عرض مشاركة واحدة
  #36  
قديم 06-09-2012, 02:37 PM
 
- 41 -

لم تعد
جبالاً
بعد اليوم



عدت من المدرسة منهكة..
رميت حقيبتي على الأرض.. وألقيت عباءتي على الكرسي..
ورميت بجسدي على السرير..
كانت كل عضلة من عضلات جسمي ترتعش من التعب..
يا الله ما أجمل السرير في غرفة مكيفة باردة..
الشرشف بارد ومنعش.. والوسادة لينة.. رحت في إغفاءة خفيفة.. وأنا أرخي جسمي كله..
تمنيت لو أستطيع النوم.. تمنيته بشدة.. كنت أحتاجه جداً..
جاءني صوت تهاني الحاد..
- بدرية! كيف تستطيعين أن تستلقي هكذا؟ اخلعي حذاءك على الأقل؟
بصوت ناعس أجبت..
- آآه.. أشعر أني سأموت من التعب.. يا الله.. زحمة.. حر.. شمس حارقة.. والباص طبعاً بلا تكييف..
- قومي.. يا الله.. غيري ملابسك واغسلي وجهك..
- إيه.. يحق لك تتدلعين علينا.. غايبة اليوم..!
- يا الله قومي بس.. ساعدي أمي على الغداء..
قمت بصعوبة وأنا بالكاد أسحب رأسي من على الوسادة الباردة المنعشة..
وأنا أسمع صراخ أمي من المطبخ..
- يا الله يا بنات.. بسرعة تعالوا حطوا الغداء..
في المطبخ.. اقتربت لأسلم على رأس أمي.. لكنها مدت يدها لي بمغرفة الطعام وهي غاضبة..
وخرجت..
كان الوضع مزرياً كالعادة بل مأساوياً!
الأواني متراكمة في المجلى.. وكل شيء يحتاج لتنظيف..
لا أعرف بم أبدأ..
بدأت في وضع الغداء في الصحون.. ونقلته أخواتي الصغيرات إلى السفرة في الصالة..
أما أنا فكان تفكيري مشغولاً بالأواني المتسخة وكم ساعة أحتاج لتنظيف المطبخ..
لم أستطع تناول الغداء.. أسرعت أنظف المطبخ وأغسل الصحون وأنا أمني نفسي بنصف ساعة قبل أذان العصر أغفو فيها.. كنت أسرع لكي أنتهي من التنظيف.. والنعاس يغلبني.. وكذلك الألم..
أطلت أمي لتصرخ علي وتنبهني للأرضية المتسخة.. سكت على مضض..
- إن شاء الله يمه..
ثم ذكرتني بإعداد الشاي ووضعه في البراد..
- إن شاء الله..
ثم ذكرتني بغسل وتعقيم رضاعات أخي الصغير..
- إن شاء الله يمه..
وخرجت.. بعد أن نبهتني لبطئي وسوء تنظيفي..
ففي بيتنا.. كنت أبتلع الألم كل يوم..
بل أتناوله كوجبة غذاء أساسية!
منذ رجوعي للمنزل منهكة.. تبدأ أوامر أمي وطلباتها.. وأستلم المطبخ بدلاً منها..
لا أمانع في ذلك فهي أمي..
لكن.. التذمر والشكوى هي ما يقتلني..
لا شيء يرضيها.. دائماً غاضبة علي.. دائماً تصرخ علي..
دائماً أنا مذنبة في نظرها..
مهما فعلت ومهما ضغطت على نفسي من أجلها..
كلمة واحدة منها تحرق كل ما قدمته.. وتنثر رماده في الهواء..
فأنا في نظرها دائماً مقصرة وعاقة و.. رغم أني لم أتفوه عليها في حياتي بكلمة واحدة.. وأحاول قدر المستطاع أن أحترمها وأجيب طلباتها..
أخذت أفكر وأنا أمسح الأرفف..
لماذا.. لماذا لم أسمع منها في حياتي كلمة شكر..
كلمة حب.. كلمة طيبة..
أحلم كثيراً أن أسمعها تناديني.. يا ابنتي.. يا حبيبتي.. يا قلبي!!
لكنها مجرد أحلام..
سأكون مستعدة حينها لأن أخدمها بكل ما تريد وأنا سعيدة..
أخذت أنظف سطح الفرن والدموع تنساب من عيني..
إلى متى هذه القسوة..
أنهيت التنظيف..
الحمد لله.. المطبخ يشع نظافة..
أعددت الشاي.. وها هو في الصينية..
رضاعات أخي نظيفة ومعقمة..
لابد وأنها ستفرح.. انتهيت اليوم مبكرة الحمد لله لن تقول أني بطيئة..
كنت ألهث من شدة التعب.. وبالكاد أقف من شدة النعاس والصداع.. لكني قررت أن أمسح الثلاجة أيضاً..
فجأة دخلت..
نظرت حولها ثم صرخت..
- أففف ما هذه الرائحة؟ ألم تغسلي الفوطة جيداً قبل المسح؟
- غسلتها يا أمي..
- رائحتها كريهة..
- لقد أعددت الشاي..
- دعيني أرى..
صبت القليل منه في كوب.. فتغير وجهها..
- ما هذا؟! لماذا هو غامق هكذا؟!.. لن يشربه والدك..
وأسرعت لتدلقه في المجلى بكل بساطة..
- قومي بعمل آخر.. بسرعة.. والرضاعات أين هي؟
- ها هي هنا.. غسلتها وعقمتها..
- أعطني واحدة..
وخرجت كما دخلت..
أخذت أستعيد شريط كلامها.. أبحث بين الكلمات والحروف عن كلمة شكر أو دعاء.. لكني لم أعثر على شيء منها..
انتهيت من إعداد الشاي.. وذهبت لغرفتي وأنا بالكاد أسحب أقدامي..


