاق قبل نهايته. نهضوشرب جرعة من الخمر، ثم تناول عصاه، وأخذ بإيقاظ نعاجه التي كانت ماتزال راقدة، وقدلاحظ أن معظم البهائم تستعيد وعيها وتتخلص بسرعة من نعاسها ولمّا يسعد وعيه هو،وكأنما هناك قدرة غريبة قد ربطت حياته بحياة تلك الأغنام، والتي تطوف معه البلادمنذ عامين سعياً وراء الماء والكلأ.
- قد تعودت على فعلاً لدرجة أنها صارت تعرفمواقيتي ـ قال في نفسه بصوت منخفض، وبعد لحظة من التفكير تراءى له أن العكس هوالصحيح، إذ أنه هو الذي قد اعتار عليها وعلى مواقيتها.
كانت بعض النعاج تماطلبالاستيقاظ، فكان يوقظها واحدة إثر أخرى بعصاه، منادياً كل نعجة منها باسمها، فقدكان مقتنعاً دائماً بمقدرة النعاج على فهم مايقول، وكان يقرأ لها مقاطع من بعضالكتب، أو يتحدث إليها عن عزلة أو سرور راع، بحياته في الريف، ويفسر لها آخرالمستجدات التي قد رآها في المدن التي اعتاد أن يمر بها.
مع ذلك منذ قبل يومأمس، لم يكن لديه عملياً، موضوع محادثة آخر سوى تلك الشابة التي تسكن في المدينةالتي سيصل إليها بعد أربعة أيام، لم يكن قد زارها إلا لمرة واحدة في العام الفائت.
كان التاجر يملك متجراً للقماش، وكان يحبذ أن يجز صوف أغنامه على مرأى منه، كييتحاشى الوقوع ضحية للغش، لقد قاد الراعي قطيعه إليه لأن أحد أصدقائه قد دلّه علىالمتجر.

× × ×

- أنا بحاجة لأن أبيع قليلاً من الصوف ـ قال للتاجر.
كان المتجر يغص بالزبائن، لذا فقد طلب التاجر من الراعي الانتظار حتى المساء،فذهب ليجلس على رصيف المتجر وأخرج من حقيبته كتاباً.
- لم أكن أعلم أن بإمكانالرعاة قراءة الكتب.
قال صوت امرأة كانت بجانبه، كانت هذه الشابة تمثل نموذجاًلنساء منطقة الأندلس بشعرها الأسود المسدول، وعينيها اللتين تذكران توعاً مابالفاتحين العرب القدماء.
- ذلك لأن النعاج تعلم أشياء أكثر مما هو في الكتب ـأجاب الراعي الشاب.
بقيا يثرثران أكثر من ساعتين، هي أخبرته بأنها ابنة التاجر،وتحدثت عن الحياة في القرية، وعن رتابة الأيام فيها، والراعي حدثها عن الأندلس، وعنآخر المستجدات التي رآها في المدن التي مرّ فيها.
كان سعيداً لأنه لم يكنمجبراً على التحدث مع أغنامه دائماً.
- كيف تعلمت القراءة؟ سألت الشابة لتوها.
- كسائر الناس، في المدرسة.
- لكن، وربما أنك تعرف القراءة، لماذا لم تصبحإلا مجرد راعٍ؟
وارب الراعي كي لايرد على هذا السؤال، لأنه كان متأكداً من أنالفتاة لن تفهمه.
تابع رواية سير ترحاله، وعيناها العربيتان الصغيرتان تحملقانقم تنغلقان بفعل الانذهال والمفاجأة.
كان يشعل أن الوقت يمر سريعاً، وتمنى لهذااليوم ألا ينتهي، ولوالد الفتاة أن يبقى مشغولاً لزمن أطول، وأن يطلب منه الانتظارثلاثة أيام.
وانتابه إحساس لم يكن قد ألم به من قبل أبداً: إنه الرغبة فيالاستقرار في مدينة بالذات مع الشابة ذات الشعر الأسود، فلن تكون الأيام رتيبةمتشابهة، لكن التاجر، ظهر أخيرا، فطلب منه أن يجز له صوف أربع نعاج، دفع إليهالتاجر ثمن الصوف ودعاه إلى المجيء في السنة القادمة.
حتى الآن لم يكن يعوزهإلا أربعة أيام، من أجل الوصول إلى تلك البلدة نفسها، كان مبتهجاً وبالوقت نفسهمرتاباً من أن تكون الفتاة قد نسيته، فالرعاة الذين يمرون من هنا لجز صوف أغنامهمليسوا قلائل.
- غير مهم ـ قال متحدثاً إلى أغنامه _ فأنا أيضاً أعرف فتياتأخريات، في مدن أخرى.
لكنه كان في قرارة نفسه يعترف أن لقاءه بها له أهميته،وأن الرعاة كالبحارة أو التجار المتجولين، يعلمون دائماً أن مدينة يوجد فيها منيجعلهم ينسون متعة التجوال في العالم بملئ حريتهم.

