مقاله جميله جداً للأديبه فاطمه ناعوت نشرتها صحيفة المصري اليوم، اخترتها لكم لما تبطن من معاني ساميه سجلتها الكاتبه بحرفنة الكاتب المتمكن
اترككم مع المقال:
بوصفي أمًّا لصبيّ جميل مصاب بالتوحّد، أستطيع أن أجزم أن الممثل الهندي شاروخان خان، هو أفضل من أدّى شخصية مريض “التوحّد” في الأفلام التي تناولت المتوحدين. تلك الكائنات الشفافة النقية التي نجحت في التخلص من كل “ترهلات” النفس البشرية، التي نكتسبها مع الوقت لكي نساير غيرنا من البشر. المتوحدُ إنسانٌ انتزع من معجمه كثيرًا من السخافات التي نفعلها طوال الوقت، نحن الأسوياء، ونسميها: “ذكاء اجتماعي”! المبالغة، المجاملة، الإفراط في إظهار المشاعر، تمييز الناس طبقيًّا، وهلم جرّا. تلك السلوكات هي الصورةُ المصغرةُ لنواقصَ رديئة، حين تخرج عن معدلها المقبول، لتدخل في مستواها غير المقبول. فتغدو المبالغةُ كذبًا، والمجاملةُ رياءً، ويغدو فائض المشاعر نفاقًا ومداهنة، والتمييز بين الناس يصبح ظلمًا وربما عنصرية. المتوحدون نجحوا في تنقية أنفسهم من كل ذلك، حتى في المستوى المقبول. لذلك يندرج المتوحدون في خانة “الأغبياء اجتماعيًّا”.
لدرجة أنهم لا يفهمون المجاز والرمز. فإن قلت لمتوحد: “أنا بموت فيك، أو خد عيوني…” سينظر لك بازدراء بوصفك كاذبًا. ذاك أنك لن تموت من أجله، ولن تعطيه عينيك!
يقول رضوان خان، في فيلم “اسمي خان”: لا أفهم لماذا يكذب الناس! يقول لك شخصٌ: ’تعال إلى بيتي أي وقت، البيت بيتك.‘ وحين تزوره في أي وقت، ينزعج! الناس يقولون ما لا يعنون!” هنا أزمة المتوحد. إنه يصدق الكلامَ بحَرفيته، ولا يعترف بالمجاز أو المبالغة أو المجاملة. يضعها في خانة “الكذب”، ولأنه صادق، مستحيل أن يقول ما لا يعني، فلا يجامل ولا يبالغ، ولا يظلم. هم كائنات تنتهج المثالية حتى حدّها المَرَضي، لذا يعتبرهم علمُ النفس مرضى. تلك محنة بطلنا خان. يُصَدِّق كلَّ ما يسمع، لأنه يَصْدُق في كلِّ ما يقول.
حين انهارت زوجته وطردته من البيت، لأن اسمه “المسلم” تسبب في مقتل صغيرها “سام”، سألها ببراءة: متى أعود؟ فصرخت فيه: “لا تعد قبل أن تقابل الرئيس الأمريكي وتخبره أنك لست إرهابيًّا!”
بوسعنا، “نحن الأسوياء”، أن نفهم ما بالعبارة من مجاز وتهكّم. ولكن “خان”، المتوحد الصادق، اعتبر عبارتها شرطًا لكي يعود إليها. فظل يدور وراء الرئيس جورج بوش، من ولاية إلى ولاية ليقابله، فيعُتقل ويُعذّب، ثم يُطلق سراحه ليستأنف رحلته الشاقة، رحلة الحب الأوديسيوسية.
حتى حل عهد الرئيس باراك أوباما، وبطلنا مستمرٌ في رحلته العسرة. وحتى حين رقّ قلب زوجته مانديرا وأعفته من البر بالوعد “العبثي”، أخبرها أن المسلم يفي بوعده، ورفض العودة إليها قبل تحقيق مطلبها.” وبالفعل التقى الرئيس وقال له أمام ملايين الناس جملته الخالدة: “اسمي خان، ولستُ إرهابيًّا.” ولم ينس أن ينقل له تحية شرطي المخابرات، الذي طلب منه، ساخرًا، أن ينقل للرئيس تحيته حين يلتقيه!
حينما اكتشفتُ إصابة ابني عمر بالتوحد، أصابني الهلع، وفكرتُ في الانتحار، وعشت سبع سنوات أقرأ في التوحد حتى ملأني اليأس من شفائه. على أنني بعد ذلك، عدّلتُ من وضع المنظار فوق عيني، فاكتشفتُ، فجأة، أن ابني مصابٌ بالجمال، إن كان ثمة مرض اسمه الجمال! هل أبدع وأرقى من كائن عادل، صادق، متقشف في الحديث، غير مجامل، إلى أقصى الحدود؟ وبدأت “أُربّي” نفسي من جديد حسب منهج صغيري “عمر”.
حرّمت على نفسي المجاملة والمبالغة وتعلمت التقشف في القول. حاولت، وأحاول، أن أرتدي رداء ذلك المرض النبيل. مرض التوحد أو مرض الجمال. أنصح القراء جميعا بمشاهدة الفيلم، ثم يجتهدون أن يصابوا بهذا المرض بإرادتهم. فإن كان هذا مرضًا، فإنني أرجو أن نصاب، نحن العرب، ببعض هذا المرض، لنتخلص من بعض آفاتنا، التي جعلت العالم ينعتنا بأننا محض “ظاهرة صوتية”، تجيد الكلام والمبالغة ولا تجيد الفعل
منقول