* * *

كانت المشرفة الاجتماعية قد طلبتني لغرفتها لكي أقوم بمساعدتها في كتابة سجلات أسماء الطالبات نظراً لحسن خطي.. كنت أجلس على الأرض.. وحولي السجلات.. وأوراق بالأسماء.. والمشرفة تتحدث بالهاتف أو تكتب..
وحين انتهيت من أحد السجلات ناولتها إياه..
- ما شاء الله خطك مرتب جميل.. تسلم يدك يا بدرية.. روووعة تبارك الله..
ابتسمت باستغراب.. لم أعرف ماذا أقول!
- شكراً..!
- أنا من يجب أن يشكرك.. تشكرينني على ماذا حبيبتي؟
أوف.. حبيبتي مرة واحدة!.. (قلت في نفسي)..
واحمر وجهي خجلاً..
- لا تحرجيني أستاذة نورة.. أنا ما عمري سمعت كلمة شكر.. ولا ثناء..
- معقولة؟ كيف؟
كان وجهي شاحباً.. وشفتاي جافتان.. كنت أشعر بإرهاق وتعب.. وبالكاد أتحدث..
- يعني.. أنا لست متفوقة.. ولا مميزة في المدرسة.. لم يمدحني أحد من المدرسات من قبل.. إلا مدرسة العلوم حين كنت في صف ثاني ابتدائي!.. أما في البيت.. فـ.. ههههه.. ولا عمري..
كنت أضحك على نفسي بسخرية.. وأكاد أبكي في نفس الوقت.. فسكت..
نظرت أبلة نورة إلى وجهي مباشرة..
- في البيت ماذا يا بدرية؟ تعالي اجلسي هنا.. تحدثي..
جلست على الكرسي.. وأنا أشعر بالخوف.. ماذا سأقول..
- ماذا يا أبلة نورة؟ لا شيء لدي.. كل ما أردت قوله.. أن أمي عصبية.. دائماً غاضبة.. لا يرضيها شيء.. قاسية في كلامها.. لم نسمع منها كلمة حب واحدة في حياتنا.. ومهما تعبنا معها لا نسمع كلمة شكر واحدة..
بدأت أبكي لا شعورياً.. فمسحت أنفي بمنديل..
- في حياتي.. لم أسمع كلمة مدح أو ثناء أو شكر منها.. صدقيني يا أستاذة.. أعود من المدرسة متعبة.. ولأني الكبيرة.. أستلم مسؤولية تنظيف المطبخ.. ثم مسؤولية أخوتي الصغار في العصر.. وكذلك إعداد العشاء.. ورغم هذا دائماً غاضبة مني..
ابتسمت أبلة نورة وقالت بهدوء..
- عااادي يا بدرية.. لا تأخذي الأمور على محمل الجد..
إن كل ما تقوم به أمك تجاهك لا يعني أبداً أنها لا تحبك.. أو لا تهتم بك.. صدقيني.. هي فقط.. لا تعرف كيف تعبر.. ولم تتعود على تغيير نمط كلامها وحديثها.. هذا هو الظاهر لك فقط.. لكن ما في قلبها من حب ومودة.. لا يمكن أن تعرفيه..
نظرت إلي ثم قالت..