بينما أخذت تبدو خيوطالشمس الأولى، بدأ الراعي يتقدم بأغنامه باتجاه الشمس المشرقة.
- إنها تتبعني،فهي ليست بحاجة على الإطلاق إلى اتخاذ قرار – فكر- ربما لهذا السبب فإنها

تبقىبقربي، وبقدر ماسيبقى راعيها عارفاً بأفضل المراعي الأندلسية بقدر ماستبقى تلكالأغنام صديقاته، فحتى لو تشابهت الأيام بعضها ببعضها الآخر، مكونة ساعات ممتدة بينطلوع الشمس وغروبها، حتى لو أن تلك النعاج لم تقرأ قط أي كتاب خلال حياتها القصيرة،حتى لو جهلت لغة البشر الذين يررون ماكان يحصل في القرى، فهي تكتفي بالماء والكلأ،وهذا بالمحصلة كافٍ. وفي المقابل فهي تمنح صوفها، وصحبتها بسخاء، ومن وقت لآخرلحمها أيضاً، ولو أنني بين لحظة وأخرى قد تحولت إلى غول وأخذت بذبحها وحدة إثرالأخرى. فإنها لن تستوعب نايحصل، إلا عندما يوشك القطيع على الهلاك، وذلك لأنها تثقبي، ولم تعد تعتمد على غرائزها، وهذا كله لأنني أنا الذي أسوقها إلى المراعي.
أخذ الراعي يفاجأ بأفكاره، وصار يجدها غريبة.
ربما بدت الكنيسة، مع شجرةالجميز المنتصبة في الداخل مسكونة بالأرواح. هل كان هذا هو السبب الذي جعل هذاالحلم يعاوده أيضاً، وهل لهذا يعاني من شعور الغضب تجاه نعاجه، صديقاته المخلصاتدوماً؟
شرب قليلاً من الخمر الذي تبقى لديه من عشاء ليلة الأمس، وشد معطفه علىجسده، فهو يعلم أن الشمس ستكون في أوجها بعد بضع ساعات، وسيصبح الطقس حاراً جداً،لدرجة لن يستطيع معها اصطحاب قطيعه عبر الريف.
في تلك الساعة من الصيف، كانتإسبانية كلها غافية، الحرارة مرتفعة حتى في الليل، وخلال ذلك الوقت كله يتوجب عليهأن يحمل معطفه معه.
وكلّما كانت تتملكه الرغبة في الشكوى من هذا العبء تحديداً،كان يتذكر أنه بفضله يجابه برودة الصباح الباكر.
- علينا أن نكون مستعديندائماً لمفاجآت الطقس ـ تخيل عندئذٍ وتقبّل بامتنان ثقل معطفه الذي كان هناك مبررلوجوده كمثل الشاب، فبعد سنين من تطواف سهول الأندلس، صار يعرف عن ظهر قلب، أسماءمدن المنطقة كلها، وكان هذا ما أعطى لحياته معنى، إنه الترحال ...


كانينوي هذه المرة أن يشرح للفتاة الشابة، لماذا يعرف راع بسيط القراءة؟ فقد كان يترددحتى سن السادس عشرة عاماً على المدرسة الأكليريكية، وأهله أرادوا له أن يصبحقسيساً، تتشرف به عائلة متواضعة، من وسط فلاحي، تكد من أجل لقمتها وهي بذلككأغنامه.
درس اللاتينية والإسبانية واللاهوت، لكنه منذ طفولته المبكرة كان يحلمبمعرفة العالم، ويكسب معرفة أفضل من مجرد معرفة الذات الإلهية أو آثام البشر.
ذات مساءٍ جميل، وهو ذاهب لرؤية ذويه، تسلّح بالشجاعة وأخبر والده بأنه لايريدأن يكون راهباً بل يريد السفر.