عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 02-26-2013, 02:49 AM
 
ولو لم يكُنْ للبَدْرِ ضِدًّا جمالُها .. وتفضله في حُسْنِها لصفا البَدْرُ

الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى وبعد . روى الإمام أحمد في المسند وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { إن من البيان سحرا ، وإن من الشعر حكما } .وفي صحيح البخاري { إن من الشعر لحكمة }
قال الجاحظ: ليس في الأرض كلامٌ هو أمْتَع، ولا أنْفَع، ولا آنقُ، ولا ألذّ في الأسماع، ولا أشد اتّصالاً بالعقول السليمة، ولا أفْتَق لِلسان، ولا أجود تقويماً للبيان، من طُولِ استماع حديث الأعراب العقلاءِ الفصحاءَ.
من أخبار الأصمعي
قال بعضُ الرواة: كنّا مع أبي نصر رَاوية الأصمعي في رياضٍ من المذاكرة نَجْتَني ثمارَها، ونَجتَلي أنوارَها، إلى أن أفَضْنَا في ذكر أبي سعيد عبد الملك بن قرَيب الأصمعي؛ فقال: رحم اللَهُ الأصمعي! إنه لمَعدِنُ حِكم، وبَحرُ عِلْم، غيرَ أنه لم نر قط مثلَ أعرابي وقف بنا فسلم، فقال: أيكم الأصمعي؟ فقال: أنا ذاك، فقال: أتأذنون بالجلوس؟ فأذِنا له، وعجبنا من حُسن أدبه مع جفاء أدب الأعراب.
قال: يا أصمعي، أنتَ الذي يزعمُ هؤلاء النَفر أنك أثقبهُم معرفة بالشعر والعربية، وحكايات الأعراب؟ قال الأصمعي: فيهم مَنْ هو أعلم مني، ومَنْ هُوَ دوني، قال: تنشدونني من بعض شعر أهل الحضر حتى أقيسَهُ على شعر أصحابنا؟ فأنشده شعراً لرجل امتدح به مسلمة بن عبدَ الملك: الطويل:
أمَسلمَ، أنتَ البحرُ إن جاءَ واردٌ ... وليث إذا ما الحربُ طارَ عُقابُها
وأنت كسيف الهنْدُوَانِيّ إن غدَت ... حوادثُ من حربٍ يعب عُبابها
وما خُلِقت أُكْرومَةٌ في امرئٍ له ... ولا غاية إلاّ إليك مَآَبُها
كأنك ديَّانٌ عليها مُوَكَّلٌ ... بها، وعلى كفيك يَجرِي حِسابُها
إليك رحلْنَا العِيسَ إذ لم نجد لها ... أخا ثقة يرجَى لديه ثوابُهَا
قال: فتبسَّم الأعرابي، وهزَّ رأسه، فظننا أن ذلك لاستحِسانه الشعر، ثم قال: يا أصمعيّ، هذا شعرٌ مهَلهل خَلَق النسج، خطْؤه أكثر من صوابه، يغطي عيوبَه حسن الرَوِيِّ، ورواية المنشد؛ يشبّهون الملك إذا امتُدح بالأسد، والأسد أبْخَر شَتيم المَنظَر، وربما طرده شِرْذِمَة من إمائِنَا، وتلاعَب به صبياننا، ويشبّهونه بالبحر، والبحرُ صَعْبٌ على مَن رَكبه، مُرّ على من شربه، وبالسيف وربما خان في الحقيقة، ونَبَا عند الضِّريبة! ألا أنشدتني كما قال صبيّ من حيّنا! قال الأصمعي: وماذا قال صاحبكم؟ فأنشده: البسيط:
إذا سألت الوَرَى عن كل مكرمة ... لم يُعْزَ إكرامها إلاّ إلى الهولِ
فتًى جَوادٌ أذابَ المالَ نَائِلهُ ... فالنّيلُ يشكرُ منه كثْرَةَ النَّيْلِ
الموتُ يكره أن يلقى مَنِيّتَهُ ... في كرِّهِ عند لفِّ الخيل بالخيلِ
وزاحم الشمسَ أبقى الشمسَ كاسِفة ... أو زاحم الصُّمَّ ألْجَاها إلى الميْل
أمضَى من النجم إن نابَتْه نائبةٌ ... وعند أعدائه أجْرَى من السَّيْلِ
لا يستريح إلى الدنيا وزينتها ... ولا تراه إليها ساحبَ الذيْلِ
يقصَرُ المجدُ عنه في مكارمِهِ ... كما يقصّر عن أفعاله قَوْلي!
قال أبو نصر: فأَبْهَتَنا والله ما سمعنا من قوله، قال: فتأنّى الأعرابي، ثم قال للأصمعي: ألا تنشدني شعراً ترتاحُ إليه النفس، ويسكن إليه القلب؟ فأنشده لابن الرِّقاع العاملي: الطويل:
وناعمة تجْلُو بعود أراكةٍ ... مؤشَّرَة يَسْبي المُعانِق طِيبُها
كأنّ بها خمراً بماءِ غمامةٍ ... إذا ارتشِفَتْ بعد الرّقاد غُروبُها
أراك إلى نَجْدٍ تَحِنُّ، وإنما ... مُنَى كلِّ نفس حيثُ كان حبيبُها
فتبسَم الأعرابي وقال: يا أصمعي، ما هذا بدون الأول، ولا فوقه، ألا أنشدتني كما قلت؟ قال الأصمعي: وما قلت؟ جعلت فداك! فأنشده: الطويل:
تَعلَّقْتُها بِكراً، وعُلِّقْت حبَّها ... فقلبيَ عن كلِّ الورَى فارغٌ بِكْرُ
إذا احتجَبَتْ لم يكفكِ البدرُ ضوءَها ... وتكفيك ضوءَ البدر إن حُجِبَ البَدْرُ
وما الصبرُ عنها، إن صبرتَ، وجدتُه ... جميلاً، وهل في مثلها يَحْسُن الصَّبْرُ؟
وحسبُك من خمر يفوتُك ريقُها ... وواللّه ما من ريقها حَسْبُكَ الخمرُ
ولو أن جلد الذر لامَسَ جِلْدَها ... لكان لمسَ الذر في جِلْدِها أثْرُ
ولو لم يكُنْ للبَدْرِ ضِدًّا جمالُها ... وتفضله في حُسْنِها لصفا البَدْرُ
قال أبو نصر: قال لنا الأصمعي: اكتبوا ما سمعتم ولو بأطرافِ المُدَى في رِقاق الأكباد! قال: وأقامَ عندنا شهراً، فجمَع له الأصمعيُّ خمسمائة دينار، وكان يتعاهدنا في الْحِين بعد الْحِين، حتى مات الأصمعي وتفرّق أصحابنا!
رد مع اقتباس