- هل جربت مرة أن تقولي لها كم يضايقك أسلوبها؟ هل سبق ووضحت لها مشاعرك وآلامك؟
نظرت لها باستغراب ودهشة..
- لا..!
- إذاً كيف تريدينها أن تعرف أنك متضايقة؟
حاولي أن توضحي لها مشاعر ألمك وأنك تحتاجين لسماع كلمة شكر أو ثناء منها..
- لكن إذا لم تقلها من تلقاء ذاتها.. كيف أطلب منها ذلك.. سيبدو ذلك سخيفاً!
- كلا.. أمك تعودت على طريقة معينة في الكلام.. وهي تعتقد أنك لا تشعرين بأي ألم من جراء ذلك.. لذا فهي مستمرة في أسلوبها بكل بساطة!
- لا أعرف.. أستحي..
- ولماذا تخجلين؟ لماذا تصنعين هذا الحاجز..؟ إذا انتهيت من عمل ولاحظت أنها لم تمنحك الشكر والاهتمام الكافي.. قولي لها ما تريدين قوله.. أمي ألا أستحق شكراً؟ جزاني الله خيراً؟
وستتأقلم بإذن الله مع الأيام على هذا الأسلوب..
لكن.. ليس بسرعة.. فالمسألة تحتاج لصبر..
- يبدو ذلك صعباً.. لكني سأحاول..
-
نعم هكذا أريدك أن تفعليه يا عزيزتي.. لا تيأسي أو تعتقدي أنك وحدك من يعاني من هذا الأمر.. الكثير من الفتيات يعانين مثلك مع أمهاتهن.. لا تكوني حساسة، وتقبلي الأمر.. عيشي حياتك ببساطة ورضا.. ولا تقفي عند الآلام البسيطة لتصنعي منها جبالاً شاهقة.. وتذكري أنها أولاً وأخيراً والدتك.. وأنت مأجورة بإذن الله على صبرك عليها وبرك بها..
كان كلامها بسيطاً.. لكنه ولا أعرف كيف غير نظرتي كثيراً لأمي..
حين عدت من المدرسة.. ألقيت نظرة عليها في المطبخ.. وقفت عند بابه.. كانت تطبخ والبخار يعلو فوق القدور.. وأخي الصغير في كرسيه على الأرض وهو يصيح..
شعرت بعطف كبير عليها.. كيف لها أن تتحمل هذه المسؤوليات كلها.. ولا تتعب وتتضايق..
أحسست بأني كنت نوعاً ما أنانية..
اقتربت من أخي لأقبله وأداعبه..
- عدتِ؟
ابتسمت لها..
نظرت إلي.. وابتسمت ابتسامة لم أرها منذ مدة..
ربما شعرت بأن شيئاً ما في داخلي قد تغير!


__________________
إن كانت غزوة أحد قد انتهتْ
فإن مهمة الرماة
الذين يحفظون ظهور المسلمين
لم تنته بعد..!!
طوبي للمدافعين عن هذا الدين كل في مجاله،
طوبى للقابضين على الجمر،
كلما وهنوا قليلاً
تعزوا بصوت النبيِّ
صل الله عليه وسلم
ينادي فيهم:
" لا تبرحوا أماكنكم " !